نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 21-7-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4341
“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (1) (الحلقة الثانية عشر)
(نواصل: حركية جدل الشعر والشاعر والعلاقة بحركية الحلم!)
……….
……….
توظيف قراءة الحلم (تفسيره) علاجيا:
فضلنا استعمال تعبير قراءة الحلم بدلا من تفسير الحلم، إشارة إلى ما وصلنا إليه من أنه ما دام الحلم إبداعا محتملا، فالقراءة المبدعة هى الأقدر على إعادة إبداعه، إن اعتبار تفسير الحلم – كما قال فرويد- ”هو الطريق الملكى للاشعور”، قد تضاءل كثيرا فى وقتنا هذا، إما لترجيح أن هذا الطريق الملكى هو “متاهة” مُشَخْصَنَة غالبا، وإما لغلبة العلاج الكيميائى والسلوكى لدرجة الإزاحة الكاملة لكل ما عداهما، فلم يبق من استعمال الأحلام فى العلاج إلا جزء يسير يمارس فى بعض أثار التحليل النفسى، وجزء آخر “يمُسَرَحُ” (يعاد إخراجه) فى العلاج الجماعى كما ذكرنا.
مهما ضؤلت الممارسة العلاجية التى تستفيد من محتوى الأحلام مع تضاؤل جرعة الإبداع فيما هو علاج، فإن النظر فى توظيف عملية قراءة الحلم فى الإبداع العلاجى يرتبط أشد الارتباط بهدف هذه الدراسة، أستطيع أن أعدد أهم وظائف قراءة الحلم المبدعة (بكل صورها بما ذلك، أو أهم ذلك: المُمَسْرحة فى العلاج الجمعى) كما أراها من واقع ممارستى الاكلينيكية من حيث أنها:
1- تعلن درجة أرحب من القبول لأكثر من مستوى من مستويات الوعى.
2- تتيح قدرا أكبر من الحركة نحو الداخل (أو بتعبير أفضل: نحو الجانب/الجوانب، الأخرى).
3- تسمح بأن يتحمل الحالم (والمعالج) بوعى أصدق، مسئولية ما يجرى على الجانب الآخر. أى مسئولية تواصل عملية الإبداع التى بدأت بحكاية الحلم.
4- تسمح بتواصل بين طرفى العملية العلاجية بشكل أعمق ومتعدد المسارات
5- تقرب بين مستويات الوجود (مستويات المخ، مستويات الوعي…إلخ) بحيث تسهل رحلة التبادل، ثم احتمالات التوليف، مما يظهر فى تزايد الأحلام، وتزايد القدرة على التقاطها وحكايتها (2)
على أن هذا كله لا يتطلب بالضرورة تفسيرا للحلم، بمعنى ترجمته إلى مايشير إليه, بل إن مثل هذا التفسير قد يعوق تواصل الإبداع توجها إلى الولاف الأعلى. كما أن لقراءة الحلم دورا أكاديميا مفيدا فى بعض الأبحاث العلمية المتعلقة بعلم السيكوباثولوجى (الإمراضية) خاصة، من منطلق فينومينولوجى إبداعى أيضا مما لا مجال لتفصيله هنا.
قراءة النص الأدبى (قياسا)
النقد إبداع على إبداع
كنت أودّ أن أكتفى عند هذا الجزء بتوصية أن يقوم به أحد النقاد المنهجيين المبدعين معا، ممن يستطيع أن يلم بأوجه الشبه بين مناهج النقد وخطواته ووظيفته وجرعة الإبداع فيه (فى كل منهج من مناهجه) وبين ما حاولتُهُ فى مجال أقرب إلى تخصصى (التطبيب). غير أنى تراجعت إلا قليلا حيث أن الهدف من هذه الدراسة أساسا كان هذه المقارنة، وعلى ذلك فسوف أحاول أن أقدم فى خطوط عريضة، تتناسب مع شخص ليس من أهل الصناعة (صناعة النقد)، ولكنها فى حدود اجتهادى بوصفى قارئا- أحيانا- بحروف مكتوبة، (أى بوصفى ناقدا بعض الوقت).
إذا كان الحلم ليس حلما بل إبداعا مكثفا، وتفسيره ليس تفسيرا بل قراءة مبدعة، فالنقد الأدبى ليس حكما على نص، لكنه إبداع على إبداع، وهو أهم أشكال الإبداع التالى القادر على أن يضيف ويمتد (3).
وقد بلغ بى الأمر- وهذه مغالاة أعترف بها- أننى تصورت –خطأً- أن النقد الذى يُثبت فى نهايته مـراجع ما (بالأسلوب العلمى التقليدى، الدفاعى، أو الاستعراضى) قد تقل جرعة الإبداع فيه، مادام النص الأصلى لا يلتزم به ولا ينبغى أن يحوى مراجع دفاعية أو تفسيرية.
النقد قد يرتقى، إذا ما وصل إلى مثل هذا التحرر من الحبكة المدعمة بالأدلة الدفاعية أو التفسيرية، إلى درجة إبداعية لا تقل عن إبداعية النص الإنشائى قيد النقد.
لتوضيح ذلك أشير إلى ما عددته نقدا لعمل أصيل، بعمل مماثل مواكب، وكان هذا المثال عندى هو النموذج الأقصى لما أسميته إبداعا على إبداع (دون تعميم طبعا) - وذلك هو قصيدة “محمود محمد شاكر”: “القوس العذراء” على قصيدة الشماخ بن ضرار الغطفانى فى قوس عامر أخى الخضر(4)، لكن هذا لا ينبغى أن يبرر أن يدرج فيما هو نقد إبداعى كل المعالجات التى عولجت بها نصوص قديمة أو حديثة ولكن بأسلوب فنى جديد، خاصة فى المسرح أو ماشابه، وأغلبها محاولات أدنى إبداعا من مسرحة النص الأصلى وخاصة إذا ما كان محتويا لنبض أعمق يمثل “الحلم الجمعي” الذى كان له حضور طاغ فى الأساطير خاصة.
نوهتُ إلى أنه لايصح أن نُستدرج إلى تفسير الحلم، كذلك لايصح أن نتعامل مع النص كما لو كنا نفسره، بخاصة فيما يتعلق بالمبالغة فى البحث عن أسبابه المتعلقة بالمبدع (ظاهر شخصيته بالذات) (5)، فإن كانت طريقة فرويد (مع اعتراضنا الجزئى عليها) تتعرف على الحالم من تداعياته، فإننا لانملك الوسيلة نفسها فى حالة النص الأدبى. وحتى محاولات المقابلات التى يقوم بها البعض مع الكتاب والشعراء فى تحقيقات الصحف بخاصة، بل وبعض التساؤلات المنهجية الأعمق (الاستبارات العلمية)، ينبغى أن تؤخذ الإجابات عنها بتحفظ شديد وتعميم محدود .
ومع أننى لا أرفض أن نرى الكاتب فى عمله، إلا أننى أنبه إلى أن الكاتب قد يرى نفسه - معنا- (6) فى عمله أيضا (ما استطاع ذلك)، فالكاتب الحق يبدع ليتعرف على كل شئ بما فى ذلك نفسه، ذلك أن عملية الإبداع (والنقد إبداع كما ذكرنا)، هى اكتشاف لعالَم الداخل/الخارج… وهذا العالَم: هو الكاتب بما حوى، وهو الواقع بما أوحى، معاً، والمبدع يؤلف بين كل ذلك بأداته المتاحة، فإذا كان لنا أن نستنتج شيئا عن الكاتب فنحن نستنتج عالمه المتكامل، ومشروع ذاته حالة كونها تتشكل فى رحاب واقع الداخل والخارج، ولكننا لا نستنتج عقدة مثلا (!)، أو معالم سلوكه الظاهر. ويجرنا هذا إلى تذكر أن مثل هذا التعسف فى ربط النص بمنتجه هو أخطر على النص الأدبى وعلى المبدع على حد سواء، من تفسير الأحلام الفرويدى، الذى يساعده التداعى الحر، وإبداعية المفسر أيا كانت مدرسته (7).
كذلك لا يجوز تفسير النص الأدبى، بتحليله إلى مفرداته فحسب، بما يقابل نظام فولك لتفسير الأحلام (نظام تسجيلى للبنية الكامنة) SSLS، وقد قابلت مثل ذلك فى الدراسات النقدية التحليلية الملتزمة تحت أسماء مختلفة (صعبة على مثلى)، ولكننى كنت أجدنى أبتعد عن النص الأدبى كلما وجدت نفسى أمام معادلات، ورسوم بيانية، ورسوم توضيحية تهددنى بأن عائدها على المبدعين قد ينتهى بنا إلى ما يشبه الإبداع الكمبيوترى، ثم إنى فى حدود تعرفى المتواضع على الظاهرة البشرية حالة كونها: حالمة/مجنونة/مبدعة، لا أملك إزاء هذه الممارسات إلا الشكر والتأدب، فى محاولة الاستفادة من هذه العلوم المساعدة، ولكن ليس على حساب النقد الإبداعى، وإنما دفعا له وإثراء، لتحقيق ما يقابل ماذهب إليه أساجيولى Assagioli)) (8)، مما أسماه الولاف النفسى Psycho-synthesis وهو العملية العكسية، والمكملة، للتحليل النفسى. وهذا أقرب إلى فكر يونج مرة أخرى، حيث يكون الهدف من التحليل هو التكامل بما أعطى (أكثر من تسليك الطريق لما يمكن أن ينطلق) ليحقق الولاف المتجاوز، والتفرد.
على نفس القياس نرى أن النقد الإبداعى لا ينبغى أن يعطى للتحليل الإحصائى، أو البيانى، أو التخطيطى، جرعة أكبر من توظيفه فى خدمة الإبداع المكمل له. أما إذا احتل التحليل (إلى المفردات والوحدات) كل الساحة، كأنه هو النقد، فسيقع فيما وقع فيه تفسير الأحلام من منطق التحليل الفرويدى، أو منطلق طريقة النظام التسجيلى للبنية الكامنة SSLS.
معنى ذلك أننا نكرر ما قلناه فى قراءة الحلم من ضرورة ضبط جرعة حرية الإبداع النقدى فى إطار الالتزام الهادف، ولكن الأمر سيرجع فى النهاية إلى من هو “قارئ النص” وما هو مدى موقفه الإبداعى شخصيا، وما مدى موضوعيته/الذاتية. وكل ماقيل فى المفسر للحلم يسرى على الناقد، وعلى الباحث الفينومينولوجى عامة.
مستويات الإبداع:
تُرى هل يمكن أن نقسم أنواع الإبداع إلى مستويات كما فعلنا فى حالة الحلم؟
لا أحسب أن مثل ذلك مطلوب بالمعنى المباشر، لأن من حق الحلم الحقيقى أن يكون ليس حلما مصنوعا (بمعنى زيادة جرعة خيال وعى اليقظة المصنوع حتى التزييف). ولكن الإبداع لا يسمى إبداعا إذا وصل إلى هذه الدرجة من التزييف، فإذا حدث مثل ذلك فهو لا يستأهل النقد أصلا، ولكن يظل للنص الأدبى مستويات تقابل درجات الحلم الأخرى.
إذا كان الإبداع (إنشاء، ونقدا) لازما فى كل حال على هذا المجال الذى اتسع منا حتى شمل كل الناس فإن نوعه، وعمقه، ومخاطره، لابد أن تختلف من مستوى إلى آخر، فقراءة عمل مثل “المسيح يصلب من جديد” (كازانتساكس) لاتحتاج من الناقد إلى هذه الجرعة الهائلة من الإبداع المواكب المسئول التى يحتاجها نص آخر مثل “مائة عام من العزلة”، ناهيك عن “عوليس” لجيمس جويس. كذلك فإن قراءة قصيدة لمحمود حسن إسماعيل لا تتم بالأداة الإبداعية نفسها التى تقرأ بها قصيدة لأنسى الحاج أو أدونيس، و هكذا.
على أن الإبداع النقدى وعمقه يتناسب تناسبا طرديا مع درجة الإبداع الإنشائى، بمعنى أن القصيدة التى تتكشف فى حالة تشييد البنية الجديدة، إنما تتكشف بإذن قائلها وتحت مسئوليته، وألمه، ومغامرته، وهى ربما تحتاج لنفس القدر، وأكرر، من التفكك المقابل والمسئولية والألم، فإعادة البناء نقدا.
لكننا نلاحظ أيضا أن جرعة الإبداع الناقد قد تتناسب طرديا مع جرعة التناثر العشوائى مبدئيا،ً وخاصة فى بعض حالات الشعر؛ إذ أن الجرعة المطلوبة من الإبداع الناقد فى مواجهة قصيدة مملاة، هى والحلم الفج سواء، أو هى أقرب إلى تناثر الجنون… لابد أن تكون جرعة هائلة تستطيع أن تحيط بتناثر هذه الطلقة المبعثرة، حين يقوم بإبداعها القارئ الناقد.
القارئ العادى ناقدا:
القارئ العادى ناقد متميز لكنه لا يعلن ذلك، ولا يصنِّف كذلك، لست أعنى العادى (9) بالمعنى الإحصائى: مثله مثل “أغلب” الناس؟ وإنما بمعنى القارئ صاحب ‘الحس الشامل’ أو الحس العام Common sense وهذا أمر ليس له علاقة لا بالأغلبية ولا بالإحصاء. هو القارئ غير المتخصص الذى يتلقى النص نَشِطاً محاورا، فيعيد تنظيم وعيه من خلاله، وبالتالى فإن ما قد حصّل هذا القارئ ليس ما هو مكتوب أو ممسرح أو معروض، وإنما هو جماع الجدل بين وعى الكاتب كما صاغه فى النص، ووعى المتلقى كما استقبل النص وأعاد ترتيبه.، فإذا توقف القارئ عند هذه المرحلة فهو متلق إيجابى فحسب، ولا نستطيع أن نقول إنه قام بدور نقدى مادام لم يقدم على تحديد وإعلان ما انتهت إليه العملية الجدلية بينه وبين النص. ومع ذلك فهو ناقد ضمنى رغم أنفه بمعنى أن إسهامه فى الإقبال على عمل ما، أو الإنصراف عنه، أو التصفيق له، أو إعادة قراءته، أو إغفال بعض ما جاء فيه، كل ذلك هو إعلان ضمنى يساهم فى تقييم العمل بدرجة ما، وبالتالى هو حوار ضمنى يفيد الكاتب وآخرين، لكن يصعب أن نسمى هذا نقدا بأى مقياس.
يمكن لقارئ القصيدة الحديثة أن يحدد ابتداء، ولو على وجه التقريب، درجة الأمانة فى الإملاء، والأصالة فى التسجيل، التى عاناها الشاعر المنشئ، ثم هو (القارئ/الناقد/المبدع) يقوم بباقى العمل، وهذا الدور تحديدا هو ما يقابل دور المعالج النفسى فى مواجهة التناثر الفصامى خاصة، حيث ينبغى أن يبدأ من نقطة افتراض أن هذا المريض بكل تناثره، لابد أنه “يقول شيئا خطيرا: غائيا، وعائما” فى الوقت نفسه، وهذا المعالج مطالب بعدم الإسراع فى ترجمة ذلك كله إلى أعراض، أو إغفاله تماما تحت زعم أنه غير مفهوم، وإنما عليه أن يحتمل المواجهة بما تهدد من تناثر مقابل، وتنشيط مُهَدِّد، ثم ولاف يشمل الاثنين معا كما ذكرنا. ولا أتمادى فى المقارنة حتى لا يظن بى الزعم بترادف بعض الشعر بالجنون، إلا أنى أعلن أن الأوْلى أن يقف الناقد مسئولا أمام كل إنتاج، مادام قد اطمأن لدرجة الأصالة والعمق فيه. وبالرغم من أنى لا أدخل فى تفصيلات ما هو علاج ومرض فى هذه الدراسة، فإنى أجد أن هذه النقطة بالذات تحتاج إلى توضيح:
فثم مرض آخر ليس جنونا، لكنه انشقاق عصابى، (10)أحيانا يقول فيه المريض كلاما متناثرا، كاللغة الجديدة، بحيث يشبه الفصام، وقد يختلط الأمر على الطبيب أو المعالج المبتدئ، ولكن بالفحص الأعمق من ذوى الخبرة يظهر أن هذا التناثر ظاهرى (برغم أنه ليس ادعاء شعوريا) وأن هذه اللغة مزيفة. ومثل هذا التناثر المزعوم، لايحتاج إلى تفكيك مقابل، أو إبداع ضامّ للاثنين (للمعالج والمريض معا)… إلخ. أما فى حالة الفصام، فالتناثر المرضى هو تفسخ عشوائى فى ظاهره، غائى فى عمقه، وبالتالى فهو يحتاج إلى من يعيد نظمه فيما يفيد تحديد غايته، دون التعرض للتفسخ فالتدهور، وهو ما نسعى إليه فى العلاج النفسى المكثف للفصامى.
أؤكد فى النهاية أن درجة الإبداع فى العمل الأدبى لاتقاس بدرجة الغموض والتناثر، لأن ثمة إبداعا سهلا وخاصة فى مجال الرواية، يحوى نبض التحول الجوهرى الذى جرى ويجرى، بأداء سهل (ممتنع)، فلا يعيبه وضوحه، بل إنه يعمق أصالته حتى يوصف كثيرا بتعبير “السهل الممتنع” (خذ مثلا: نزار قبانى، أو يحيى حقى).
النص العصى على النقد
ذكرنا فيما سبق أن ثمة أحلام لا تـُفَـسّر، وقد لا ينبغى أن تفسر، ومع ذلك فهى تُـحَرِّك، وتقرب، وتثرى. حتى أن كثيرا من تفسيرات مثل هذه الأحلام هو تشويه للغتها، بترجمتها إلى مالا تعنى، وقياسا: نجد أن ثم إبداعاً لا ينبغى أن يُنقد (يفسر)، بل إن كثيرا من النقد مهما اختلفت المدارس قد يشوه هذا العمل، وقد ينقص من قدره، وأحيانا قد يطفئ وهجه، فيحجبه عن المتلقى الذى كان يمكن أن يستقبله أكثر إبداعا من الناقد.
النقد ليس تبريرا أو تقييما
أخيرا، إذا كنا قد انتهينا فى فقرة تفسير الحلم إلى وظيفة قراءته، سواء أبدعت القراءة أم عجزت أمامه، فإن علينا أن نتساءل عن وظيفة النقد، لأن المسألة النقدية ينبغى أن تتخطى مجرد التقويم، اللهم إلا للأعمال الرديئة التى يستحسن إهمالها أصلا. كما ينبغى أن يتخطى التحليل إلى إمكان تخليق الولاف المباشر. إن مجرد التحليل أو التقسيم بكل أساليبه ومبرراته وقوته إنما ينبغى أن يدرج تحت ما أسميته “بالعلوم النقدية المساعدة”. وحتى التذوق التسكينى دون إبداع إنما يعتبر نشاطا توازنيا مساعدا لا أكثر.
وظيفة النقد بوصفه إبداعا هى مواكبة النص الأدبى: إبداعا موازيا، أعنى بالمواكبة بعض ما أشرت إليه فى “المواكبة العلاجية”، فكما أن نتيجة المواكبة العلاجية هناك تكون (أعنى يجب أن تكون، أو آمل أن تكون.) إبداعا، إبداع اثنين معا: المريض والمعالج، فإن نتيجة مواكبة النص إبداعا لابد أن نتوقع منها نفس النتيجة، بمعنى تحريك المبدع المنشئ إلى ما يعد به من خلال نصه، وفى الوقت نفسه تحريك المبدع الناقد إلى مستوى أعمق، وقدرة أكبر من التنشيط والاستيعاب، بما فى ذلك أن يكون نقده إبداعا منشئا فى ذاته قد يتجاوز النص الأصلى (11)
خلاصة القول فى النهاية:
إن النقد “الإبداع على إبداع” ليس غوصا إلى بنية تحتية مسئولة عن المفردات الفوقية الظاهرة فى العمل الأدبى (مثلما يغوص فرويد إلى الحلم الكامن، أو يغوص نظام فولك التسجيلى إلى البنية الكامنة للحلم)، وإنما هو - بعد الغوص أو بدونه - صعود بالنص الأول إلى مايتجاوزه بالنص الناقد إبداعا.
[1] – هذا هو الكتاب الأول باسم “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وهو الفصل الأول من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو أولها.
[2] – لم أحاول فى هذه الدراسة أن أشير إلى بعض نتائج مايجرى من أبحاث فى مسألة الحلم; برغم أن الإشارات الأولية تشير أكثر فأكثر إلى احتمال صحة الفرض الذى قدمناه هنا، ولكنى أسمح لنفسى أن أثبت هنا بعض ما ألهمتنى إياه هذه الدراسة من تحوير فى طريقة البحث، حيث قمت بتسجيل بعض أحلامى على مستويات مختلفة وبطرق تسجيل متعددة (انظر أيضا آخر هامش 17)، وعلى الرغم من أن محتوى الحلم لم يكن الهدف من التسجيل، فإنى فضلت أن أثبت هنا عينتين من أحلامى متباعدتى الدلالة، لا للتفسير، وإنما للنظر فى اختلاف التركيب، الدال على اختلاف مستوى الوعى الذى أنشأ كلا منهما:
= حلم (1) الحاج سيد عطوة يكتب مقالا من صفحة واحدة على ظهر صفحة الغلاف الأمامى من مجلة “فصول”، وهو يكتبه بحروف مطبوعة مباشرة على مجلة صدرت فعلا، هو يمط شفتيه جدا أثناء الكتابة لكنه يبدو معتزا بما يعمل، ويسأل نفسه (أو يسألنى فقد كنت حاضرا دون ظهور) عن جدوى هذه المجلة أصلا (ملحوظة: (المرحوم) الحاج سيد عطوة صديق ناهز السبعين، يقوم وحده بطبع مجلة الإنسان والتطور التى أتولى إصدارها، فى مطبعة نسميها مطبعة الغرفة الواحدة).
= حلم (2) مسجد- قبلة (هى نصف حجرة وليست تجويفا دائريا)-الإمام طفل- المأمومون شيوخ بعمائم، يحضر طفل آخر ليحل محل الأول الذى يتنحى دون عراك-وأنا جالس فى أول صف على غير العادة، أتفرج-لا أشارك.
وقد نقلت الحلمين كما سجلتهما حرفيا دون أى ربط لاحق، ولم أستطع أن أجيب عن موقع أيهما من التسجيل والتأليف، ولكنى لمحت العلاقة-بشكل ما-بين نشاطى فى كتابة هذه الدراسة وبينهما، فأثبتهما دون تعليق.
[3]- خطر لى أن كل الممارسات النقدية التى تخلو من إبداع أصيل (بما فى ذلك الممارسات الأكاديمية القح): لا ينبغى أن تعتبر نقدا إبداعيا، وأن الأجدر بها أن تسمى باسم: تطبيقات العلوم النقدية المساعدة..
[4]- محمود محمد شاكر: “القوس العذراء” مكتبة الخانجى القاهرة. الطبعة الثانية.
[5]- أشير بوجه خاص إلى المعالجات التى تفرض إيديولوجيات اجتماعية، أو اقتصادية حديثة على النص القديم، فتعلن وصاية الوعى اليقظ، بما يفسد الأصل، لا يبدعه جديدا.
[6]- وقع العقاد فى هذا الحرج بطريقته الوثقانية المتعسفة وهو يقدم دراسته عن الحسن بن هانئ وإلى درجة أقل كثيرا عن ابن الرومى، والدراسة الأخيرة هى الجديرة بالتقدير المناسب.
[7] – حدثنى الأديب فتحى غانم (فى المرة الوحيدة التى التقيته مصادفة) أنه تعرف على بعض جوانب نفسه (أو دعـم معرفته بها) من خلال قراءتى لأفياله، وكان ذلك على ما أذكر فيما يتعلق بموقفه من العدوان، والتسامح المسيحى الأصيل.
[8] – Assagioli. R: Psychosynthesis, Psychosynthesis Research Foundation, (1965), New York.
[9] – يحيى الرخاوى: “القارئ العادى ناقدا” ( ص72 – 91) عدد (2) 2005 – مجلة النقد الأدبى والدراسات الثقافية.
[10] – Neurotic dissociation
[11]- مثلا: إعتدال عثمان: “النص، نحو قراءة نقدية لأرض محمود درويش” ص 191 – 211، المجلد الخامس، العدد الأول (1985) مجلة فصول (حاولت القراءة أن تؤكد مقولة أوسكار وايلد أن “النقد يتعامل مع الأدب بوصفه نقطة البداية لإبداع تال)