نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 13-5-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4272
مقتطف من كتاب: “حياتنا .. والطب النفسى” (1)
الفصل الرابع: متنوعات
الحيل النفسية فى الأمثال العامية
شعر الإنسان أثناء تطوره الطويل بالحاجة الملحة إلى التكيف مع بيئته والدفاع عن نفسه، وكذا إلى تجنب الألم والسعى إلى تحقيق أهدافه..
ونعنى بالبيئة فى مجال التكيف كلا من البيئة الداخلية (محتوى اللاشعور) والبيئة الخارجية (المجتمع الكبير) على حد سواء.
وليس التكيف بمعناه الواسع قاصرا على الإنسان، فإن بعض أنواع الحيوانات قد يلجأ إلى وسائل للتعمية مستعملة أساليب الخداع حتى تحمى نفسها من عدوها فى البيئة الخارجية، ومثال ذلك ما تلجأ إليه الفراشة أو الحرباء من تغيير لونها، فتماثل الأولى ما حولها من أزهار وتماثل الأخيرة ما حولها من أحجار، وبالتالى تتجنبان الخطر.
والحيل النفسية ما هى إلا أساليب دفاعية تهدف أساساً إلى التخلص من التوتر وتساعد الإنسان على التغلب على ما يلاقيه من صعوبات فى بيئته، تلك الصعوبات التى قد تكون شعورية يعلم الإنسان ماهيتها ويقدر خطورتها كما قد تكون لا شعورية تهدد كيانه دون وعى منه … وفى كلا الحالين يكون دفاعه مباشراً أو غير مباشر بوعيه أو بدون وعيه.
ولنا أن نتساءل مطالبين بتفصيل أكثر، ما هو المثير الحقيقى لهذه الأساليب وما هو الهدف الأساسى من ورائها؟. والجواب هو أن القلق الشديد الذى لا يتسطيع الإنسان احتماله هو المثير لكل هذا السلوك، وأن الهدف الأساسى من وراء تلك الأساليب هو “خفض التوتر”.
وينشأ التوتر من حدة الصراع فى النفس الإنسانية، ومتى اشتد الصراع زاد التوتر والقلق، وعانى الإنسان بالتالى من حالة تهدد سعادته وتشفى نفسه المطمئنة … الأمر الذى يدفعه إلى التخلص منها بكل وسيلة .. ومن أهم هذه الوسائل: “الحيل النفسية”. وهى الأساليب التى لا دخل للتفكير الشعورى فيها .. فهى تحدث تلقائيا دون إدراك الإنسان أى بعيداً عن دائرة إرادته الواعية .. وهى تحدث آلياً بقصد خفض التوتر عند الأسوياء من الناس.. ولكنها قد تتكر حتى تصبح عادة سلوكية تكون معوقة أحيانا لا سيما فى الأشخاص ناقصى النضج أو المهيئين للأمراض النفسية – أما إذا زاد اللجوء إليها زيادة أعمت الفرد عن إدارك نقصه ودراسة عيوبه فخدعته عن حقيقته، وألجأته إلى تجنب الألم مهما صغر أو كان ضرورياُ لمعرفة مجريات الأمور والوصول إلى أهداف الحياة فى إطار الواقع .. وإذا بلغت زيادتها حداً أبعده عن الحياة الإجتماعية والمشاركة فى معترك الحياة المتلاطم بالأهوء والأنواه، إذا حدث هذا اصبحت هذه الأساليب أساليب مرضية تعوق التوافق السوى رغم أنها فى البداية كانت تهدف للتوافق وخفض التوتر.
وهذه الحيل النفسية قديمة الإنسان ذاته، وهى متأصلة فى عاداته وسلوكه من قديم الأزل، وقد أدرك الأقدمون هذه الحقيقة وصاغوها فى تعقيبات متداولة مما تمثل فى الأمثال العامية والأغانى الشعبية العريقة فى مجتمعنا، وهذه ظاهرة تدل على عمق جذور الاستبصار عند الإنسان على مر العصور ومع اختلاف مراحل التطور، كما تدل كذلك على قدرته الفائقة على التعمق فيما وراء السلوك الظاهرى من دوافع خفية ملتوية.
وتبدا كل الحيل النفسية بعملية أساسية، وهى “الكبت”، فالكبت حيلة دفاعية أساسية تحدث وحدها أو تسبق حيلة أخرى تكميلية أو ثانوية، وهى العملية اللا إرادية اللاشعورية التى تحدث بصفة آليه فتنقل الأفكار والخبرات من دائرة الشعور والوعى إلى دائرة اللاشعور حيث لا يمكن – فى الأحوال العادية استرجاعها أو تذكرها، ويمكن بهذا أن يعتبر الكبت “عملية نسيان آلى للأفكار والنزعات.. وهذا النسيان يصاحبه إنكار للحدث أصلا”، وشتان بين الكبت والقمع، فإذا أحسست مثلا برغبة فى مصاحبة إحدى الفتيات وامتنعت عن ذلك لظروف اجتماعية فهذا ليس كبتاً لأنك أدركت رغبتك واحترمتها ثم تحكمت فيها.. أما إذا أنكرت أصلا أنك ترغب فى مصاحبتها فإن إلغاء الإعتراف بهذه الرغبة – رغم وجودها فى اللاشعور – هو الكبت بعينه وفيه ما فيه من خدا النفس… وعادة ما تكون النزعات والأفكار المكبوتة مشحونة بالانفعال الذى عجز الإنسان عن أن يتحمله فى حياته الشعورية فآثر أن يخفيه فى داخل ظاناً منه أن تخلص منه فى حين أنه يدخل اللاشعور بكل شحناته.
إذاً فالكبت هو العملية التى تمحو من الشعور والتعبير الحركى المباشر إندفاعات وأفكار لو أدركها وعاشها الإنسان لكانت مؤلمة أو مخزية أو مخيفة، أو باختصار هو عملية نفى فكرة أو اتجاه بما يصاحبهما من انفعال – من حظيرة الشعور إلى غياب الشعور.
وبعد عملية الكبت تبدأ كل الحيل الأخرى.. فإن الإنفعال الذى يصاحب الفكرة المكبوتة يبحث له عن تصريف ويتم هذا عن طريق الحيل النفسية.
والحيل النفسية قد تكون حيلا إعتدائية مثل “العدوان” Aggression ويتجه العدوان هنا – كحيلة نفسية – إلى غير هدفه الأصلى.. أى أنه يتجه إلى هدف غير مسئول عن التوتر، فإذا كان التوتر ناشئاً من الحيلولة بين الإنسان وغايته مثل إشباع دافع ما، فإن العدوان قد يأخذ سبيلا آخر للتنفيس عن هذا التوتر، وقد عبر ذلك المثل القائل “مالقوش عيش يتعشوا بيه جابوا عبد يلطشوا فيه” وقد يتجه العدوان إلى الجماد وهو غير مسئول عن الإعاقة، فنرى أن دافع العطش مثلا إذا لم يشبع أنشأ حالة من التوتر لا قبل للمرء باحتمالها فقد يكسر الإناء عدواناً عليه.. وفى هذا قيل “العطشان يكسر الحوض”، وقد يكون العدوان على أشياء تافهة لا علاقة لها بمصدر التوتر. وقد عبر عن ذلك المثل الذى قيل فيمن يطارد ذبابة ويتابعها فى غيظ يحاول قتلها بأنه لا يعدو أن يكون مليئاً بالتوتر وأن هذا التصرف ما هو إلا تننفيث عن عدوانه.. فالمثل يقول: “دى مش دبانة .. دى قلوب مليانة”.
وقد يكون الإعتداء عن طريق إسقاط المشاعر الضارة على الآخرين، فالإسقاط Projection حيلة لا شعورية نلقى بها اللوم عن أنفسنا وننسبة إلى الآخرين فنتحرر من المسئولية التى نشعر بها بأن ننسبها لغيرنا، ولهذا يلصق الإنسان بغيره ما يعتمل فى نفسه ولا يرضى عنه.. فالزوج الذى تنطوى نفسه على رغبة فى خيانة زوجته يرميها هى بالعزم على الخيانة.. وفى المثل “زانى ما يأمن لمراته” رغم أن المثل قد يعبر أيضاً عن حيلتى التعميم والتقمص.
وعكس الإسقاط تماما “الاحتواء” Introjection وهو يحدث غالباً فى الأشياء الحبيبة إلى النفس، فالطفل يحتوى “شكل” أمه… والأغانى الشعبية فى الحب والغزل فيها من معانى الإحتواء أكثر من أى مظهر آخر.. فالإغنية الشعبية تقول: “أحطك فى عينى واتكحل عليك” أو “أحطك فى شعرى واتضفر عليك… وإن جم يسألونى ما قولشى عليك” وهذا هو الاحتواء بعينه.
وقد تكون الحيل فى كثير من الأحيان إنسحابية، وفى هذه الحال يهرب المرء بعيداً عن مصدر التوتر والقلق.. فينسحب عنه إلى ذاته أو إلى أحلامه يحقق بها ما عجز عن الوصول إليه فى عالم الواقع.
وأوضح هذه الحيل هى حيلة الإنطواء Introversion حيث يكون الإنسحاب مادياً ومعنوياً فيعزف الإنسان عن مشاركة الناس ويهرب منهم ثم يأخذ فى تبرير موقفه وكأنه القائل “اللى يخرج من داره ينقل مقداره”.
وهناك حيلة أخرى فيها نوع من الإنسحاب والتراجع وهى “الإنكار” Denial فهى تعتبر حيلة هروبية كذلك وفيها ينكر الإنسان وجود أحد شقى القوى المتصارعة فى داخل نفسه وبالتالى ينهى الصراع القائم، وقد ينكر وجود الخطر الخارجى الذى يحتمل أن يسبب قلقاً وتوتراً فى النفس وكأن ذلك ما يعبرون عنه فى قولهم “ودن من طين.. وودن من عجين”.
ومثل الإنكار “الإبطال” Undoing ويعنى إبطال مفعول عمل ما، أو شعور يشعر به الإنسان بتغطيته بفعل آخر، وهذا الذى قيل فيه “زى اللى الصابونة فى أيد.. والنجاسة فى ايد.. يطرطش ويغسل” وهذا الموقف هو ما يحدث أيضاً فى حيلتى التكفير والإصلاح Reparation حيث يقوم الفعل الأخير بإصلاح ما حدث فعلا – أو تخيلا – من أذى وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب عن طريق محاولة تعويض الخسارة أو إصلاح الفساد.
أما التبرير Rationalization فهو الحيلة التى تمثل اللمسة الأخيرة فى كل الحيل الأخرى، فالتبرير هو محاولة من جانب الشعور لتفسير وتسويغ فعل أو رأى ليس له فعلا ما يبرره.. إلا دوافع خفية لا يقبلها الإنسان على نفسه ويأبى الإعتراف بها – أى أنه تقديم أعذار مقبولة للنفس تبدو مقنعة لكنها ليست الأسباب الحقيقية.
وإن دراستنا للتراث الشعبة لتوضح كيف تعمل الأمثلة العامية بصورة ملحة فى هذا الغرض، وكأنها ذخيرة لا تنضب لتبرير الأعمال غير المقبولة حتى قيل “إفعل أى شئ تقرره…. وستجد مثلا يبرره” والتبرير يعمل لتغطية الشعور بالنقص فى الخبرة أو العجز فى القدرات وهذا ما يعبر عنه المثل القائل “اللى ما تعرفش ترقص.. تقول الأرض عوجه” أو “ايش حايشك عن الرقص يا أعرج.. قال قصر الأكمام”.
وحيلة التبرير موجودة فى قصص شائعة ومتداولة، ولا أظن أن أحداً لا يعرف قصة الثعلب والعنب المر فى كل اللغات، فى العربية مثلا نظمت شعراً وزجلاً والشعر العربى يقول:
وثب الثعلب يوما وثبة شغفاً منه بعنقود العنب
لم ينله، قال هذا حصرم حامض ليس لنا فيه أرب
وصلاح جاهين ينظمها زجلا:
“العنب دا طعمه مر
قال كده التعلب فى مرة
والدليل على إنه مر
إنه جوه وأنا بره”
أما الحيل الإبدالية فهى الحيل التى تعنى إبدال هدف مكان هدف أو إزاحة شعور مكان شعور غير مقبول من النفس ومثال ذلك أن تتحول مشاعر الكره التى قد تراود الطفل تجاه والده إلى هدف أكثر إحتمالا لهذا الكره دون أن يلحق بالطفل شعور بالذنب، فإن بغض الطفل لمدرسه – لا يثير عنده شعور بالذنب فى حين أن كرهه لوالده يثير عند خليطاً من المشاعر مما قد يسبب له التوتر والألم، وكذلك المدرس الذى يقسة على طلبته قد يكون هدفه هو القسوة على المجتمع الكبير الذى حرمه حظه من التقدير والرعاية ثم أزيح هذا الشعور العدوانى وانصب على الطلبة الأبرياء وهذا ما يعبر عنه المثل القائل: “ما قدرشى على الحمار اتشطر على البردعة”.
وقد يكون الإبدال هو إبدال شعور خفى بعكسه: فيظهر على الإنسان عكس ما يبطن دون وعى منه أو إرادة، وهذا ما يسمى “تكوين رد الفعل” Reaction Formation فإذا ما أظهر طفل مثلا حنواً بالغاً نحو أخيه الأصغر فإنه يخفى عادة دافعاً عدوانياً وكأن حنوه هو حنو القط على الفار ولهذا قالوا فى ذلك “الفار وقع فى السقف”. القط قال له اسم الله.. قاله ابعد عنى وخلى العفاريت تركبنى” ويضرب هذا المثل فى التحذير من العواطف الزائدة التى ليس لها ما يبررها.
أما التقمص Identification فهو أن يدمج الفرد شخصيته فى شخصية آخر وذلك بشعوره وسلوكه جميعاً – فالطفل يتقمص شخصية أبيه وقارئ القصة يتقمص شخصية بطلها.. وهكذا، وقد يتقمص الآباء شخصية أبنائهم سواء بسواء – وهذا يحس الوالد – مثلا – بشعور ابنه فى الفرح والألم وغيرهاما، ولعله يحس حتى بإشباع حاجاته العضوية مصداقا للمثل السائر: “من أطعم صغيرى بلحة.. نزلت حلاوتها بطنى” وكأن شعر بشعورى الشبع واللذة الذين شعر بهما الصغير.
أما التقديسIdealization فهو أن يبالغ الشخص فى تقدير من يحب وتنزيهه بشكل زائد عن الحد حتى يصفه بكل المحاسن التى فيه فعلا والتى ليست فيه كذلك، بل ويخلع عليه أفضل أفكاره وغاية أمانيه وبهذا يجد مبرراً للتعلق العاطفى به ويحس أن عواطفه قد اتجهت اتجاهاً تستحقه، فالوقوع فى الحب مثل واضح من أمثل المبالغة فى صفات المحبوب والتغاضى عن عيوبه، أو بتعبير أصح التعامى عنها، وهنا نحب أن نشير إلى ما يتواتر فى هذا الصدد من آثار وأقوال، فحين قال عمر بن أبى ربيعة “حَسَنٌ في كُلِّ عَينٍ مَن تَوَد” كان يعنى إغفال المحبوب عيوب المحب وإبراز الحسن دون غيره إرضاء لنزعة الحب.. وقد تصل المبالغة ما وصل إليه قيس بن الملوح (مجنون ليلى) فى قوله “محب لا يرى حسنا سواها”.
ففى الحالة الأولى أضفى الحب الصفات الحسنة على المحبوب أما فى الحالة الأخرى فقد نفى صفات الحسن عن أى أحد إلا محبوبته، وهذا هو مصداق المثل القائل “عين الحب عميا”.
وبعد:
فلعل ما ذكرنا يشير أصدق إشارة إلى أن مفهوم النفس الإنسانية وأبعادها لم تغب عن الأذهان لحظة من زمان، وأن ما حدث مؤخراً أثناء تطور العلوم هو النظرة العلمية للمظاهر النفسية أما ديناميكيات النفس، وإدراك القوى المتصارعة فيها، فهى حقيقة موجودة منذ وجد الإنسان لذلك لنا أن نعجب كل العجب من هؤلاء الذين ينكرون اليوم ما أقره الشخص العادى منذ آلاف السنين!.
[1] – يحيى الرخاوى “حياتنا .. والطب النفسى” الفصل الرابع: متنوعات (الحيل النفسية فى الأمثال العامية) سنة 1972