نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4379
الأربعاء الحر
مقتطف من مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980 – 2001)
(مقتطف …. وموقف) (1)
عودة الداء، وتساقط الأنفس، وإعادة الولادة
المقتطف:
يقول امرؤ القيس:
تَأوّبَني دَائي القَدِيمُ فَغَلَّسَا أُحَاذِرْ أنْ يَرْتَدّ دائي فأُنْكَسَا
فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعة وَلَكِنّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا
ألا إن بعد العُدم للمرء قنوة ً وَبعدَ المَشيبِ طولَ عُمرٍ ومَلَبَسَا
الموقف:
حين نقرأ فى تراثنا العظيم نتخذ عدة مواقف يكمل بعضها بعضا، فمن مهتم بصحة نسب الشعر إلى قائله، ومن مهتم بتاريخه ودلالات إشاراته، ومن مهتم بجدته وسبقه.. إلى آخر ما يثرينا به النقاد والمحققون، وعندى أن التراث يمكن أن يمثل أمام وعينا بطريقة أخري، حين نتجاوز ذلك إلى تقمص قائله – أيا كان هو – لنعيش نبض حالته، ونغوص مع إيحاءات لفظه الدالة على عمق وعيه وصدق حسه، فقد قيل أن امرؤ القيس مات بالجدرى، وقيل أنه مات مسموما بناء على دسيسة “الطماح” الذى كان سببا فى إرسال الحلة المسمومة المنسوجة من الذهب والتى ما أن لبسها امرؤ القيس فى يوم صائف، حتى تناثر لحمه، وتفطر جسده فلذلك سمى “ذا القروح”، وقيل أنه مات “بالزهرى” وهو مرض تناسلى له أطوار ثلاثة، بعضها يتصف بظهور هذه القروح، ويرجع صاحب الرأى الأخير تفسيره إلى سلوك امرؤ القيس الجنسى، الذى بلغ فى دقة وصفه له ما يجعلنا نصدق أنه كان مندفعا إلى ذلك حتى دون تمييز أو حذر، يظهر ذلك – مثلا – ما جاء فى المعلقة.
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذى تمائم محول (2)
أو ما جاء فى نفس القصيدة التى إقتطفنا منها أبياته الثلاثة فى هذا المقتطف إذ يقول:
يرعن إلى صوتى إذا ما سمعنه كما ترعوى عيط لى صوت أعيسا (3)
وهذه الإجتهادات فى تحديد مرضه هى إجتهادات طيبة وإن كان تحديد مرض بذاته سببا لموت شاعر، لا يقدم ولا يؤخر فى تاريخ هذا الشاعر، أو فى دوره فى الكشف عن طبقات وعينا، ولست فى موقفى هذا أحاول أن أقول أن قروح الجدرى تظهر فى الوجه واليدين أكثر مما تظهر فى الجذع ظهرا وبطنا، وأن أثره فى الوجه مشوه بشع، وأننا لم نسمع بمثل ذلك عن امرؤ القيس، كما لا أجد فى نفسى ميلا إلى مناقشة أنواع السموم، وأن أيا منها لا يدخل من الجلد “هكذا” فى يوم صائف فيفطر الجسد، وينثر اللحم، وأخيرا فليس مفيدا أن أتتبع أطوار مرض الزهرى لأحدد أن مثل القروح الموصوفة يتميز بها الطور الثانى أكثر من الطور الأول والثالث، وأن هذا الطور الثانى ليس سببا فى موت صاحبه عادة. . وأن مرحلة الشلل التى قد يشير إليها قول الشاعر “تضيق ذراعى أن أقوم فألبسا” هى مرحلة متأخرة – ذلك أن مثل هذا النقاش “الطبي” يحرمنا من أن نعايش خبرة شاعر فى مواجهة مرضه، أيا كان هذا المرض والموقف الذى نقدمه هنا يتخطى كل ذلك ليشمل عدة رؤي:
أولا: أن ثمة داء كان يشكو منه شاعرنا ويعرفه، وأنه داء “يعاود” صاحبه، وأن له إرهاصات سابقة منذرة يستشعرها أمثال شاعرنا من مرهفى الحس وذوى القدرة على رصد التغيرات الداخلية، وعلى معايشة المعاناة بوعى فائق، ونحن حين نختصر كل ذلك إلى تسمية المرض بالجدرى أو بالزهرى نغفل – مثل خطأ الطب الأحدث – طبيعة دورات الحياة، ودورات المرض وهى موازية لدورات الحياة بشكل أو بآخر، فالداء الأواب هو إعلان للطبيعة الإيقاعية للتكوين البشرى بغض النظر عن محتواه: نفسيا كان أم جسديا، جلديا كان أم حشويا، ونحن نحاول بكل الطرق أن نغفل هذه الحقيقة الأولية بعد أن تجمدت عقولنا على طريقة تفكير إستاتيكية خطية، وليست دينامية دورية، ولست هنا أحاول أن أخص مرضا بذاته بهذه الدورية، ولكنى أذكر الناس والأطباء بأن مواكبة دورات الطبيعة تستلزم أن نعيد فهم التركيب البشرى فى الصحة والمرض من هذا البعد “الأواب” فالطبيعة البشرية طبيعة دينامية دوارة فى الصحة والمرض.
وهذا الداء “قديم” بنص كلام الشاعر، هو شديد الإظلام، ورغم أن التفسيرات اللغوية قد أرادت أن تفسر “غلسا” بزمن المعاناة من الليل والنهار حيث حددت أن الفعل “غلس” يعنى “جاء يغلس” أى فى ظلمة آخر الليل إلا أن المعنى الأرجح عندنا هو أن هذا الداء المعاود الأواب ثقيل حالك الظلمة، وبالتالى نقترب من اللفظة المستعملة فى العامية المصرية “غلس عليه” بمعنى أثقل عليه حتى السخف (4)، والحذر من إرتداد المرض فالنكسة قد يعرفها المريض أكثر من الطبيب، فالمريض يرصد محتوى أحلامه، ونسق نومه، ومدى حساسيته، ويعرف أنها إذا ما تغيرت فى إتجاه كذا، فهذا نذير بتغير داخلى سرعان ما سيظهر من سلوك مرضى صريح، وكثير ما يحضر المريض ويطلب العلاج الكهربائى أو الدوائى قبل ظهور المرض لإجهاضه، وهو يؤكد أنه “يعرف نفسه” وكثيرا ما يستجيب له الطبيب، وكثيرا ما يجهض العلاج المبكر هذه النوبة قبل ظهورها ويتجنب المريض نوبة كاملة من نوبات إنتكاسه، فإذا كان هذا هو شأن بعض المرضى العاديين فما بالك بشاعر مرهف.
خلاصة القول:
أولا: إن امرؤ القيس كان به داء ما، وإن هذا الداء قديم، وإنه يعاوده فينكس، وأنه يعرف إرهاصاته ويرصدها، ولكن هذا كله لا يعنى إطلاقا أن ثمة علاقة مباشرة بين هذا الداء وبين شاعرية شاعرنا، وإن كنا لا نستبعد علاقة غير مباشرة، حيث النشاط الشعرى “أواب” هو أيضا فى كثير من الأحيان، وإن كان نقيض المرض حتما، وهنا التوازى بين دورات فائق الصحة فى شكل الإبداع الشعرى وبين دورات المرض، أقول التوازى وليس أبدا العلاقة السببية المدعاة بين مرض وإبداع.
ثانيا: هذا الشعور الشديد الدقة فى إستقبال تساقط القوة وتفكك “الواحدية” إلى وحداتها الأصغر فى حالة المرض، هو شعور عميق الجذور لا يرصده الأنواع به قادر على إبداع إدراكه، فالنفس فى التفكير العلمى الأحدث: ما هى إلا نفوس متعددة، تتوحد فى وحدة سلوكية ظاهرة فى حالة الصحة وفى لحظة بذاتها، ولكنها تتفكك إلى عديد من الأنفس فى الحلم والمرض (5) ولا يستطيع المريض المغترب – عادة – أن يرصد هذا التفكك، وإن كان يعيش نتائجه أعراضا وإنشقاقا، أما الشاعر فهو يرصده، ويكاد يعلن أنه “موتا ما”، ولكنه موت بالتقسيط، ليس بمعنى تناقص كمى للقوى فحسب، وإنما بمعنى تساقط الأنفس! إذ تفككت فلم تعد ثمة واحدية تضم مكونات الشخص الواحد إلى بعضه كيانا صحيحا متكاملا، وما أقسى هذا الشعور وأروعه، والشاعر الذى يلتقطه فيصفه بإعتباره أقسى من الموت الكلى الشامل حتى ليتمنى أن ينتهى مرة واحدة (تموت جميعا) بدلا من هذا التساقط المرعب الأليم هو مبدع راصد لذاته فى عمق تصدعها، وهو يعلمنا بأداته الفنية المخترقة ما عجزت نظريات العلم عن رصده إلا مؤخرا، وبصورة مبتسرة محدودة. (6)
ثالثا: الوقفة الثالثة أمام هذا المقتطف هو ما يشير إليه البيت الثالث من حتم دورة “إعادة الولادة”، فإذا كان الداء أوابا، والنفس تتساقط أنفسا دون أن تموت جميعا، فإن هذا كله – حين ترجح كفة الحياة – متجه فى النهاية إلى بعث جديد، وقد يحتار المنطق العادى إزاء الشطر الثانى من البيت فإنه إذا قبل المعنى المباشر للشطر الأول بأنه يعني: أن بعد العسر يسر، وبعد الشدة رخاء، وبعد الإفلاس إحتمال إقتناء لأصل مال يستثمر من جديد (7)، فإن الشطر الثانى غريب، فليس من المعروف ولا من المألوف أن يرتد الإنسان طبيا فتيا بعد كهولة ومشيب، ولا أن يطول عمره بعد أن يبلغ من العمر أرذله، ولابد أن ذكر الملبس هنا لا يعنى مجرد التجديد فى اللبس لأنه مقترن بطول العمر وتجديد الشباب بشكل أو بآخر، وتصورى أننا لكى نفهم البيت جميعه لابد وأن نتخطى المعنى البسيط إلى ما توحيه القصيدة كلها من أن الحياة حلقات متفجرة فى حلقات متلاحقة من موت وإعادة بعث، ليس موتا بمعنى الفناء، وإنما موت بمعنى تساقط القديم، وليس بعثا بمعنى مجرد الإفاقة من داء أو كبوة، وإنما بعث بمعنى تجديد العمر ونوعية الوجود لدرجة البداية الشابة التى يمكن أن يقاس بعدها العمر بمقياس أدق، حيث يصبح طول العمر مقاسا بعمق الوعى وما تحتويه الخبرات الجديدة من تجديد .
***
وهكذا يكتمل المعنى الذى دب فى عمق وعى الشاعر وهو يعايش خبرة أوبة المرض، وتساقط الأنفس، وإعادة الولادة، فيصبح ذلك جميعا فى هذه الصورة الفنية المكثفة، لنعيشها كما هى كأصل ننطلق منه إلى تعميق معارفنا الموازية، وليس كسلوك نترجمه إختزالا إلى بعض معلوماتنا الطبية المحدودة.
يحيى الرخاوى
[1] – عدد يوليو 1984- مجلة الإنسان والتطور
[2] – أحوال الصبى إذا تم له حول (عام) فهو محول.
[3]- العيط: الواحدة عيطاء، خيار الابل، والأعيس : الفحل.
[4] – ولكن يجدر بنا أيضا أن نذكر أن كثيرا من الأمراض النفسية الدورية من نوع الاكتئاب مثلا تشتد حدتها فى آخر الليل وقبيل الفجر وبعيده وان كنا لا نميل إلى هذا التفسير المباشر والمسطح.
[5] – والابداع : ولكن فى اتجاه آخر.
[6] – انظر: د. يحيى الرخاوى “الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى”: الانسان والتطور – عدد أكتوبر 1981 (المجلد الثانى – العدد الرابع) ص 9:33.
[7] – القنوة: ما اقتنيت من شئ فأتخذته أصل مال.