نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-9-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4410
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الرابعة)
…………
…………
- مستويات الاختيار (2)
شاعت بين الناس مقولة هاملت شكسبير “أكون أو لا أكون”؛ وكأن هذه المقولة تمثل الاختيار الأول (وربما الأول والأخير) للكائن البشرى فى عمق أزمة وجوده، وشاعت -تدعيما لذلك- المغالاة فى مقولة “تحقيق الذات”Self actualization التى تميل إلى تأكيدها مدارس وأيديولوجيات كثيرة، مثل مدرسة علم النفس الإنسانى (ماسلو مثلا)، ومع احترامنا لهذا المستوى من الاختيار إلا أنه ليس المستوى الأوحد، ولا المستوى الأعلى. إن تنويعات الاختيار فى مسألة “أكون أو لا أكون” تهتز اهتزازا شديدا فى حضور فكرة (حقيقة) “تعدد الذوات”، وحتمية حضور الآخر فى الوعى “لأكون”، فضلا عن ألعاب الميكانزمات ومناوراتها، من هنا قفزت تساؤلات أعمق مثل :
= أكون مـَنْ مـِنْ بين ذواتى الكثـُر، ثم:
= أكون أين، ومع من ؟ ومتى؟، وكذلك:
= من أكون الآن، وماذا عن ذواتى الأخرى؟ وأيضا:
= هل ذاتى (هذه، أو أى أخرى) هى “أنا” أم أنها “هو”، أم أنها “لا أنا” ولا “هو”؟
ليس معنى طرح هذه التساؤلات الممتدة أن الذات المتحققة هى وهم على طول الخط، لكن المراد هو التأكيد على أن الحضور البشرى المتعدد الوعى، الدائم النبض حيويا هو كيان متغير “فى حالة تكوّن جدلى مستمر”. إن الحديث عن الحرية فى حالة الإبداع خاصة، اختراقا لمغامرة الجنون، ينبغى أن يضع فى الاعتبار تجنب الاختزال بالركون إلى مثل هذه المقولات الشائعة مثل: “أكون أو لا أكون”، مهما رسخت أقدامها عبر التاريخ. الأجدر – كما سيأتى_ أننى “أكون لأصير، فأكون مايمكن مما لا أعمله تحديداً …”
وهكذا باستمرار (أنظر بعد).
نفس السؤال “أكون أو لا أكون” تختلف إجابته إذا سأله” المبدع (الشخص فى: حالة الإبداع) عنه إذا سأله العادى (الشخص فى: حالة العادية) عنه إذا سأله المجنون” (الشخص فى: حالة الجنون) (1).
فإذا لم تكن مقولة “أكون أو لا أكون” هى التعبير الأوحد، أو الأرقى عن أزمة الوجود الإنسانى، فما هى مستويات الاختيار الأخرى التى يمتحن الإنسان فيها حريته (أثناء تجلياته “العادية” “والجنونية” “والإبداعية”)؟
الإنسان لا “يكون” بمعنى “التحقق الساكن” إلا إذا توقف عن حركة الحياة، أى وصل إلى محطة العدم (مع اعتبار أن الخلود هو أحد أشكال العدم)،
وبالتالى فالكينونة الحية (الحيوية) هى خطوة فقط (المستوى الأول للاختيار شكل -1) نحو فعل “الصيرورة” المستمر. إنه لو كانت الكينونة هى نهاية المطاف فهى إلى سكون فعدم: سواء “بالسلبية” أو بـ “الجمود” أو بـ ”التخثر”. إن الإنسان “يتكون” باستمرار، وليس فقط “يكون”. هو -كما ذكرنا- “يكون ليصير”، وليس: يكون ليكون.
يصبح السؤال (الاختيار ـ الحرية) التالى (المستوى الثانى شكل- 1) هو “أكون أو أصير”؟
ثم إن هذا السؤال “أكون أو أصير”؟ هو أيضا ليس نهاية المطاف، وحتى إن كان كذلك فى حالة الفرد، فهو ليس كذلك فى حالة النوع، وبالتالى فهو ليس نهاية مطاف “فعل الحرية البيولوجية والاختيار التطورى “لأن ثَمَّ مستوى تال يفرض نفسه حين يصبح احتمال التغير شديد الغور باقى الأثر (حتى يمتد فى الأجيال اللاحقة).
هنا يصبح الحديث عن التهديد بالنكوص النوعى والانقراض فى مقابل الطفرة (المستوى الثالث للاختيار شكل-1) مشروعا، بل مطلوبا، إذ يتصاعد مأزق الحرية إلى: “أنقرض أم أطفر”؟ (بالمعنى الإيجابى للطفرة).
على أن المسألة ليست مستويات مضطردة متوالية بقدر ما هى دورات متكاملة ومكررة تصعيدا، ذلك أنه بعد تحقيق طفرة نوعية فى تغير الفرد (أو النوع)، تبدأ دورة جديدة من: الكينونة فالصيرورة فالطفرة، فى مقابل احتمالات العدمية، فالجمود (أو التخثر)، فالانقراض، مع المرور بالمستويات نفسها مثل الدورة السابقة، وهكذا.(شكل-1).
هناك دائما احتمال أن يكون ناتج الاختيار سلبيا فى أى مرحلة (مستوى)، وإلا فليس ثمَّ اختيار أصلا. وفى حالة ترجيح مسار التدهور فإنه قد يتمادى، حين تغذى سلبية الاختيار الأول مآل الاختيار النهائى (الانقراض: شكل-1) كما قد تنتهى محاولة الصيرورة إلى الفشل من خلال قفزة عشوائية (طفرة سلبية) تؤدى إلى الانقراض أيضا.
إن مسألة الحرية بهذه الصورة المكثفة والمتداخلة والعميقة على مستويات متعددة، تحتاج إلى وعى بمستويات الوجود المتصاعدة والمتدهورة من ناحية، جنبا إلى جنب مع الإحاطة بتجليات الوجود المتقابلة.فى كل مستوى، وأيضا إلى علاقة المسارات العرضية (مأزق الاختبار) والطولية (مسار التدهور/التطور) ببعضها البعض.
- تجليات مستويات الحرية:
مما تقدم يمكن تحديد مستويات الحرية على الوجه التالى:
1ـ أكون أو لا أكون (تأكيد الآن)
2- أكون أو أصير (من الصيرورة)
3- أنقرض (أضمحل) أو أطفر:
(= أتحول، مندفعا إلى مجهول خطر واعد يتجاوزنى فردا إلى احتمال تطور النوع)
هذه الاختيارات تزداد صعوبة مع تدرجها، وبالتالى يتعمق مستوى الاختيار (ومعنى الحرية) فلا يعود يقتصر على اتخاذ قرار واع معلن، بل إن ذلك ينبهنا إلى أن الأرجح أن الاختيارات المتاحة هى تصعيدية تلقائية على الوجه التالى:
* اختيار المجال المناسب المهيئ لاستمرار مسار اختيارٍ ما
* ثُمَّ اختيار الحفاظ على الشروط الواجبة لتحقيق هذا المسار المختار فى مرحلة ما
* ثم اختيار ما ينمى القدرة على الاختيار فإعادة الاختيار
وهكذا….
يتكرر ذلك فى كل مستوى، ومرحلة، بلغات مختلفة.
المستوى الأول “أكون أو لا أكون” يقع طرفاه أقرب، ونتائجه أكثر احتمالا أيا كان الاختيار، وأيا كانت النتائج سلبية أو إيجابية.
والمستوى الثانى “أكون أو أصير” يبتعد طرفاه أكثر، فيزداد الاختيار صعوبة، وتزاد النتائج خطورة، ثم إنه الأعم مشاركة ومسئولية.
أما المستوى الثالث “أنقرض (ننقرض) أو أطفر” فهو الأخفى والأكثر صعوبة وخطورة.
وتختلف معانى ودلالات هذه الاختيارات على كل المستويات حسب تجليات الوجود ما بين حالاته المتبادلة أى:
* حالة الجنون
* حالة الإبداع
* حالة العادية.
وذلك باعتبار أنها ليست مراحل دائمة ولا متعاقبة بانتظام، لكنها أقرب إلى أن تكون تجليات نابضة، صعودا وهبوطا، تلقيا وبسطا، استيعابا وتشكيلا، وبالتالى فهى تمثل أشكال وتنويعات مراحل ممارسة الحرية على مختلف المسارات بما يترتب على كل مرحلة من نتائج، وما تتميز به من مواصفات، مع احتمالات التبادل باستمرار.
يلاحظ أيضا أن أى توقف (اختيارالجمود مثلا عند مرحلة كينونة ساكنة زائفة : “أكون جدا”) هو وارد ومتواتر وخفى ومخادع فى آن.
فى “حالة الجنون” تتخذ الإجابة على هذه الأسئلة المطروحة فى مآزق الوجود المتتابعة شكلا ومسارا يعلن فى النهاية المآل السلبى المتدهور لمسيرة الجنون على الوجه التالي:
(رجاء: يُقرأ الجزء التالى تـقـمـصا بضمير المتكلم من داخل داخلك دون أذنك):
المستوى الأول: أكون أو لا أكون:
أكون: فلأكن مجنونا “أنا” خير من أن أكون عاقلا “لستُ أنا”،
هم صنعونى لهم، ولسوف أكون غير ذلك بالرغم منهم، حتى ولو كان الثمن هو الاختلاف حتى الجنون.
لكننى – بجنونى- كـمـَـا حـقـقنى(!)، (لما خـيل إلىّ أنه حققنى)، لم أعثر إلا على عدة أنوات (جمع أنا) متصارعة متزاحمة، فأين أنا؟
رفضت أن أكون أنا من صنعهم فإذا بى لست أنا، لا من صنعهم ولا من صنعى، لست إلا سلب “أنا” (عفريتة “أنا”: نيجاتيف”أنا”) وهى الصورة العاجزة لنفس “الأنا” الذى رفضته.
اختيارى الذى أوهمنى أننى اخترت أن “أكون” لم يكن نتاجه إلا ما هو..”لست أنا”
هذه “أكون” زائفة، إنها “لا أكون” تحت وهم أنى “أكون” (مختلفا ـ شاذا).
المستوى الثانى: أكون أو أصير
1) عجزت أن أكون، سرقونى بالعادية والنمطية، وحين رفضت ذلك خدعت نفسى فى محاولة كينونة ثبت زيفها، لم تحقق شيئا، هى ”سلب لما هو “أنا”، كيف تصورت أن هذا السلب هو “أنا”، إنه نفى ما هو أنا، وما يمكن أن أكونه، يا ليتنى اخترت ألا أكون، أو حتى استسلمت لأن أكون “مثلهم والسلام”.
2) ولكن يبدو أنه طريق بلا عودة، فلا أنا قادر أن أرجع كما كنت (أرضى بعدم كينونتى “لا أكون” فى السر، شخصا عاديا: أتصور أنى كائن بشكل ما: “كنظام” “أكون”).، لا أنا راغب فى ذلك، ولا أنا قابل أن أواصل خداع نفسى فى أن تكون كينونتى الجديدة المجهولة الخطرة هى “أنا”، لأنها فعلا، ”ليست أنا”، هى أنا زائفة مثل عفريتة الصورة (نيجاتيف).
3) أرفض أن أكون “هكذا” (زيفا) فهى المغامرة نحو أن أصنع نفسى: أصير.
4) ولكن كيف؟ سوف أواصل الرفض ومحاولة التقدم وأنا أُطلق “كلى” فى “كل اتجاه”.
5) لكن كلى هذا ليس كلا، بل عدد من الوحدات المتماسكة جمودا، ليكن: فقد “نـصير” عددا ما من كيانات ما تتآلف إذا دام النبض.
6) لم يحدث شئ مما بدا ممكنا.
7) أكتشف أن صيرورتى التى اخترتـُها ليست سوى زحمة “الأنوات” وتشتت التوجه.
8) أنا فى صيرورة: لكنها صيرورة فى المحل، وقد تفرز ما يحافظ على أمل ما، لكنه ناتج إبداعى قصير الأجل منفصل.
المستوى الثالث: أنقرض أم أطفر
1) تنازلت عن كينونتى الزائفة كى أصير، (نصير: كلَى: كلنا كل ذواتى)، إلا أنه لم يحدث شئ من ذلك، صرت إلى لا شىء، تناثرا متفسخا كأنى كثير، وأنا لست إلا شظايا.
2) هل يمكن أن أوقف هذه الصيرورة الكاذبة؟
بل لعل اللاكينونة (= الكينونة الزائفة = المرحلة السابقة) كانت أَسْتَـر.
3) لا أستطيع أن أوقف صيرورة تتدنى،
يبدو أننى أتمادى أكثر فى طريق اللاعودة،
حسبت أنى أختار، فانخدعت.
4) لا بد أن أوقف هذا الخداع بأى ثمن، قبلت التحدى: أخلـّق من هذه الشظايا كيانا أسطوريا، وليكن ما يكون، إلا أن ما كان ليس إلا مزيدا من الشطح والتناثر.
5) أهذا هو الممكن؟
أهذه هى نهاية محاولتى؟
6) لا .. بل ثمة فرصة أن أطفر لو واصلت النبض إبداعا وتطورا.
7) فلأطفر مندفعا بكل هذا، حتى لو هددت اندفاعتى/طفرتى بعدمى (فهى نهايتى)، أو إعدامكم (الهياج القاتل) أو إلى تجسيد شطحى لإصلاح الكون وخلق ضلالات ترضينى (“الإنسان الأعلى” “المهدى المنتظر” “والنبوة والألوهية” كأمثلة)
يلاحظ ـ مكررا ـ أن هذه المسارات هى مجرد مثال لواحد من مساراتٍ كُثْر، لكنها لنفس التوجه:
(1) فقد يتوقف المسار مؤقتا أو دائما، أو يتكرر.
(2) وقد ينقلب إيجابيا (إلى الصيرورة فالطفرة) بالعلاج المكثف أو إبداع الذات لو لحقه قبل التمادى.
(3) وقد يسكن ـ فى أى مرحلة- ليتخذ مسار اختيارات “حالة العادية”، وخاصة إذا اقتصر العلاج على التسكين والتجميد.
……………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – حدث تعديل مهم فى صياغة الصفحتين الأخيرتين أملا فى أن تكون ماهية “الجدل” أوضح قليلا.
[3] – بحسب ما جاء فى الفصل الثانى من أن الناس لا ينقسمون إلى مبدع مجنون وعادى، وإنما هى حالة متبادلة لكل الناس.