مقتطف من مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980 – 2001) (مقتطف …. وموقف) عن إنقباض ”القاضى الجرجانى”
نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 11-9-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4393
الأربعاء الحر
مقتطف من مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980 – 2001)
(مقتطف …. وموقف) (1)
عن إنقباض ”القاضى الجرجانى”
المقتطف:(2)
– 1 –
يقولون لى: فيك إنقباض، وإنما
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
…………
…………
إذا قبل هذا مشرب قلت: قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
الموقف:
نعود مرة ثانية إلى التنبيه على خطأ ما شاع بين الناس حديثا من أن الحزن (الإنقباض – الإكتئاب) هو أمر مرفوض، أو هو أمر مرضى. وقد سبق أن أشرنا لمثل ذلك فى أكثر من موضع فى هذه المجلة، خاصة فى هذا الباب إقتطفنا قول ذى الرمة:
وكنتُ إذا ما الهمّ ضاف قـَـرَيـْـتـُـه
مـُـوَاكبة ً يَـنْضُو الرِّعَانَ ذَمِيلُهَا
وأكدنا أن الهم جزء من الحياة، وأنه ضيف يستحق الإكرام، وأنه بالمواكبة والترويض يصبح جانبا رائعا – مؤلما – من نبض وجودنا. ثم فى عدد أكتوبر 1981 جاء نفس الباب (مقتطف وموقف) فى رثاء صلاح عبد الصبور كيف أن الحزن الذى يشرحه تشريحا فى قصيدته ‘أغنية إلى الله” هو حزن متعدد الأشكال والأطوار والأعماق، وأن الحزن لا يرفض إلا إذا تشوه وقبح وأعاق وأغرب .
”لكن هذا الحزن مسخ غامض مستوحش غريب” .
أما حزن القاضى الجرجانى فهو حزن آخر نتعلم منه إيجابية جديدة لهذا الوجدان الأبى اليقظ، لقد أسماه أولا إنقباضا . والإنقباض – لغة – يحمل إلى جانب الحزن الإنسحاب والضجر والإنطواء . ‘إنقبض الرجل على نفسه: ضاف بالحياة فاعتزل، وانقبض عن القوم: هجرهم” . وهو البعد الأساسى الذى أكد عليه القاضى الجرجانى بدقته اللغوية الخاصة، وحاسته النقدية المتميزة أليس هو صاحب ‘الوساطة بين المتنبى وخصومه”،حيث وقف قاضيا موضوعيا ناقدا إيجابيا متواضع الحجة ناصع المنطق؟ وهو يدافع عن إتهامه بالإنقباض فى أنه النتيجة الطبيعية للأباء . ويصبح الإنقباض حتما إذا شاب المواقف الداعية للمشاركة شبهة ذل، أو لى للذراع، أو صفقة خفية. وقد تهاون الناس فى أيامنا هذه، وربما فى أيامه كذلك، فى الحفاظ على ماء الوجه تحت دعاوى “التكيف” و “النصاحة” و “الوصول” و “الشطارة”، بل و“التسامح” و “الطيبة”، وبالتالى فلت سنون وجودهم، وإنغلقت مسام نبضهم، فما عاد حزن وما عاد انقباض أبى . فإذا ظهر – حفظنا الله!!- أى من هذا أو ذاك – فهو المرض!، وهى العقاقير الواقية من الإحساس، والمعينة على المذلة والعياذ بالله!!.
ويؤكد إيجابية عزلة الجرجانى أنه لا يرفض أن “ينظر فى” المشرب العام الذى ينهل منه الناس، عامة الناس، وتعبيره الدقيق: “قلت: قد أرى” من أجمل ما يؤكد أنه يدقق ليميز ويحسب الثمن، ويدفعه مسبقا، ثم يقبل أو لا يقبل، بحسابات الكرامة والحس النصى. خفية . وإذا لاح له ثمنا ليس فى حسابه، أو طلبوا منه مقابلا جوهريا من و جوده، أبى وفضل الظمأ مختال عفيفا، عن أن يشرب من ماء ولغت فيه السن من لا هم لهم إلا الشرب من كل سبيل بلا تمييز ولا حتى عطش، ولاشك أن من يضع لنفسه هذه الشروط القاسية قد يدفع ثمنا ليس يسيرا مقابل ذلك. ولا شك أن الفقر – مثلا – هو أقرب إلى هذا الأبى من الغني، لأن الحصول على المال هذه الأيام (وتلك الأيام) يحتاج غالبا إلى قدر لا بأس به من التفويت وما شابه.
وربما هذا ما نبه إليه القاضى الجرجانى نفسه فى قوله:
وبينى وبين المال بابان حرما علىَّ الغنى: نفسى الأبية والدهر
وجمال دقة تعبير هذا القاضى الأديب، أنه لم يدع الفخر بالفقر، ولم يرجعه إلى إباء نفسه فحسب، بل جعل الأمر نتيجة لعامل آخر فى نفس الوقت هو – بشكل ما – خارج عن إرادته المباشرة (وهو: الدهر)، وهذا الصدق الحاد يجعلنا نحترمه أكثر من مدعى البطولة والمثالية بمبالغات مرفوضة حتما.
[1] – عدد أبريل 1985 – مجلة الإنسان والتطور
[2] – استعرت هذا المقتطف من المستشار سمير ناجى نائب وزير العدل، ومدير المركز القومى للدراسات القضائية، حيث يوزعه على الدراسين ايقاظا وأملا.
2019-09-11