الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / المخ البشرى بين التفكيك، والغسيل، وإعادة التشكيل (الإبداع)

المخ البشرى بين التفكيك، والغسيل، وإعادة التشكيل (الإبداع)

“يوميا” الإنسان والتطور

20 – 11 – 2007

المخ البشرى بين التفكيك، والغسيل، وإعادة التشكيل (الإبداع)

وجدت هذا الموضوع فى حاسوبى مسبوق بوقت ومكان كتابته هكذا: العلمين (يعنى مارينا ولا مؤاخذة)  فى 18  أغسطس 2007، مقال مطلوب لصحيفة الحياة اللندنية، ولم أعلم حتى الآن إن كان قد نشر أم لا ، حيث أنى لست من قراء الحياة اللندنية، غالبا مثلى مثل أغلب زوار هذا الموقع، فوجدت أننا – القراء وشخصى- أوْلى به، فأنزلته فى يومية اليوم ليكون فى متناول زائر الموقع هكذا دون تعديل جوهرى، مع إضافة ما بين قوسين بالبنط الأسود أعلاه (يبدو أننى كنت أخجل أننى كتبته هناك، لماذا؟).

هل تسمحون بتكرار مثل ذلك؟

المقال:

الحديث عما يسمى (أو كان يسمى) “غسيل المخ” أصبح فى حاجة إلى تحديث جذرى، فالمخ ليس وعاءًا  يمكن أن يتسخ فيُغسل مما فيه، ولا هو مخزن للذكريات والمعلومات والمعارف، يحتا ج إلى أمين مخزن يحافظ على ما به من السرقة أو التلف أو الاستبدال ببدائل مزيفة، المخ البشرى – جنبا إلى جنب مع الجسد والحس وما بعدهما – هو كيان حيوى نابض دائم التفكك والتشكّل بشكل منتظم، المفروض أنه هادف وإيجابى.

من جانب آخر  لا يخفى على أحد كيف قفزت تكنولوجيا الأدوات والمعلومات والتعلم والتعليم والإعلام مؤخرا قفزات عملاقة واعدة  وخطرة فى آن،  بما ينبه إلى خطورة تأثيرها بطريق مباشر أو غير مباشر، فى كلٍّ من تركيب ومحتوى المخ البشرى (والكيان البشرى)، فإذا أضفنا إلى هذا أن  إدارة أدوات هذه القفزة العملاقة المتعددة التجليات،  تتحكم فيها قوى ليست فوق مستوى الشبهات، وأيضا إذا أضفنا أن الذى يتحكم فى هذه الأدوات هى سلطات مشبوهة،  غير ظاهرة للعيان غالبا، لأدركنا مدى أهمية  فهم ما يجرى ومحاولة الحيلولة دون خطره.

عَمَى حكام العالم (الحقيقيين)

إن  الذى يحكم – ويتحكم – فى  الناس، كل الناس!!، فى عصرنا هذا ، فى وقتنا هذا، ليست هى الحكومات الرسمية المعلنة، وبالتالى فهى ليست الشعوب حتى لو  أوهموها أنها انتخبت حكوماتها،  لم يعد غسيل المخ قاصرا على تغيير معتقد فرد متهم أو جماعة  متحمسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس، بلأصبح لعبة الحكام الحقيقيين للعالم ، وسبيلهم الأضمن للتأثير على توجهات وأيديولوجيا بل وعواطف، وربما أديان  مليارات البشر لصالح أغراضهم المعلنة والخفية (الاستهلاك- الثروة – السلطة، وبالعكس)، كل ذلك يجرى ويتزايد بسرعة فائقة مع أن قوانين التطور تنذرهم قبل غيرهم بخطورة هذا التدخل فى تشويه الكائن البشرى، مما يعرض النوع البشرى للانقراض، علماً بأنهم سوف يكونون أوّل أجيال المنقرضين.

طبيعة المخ البشرى بين التشكيل والإبداع

المخ البشرى كيان حيوى مرن، فى حالة نبض مستمر بحسب دورية الإيقاع الحيويى بين النوم والحلم واليقظة. لعل  أهم طور من أطوار هذا الإيقاع الحيوى هو طور الحلم (بغض النظر عما إذا حكى الحلم أم لا)  وهو دور” التفكيك” (وهو اللفظ الذى يستعمل حديثا لتسمية غسيل المخ) ، ومن ثم إعادة  التنظيم بشكل تلقائى، مما يبين كيف أن  الحلم هو التفكيك الطبيعى، وإعادة التشكيل هو الضمان الطبيعى لاستمرار النبض الدماغى فى اتجاهه الصحيح..

غسيل المخ يستغل هذه القابلية  للمخ – أى الحاجة الحتمية إلى التفكيك –  ثم ينحرف بها قصدا إلى أغراضه،  بل إنه يلجأ إلى إحداث مصطنع مقصود لتفكيك  متمادٍ محسوب، بشكل مرتب مبرمج ، وبدلا من أن يساعد التفكيك على إعادة التشكيل أو يمهد له – كما يحدث فى الحلم  والإبداع – فإن  التفكيك المُقْحَمْ  يُسَخَّرُ لخدمة أغراضه  الخبيثة عادة.

الإبداع – وهو طبيعة حيوية بشرية أيضا –  هو مثل الحلم: عملية تفكيك فإعادة تشكيل،  ولكن فى وعى فائق مشتَمِلْ (مقابل وعى الحلم أثناء النوم)، ونتيجته – ليكون إبداعا- هو إنجاز  تشكيلات أشمل وأرقى، سواء كان ذلك فى شكل ناتج إبداعى أم اضطراد نمو الفرد.

غسيل المخ هو نوع من سوء استعمال خطوات الإبداع الأولى لتجهض إيجابياتها ويتم تحويلها سلباً  إلى ما هو  خطير وبشع.

 غسيل المخ يفتعل التفكيك، ثم يتقدم إلى إعادة التشكيل – اقتحاما من الفاعل وليس إبداعا من المفعول به–  لصالح أغراض الفاعل المغرض تماما.

 المصيبة المعاصرة هى أن دس السم فى الدسم أصبح مهمة الحكام الحقيقيين فى العالم (أغلبهم تحت الأرض: المافيا والشركات العابرة لكل شئ)،

مثلا: كثير  مما يجرى تحت اسم حقوق الإنسان، والعولمة، والنظم الاقتصادية الشاملة الملزمة، بل والأبحاث العلمية  فى المراكز المخصصة لخدمة أصحاب المصلحة  الخبيثة (مثل أغلب شركات الدواء، أو بعض شركات المعلوماتية، والبترول)  تصاغ لصالح استغلال هذا الإيقاع الحيوى ليصبح ناتجه كله، أو على الأقل أغلبه، لخدمة أغراضها التى هى أبعد ما تكون عن صالح تطور الإنسان. 

حتى العلماء فى مراكز البحث الملحقة بهذه المؤسسات العملاقة، أو الممولة من جانبها، أصبحوا يسمون بروليتاريا العصر الأحدث” سواء تم ذلك من جانبهم شعوريا ، أو  لاشعوريا.

الإنسان المعاصر فى حضوره فى العالم الآن لا يتصرف تبعا لما وصلت إليه أبحاث المعامل الحقيقية، أو إنجازات التكنولوجيا المتطورة ، ولا تبعا لما يسمع من خطب العرش أو برامج الحكومات  أو مواثيق الحقوق، وإنما يتشكل وعيه  – المصنوع عادة –  بناء على ماتتبرمح به خلايا مخه لخدمة مصالح هؤلاء  الحكام الحقيقيين.

هذا ما ينبغى الانتباه إليه أكثر من غسيل مخ متهم ليعترف بما لم يقترف، أو غسيل مخ أصولى ليقتل زملاء له، بدلا من أن يقتل من ينوى قتلهم!! ..إلخ.

من بعض ما يجرى :

يقوم فيضان الإعلام الأحدث بشكل مباشر أو غير مباشر بغسيل مخ جماعى طول الوقت ، وتقسم الأدوار بشكل مرتب (أو عشوائى يتكامل) على كل وسائل الإعلام، بل والتعليم والسياسة داخلية وخارجية’ بشكل مباشر أو  غير مباشر، وذلك من خلال آليات وتقنيات متضفرة تتكافل فيما بينها لتحقيق الأغراض السلبية الخطرة المؤدية فى النهاية إلى انقراض الإنسان بمنتهى الغباء التطورى . ومن هذه الآليات نعرض بعض الأمثلة المحدودة:

أولا : الإغراق:

 يقع المخ البشرى المعاصر حاليا تحت فيضان من  الضوضاء الإعلامية والسياسية،  بحيث يصير ليس فقط إلى حالة تفكيك خامل، بل شلل كامل، ومن ثَمّ َيصبح جاهزا لزرع الأفكار المغرضة الجديدة

ثانيا: التشتيت:

 إذا كان الإغراق يعنى عملقة كم البث والغمر بالمعلومات أيا كانت، فإن التشتيت هو عملية استغلال هذا الغمر فى إفشال أى متابعة للإدراك المنظم حتى يمنع المستمع أو المشاهد أو أى أحد من أن  تتكون لديه “جملة مفيدة” يمكن أن يتخذ  منها موقفا ناقدا ، سواء بالموافقة أو الرفض، مثلا:  إن عدد المسلسلات 0 المفروض أنها  حلقات فى سلسلة – التى فى متناول   الفرد العادى فى لحظة بذاتها – هى  من الكثرة بحيث أصبح الانتقال من جزء من واحدة منها،  قبل أن تكتمل، إلى جزء من مسلسل آخر هو أقرب إلى القاعدة، وقس على ذلك الأغانى بل والأخبار والبرامج الحوارية .. بل قس على ذلك زخم البيانات والشعارات والإجراءات والأرقام والمؤتمرات، التى تصل إلى مالايمكن تتبعه أصلاً، ناهيك عن تصديقه.

ثالثا: الإلهاء

فى الإلهاء تقوم عمليات غسيل المخ بإزاحة ما لا تريده  بشد الانتباه إلى غيره، ليس بالضرورة إلى عكسه مما تريده هى، بل إن مجرد الإلهاء بعيدا عن المواضيع الأوْلى بالاهتمام، هو خطوة تمهيدية نحو التفكيك فالحشو الأخبث، وتستعمل فى الإلهاء  كل الأساليب المباشرة وغير المباشرة: الإعلامية والتعليمية والتثقيفية وحتى الإبداعية.

رابعا: التهميش

  يتم التهميش،  بعد التفكيك  والإشلال عادة، بإزاحة تدريجية للأهم، والأوْلى بالنظر إلى الهامش أو الظل.

خامساً : الإحلال

بعد التهميش والإزاحة يحتاج الأمر إلى ملء الفراغ بما يحل محل الأهم والأخطر يتصاعد يسمح لنا أن نخصص لها الحديث عن ماهو “إحلال” ومن ذلك:

 * إحلال الجزء محل الكل مثل التركيز على قضية أسْرِ فرد محل احتلال بلد، أو إحلال الاهتمام  بمقتل طفل والإشفاق عليه محل مقتل المئات والألوف فى منازلهم، ومنه أيضا :

* الإعلاء من شان المواثيق المكتوبة (عن حقوق الإنسان مثلا) بالتقنين العقابى ثم التقديس الإعلامى، (لتحل محل) الواقع الحقيقى الذى مهمته الأساسية تنمية القوانين الطبيعية لاستمرار مسيرة الإنسان الإبداعية القادرة على المحافظة على نوعه.

* إحلال الكلمات محل الممارسة الفعلية، حتى يُكتفى بالنقاش حول  ألفاظ خاوية أو خادعة، عن تنمية ممارسات أصيلة تحافظ على تكامل أفراد النوع معا ويسمى ذلك حواراً فى أغلب الأحيان، أى والله!! إلخ،

* إحلال اتهام شائع معلن محل البحث الجاد عن فاعل أصلى حقيقيى،

* المبالغة فى التركيز على متهم ثانوى لتعتيم البحث عن الحقيقة الهادية  للمسئول الفعلى عن الجريمة أو الحرب، يعنى: إحلال الأضعف حتى لو كان مسئولا جزئيا، محلّ الأقوى خاصة لو كان لعب لعبة تسمح بذلك، وهكذا.

الوعى البشرى الجماعى الجديد

 على الرغم من كل ذلك ، فإنه  يبدو  على ساحة العالم أجمع أن ثمة إرهاصات  لبزوغ فجر جديد، برغم من أن الخيط الأبيض من الخيط الأسود لم يتبين بشكل واضح، ويمكن أن نسمى هذا القادم الواعد باسم :  “الوعى البشرى الجماعى الجديد“، فى مقابل ” النظام العالمى السلطوى الجديد“،

 هذا الوعى البشرى الجماعى – مهما بدا ضعيفا فى البداية، يمكن أن يكون الوجه الإيجابى لاستعمال التفكيك الذى تقوم به مغاسل المخ السلطوية، كما يمكن أن يحول دون نجاح  هذا الانحراف السلبى إلى التدهور فالانقراض.

دعونا نسمح للأمل أن يتصاعد حتى نتصور أنه يمكن لهذا الوعى البشرى الجماعى الجديد أن ينتهزها فرصة ويبدأ من حالة التفكك التى أعدها خصمه (النظام العالمى)  فيحوّل مسارها إلى صالح البشر من خلال  تضفّرٍ جدلىّ جماعىّ يتجمع من هنا وهناك ليصبح قادرا  فاعلا مؤثرا يبقى ويغمر، من حيث أنه ينفع الناس فيمكث فى الأرض.

موجز القول:

  • إن لا مركزية الإعلام  المتمادية،
  • واتساع   مجالات المعرفة وقنوات التعرف التى أصبحت متاحة لكل الناس (تقريبا)
  • وامتداد شبكات التواصل الفردى والجماعاتى الأصغر فالأكبر،

كل ذلك يرسل إشارات متواضعة، لكنها متمادية فى النماء والوعد، تقول :

إن بالإمكان أن يوقف مدّ التدهور، وأن تتحول الموجة لصالح تطور البشر لتحول  دون الانقراض الذى ظهرت علامات ساعته جلية فى الأفق.

 إن هذا التواصل الواعد الجديد قادر على أن  يعيد للشخص العادى بعض معالم فطرته التى شوهتها وتشوهها عمليات غسيل المخ الجماعى المهددة للنوع البشرى برمته ، فنستعيد بذلك : 

  • حلاوة المعرفة،
  • وفرحة التساؤل،
  • ومسئولية الحزن الموقِظْ
  • ودهشة الحكمة الفطرية،
  • وفخر التاريخ الحيوى،
  • وتواصل البشر الحقيقى،
  • وإمكانيات الشخص العادى فى المشاركة فى النقد والإبداع،

فيعود الإنسان قادرا على أن يسير أموره  من حسن إلى أحسن برغم بطء الخطى ووعورة الطريق.

……..

تعقيب أخيرٌ كتبته اليوم 19 نوفمبر 2007:

  حين قرأت آخر المقال هكذا:

امتلأت غيظا منِّى و أملا : فيكم، وفى ربنا.

 أى والله، !!!!

فما حالك أنت ؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *