نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 23-9-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4405
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الثالث: “فى ضيافة المرأة المُهرة” (15)
…………
…………
نرجع مرجعنا إلى صديقىّ الطفلين الفرحين بالألبادورو، وهما يساعداننى فى تهيئة المكان المعد للجلوس أمام الكوخ (البنجالوز)، وعلى بعد خطوات تقبع خيمتنا لأول مرة منذ بدأنا الرحلة. وتذهب بناتى الأربع إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت) ليبضعوا عشاءنا، وكنا قد نوينا أن نقبع هذا المساء لنطبخ لأنفسنا شيئا يناسب النسيم العليل والمخيم الفخيم. ونكتشف أننا لا نملك آنية للطبيخ أصلا، فنـلمح طاسة أمام الكوخ المجاور، ورجلا خواجة (شديد الخواجاتية) وقد تخطى منتصف العمر يلبس “شورتا”، يروح ويجئ، فنبدأ ممارسة هواية المخيمات فى “التعاون بالعشم”. وكنت قد لاحظت منذ قديم، أن هذا المبدأ هو من أساسيات التعامل فى المخيمات، فضلا عن غلبة الكرم التلقائى فى كثير من الأحيان.
كانت بداية تعلّمى ذلك فى مخيم فى سويسرا/جنيف (1969) حين تقدم جار لنا، ونادانى، وأشار إلى وعاء واسع، عميق، حديدى وأسود له أرجل رفيعة، وبجواره كيس من النايلون أشد سوادا، ولم يكن لى عهد بكل هذا “السواد”. للاستعمال الآدمى. وبعد عدة إشارات دالة، مع بضع كلمات فرنسية، تصورت أن الرجل يظن أن هذه الأشياء ملكى، وأنها كانت سببا فى تلوث بعض أمتعته- مثلا- فأخذت أشرح فى حماسة أنها ليست أشيائى، وأنا مالى، وإنى آسف، وإنى مبتدئ، وطالع فى المقدر جديد،…وجميع عبارات الدفاع المحتملة، والرجل يبتسم ويهز أكتافه، ويشرح عرْضه بلغة لا أعرف فيها حرفا ، لكننى لاحظت طيبته وتواضعه بشكل لا يخفى، مما اضطرنى إلى أن أردد، فى استسلام: “نعم”..أو.. “ليكن”…أو.. “ماشى”. ولم أكن أعرف ماهذا الذى يمكن أن يكون أو يمشى. فإذا به يذهب متحمسا، ويحضر الأشياء السوداء، ويضعها بجوار خيمتنا، ثم يكتشف قلة خبرتنا فى نصب الخيمة كما تبدى من عدم انتظامها، وهشاشة مقاومتها، فيترك سيارته وأهله؛ ويساعدنا فى إصلاح ما أفسده المطر. وقلة الخبرة، ويستغرق ذلك وقتا هو أوْلى به خاصة وهو قد كان على وشك الرحيل الفورى، وأستشعرُ هذه الفروسية الخواجاتية، وأن مسألة عصر السرعة، وقيمة الوقت، لا ينبغى أن تكون علامة دالة دائما على تدهور الخلق، وموت الشهامة، وخاصة فى المعسكرات. وربما كان الحنين إلى التخييم، هو لإنماء هذا الخلق التعاونى، ورعاية الكرم الفطرى. فالسواد الذى أعطانى إياه، كان شوّاية وفحما، لم يعد هو فى حاجة إليهما، وقد كان حوارنا الأصم عبارة عن محاولته أن يستأذننى أن يهديهما لى، ثم إن العون الذى بذله كان تلقائيا وطيبا. وكنا فى أشد الحاجة إليه.
تذكرت كل ذلك وأنا أنبِّهُـنى إلى طيبة الخوجات وكرمهم، فتشجعت وذهبت لفورى لاستعارة “الطاسة” من جارنا الآخر: الخواجة جدا، فيبادر الرجل بالاستجابة باسما مرحبا، ونشعر من جديد أن “الدنيا بخير”، وأن الناس لبعضها، وأن هذه الاستعارات الصغيرة بين الجيران – مع مشاكلها الطريفة- تعطى للحياة معنى آخر يتحدى “الاستكفاء الذاتى”(“الذواتى” فى العادة)- ذلك أنه- حتى مع الكفاية والغنى- لا يكون للعلاقات الإنسانية طعم إلا بـ”خذ..وهات”. وهذا الاستكفاء الذاتى إذا زاد أصبح استغناء قبيحا يشوه الدنيا، ويكثف الجليد على طرق المواصلات بين البشر. ونوقد الموقد (البوتوجاز) الصغير لنعمل شايا مصريا ونستعد لأكلة شهية، وتعود “لجنة المشتريات” بحمولتها الثمينة، وأسألهن إن كن قد راعين نوع اللحم حتى لايكون خنزيرا، فيؤكدن أنه ليس كذلك. ولكنى أشك فى منظره، ويَـعُدْن إلى السوق ليتأكدن، فإذا بالشك يصبح يقينا، وتبدى إحداهن استعدادها لدفع ثمن الخطأ، وتصر الأخرى على إرجاع اللحم “بالعافية”، ويظهر أن السبب أنهن نطقن “الخنزير” بالفرنسية Pork والإنجليزية Ham (أو بعد طلْيَنَتِـها بالمطّ: بوركو مثلا)، والبائع ليس عنده فكرة، فاسم الخنزير بالطليانى، شئ أقرب إلى “ميالى”، وهذا من مقالب الحذْق المصرى (الحداقة) فى نحت لغة من لغة أخرى؛ إذ يبدو للحاذق المصرى منا أن مط كلمة فرنسية إلى أسفل، أو أعلى، أوعلى ناحية يقلبها إيطالية بقدرة قادر. فالجبن “فروماج” تصبح “فروماجو”، و”بونجور” تصبح “بونجورنو”، وبالتالى لابد أن “بورك” (خنزير)، تصبح بوركونو… فيقع المحظور.
وأتذكر أننى حين ذهبت إلى فرنسا اتبعت القاعدة ذاتها فى تحوير اللغة الإنجليزية إلى فرنسية. حين رحت إلى بقال أشترى جبنا، وهى بالانجليزية Cheese قلت لنفسى: لاعليك، ببعض المط تمشى الحال. وطلبت من البائع Chaise بإذن الله، ونظر لى الرجل مندهشا. أنا أشير إلى الرف وهو يشير إلى محل “الموبيليا” المقابل، وأُصِر على تكرار الطلب، ويصر الرجل وهو يمسك بالمقعد الذى فى محله ويرفعه، ويهزه فأتصور أنه قد”فاض به”، وأنه سوف يناولنى به، لكننى أطمئن طبعا إلى استحالة ذلك لما أعلمه عن أدب هؤلاء الناس “الكُمَّل”، وأخيرا يستسلم لتصميمى ويسمح لى بالدخول إلى المحل لآخذ بيدى ما أريد، فأفعل وينتهى الموقف بسلام. وأكتشف بعد أسابيع أن مافعلته بكلمة جبن بالإنجليزية Cheese لتصبح فرنسية Chaise قد قلبها إلى “مقعد”، وليس إلى جبن متفرنس، وسبحان لاوى الألسن فى كل اتجاه.
وتنجح بنتاى فى استبدال لحم الخنزير بمياه غازية؛ إذ لايوجد لحم إلا هذا المحرم. ويتراجع أملنا فى وجبة ذات رائحة تليق بالهواء الطلق والجو الصحى، ويبدأ إعداد الحساء المتعدد المحتوى، والصالح لكل الأغراض: (شراب ساخن، ومن رائحة اللحم، وسائل دسم جاهز لأىة “فتة” محتملة، ووهم بأن ثَمَّ طبيخا يـُعد.. ولى فيها مآرب آخرى). ونفرح بهذه الوجبة “الجوكر” التى أصبحت بعد ذلك غذاءنا الرئيسى، وأحيانا الوحيد، ليتطور الأمر ليصبح عقابا (أنت حاتسكت: ولاّ أعملك شوربة !!). وتنتهى الوليمة، ونعيد إلى الرجل طاسته، مغسولة وآخر تمام، وأتمنى على الله أن يحتاج شيئا ليتأكد مبدأ “هات.. وخذ”، ويستجاب الدعاء بأسرع مما أحسب؛ فيطلب الرجل بعد قليل ثقابا، فأفرح بدرجة لا تتاسب مع تواضع الطلب.
فى المقهى البار الملهى الخاص بهذا المعسكر الفخيم، يتجمع الرواد حول المناضد، وآلات لعب الحظ والمهارة. ويسرى صخب موقظ يوحى بالحيوية المستحبة، فأذهب وأحضر أوراقى دون أن أقول لأحد على مكانى. فقد آن الأوان لإجازة منفردة، ولو ساعة أو بعض ساعة. فما أنا بالشخص الذى يحتمل ألا يختلى بنفسه وورقه أكثر من يوم، وها قد مر على يومان (دهران: بالحسابات الجديدة للزمن). وأنا لم أختل بأوراقى ولم أسامر قلمى. وهأنذا أضعها أخيرا أمامى معتذرا واعدا بحوار أعمق وإنَصات طيب.
وتتلقانى أوراقى- كالعادة- بسماح شديد، فهى واثقة دائما من أنى لا أملك منها فرارا، وأنه على عينى هجرى لها كل هذه الدهور، فأمسح جبهتها، وأداعب أطرافها، وأنصت إلى همسها وسط هذا الصخب المتداخل، وأقول وتقول، وأنظر وتوافق، وأقترح وتُعارض، وآمل وتحذّر، وأبتسم فتتذكر، وأتطلع إلى الوجوه من حولنا فتعلـّق، ويمر وقت ليس بقصير.
أنظر إلى المائدة، فإذا الورق خال من غير سوء، والقلم متراخ فى غير كسل، فألملم ورقى راضيا بهذا الائتناس الصامت، الذى لم تجرح بكارته شقاوة وشهوة الكتابة.
وننام نوما جديدا، فالهواء غير الهواء، والأصوات غير الأصوات، والناس غير الناس..؟.
الاثنين 27 أغسطس
صباح آخر كأجمل مايكون الصباح؛ بحيث لا يصح وصفه أصلا إلا بأنه صباح حقيقى. ذلك أن الصباح الذى فرضته علينا الحياة الأحدث، ليس صباحا أصلا. فلا شمس تخرج من خدرها أمام العين مباشرة، ولا صوت لطير، ولا لفحة هواء باردة سمحة فى آن، ولا وجه إنسان خال من حسابات الأمس وأطماع اليوم، ولم تحل هذه البرامج الصباحية محل الصباح الحقيقى أبدا. بل لعل بعض برامج الصباح قد شوهت ماهو “صباح” بكثرة الأحاجى، وادعاء خفة الظل، وانثناء الأصوات الأنثوية التى لا أجد لها أية علاقة بالهواء والنقاء والخضرة ووجوه البشر الطازجة،
كانت علاقتى بالصباح قد تجددت قبيل قيامى بهذه الرحلة؛ حين بدأتُ أمارس عادة قهرية قبيحة (من حيث المبدأ: وهى الجرى “منفردا”) وذلك قبل طلوع الشمس على طريق سقارة، وكنت حين ألقى راكب حمار أو سائق “كارو” فى طريق سقارة، أجدهم ينظرون إلىّ إشفاقاً، فألقى تحية الصباح كسرا لتوهمهم أنى سائح أهبل. ألقيها بصوت مرتفع نسبياً “صباح الخير”، فإذا بى أتلقّى ردا غير الذى ألفتُه فى المنزل أو فى العمل أو فى شوارع المدينة (زى: صباح النور..الخالية من النور والدفء تحت تأثير الفول المدمس ومحشر المواصلات). أقول كنت أتلقى ردا جديدا يقول: “نهارك قشطة”، فأشعر أن هذا الرد الأكثر صدقا له طعم جديد، طعم طازج منعش مطمْئِـن معا. وحين حاولت أن أستعمل اللغة الجديدة فأبدأهم بأن: “صباحك قشطة”، كنت أتصور أن الرد سيكون “صباح الخير”، ولكن يجيئنى رد أكثر جدة: أنه “بالصلا عالنبى”. ماهو الذى هو بالصلا عالنبى؟ ومامعنى الصلاة على النبى هنا؟. تفسيرات كثيرة، ومعان طيبة جدا خطرت ببالى- ولن أذكرها- فأكتفى بفرحتى بتغيير الإيقاع الروتينى للتحيات الفاترة المعادة، وأمضى فى العدو المنفرد الخائب.. ويمضون هم إلى رزقهم على باب الكريم.
هذا صباح آخر، به نفس الطزاجة. لسعة البرد الطليانية لم تقلل من الدفء البشرى المحيط، بل زادته حرارة طيبة حانية.
وأشاهد السيدة المسئولة عن المخيم، وهى تسير أمام مكتبها، فى خطى كالقفزات الصغيرة، تملأ رئتيها بهذا الصباح، وتكاد تبخل أن تخرجه مع الزفير، وهى امرأة لاتقل سنها عن الخمسين، إلا أن بها قدراً من الحيوية والصحو يكفى لانبعاث رسائل موقظة محفزة لكل خلايا من حولها، من الرجال خاصة.
فى بشاشة مفجِّرة، تشرح لنا الطريق والمواعيد، ونشترى منها تذاكر الأتوبيس (خدمة إضافية رقيقة تجنبنا مشاكل اللغة، والفكة) وأنا أنتهز فرصة السفر لأركب المواصلات العامة، أتعرف فيها على البشر. ذلك لأن ركوبها فى بلدنا أصبح بطولة تحتاج إلى تدريب خاص. وقد كنت دائما أعتبر المواصلات مجتمعا بأسره، هذا لو أتيحت للبشر الفرصة أن ينظر أى منهم فى وجه الآخر، لا أن ينحشر بعض لحمه فى بعض لحم الآخر؛ ليصبحا جزءًا من الكتلة الممتزجة من هجين أجساد الركاب المصريين (أهمّه) فى بلدنا المكدسة بكل شىء. وسبحان مخلص الأجساد من بعضها عند المحطة التالية. يولد الإنسان المصرى من جديد كلما ركب أتوبيسا ونزل بالسلامة، ثم نقول “تكافؤ الفرص”!!. ولماذا لا ننتج؟. إن مجرد وصول مواطننا إلى عمله صباحا هو بطولة فردية يومية لابد أن يتسلّم بعدها خطاب شكر لنجاحه فى الحضور، ثم يكافأ بالانصراف استعدادا لليوم التالى، لأنه بذل من الجهد مايكفى لدفع أمة بأكملها إلى محطة أتوبيس العودة.
ثم إنى أرجو ألا يستبعد القارئ ألمى الشخصى، وأنا أسخر من حقيقة لا أعيشها بحجمها الآن، فكل هذا يغيب عادة عن راكبى السيارات الخاصة أمثالى، كما يغيب عن اللائمين والمنظـّرين من أصحاب الأقلام والقرارات، على الرغم من كثرة السفر، وحتم المقارنة. أنا حين تضيق بى الحال من فرط التفكير والعجز، تخطر على بالى حلول مضحكة لمشاكلنا اليومية، فأروح أتصور أنها حلول عملية على الرغم من يقينى باستحالتها بشكل ما. فمثلا بشأن مشكلة المواصلات عندنا، رحت أكتب حلا للمشكلة فى صورة فرمان طيب يـُـلغى به استعمال جميع السيارات الخاصة، إلا فى السفر بين المدن؛ حيث تقبع الجراجات خارج المدن (مثل رأس البر زمان أو العصلة -دهب- الآن ، قبل العاشرة مساء). ولا يسمح داخل المدن إلا بالحافلات العامة والدراجات والموتوسيكلات، وكذلك يسمح للمسنين القادرين والوزراء و”المهمين” والمعوّقين (حتى الرئيس) العاجزين عن قيادة موتوسيكل خاص بأن يركبوا فى صندوق جانبى (سيدكار) أو صندوق خلفى لموتوسيكل خاص، أو بالأجر، أو تعد لهم حافلات خاصة محددة المواعيد. أتصور بذلك أن الدنيا ستتغير، ليس- فقط – فيما يتعلق بالمواصلات، ولكن بما يخص الأخلاق والعلاقة بين الناس وإحساس المسئولين بالعامة. ويبدو مثل هذا الحل “جنونيا” لغرابته، لا لاستحالته. وعموما “فأبشِر بطول سّيارةٍ يامُرفّهْ”. فأى حل يمس أى كبير، لـن يخرج إلى حيز التنفيذ، حتى لو كان للتوصية بمرور السيارات الأرقام الفردية يوما، والزوجية يوما آخر إلا لو أعطـوا للناس “الذين هم” لوحتين لكل سيارة يقوم السائس بوضع اللوحة المناسبة لليوم المناسب!! يوم لوحة فردية ويوم لوحة زوجية !! لن تنفد حيلهم أبدا ،هذا لمن لا يملك عربتين ..إلخ!!
المهم.. ركبنا الأتوبيس حاملين مصباح سيارتنا المحترق معنا، آملين فى شراء بديل عنه؛ فهو- كما يبدو- لايـُفك إلى أجزاء، غيّرنا العملة فى محطة المطار. وجاء الأتوبيس فى ميعاده “بالثانية”، كما هو مثبت فى الجدول المعلق على مكان الانتظار- المحطة-، ووصلنا فينيسيا فى أقل من ربع ساعة.
أنا صديق للبندقية من قديم، وإن كانت صداقتى لها، لاترجع إلى أسباب جندولية محمد عبد الوهابية، ولا لأسباب أثرية تاريخية. ولكن لأسباب شخصية ، ربما تتعلق باقتراحى المواصلاتى سالف الذكر، وبحبى للماء والناس حبا جما، من أيام رحلات المركب كل خميس فى زفتا والانتقال من زفتا إلى ميت غمر ، والانتظار على المردة والسهر فوق حجارتها ليالى رمضان، كل ذلك وأنا قبل العاشرة، تمشى فى شوارع البندقية وسط مواكب وموجات الناس المتلاحقة؛ فتقترب من الناس بشكل تصعب مقاومته، لا سيارة ولا أتوبيس، وإنما ناس وشوارع مبلطة ببلاط قديم نظيف (غالبا) ومقاه، وفن على كل لون وشكل. متى وصلتُ إليها، آخذ نفسا عميقا. وأنا أخلع إيقاع وعيى اللاهث، وألقى خارج سطح إدراكى كل تلك الوجوه الملبدة بالهم والحساب.
قبل أن أبدأ جولتى مع الأولاد، رأيت أن أنهى موضوع مصباح السيارة، وهذا موضوع لا قيمة له فى ذاته، إلا أن موقف سائق التاكسى ورجل محل قطع الغيار العجوز المبدع، علّـمانى أشياء هى دين علىّ لمن أحكى له الآن هذاالحكى. فبعد سؤال صاحب الجراج الكبير فى ميدان روما، فى نهاية جسر الحرية عن بغيتى وهى إصلاح المصباح أبلغنى أن أعود عبر الجسر الطويل إلى ميستر Master (والعلاقة بين فينسيا وميستر، مثل العلاقة بين زفتا وميت غمر.. أو المنصورة وطلخا..). فتوجهت إلى سائق تاكسى وأفهمته بطريقة ما- المشكلة، وطلبت منه أن يصحبنى ذهابا وعودة، وسألته قبل أن أركب (نظرا إلى سمعة الطليان فى هذا المكان).. كم سيكلفنى هذا، فأجاب أن ذلك يتوقف على الوقت الذى سنقضيه هناك، ثم ذكر رقما تقريبيا شديد التواضع، قلت خيرا. وتواعدت مع الأولاد على مكان اللقاء، وصحبنى السائق فى “ميستر” من محل إلى محل، وهو يستبعد أن نحصل على المصباح؛ لأن الحكومة الإيطالية لا تستورد لا السيارات اليابانية، ولا قطع غيارها؛ حفاظا على مصانع فيات- ومع ذلك فقد واصل اللّف معى والسؤال نيابة عنى فى صبر هادئ حتى عثرنا على محل قطع غيار كبير، به عجوز طيب لا يقل عمره عن سبعين سنة. نظر العجوز إلى المصباح، ثم إلىّ، ثم إليه، ثم فتح “كاتالوجا”، ثم نظر ثانية وعاشرة، ثم ذهب، ثم فك، ثم عاد، ثم أعاد العملية فى صمت جميل، أخجلنى، وأدهشنى، حتى كدت أقبل يده الماهرة، داعيا له بطول العمر (حتى لو فشل)، هذا أستاذ فى الحياة والصنعة جميعا. وظل الرجل يتابع مهمته الإبداعية حتى خلق مصباحا جديدا من عدة أجزاء “وماركات” متفرقة- وللأسف، فقد سألت السائق بالإنجليزية البسيطة التى نتفاهم بها، إن كان هذا العجوز واثقا من أن هذا “الإبداع المصباحى” هو فى قدرة مصباحى القديم فعلا، فأنا على سفر، وأخشى المفاجآت. ولم يرد العجوزبعد الترجمة، بل نظر نظرة عاتبة مشفقة متعالية فخورة بما عمل. فخجلت من جديد حتى كدت أعرق، ذلك أننى قرأت فى نظرته أن هذا المصباح لابد أن يكون- والله العظيم- أفضل من المصباح الأصلى،
لابد أن حضراتكم الآن قد علمتم كم أنى شديد البحلقة والاندهاش، دائم التلمذة. ويزداد ذلـك عندما يكون أستاذى عجوزا صامتا. وقد ذكرت علاقتى بعم عطية معقب البرسيم، وعم شعبان ضاخ الطلمبة، (الماصة كابسة)، وهأنذا أتعلم من شيخ خواجة معنى جديدا للإبداع والطيبة. مثلما تعلّمت كثيرا من مهنتى من صمت أستاذى عبدالعزيزعسكر، أكثرمما تعلمت من كلامه.
أتذكر فضل عجوز آخر علىّ، وأنا فى هذه السن، هو الحاج سيد عطوة، وقد كان فضله يتجلّى أثناء إعدادنا للمجلة التى نصدرها باسم (الإنسان والتطور) وكيف يقف طول النهار وجزءاً من الليل، وقد تجاوز السبعين، وحده على قدميه يصلى صلاة الإتقان والإنجاز،فيعطينى دروسا متصلة فى الحياة مع كل “بروفة”، ولا يترك مادة من المجلة إلا علق عليها، وكثيرا ما يناقشنى فى رسوم الصديق عصمت داوستاشى، محتجا بأنه “لماذا هذا؟”. وأنه لا… ونعم.إلخ.. فأقسم له أنى أيضا لا أفهم هذه الرسوم مثله تماما، وأنها لابد أن تؤخذ هكذا بالحس العام، فيمط شفتيه، فأواصل إصرارى على أنها جميلة فقط، فيكاد يوافقنى، لكنه يصر على الفهم، فلا أملك له ردا. وحين يعترض على مقال غامض، أو “كتابة طليقة”، لا أحاول أن أقنعه، ولكنى أصر على أنه ليس علينا إلا أن نحاول، وحتى لو لم نفهم التفاصيل فلنحب الصدق المحتمل وراء التناثر الظاهر، فيأخذنى على قدر عقلى، ويطيّب خاطرى، ونتبادل أنخاب حمص الشام بالشطة، ولكنه لا يهمد فيعود ينصحنى أنه لابد أن يكون لكلامنا معنى واضح، حتى لا نكون مثل ذلك الذى يقول لصاحبه “أن السمك يخرج نارا” فيرد صاحبه “كيف ذلك فالسمك فى الماء، والماء جدير بأن يطفئ النار من فوره”؟ فيرد الأول إنه “أهُو كَـلاَمْ”.ويأبى الحاج سيد أن يكون كلامنا فى المجلة “أهُو كَـلاَمْ”. وأقسم له أنه أبدا لن يكون كذلك حتى لو لم نفهمه، ويصدقنى، ويدعو لى، فأدعو له. وأفرح أنه أقصر منى كثيرا، لأن ذلك يسمح لى حين تسخن العواطف بيننا أن أنقض على صلعته مقبّلا إياها، قبل أن يستعد بالابتعاد الدفاعى المتواضع،
هذا مافعلته – فى خيالى، عن بعد- بصلعة هذا العجوز الإيطالى، مجدِّد المصباح القديم بإبداع متفرد. ويصحبنى الشاب سائق التاكسى عودا إلى فينسيا، ونتحدث قليلا فى السياسة وكيف أن كفة الحكم فى أوربا تميل إلى أن تتجه ناحية الأحزاب الاشتراكية (فرنسا- أسبانيا- اليونان- إيطاليا) دون الشيوعية أو الرأسمالية، فيبتسم السائق فى خبث المتفرج الواعى، ويقول ما أفهم منه إنها “اشتراكية القادرين”. وأهمس لنفسى إنه “هلْ غادر الشعراء من متردم”.
………..
نكمل الأثنين القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ فى ضيافة المرأة المُهرة ” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net