نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 5-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3991
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
قبل المقدمة: (من بريد الجمعة 27-7-2018)
أكرر أنه يبدو أن نشر هذه الرواية مسلسلة هكذا، خاصة الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” فى هذه النشرات اليومية هو ضد التلقى الأشمل، وربما كانت هذه الورطة هى السبب فى تراجع التعقيبات فى بريد الجمعة.
وددت لو توقفت، لكن ما باليد حيلة بقى هذا الأسبوع والأسبوع التالى، فلتتقبلوا عذرى مجددا
وعموما فالرواية بأكملها متاحة إلكترونيا وورقيا لمن شاء (1)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثالث: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الثامن
“المريوطية”
ـ1ـ
كان يحاول أن يـفسح لها طريقا بين زحمة الخارجين، وهى تكاد ترفض ذلك، لكنها تتبعه. كانت الندوة “شديدة الثقافة” “صارخة الحرية”، “حادة العقل” “حريفة المنطق”، يعنى ماذا؟ ما هذه الصفات التى خلقتها لغته الخاصة التى اكتسبها وهو ينسحب من لغتهم؟ حين كان يكتب ليبلغ رأيه للناس الذين لا يريدون أن يسمعوا آراء أصلا، كان يضطر إلى التأدب والتحفظ والتبسط وادعاء الوضوح، وحين كف، أو حيل بينه وبين الناس، وجد هذه اللغة تتخلق لتختصر الوقت والجهد، المختصر المفيد؟، لا، المخترِق الجديدْ، حلوة هذه، لم يعد يستريح كثيرا حين يطلق على مثل هذه الندوات صفة “ثقافية”، كان قد توقف نسبيا عن حضور الندوات التى تتصف بتلك الصفة الملتـبِـسـة (كلمة من معجمهم) كما توقف نهائيا عن حضور الصالونات المنغمِسه، (كلمة من معجمه) .
” المنغمِسه فى ماذا؟”.
”فى إيهام أنفسهم أن فى الإمكان غير الذى كان، بمجرد الكتابة والكلام.”
”ما هو لازم!!”
”يا الله،…”كله يصبـّر نفسه”!!”.
لولا أنها هى التى دعته، لما حضر. هو لا يعرف موقفها من هذا النشاط وأمثاله، لابد أنها مازالت تأمل فيهم خيرا، وإلا لما دعته، أو لعلها تكون مثله، اتخذتها حجة لتدعوه، كما اتخذها مبررا ليستجيب.
ثم إنه، والحق يقال، لا يحضر مثل هذه اللقاءات التى يحكـُمُ عليها بكل هذا السلب، إلا ويتجدد أمله فى شئ ما.
الأرجح أن هؤلاء الناس يتجمعون – فعلا - على أمل ما، ليس مهما ما يقال فى هذه الاجتماعات والندوات والصالونات، لكن المهم ما يشعر به المترددون عليها من أن الناس مازالت تستطيع أن “تهتم”، تهتم وخلاص.
شئ مختلف، شئ جديد فى هذه القاصة المثيرة التى تجمع بين ما هو إباءٌٌ متحفز، ودفءٌ واعد.” شئ ما.
علاقته بالمثقفين شئ، وبمؤسسات الثقافة شئ، وبالثقافة نفسها شئ آخر، تعب من شرح وجهة نظره لعدد من الأصدقاء والمعارف والأغراب، لا فائدة، عجز عن أن يوضِّح نفسه لأحد، طبعا لم يجرؤ أن يكتب رأيه هذا فى مقال، من الذى سوف يقبل نشره، هم لم يعودوا ينشرون له حتى الكلام الماسخ تحصيل الحاصل، وهم يطلبون بدلا منه تحقيقات، فكيف يأمل فى نشر ما يهز قيما أصبحت من الرسوخ بحيث لم تعد تثير حفزا إلى مناقشتها أصلا؟
ليست عنده أية أوهام بالاضطهاد أو حتى بسوء الحظ، هو على يقين أن أحدا لا يرفضه، ولا يقلل من شأنه، فشأنه لم يصل إلى درجة يستأهل معها الرفض أو التهوين، هم فقط أزاحوه، فانزاح إلى ما وجد نفسه فيه وهم لا يعلمون؟
كان يقلقهم قليلا (أو كثيرا،ليس متأكدا) حين يكتب كلاما مختلفا، حين يعلن موقفا يعتبرونه نشازا، نشازا عن ماذا؟ هل ثَمَّ لحن أصلا؟ فاستغنوا عن خدماته بأن شطبوه من ذاكرتهم من الأساس، لكنهم حين يلتقون فبالأحضان والقبل و”أين أنت يا رجل”؟ و”والله زمان”، والله زمان ماذا؟ “الآن” هو الزمان الوحيد، لمـا دعته بسمة، إلى تلك الندوة، تحرّك فيه هذا الشئ، هذا الشئ الغامض الذى هو فى أشد الحاجة إليه، شئ ليست له علاقة بالثقافة والمثقفين، ولكن بها شخصيا، برغبته ـ التى لم يتبينها بوضوح ـ فى التعرف على “ماذا هى”، على موطنها الأصلى، على موقعها فى الثقافة أو فى الحياة، أو فى الوعى، كان قد رسم لها صورة ما، استلهمها من نبض قصصها القصيرة التى أبلغته رسائل متنوعة متجددة باستمرار، وكان قد تصور من خلال هذه الصورة، أن مثل هذه الندوة ليست هى موطنها الأصلى، ولا هى حتى موطن هجرتها المؤقت أو الدائم.
من أين أتت؟ وإلى أين تذهب؟ ، هذا السؤال وذاك يلحان عليه هذه الأيام، ليست المسألة تسلية، أو تفلسفا، هو السؤال الذى لا يكون الإنسان إنسانا إلا بمحاولة الإجابة عليه، ليس مهما أن يجد الإجابة ولكن المهم المحاولة “إلى أين؟ “إليه يصعد الكلم الطيب”، يعنى ماذا؟ عباءتك يا عمى سليمان فضفاضة وظلامها مضئ، لكنك تركتنى معهم دون أن ترسم لى سورة “الناس”، أريد ناسا يا عمى ربما هم الذين يوصلونى إلى…، إليه، لا أعرف كيف تزوجتكَ أمى أنت بالذات بعد أبى، أو كيف تزوجتها؟ لا بد أن الله أراد أن يكافئها، ويغفر لها ذنب أنها أنجبتنى من هذه الكراريس، أبى هو الكراريس نفسها وليس الذى كتبها، أمى لم تخدعنى، لم توهمنى أنك أبى، أنا أتقدم إليك مرة أخرى أطلب منك أن تتبنانى من جديد، تتبنانى دون شروط، أعرف سماحك.
يا تـُرى يقبلنى ربك بجوارك حتى لو لم أتعرف عليه قبل أن نلتقى؟ من يدرى؟
هل تشفع لى عنده؟
بائخة هذه، أنا لا أحب الشفاعة.
قل لربك يا عمِّى إننى أجتهد نحوه طول الوقت، وأنت شاهد، حتى لو لم أصل إليه، فأنت شاهد، ليس ربك وحدك، هو ربُّ حتى من لم يجده، لوصح ما وصلنى منك يا عمى من عدْله فسوف يكافـَأ كلٌ بحسب اجتهاده، لا بحسب ما وصل إليه، حتى لو أدى اجتهاده للبعد عنه مرحليا، وهو أعلم بالصادقين.
” هذا صحيح”.
”كنت أعلم أنك ستوافقنى حتى لو لم تقلها”.
ـ2ـ
كانت تنقر بأصابعها على الطاولة ذات المفرش الجميل فى المطعم الطليانى الصغير، صاحبه مصرى وزوجته طليانية، يقومان بخدمة الزبائن بأنفسهم، توجد على بعد مناسب مائدتان مشغولتان بأجنبى وصاحبته، بل هى مائدة واحدة، ثم صورتهما فى المرآة العريضة التى تعطى المكان الصغير اتساعا يسمح للخيال أن يمتد، وللمتخيل أن يتابع نفسه، جلال يرتاح للتواجد مع الخواجات فى مثل هذه الأماكن، ومع أولاد البلد فى مثل خـُصّ الحاجة وردة، أو مقهى عم صابر فى عزبة البكباشى، وليس ما بينهما (لا خمسة نجوم ولا مهابر الكباب والفراخ المخلية). المطعم الطليانى تحت مستوى الشارع بثلاث درجات. الزرع بجوارهما كثيف قصير، لا يحول دون رؤية بعض المارة النادر مرورهم من خلف الزجاج راجلين، هو الذى اختار هذا المكان لأنه صغير، وجميل، ويعرف أسعاره عن ظهر قلب، ويقدر عليها، وهى قبلت دعوته بعد الندوة وأصرت على أن تكون”دعوة إنجليزى” كل واحد يدفع لنفسه، أو بالنصف، لكنه حين ركب سيارتها قال لها إنها إذا أصرت فلسوف يدفع هو نصف البنزين ونصف استهلاك العربة، ضحكا بحق حين عجزا عن حساب قيمة استهلاك العربة، فتنازلت، وتمت الصفقة: “التوصيلة مقابل العشاء”.
كانت تنقر بأصابعها، على الطاولة الصغيرة ذات المفرش الجميل، لم يكن لحنا بذاته، ولكنه كان نقرا منغما رقيقا، ربما أصابعها الطويلة الناعمة هى التى كانت رقيقة فجعلت النقر رقيقا، وفى ذات الوقت كانت ممتلئة، كيف تمتد أنامل بهذا الطول بلا عروق ظاهرة (أو خفية ـ ربما)، ولا نتوءات عظام ظاهرة (أو خفية !!) لابد أن تكون ممتلئة بالحساب الأنثوى الدقيق، قرَّب أطراف أصابعه من أطراف أصابعها دون أن يلمسها، أفاد هذا الاستغراق فى التفاصيل فى تجنب التقاء عيونهما قبل الأوان، رفع عينيه، فإذا هى تبتسم وكأنها كانت تتابع إنصاته لحوار الأنامل دون تلامس، ابتسم بدوره، أصابعها كلها خالية من أية خواتم أو حلقات خانقة.
ترددت هى قبل أن تقاطع شطح خياله، ربما لتسمح له بمزيد من الوهم، لكنها لم تستطع إطالة الصمت:
ـ هل قالت لك أصابعى شيئا؟
ـ قالت لأصابعى، وليس لى.
ـ لا أظن.
ـ ولا أنا، رجعتُ فى كلامى.
ـ قل أنت.
ـ ماذا أقول؟
ـ أى شئ غير ما فى بالك؟
نظر إلى العشرين إصبعا وانتبه مرة أخرى إلى ما انتبه إليه بالنسبة إلى أصابعها: لا خواتم ولا حلقات، لا عروق ولا عظام.
ـ إذا كنا قد نجحنا فى أن نتخلص مما يخنق الأصابع فنحن لم نستطع أن نتخلص مما يخنق وجودنا، هذه فرصة أكبر لمزيد من الحرية.
ـ . . .. الحرية؟ هل أنت ممن يعيشون وهم الحرية؟
ـ يعنى.
ـ ألا تعتقد أن الحرية أصبحت من الكلمات المتحفية هى الأخرى، مثل الديمقراطية والعدل؟
ـ أعتقد، لكننى لا أجرؤ أن أفتح هذه السيرة مع أحد.
ـ ولا أنا.
ـ أنت التى فتحتيها.
ـ مغامرة.
ـ جاءت سليمة.
ـ لست متأكدة.
خطر بباله فجأة، دون أى مبرر ظاهر، ودون ذوق أيضا، أن يسألها عن سنها، ما أقل ذوقه، ما هذا السخف؟ تراجع من فوره، هذه الأنوثة الطاغية من حقها أن تشكل عمرها كما شاءت، أنّى شاءت.
ـ أنا متأكد أنك تبحثين مثلى، على الأقل من خلال قصصك.
ـ أبحث عن ماذا؟
ـ عما أبحث عنه، عما يبحث عنه أى واحد يريد شيئا آخر.
ـ شيئا آخر، أم شيئا أول؟
ـ ألم أقل لك إننا نبحث عن نفس الشئ.
ـ يعنى. ماذا يهم الناس فيما نبحث فيه أو عنه، المهم الناس.
ـ قد نجد أن ما يصلح لنا هو هو ما يحتاجه الناس.
ـ لقد توقفت عن تعاطى هذا الكلام بعد ما جرى لى ما جرى فى عيادة طبيب مجنون، اكتشفت أننا لا بد أن نعيش بجوار كل هذه التساؤلات التى ليست لها إجابة، لا أن نحاول أن نحقق ما نظنه إجاباتها فنجن مثله، من ثم وجـَبَ الفن فهو الذى يجاور التساؤلات لا يجيب عليها ولا ينفيها.
ـ لست فاهما تماما، قلتِ “طبيب مجنون”. أليس كذلك؟
ـ .. طبيب نفسى كان يحلم مثل مرضاه الشاطحين تماما، لكنه يرتدى سمّاعة ويكتب وصفات، هو أخطر. يا ساتر، أية ذكرى، وأية شهرة، وأية خدعة، كان يريد أن يعدّل الكون من خلال مرضاه، كان يتصور أن ما عجز عنه الأصحاء سوف يحققه المرضى، وهذه هى النتيجة، تلك التى تجلس أمامك.
ـ، نتيجة مثل الفل، لو أعرف أنك شخصيا نتيجة شطحاته وأحلامه تلك لما ترددت فى الذهاب إليه.
ـ أحلام ماذا وشطحات ماذا ؟ قلت لك إنه مجنون، طبيب مجنون.
ـ وأنتِ؟
ـ كما ترى، أنا لا أنسى فضله، لا أنكره، مستحيل، لكن حياتى توقفت عند ما كان يطمِّعـُنا فيه، كان يتصور أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا، وأن الله موجود فى علاقاتنا وامتداداتنا، وليس فى عقولنا ولا فى السماء، وكلام من هذا.
ـ أهذا هو ما تـُثبتين به جنونه؟
ـ لستُ أدرى ماذا أقول لك بالضبط، الذى خرجت به هو أننى مازلت أبحث عما كان يقوله لنا، عما كنا نمارسه فى صحبته، كان عبثا أن تبحث عن كل الأصول والجذور والمعنى وأنت تجلس مع أمثالك الحائرين المخدوعين فى حجرة مغلقة، إن كنت تريد أن تبحث: ليس أمامك إلا أن تفعلها أنت بما هو أنت، وسط الناس وبهم، ثم لا تتوقف، حتى لوتركوك.
ـ يا ليت .. كيف؟ مشاريعى فى هذا الاتجاه كلها مضحكة، لا تريد أن تبدأ أصلا.
ـ حين أكتب ما أكتب لا أتصور أننى أكتب، أنا أتحرك مع الحروف والصور، فعـل الكتابة شئ، ورسم الكتابة شئ آخر…..
ـ واحدة واحدة علىّ من فضلك.
ـ ومع ذلك فأنا لا أنكر فضله، كلما كتبت قصة، مفاجـِئة لى، شعرتُ أننى أقترب منه.
ـ ممن؟ من الطبيب أم من الجنون؟
ـ منه وخلاص يا أخى، ألا تفهم؟
ـ يا بسمة، واحدة واحدة علىّ، تشغلنى هذه الأمور وأهرب منها بانتظام، كيف تتكلمين عنها بهذه البساطة؟ أنا لا أعرف كيف حلها هؤلاء المثقفون، أوعلى الأقل كيف تخلـَّصوا منها، نحن فعلا نمتد، إلى أين؟ هل لابد أن نعرف أم نواصل الامتداد، وخلاص؟
ـ كانت تجربة فظيعة حالت دون أن أعيش مثل الناس، حالت دون أن يكون لى بيت وأولاد، هذه التجربة نفسها هى التى جعلت منى تلك التى تجلس معك الآن، قصصية أنا أم ماذا؟ لست أدرى، حين أكتب، أحس أننى أخترق الحواجز إليه، فجأة يلتحم كل شئ بكل شئ، ثم يضيؤك فتقول: ربما يرجع الفضل إلى هذه التجربة التى أشكو لك منها الآن، أحيانا أشعر أن ما تضيفه الكتابة إليهم، إلىّ، هو بفضل هذا الدكتور نورالدين، لكن الثمن غال، لست متأكدة إن كان هو قد دفعه شخصيا أم أنه أحال فاتورته على حساب مرضاه؟ على حسابنا.
ـ تقولين الدكتور نور الدين؟
ـ نعم، لم أكن أريد أن أذكر اسمه.
- الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟
- نعم هل تعرفه؟
ـ أعرفه؟ أظن أنه..، أننى…..
ـ كان معنا واحد اسمه يشبه اسم والدك غريب الأناضولى، ظل يمشى فى الاتجاه المضاد طول الوقت حتى اختفى.
شعر أنه يحتاج، ضد مقاومة شديدة، أن يقول ما يعرف، أغلب ما يعرف، تذكر أنه قد لاحظ انتباهها لاسمه من البداية، وأنه لم يتماد فى النفى أو الإثبات، وأنه لا يريد أن يفتح هذا الموضوع الذى يحيطه من كل جانب بمصادفات لا يمكن أن تكون مصادفات، من هذا الطبيب الذى يظهر له مثل الشبح، فى هؤلاء الذين يلقاهم بهذا الشكل؟ لم يجد مفرا من أن يقر أنه ابن أبيه ذى الاسم المذكور، وأن يشير إلى بعض محتويات الكراسات اياها. لم تصدق بسمة مع أنها كانت تومئ برأسها طول الوقت، سألته بحدة ليست مناسبة وهى تريد ألا تصدق.
ـ هل أنت متأكد أنك ابن غريب الأناضولى.
أجاب ساهما فى رفضٍ غامض:
- بصراحة لست متأكدا تماما، كم تمنيت ألا يكون هذا صحيحا، أنا لم أر أبى هذا أبدا، ومع ذلك أكاد أعرف كل من كان يعرفه، والعجيب أكثر هو ذلك الطبيب الذى يدور حوله حديث كل من يعرف، أو يسمع عن، أبى، حتى ابنه، تعرفتُ عليه أيضا.
ـ ابن من؟
ـ ابن طبيبك هذا.
ـ هل أنت متأكد؟
ـ شككت فى البداية لكننى تأكدت بعد ذلك.
ـ ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟
ـ نعم: أمين عبد الحكيم نور الدين، عرّفتنى عليه صديقة كفاح قديم، والدها كان يعرفه أيضا. صمتت بسمة فجأة، وبدا عليها استغراب لايريد أن يدعها تصدق.
ـ حذار أن تذهب إليه، قد يكون مثل أبيه، لابد أن يكون طبيبا مهفوفا مثل أبيه.
ـ أذهب ماذا؟ ومهفوف ماذا؟ لا أنا مريض ولا هو طبيب.
ـ ألم تكن تتحدث عن ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين؟
ـ نعم، لكنه ليس طبيبا؟ أصلا.
ـ ماذا يعمل إن لم يكن طبيبا، كان أبوه يصر أن نكون جميعا أطباء، هواة أو محترفين، لم يكن يفرِّق، كان يقول إن المجتمع يحتاج إلى أطباء من كل الأشكال، وكنت أحس أنه يمكن أن يتصور أن أطباء المجتمع هؤلاء هم بمثابة أنبياء أول الزمان، تصور؟
ـ أتصور.
ـ كيف تتصور وأنت لم تعش التجربة معنا، ياه، كان يقول إن الساسة يخطبون، وأن المثقفين يكتبون، وأن الاقتصاديين يسرقون، أما هؤلاء الأنبياء الأطباء فهم الذين سوف ينقذون البشرية.
ـ الله الله، فهمت الآن وصفك له بالجنون، العقبى لنا.
ـ إياك، لا أحد يخرج سليما من هذه المحاولة.
ـ ولكن يبدو أن ابنه خرج سليما معافى، لقد نجح نجاحا يتحدى كل الأنبياء المزعومين.
- تقول إنه ليس طبيبا مثل أبيه، أذكر أنه دخل كلية الطب، ماذا هو إذن؟
ـ هو صاحب معرض سيارات.
ـ معرض ماذا؟
ـ معرض سيارات.
ـ ابن عبد الحكيم نور الدين صاحب معرض سيارات؟؟!!!.
ـ نعم، ألم أقل لك إن الله فتح عليه الناحية الثانية.
أصرَّت بحسم أن تتوقف عن التمادى فى الأسئلة، على الرغم من رغبتها الفائقة أن تعرف أكثر، قررت أن تدير الحوار إلى اتجاه آخر، وليكن حديثهم فى موضوع الندوة.
ـ ما رأيك فيما دار فى الندوة؟
ـ أية ندوة؟
ـ ندوة الليلة، ماذا جرى لك؟
ـ شكرا للفرصة على أية حال، لولا هذا اللقاء بعدها لطالبتك بالتعويض.
ـ أسألك عن رأيك، لا أطلب شكرك، ولا مسخرتك.
ـ هى ندوة، وهم منتدون، انتدى ينتدى فهو منتد، والجمع منتدون، ونحن كذلك.
ـ نحن… نحن ماذا..؟
ـ منتدون.
ـ إسمع، أنا جادة فى السؤال، لا تسخر، أريد أن أعرف رأيك بجد.
ـ عيب أن أقوله،
طال سكوتهما حتى قطعته.
ـ إذن فيم نتكلم وقد دعوتنى للعشاء بعد الندوة لنتحدث، نتحدث فى ماذا؟
ـ كان لابد من حجة، أما هؤلاء القوم، فهم فى واد، والناس فى واد.
ـ أى ناس يا جلال؟
ـ الناس الذين هم ناس بحق، كنا زمان نتكلم عن الشعب، عن تكامل القوى.. عن الكادحين، وعن تحالف لا أدرى ماذا؟ مع ما لا أدرى من؟
ـ وماذا تغير؟
ـ أشعر أنك تعرفين الإجابات، فلماذا تسألين؟
ـ فلماذا دعوتنى بعد الندوة ما دمت أعرف ما تعرف، وأنت تعرف ما أعرف، هل نظل صامتين؟
ـ هناك شئ مشترك، ندعه يتولد.
ـ دائما هناك شئ مشترك، لكن كيف يتولد بدوننا؟
ـ إن ما أبحث عنه فيما يمكن أن يكون مشتركا بيننا هو…، لست أدرى بالضبط.
ـ ظريف أنت والله العظيم، نبحث معا عما لا نعرف، أفهمك تماما، وأوافق، بل لعل هذا ما يحضرنى وأنا أكتب أحيانا، أبحث عن ذات الشئ الذى لا أعرفه مع القارئ، فتخرج القصة.
ـ شعرتُ أننا يمكن أن نتعرف على ذلك الشئ أكثر، وربما أعمق، إذا تعرفنا على الناس الناس، وليس الناس المثقفين أو المنتدين، إذا تعرفنا على بعضنا البعض، إن ما لحق باللغة التى نستعملها ونحن نحاول أن نعرف بعضنا البعض أصبح هو هو الحاجز الذى يحول دون أن نعرف بعضنا البعض.
ـ ألغازك أصبحت أكثر جذبا، إنه مثل الذى يتجلى لى وأنا أكتب، أو هو قريب الشبه جدا، هذا الشئ !! هو موجود فى الناس البسطاء، موجود فى الناس الحقيقيين، عرفت أنه مؤكد وقريب ومشترك، لكنه غير محدد، لا يمكن فصله، وإن كان لا يتكرر، هو هو يتجدد ولا يتكرر، لست أدرى كيف، آسفة، لا أقصد..، قل لى يا جلال : لماذا لم تحاول أن تكتب قصة؟
- يا ساتر !! تريديننى أن أبتعد أكثر من هذا، أنا ما صدقت.
- ما صدّقت ماذا؟
- لا أعرف.
- لا أتصور كيف ستعثر على ضالتك دون أن تكتب، ترسم، أى شئ، لست أعرف..، كيف ستجدها إذن؟
ـ عند مزلقان “أبو النمرس”.
ـ مزلقان ماذا؟
ـ لا شئ لا شئ، أحكى لك فيما بعد.
ـ3ـ
كان ممتلئا ببسمة تماما وهو عائد، امتلأ بها وبه معا، كانا واحدا أخذاه كله حتى كاد يرتفع من على الأرض.
لكن وحدته زادت أكثر.
قال: إنها ليست مسألة بسطاء ومثقفين، وقال إنها مسألة أكبر من ذلك، وإن كانت تبدأ من ذلك، وقال: إن هناك عملية برمجة معلنة وخفية أشبه بالجريمة المنظمة، وقال أيضا إن الذين يسرقوننا إنما يسرقون أنفسهم أولا، أو أنفسهم أساسا، يحرمون أنفسهم من يقينهم، فيحتمون بيقين من خارجهم، مرة يسمونه العلم، ومرة يسمونه العقل، ومرة يسمونه التنوير، ومرة يسمونه الدين، وكانت بسمة قد أخبرته أنه يخطر لها مثل ذلك، وأنها توهم نفسها أنها تصدق هؤلاء الناس المثقفين جدا، تصدقهم لترتاح، مع أنهم ليسوا هنا، هى لا تعرف كيف حلها هؤلاء الناس، يبدون فى حالة من الطمأنينة الرخوة، أكثر ممن تسلموا صكوك الغفران.
أخذ يسترجع ما ذكرته بسمة عفوا من أنها تعانى أكثر حين تزحف هذه الرؤية من إبداعها إلى حياتها العادية، كيف تمتلئ إيمانا به وهى تكتب، لكنها لاتدرى ماذا تفعل لو أنها آمنت نفس الإيمان ذاته وهى تمارس يومها المعتاد، ثم كيف أنها حين تفكر فى هذا الأمر، تكاد تتوقف عن الإبداع وعن الإيمان معا، وأنها أحيانا تذهب إلى الناحية الثانية، لتنقذ نفسها مما لا تعرف، كان قد سألها عن هذه الناحية الثانية.
قالت له إنه حين يهاجمها هذا اليقين الغامض تلجأ إلى عالم صديق رائع يمتاز بفكر مصقول، ليس له همّ إلا أن ينفى كل هذه الأوهام الخرافية بمنطق ووثائق شديدة الإحكام. هو باحث عالم مؤرخ مفكر، دكتور بحق، يقدِّس العلم والمنهج العلمى، بدأ حياته عالم كيمياء حيوية، ثم استهوته قراءة التاريخ، فتحول إليه وحصل على ذات المراتب والدرجات والشهادات الأعلى، نعم، هو الذى أخذ اسمه يتردد مؤخرا فى معارك التفكير والتكفير، هو أكاديمى متعدد المواهب، حتى حقق أعلى المراتب الأكاديمية فى الجامعة، فى كل من العلوم الطبيعية والإنسانية معا، هو عالم حاد الذكاء، لامع المنطق، يمسك بمكواة التاريخ الملتهبة جمرا يكوى بها أى نتوء يمكن أن ينحرف بنا نحو الخرافة، هكذا يسمى الإيمان فى جلساته الخاصة، كانت بسمة قد قالت له -أيضا- إنها حين ترجع من عند هذا الأستاذ الألمع ترجع مأخوذة معجبة، وما أكثر معجباته، ترجع منشقة مطمئنة إلى استحالة التسليم للخرافة، فليظهر من تبحث عنه كيفما شاء فى إبداعها، لكنها تكون قد تحصنت ضد ظهوره فى حياتها اليومية، لا فى وعيها ولا فى علاقاتها ولا فى عقلها، هى لا تسمح له بالظهور إلا فى قصصها وبشكل عفوى تشعر بنبضه دون أن تحدد نعته أو اسمه.
اعترفت بسمة – لجلال – أنها لا تلبث أن تعانى من تداخلات رؤيتها الإبداعية فى وعيها العادى، تخاف أن تدخل منطقة مجهولة، أكبر من قدراتها التى تعرفها، فتعاود اللجوء إلى الكىّ بمكواة ذلك العالم الكيميائى، الممنهـِج، المؤرِّخ أيضا، ثم إنها اعترفت له أنها قللت من زياراتها للأستاذ الدكتور جميل النشرتى، هذا هو اسمه، بعد أن تضاءل مفعوله شيئا فشيئا، ليست تدرى لماذا.
قاطعها جلال:
ـ وهل تصلح لمثلى مكواة هذا الأستاذ أو مشرطه حتى لو لم أكن مبدعا أكتب القصة؟ هل تصلح تلك المكواة الفكرية لمن لا يملك إلا حيرته وسعيه، حتى هذا السعى أنا لست متأكدا من توجهه.
ـ أعتقد أن علمه أو معلوماته يمكن أن يخلصك من كل ما هو “ليس كذلك”.
ـ أخاف أن أكون أنا شخصيا مما “ليس كذلك”، هل يخلصنى من نفسى؟ المهم، هل يمكن أن تعرِّفينى به؟ أشعر أنى محتاج إلى مشرطه، أليس آخر الدواء الكى؟
تواعدا أن يذهبا إلى الأستاذ الدكتور جميل النشرتى المتخصص فى استئصال أورام الخرافة بالمجان، وعلاج إدمان تعاطى السحر والدين والبله.
لظروف لم تسمح لها أن تصحبه إليه شخصيا فى الموعد الذى اتفقوا عليه، أعطته العنوان، ووصفت الطريق، واتفقا على أن يذهبا متلاحقين كل على حدة، ليلتقيا هناك.
ـ4 ـ
الطريق لم يرصف بعد، على الرغم من أن العمارات حديثة، مازالت بضع عشرات الأمتار المربعة مزروعة بالأذرة، كوز الأذرة هنا يساوى كم مائة جنيه؟ كم سنتيمترا يشغل عود الأذرة؟ كم يبلغ السنتيمتر الآن فى هذه الأرض التى يأكلها النمو الخرسانى من كل جانب؟ المنطقة بجوار ترعة المريوطية أرحم من غيرها، يبدو أن الحكومة لحقتها فى آخر لحظة فخططتها وسمحت ببعض التنظيم الذى يمكن أن يـستكمل تدريجيا.
هى لا ترفض التراب المثار تحت أقدامها وهى فى طريقها إلى منزل الدكتور جميل النشرتى، بل لعلها تشعر أن هذا التراب المثار هو أكثر حنانا من قسوة الأسفلت وسواده. يوجد “سوبر ماركت” فيه كل شئ فى هذه المنطقة التى لم تكتمل، تعتبره بسمة علامة على الناصية التى ينبغى أن تنحرف إليها يمينا، على الجانب المقابل ناحية حقل الأذرة البضعة أمتار، يوجد زير مغطى، ملئ بالماء كما يدل عليه رشح جداره، وفوقه كوز، من ذا الذى يجرؤ هذه الأيام أن يشرب من كوز فوق زير لا يعرف من الذى شرب منه قبله؟ احتمال تلوث معلن يمكن التحكم فيه، التلوث العصرى الآن بالغ الخفاء، على الأم أن ترضع رضيعها لبنها الطبيعى لتمنحه الحنان مع كل اللازم، حاضر، طيب وماذا تفعل الأمهات فى الخبر الذى نشر أول أمس يقول إن ثلاثمائة مادة سمية تتعاطاها الأم من البيئة المعاصرة تفرز فى لبن الأم؟ ثم ما هى سموم المعلومات التى نتعاطاها جميعا طول الوقت؟ أورام الفكر، وسرطانات الوعى ليس لها علاج. ماذا يفعل الدكتور النشرتى الغارق فى التاريخ؟ وهل عنده خبر كيف نصاغ الآن؟ لماذا يركز على استئصال أمراض الخرف الأصولى دون بقية الأورام الأحدث؟
كانت بسمة كلما قطعت هذه المسافة الترابية تجد نفسها فى هذه المتاهة من الفكر الملبد بالغيوم والغموض. أفاقت بسمة على تزايد سحابة التراب المتصاعد فى دلال لزج عنيد، لم يبق أمامها إلا بضعة أمتار، بعدها سوف تصعد إلى بيت الدكتور، لولا الموعد الذى ضربته لجلال حتى يتعرف على الأستاذ الدكتور لرجعت مثلما فعلتها قبل ذلك مرارا، كم مرة وصلت إلى هذا الموقع تحديدا، ثم عدلت عن الزيارة؟ لقد شبعت من هذا الكلام، أحيانا كانت تشعر أنها تتجرع السم لتتخلص من آلام الوعى،ثم واصلت المسير.
بيت مفتوح لكل مريد ومنبهر، وبالذات لكل مريدة ومنبهرة، وهى لا تعرف أين تضع نفسها، مريدة أم منبهرة، هى مستكشفة متحدية هاربة مما تستكشفه أثناء إبداعها دون قصد، هذا كل ما فى الأمر، إلى متى ستظل تستكشف وتنبهر وتتحدى ثم تنكر، وتدفع الثمن؟ ولماذا هى التى تدفع الثمن دون غيرها؟ لكن من أدراها أن غيرها لا يدفع الثمن؟.
هذه المرة لم تأت لتتداوى بالكى، لتتخلص من إيمانها الذى يظهر فى إبداعها ويهدد حياتها اليومية. هى أحيانا تأتى لتراه فحسب، كلامه المندفع الساخن يثير أشياء أخرى، ربما هذا هو ما يجذب المعجبات إليه، هى تأتى هذه المرة لتعرِّف جلالا عليه، هو الذى طلب، ربما تتعرف هى بدورها عليه بشكل آخر من خلال جلال هذا، تنبهت إلى أن جلالا يبدو عكس أبيه تماما، ربما عكس ما وصله من أبيه مثل أمين عبد الحكيم، لكنه يقول إنه لم ير أباه؟ كيف ذلك؟ ربما، قررت ألا تحدث جلالا أبدا عن أبيه الذى تعرفه أكثر مما يعرفه ابنه، لا داعى، لا مبرر.
ـ5ـ
لم يفتح الدكتور النشرتى لها الباب بنفسه، كان هو الذى يفتح الباب عادة، يقبل وجنتيها، ويكاد يقبل شفتيها، لكنه لا يفعل، فلا هى تمانع، ولا هو يـقدم، الذى فتح لها الباب هذه المرة كانت سيدة (أو آنسة)، حول الثلاثين، شديدة سواد الشعر واسعة العينين، سمراء، قالت بسمة لنفسها: إنها منهن، المعجبات الخليجيات اللاتى لا يخلو بيت الدكتور من إحداهن، امتعضت قليلا ولكنها أسرعت بإخفاء ذلك، ابتسمت ظاهرا، فواسعا، وسألت عنه. قالت الفاتحة (التى فتحت لها) إن الدكتور انصرف مستأذنا فجأة بعد مكالمة هاتفية، وإنه قال إنه سيعود بعد دقائق، عرفت نفسها، فعرفت الخليجية بنفسها بدورها(حصة)، وقالت إنها تعرف الاسم، اسم بسمة، وإنها قرأت لها، تبادلت معها بسمة المجاملة، ومن ستر الله، هكذا قالت بسمة لنفسها، أنها تذكرت أنها قرأت لها شعرا متوسطا فى مجلة خليجية، ثم عرفت المرأة الثانية نفسها بلهجة شامية (ميادة)، لا تستطيع بسمة أن تفرق بين اللهجات اللبنانية والسورية والفلسطينية، أضافت ميادة أنها باحثة تحضر دكتوراة، أما الثالثة فلهجتها مصرية (إحسان)، ذكرت اسمها ولم تلحق به أية صفة، هى حرة، لا داعى للإحراج.
كما هو متوقع، دار الحوار بسهولة بين بسمة وبين الشاعرة الخليجية حصة، وفرحت بسمة فرحا هادئا حين علمت أن حصة قد قرأت مجموعتها القصصية الجديدة، وتدخلت ميادة برأى متوازن، فقد قرأت بعض قصص المجموعة وليس كلها، ولم يبد فى الحديث أى نقد حقيقى، أو عمق مناسب، كانت مثلما يفعل أغلب الناس حين يجدون أنفسهم أمام كاتب قرأوا له وكوّنوا عنه فكرة ما، ثم إذا بهم يفاجأون به لحما ودما مختلفا عما تصوروا، أو مطابقا لما تصوروا!، لم يخرج الحوار عن المديح المعتاد، انتقل الحديث إلى قضايا إشكالات الأدب النسائى، واتفقت الاثنتان على رفض هذا المفهوم، جاءت سليمة وإلا ما كان للنقاش أن ينتهى، ثم انتهزتا الفرصة لتتكلما فى اهتمامات الدكتور ومنهجه.
ـ إن الدكتور يصحح التاريخ من البداية، وبمنهج مُحكم طول الوقت.
ـ من البداية؟ أية بداية؟ هل أحد يعرف البداية؟
ـ بداية التاريخ، إنه يكاد يكتبه من جديد، يكتب التاريخ.
ـ كانت إحسان تتابع الحديث بهزات من رأسها لا تؤكد الموافقة أو الرفض، وإن كانت تعلن المتابعة.
ـ أحيانا أتساءل: لماذا التاريخ بالذات؟
ـ إن لكلٍّ تخصصه، وهذا هو تخصصه.
ـ ليس هذا تخصصه الأصلى، هو عالم كيمياء أساسا.
ـ مسألة التخصص هذه تأتى فى كثير من الأحيان بمحض الصدفة، لكن التاريخ أصبح تخصصه، وقد تفوق فيه أكثر من أهله.
قالت بسمة:
ـ يخيل إلى أحيانا، أو لعلى خشيت، أن يكون الدكتور متورطا فى ما لم يختـرْ.
ـ وماذا فى ذلك؟ إنه مستمر، كل واحد من حقه أن يعيد الاختيار كما شاء، مادام قد استعد لذلك.، وبذل فيه ما يستحقه
ـ إنها منطقة تكلف من يدخلها ثمنا باهظا لا ينبغى أن يدفعه إلا من يختارها.
قالت ميادة بلهجة لم تخل من غيرةٍ ما، أو هكذا حسبت بسمة:
ـ تشفقين عليه إلى هذه الدرجة؟
ـ ليست شفقة، مجرد فكرة.
ـ اطمئنى، حتى لو كان متورطا فى البداية، فإن استمراره يجعله هو المسؤول عن ذلك، بل إنه يجعل نفسه مسؤولا ليس فقط عما يكتبه هو، وإنما عن كل من يتصور أنه يكتب مثله، أو يستعمل منهجه.
قالت بسمة:
ـ أحيانا يخيل إلىّ أنه لا يكتب التاريخ، وإنما هو يمارس نوعا من الكتابة البوليسية، كأنه يجمع قرائن لتدينُ متهما ما.
ـ هذا نوعٌ من كتابة التاريخ على كل حال.
ـ لكنه يجرُّه إلى تحيـّز واضح.
ـ كل من يكتب فى التاريخ، مهما كان منهجه، هو متحيز بالضرورة، عرف أم لم يعرف، اعتـرَفَ أم لم يعترفْ.
ـ والدكتور؟ أنتِ أدرى به، هل يعرف أو يعترف بتحيزه أم لا؟ .
ـ هو لا يعترف، هو يتصور أنه الأقرب للحقيقة من كل من سبقه، لعله كذلك.
ـ إنه يشوِّه كل ماشاع بين الناس، أتصور أنه حتى لو كان المعروف تاريخا خطأ، فهو خطأ مفيد، الأوْلى أن نترك الناس يستفيدون منه كل على مسئوليته.
ـ ماذا تقولين؟ إن الدكتور عالم، باحث أكاديمى، وليس خطيب جمعة.
ـ لا أقصد.
ـ فماذا تقصدين؟
ـ لا شئ.
أرادت بسمة بذلك أن تقطع الحديث فجأة، خاصة حين انتبهت إلى أن أكثر من ربع الساعة التى قيل أن الدكتور قد يرجع بعدها قد مر، وأيضا هى بدأت تنشغل على تأخر جلال عن الحضور، كان ينبغى أن تصحبه، لكنها خافت. مم؟ لا تدرى. إنها تهتدى للبيت بصعوبة، فكيف به وهو لم يحضر قبل ذلك أبدا، لم تنتبه إلى صعوبة العنوان، إلا وهى تتذكر أنها – شخصيا- تعلـِّم الشارع بالسوبر ماركت على الناصية، ثم أين الدكتور؟ ما الذى أخره هكذا؟ ثم إنها لا تدرى متى خرج بالضبط.
ـ قبل حضورك بحوالى نصف ساعة.
ـ ياه !! لقد تأخر.
ـ هل أعطاك موعدا محددا؟
ـ ليس تماما، أنا عادة أحضر بغير موعد.
ـ معنى ذلك أنك نلت ترقية ما، إنه لا يسمح بذلك إلا للصفوة.
ـ لا صفوة ولا حاجة، كل ما فى الأمر أننى لا أحضر كثيرا، وأننى أخلفت عدة مواعيد وراء بعضها، فاعتدت أن أحضر بغير موعد.
فى هذه اللحظة دق جرس الباب، لعله جلال، أو الدكتور، لكن الدكتور معه مفتاح، وهو عادة يدق الجرس قبل استعمال المفتاح تأدبا.
الطارق يعاود الطرق. لعله جلال، نظرت بسمة إليهن وكأنها تستأذن، واتجهت نحو الباب.
ـ6ـ
شاب حول الخامسة والعشرين، يسأل عن الدكتور، يتقدم إلى الداخل مباشرة دون انتظار دعوة، وكأنه من الصفوة التى سمحت لها بمثل ذلك، تحتار بسمة وتتلكأ، ثم تستسلم، ولا تجرؤ على أن تسأله عن غرض المقابلة، من هى حتى تفعل؟ يتقدم الشاب إلى كرسى بالصالة، ويجلس، يمد يده إلى مجلة على المنضدة، وكأنه يعرف موقعه تماما، فتطمئن، لكنها تتوجس حين تلاحظ أنه يغض بصره كثيرا، يخطرها بأدب شديد، أنه “ما عليها”، وأنه سوف ينتظر، وأنها يمكن أن تنصرف إلى ضيوفها، لا بد أنه تصور أنها زوجة الدكتور، وأن عندها ضيوفا هم الذين وصلته أصواتهن عبر باب حجرة المكتب، هو ليس من الصفوة وإلا لعرف أنه ليست للدكتور زوجة تقيم معه، ما الحكاية؟ ما لها هى؟ تركته فى الصالة ودخلت إليهن، وأجابت باحتمال أن يكون طالب بحث، جاء يستفسر عن مرجع، ثم ألمحت لهن إلى أنه يغض بصره، يغضه كثيرا، ضحكن معا؛ ربما لأسباب مختلفة، ثم ساور كل واحدة منهن خوف لم تعلن عنه.
لابد أن سببا ما يجعل الناس يحضرون إلى هذا المكان النائى نسبيا، يتحملون طريقه غير الممهد، لابد أنه يوجد عند هذا الدكتور ما يفسر هذا الجذب الخاص، كانت بسمة معجبة بأفكاره أساسا، وانتقل الإعجاب، دون أن تدرى إلى شخصه، ربما، وما أكثر معجباته، هل التاريخ وإعادة كتابته وحتى تصحيحه، يجذب المعجبات هكذا إلى هذه الدرجة؟ أم أن الموضوع الذى يتناوله هو الذى يحرك فيهم، وفيهن، هذا التحدى وحب الاستطلاع؟ العمر الافتراضى لحب الاستطلاع عند النساء أطول، ربما.
حين بدأت بسمة تكتب القصة، بدأت تعرف أن الكتابة ذاتها وسيلة معرفة، هى لا تكتب ما تعرف، هى تعرف من خلال ما تكتب، فى البداية، كانت الكتابة تساعدها على أن تعرف نفسها أكثر فأكثر، ثم أخذت تكتشف أنها بالكتابة تعرف أيضا من حولها أكثر وأعمق، ثم بدأت تتفتح آفاق المعارف إلى ما لا تعرف، إلى ما بعدها، إلى “المابعد”، إلى الغيب، إلى المطلق الواعد المتجلى، كما يتكشف فى الإبداع، إنه هو هو الذى تكتشفه فى البسطاء بعيدا عن التاريخ وعن المنهج، ثم إنها سمعت عن هذا الدكتور، وحين زارته شعرت أن ما يروِّجه يكاد يخنق معرفتها الوليدة فى مهدها، هذا الكشف المتمادى الذى كان على وشك أن يأخذ بيدها إليه، إلى نفسها، إلى التناغم المتكامل، شكت فى نفسها، قررت ألا تهرب، أن تواصل الحوار معه تناقشه فى الفرق بين المنهج الأكاديمى والمنهج الإبداعى لاكتشاف المطلق، رجحت كما سمعت أنه يرحب بالمتسائلين، وأكثر بالمتسائلات، ضحك منها وهى تستعمل تعبير”المنهج الإبداعى”. كلما حضرت وناقشت رجعت مهزوزة، وتراجعت، واقتنعت بأن تـُواصل الانشقاق الذى يفصل إبداعها عن حياتها.
هكذا كانت قد شرحت نفسها لجلال، تـرى هل فهمها؟
ثم إنه لما تضاءل مفعول الدكتور فى أن يوقف زحف ما تراه فى إبداعها إلى حياتها، أزاحت هذه المسألة من بؤرة اهتمامها حتى لاتتعطل، وفى ذات الوقت – بصراحة – أرادت أن تراجع اقتناعها بمنهج الدكتور ومنطقه، لكنها ما زالت تأتى، هى تصر على أن تأتى، لا تخاف الاختلاف، إنها مازالت تأمل أن توفق إلى حل ما.
ـ “الإبداع هو الحل”؟
قالتها فجأة بصوت عال، ففوجئت بنفسها بذات القدر الذى فوجئت به الجالسات.
ضحكت حصة، وقالت:
ـ صح النوم!! “الشِّعـر هو الحل”.
قالت إحسان التى لم تشارك فى أغلب ما دار:
ـ يا صلاة النبى !! “الجنس هو الحل”.
أخذت بسمة كلامها جدا، ولم تستهن بقولها، ولم تعرف لـم أشفقت عليها، واحترمتـها فى ذات الوقت.
- عندك حق، فالجنس الحقيقى هو إبداع، هو شعر، هو صلاة، وهو حوار ليس أعمق منه.
فرِحَت إحسان، لم تكن تقصد، وتصورت أنها فهمت، أو لعلها فهمت.
ـ7ـ
خيل إليهن أن جرس الباب دق ثانية، هل جاء جلال أخيرا؟ فتح الباب قبل أن تفكر بسمة فى الذهاب لفتحه، لابد أن الشاب بالردهة هو الذى فتح، كن قد نسينه تقريبا، كيف؟ غريبة!. سمعت حركة قيام الشاب ثم صوت حديث متبادل، ليس صوت جلال، ثم صوت إغلاق الباب، شعـرن أن المسألة أصبحت خارجة عن سيطرتهن، اقترحت ميادة الانصراف.
ـ ننصرف ونترك فى البيت أغرابا.
ـ لمَ تأخر الأستاذ الدكتور؟ هذه ليست عادته.
خرجت بسمة إلى الردهة، مازالت تفكر أنه ربما يكون الطارق جلالا، لم تجد الشاب ولا جلالا، وجدت وجها آخر، لكنه وجه مألوف، ياه!، إنه أحمد عبد الغفار، الصحفى المحترف، عرفها فى ذات اللحظة التى عرفته فيها، أو قبلها بثانية.
ـ من؟ بسمة؟
ـ أحمد؟
ـ ما الذى أتى بك إلى هنا، قصة جديدة، أم خبرة معادة؟
ـ يا نذل، الذى جاء بى هو البحث عن الحل الاشتراكى، التحريرى، القومى، المادى، المعتبر…، لماذا جئت أنت هنا من أصله، هل ينقصك المنهج؟ أم تعانى من وساوس الخرافة؟
ـ تسخرين مثل المرتدين عن حلم العدل، ناكرى الجميل،.. الأوغاد.
قالت مقاطعة:
ـ أوغاد فى عينك، ألن تهمد وتتأدب وتنظر إلى نفسك وإلى أين انتهيت؟
ـ أنا لم أنته، ولن أنتهى، أنا أبدأ دائما قبل أن أنتهى، أعرف كل الطرق التى تؤدى إلى كل الطرق، أنا حياتى كلها للمطحونين والحرية.
- يا صلاة النبى! هكذا يكون الكلام التمام يا بو حميد، أنت هو بطل كل العصور.
– لقد كلفت من المجلة أن أعمل مع الدكتور حديثا عن التهديد الأخير الذى وصله، وعن الهجوم المتزايد عليه من الجماعات، ومن أكاديميين عتاة فى ذات الوقت، ولكن قولى لي: أين هو؟ ومن ذلك الشاب الذى فتح الباب؟
ـ ألا تعرفه؟
ـ أعرفه؟ من أين؟
ـ ألم تسأله؟
ـ أسأله عن ماذا؟
- صحيح، أين هو؟.
ـ إيش عرفنى، لقد أدخلنى وانصرف متعجلا دون كلمة، بل إننى حسبت أنه قد أنهى حاجته، وأنه فتح الباب مصادفة، وهو يهم بالانصراف، أليس الدكتور موجودا؟
ـ ليس بعد، هو لم يكن موجودا منذ حضرت.
ـ ومن معك؟
ـ بعض روّاده، أو مريديه، تعرفت عليهم حالا.
ـ عليهم، أم عليهن؟ جوقة المعجبات؟
ـ أحمد، إلزم حدودك، مازلتَ كما أنت، تغار منه.
ـ ليس تماما، أنا أعرف حدوده.
ـ لست فاهمة.
ـ أحسن.
دعته إلى الدخول إلى الحجرة، فهو ليس غريبا، عن…، عن من؟ وهل هنا إلا أغراب؟ دخل أحمد يتلمظ، شئ ما يجعله فى حالة تلمظ مستمر، حيا الجالسات وتوقف أكثر على وجه حصة، لماذا..؟ كان لا يستطيع أن يخفى تلمظه، سواء كان المثير سلطة أو مكافأة أو جائزة أو امرأة، أخذت بسمة تراقبه، هى تعرفه، لكنها أرادت أن تتأكد من أنه لم يتغير، بل: إنها أرادت أن تتعرف على استجابة الحاضرات لتلمظه، وهل التقطت إحداهن لغته أم أنها هى التى تظلمه؟
فجأة خطر ببالها خاطر ليس له أى مبرر، ما الفرق بين أحمد عبد الغفار وبين هذا الاستاذ الدكتور العظيم؟ لم تجد إجابة، بل إنها فزعت من السؤال؛ إذ يبدو أنه لا يوجد وجه شبه يستأهل، قالت لنفسها، ثم ردت: ألا يوجد وجه شبه حقيقى؟ ثم إنها خطر ببالها أن الفرق أن أحمد عبد الغفار يعمل حساب الحور العين من ضمن المكافآت والحوافز فى الدنيا وربما الآخرة، وهو فى الأغلب قد عقد صفقة مع نفسه حتى يتوب “فى آخر لحظة” ويشهر تدينه خفية أو بواسطة بعض الشيوخ الخصوصيين، من يدرى؟ أما الدكتور، فهو يزهو بجاذبيته الفكرية أولا، ويبدو – حسب ما وصلها – أنها قد تكفى لتسعف جاذبيته الأخرى طول الوقت، هذا الدكتور ليس له هم إلا أن يعرِّى كل ما يشير إلى وجود هذا الذى تبحث عنه، الذى لم تكف عن البحث عنه، الذى يطل عليها فى إبداعها بالرغم منها كلما تراخت أو ترددت، هو لا ينكره صراحة، يبدو أن الدكتور صنع لنفسه عالما خاصا من تلفيق قصاصات المعلومات التى يعيد ترتيبها بطريقته بعد أن يحرق كل ما لا يتفق مع هذا العالم الخاص الذى بناه بمعرفته، يبدو أن كليهما قد نجح فى أن يستغرق فيما يلهيه ويبرره، الدكتور شحذ آلة عقله حتى خفى عنه كل ما عدا ذلك، وأن ذلك جذب إليه من يحتاج بضاعته، أما أحمد فيبدو أنه شحذ آلة شهوته ليغوص فى ذاته يحقق لها لذائذها دون ما بعد ذلك.
سألت بسمة نفسها كيف تفكر هكذا فى الناس، وكأنها لم تفعل مثلهم، ألا يجوز أن يكون إبداعها الذى تتصور أنه أداة معرفتها الجديدة، هو -أيضا- البديل الذى شحذته ليحل محله، حتى لم يعد يملأ حياتها إلا قصصها واسمها؟ تنوعت المهارب حتى لم يعد أحد يميز الهرب من السعى، زادت حدة المسألة عليها بعد أن قابلت جلالا هذا مؤخرا، ثم تأكدت وهى تواصل الحوار مع صديقها الهولندى الذى تعرفت عليه عن طريق الإنترنت، لعبة جديدة فيها ما فيها من الدهشة..؟ والمفاجأة.
انتبهت بسمة لحركات أحمد عبد الغفار الذى يبدو أنه تصور أن السنارة قد غمزت فى اتجاه حصة، التى راحت بدورها تـضاحكه بطلاقة جاذبة، هل وصل الأمر بهذه السرعة إلى أن يحكى لها نكتة خارجة من نكاته؟ استبعدت بسمة ذلك، ومع هذا فقد تملكتها رغبة خبيثة فى أن تفسد عليهما الأمر، أى أمر.
ـ لقد تأخر الدكتور، بدأت هواجسى تتزايد، ثم أين ذلك الشاب الذى دخل دون موعد، وخرج دون استئذان، ألم يقل لك شيئا يا احمد؟
ـ أبدا، نظر فى ساعته، وقال لي: تفضل، ثم نزل وهو يكاد يقفز على السلالم أربع، أربع.
ـ غريبة.
انصرفت ميادة، ثم حصة ثم أحمد عبد الغفار بعدهما مباشرة، ولم يبق مع بسمة إلا إحسان التى لم تعرف بسمة لها هوية “ثقافية” محددة، التفتت إحسان إلى بسمة فجأة قائلة:
ـ إياك أن توافقى، هذه نصيحة مجربة.
ـ أوافق على ماذا؟
ـ على ما يطلبه منك الدكتور.
ـ ماذا تقولين؟ هو لم يطلب منى شيئا.
ـ سيفعل، هو لا يترك واحدة من المعجبات إلا حاول معها؟
قالت بسمة بلهجة عدوانية لتقفل الموضوع:
ـ تتكلمين عن خبرة شخصية.
لم تفاجَأ إحسان بالرد.
ـ نعم.
لم تصدِّق بسمة، ولم تكذِّب، ورفضت أن تتمادى، فأغلقت الحديث فجأة، شاكرة، ليست تدرى على ماذا.
قالت إحسان:
ـ لا شكر على واجب، عموما هو لا خوف منه، إنه يتمتع بعفـة تؤمِّـن كل المعجبات، عفيف بالرغم منه.
مازالت إحسان تلمز وتجرح، قررت بسمة أن تحسم الأمر بصراحة.
ـ اسمحى لى، أنا لا أقبل مثل هذا الكلام عامة، ولا أقبله على الدكتور الذى يفتح لنا بيته وعقله، ومكتبته بكل هذا الكرم والسماح.
ـ نسيت أن تقولى ويفتح قلبه.
ـ لم أنس.
ـ و أزرار سرواله؟
لم تجد كلاما أقسى توقف به هذا الحديث الملئ بحقدٍٍ ما، أو بصدقٍ ما، لم تستطع أن تحدد، فواصلت إحسان:
ـ قلت لك إنه كالباب المقفول الذى ليس وراءه شئ.
كادت بسمة تترك الحجرة احتجاجا، تراجعت و قررت أن الصمت أقوى رفضا، إذا كانت هذه المرأة تحمل كل هذا الحقد للدكتور هكذا، فلماذا تحضر إليه؟
ـ أنا أحضر لأنتقم منه، أنا لا أنسى الإهانة.
ـ أية إهانة؟ ثم لماذا تعممين تجربتك الشخصية معه على الجميع، إن كانت قد حدثت أصلا؟ ما له فكره ومبادئه وعلمه ومنهجه، بما تزعمين عنه..؟
ـ عرفتُ الكثير من الكثيرات.
ـ تتقصين عنه فيما لا يحق لك.
ـ لا. هذا يحق لى ونصف، أفسد عقلى قبل أن أعرفه، وخيب ظنى بعد أن عرفته.
ـ لستُ متخلفة، ولا قاصرا، وجذب المريدات إليه وتعلقهن به لابد أن يعرى مبالغاتك، من خلال غيرتك.
ـ بعضهن يغريهن الباب المقفول، وبعضهن مثلى يريدون التأكد فالانتقام، أما من يختفين بعد الخيبة الأولى، فلا أنا ولا أنت ولا أحد يعرف عنهن شيئا.
حاولت بسمة أن تقاوم الغثيان الذى أحاط بها وهى تواصل الحديث مضطرة، ليست مضطرة تماما على أية حال، كان بودها أن تعرف أكثر، أن تربط السلوك الشخصى بالفكر المتحيز البراق، لكنها واصلت الدفاع.
ـ الأستاذ الدكتور مفكر شجاع، وهذا هو كل ما يهمنى.
- يبدو أنه يخاف منك أكثر من أية آخرى.
ـ لم يخطر على بالى أى من ذلك، مارأيك نقفل الموضوع. الحمد لله أنه دار بيننا فقط، آه لو كان أحمد سمعه…..
ـ آه صحيح، من أحمد هذا؟ كاد يأكل المرأة أكلا بعينيه.
ـ هل تريدين أن تختبريه هو أيضا؟
نظرت بسمة فجأة إلى الساعة ووجدت أنها تأخرت فعلا، ومع رغبتها الشديدة فى أن تواصل حب الاستطلاع، أو تنتظر حتى تطمئن على الدكتور، أو حتى يحضر جلال .. لا، لن يحضر بعد كل هذا، مع ذلك وجدت نفسها تقول لإحسان:
ـ هل تأذنين لى فى الانصراف؟ تأخرتُ أكثر من اللازم، عندى موعد.
ـ بصفة ماذا تطلبين منى الإذن؟
ـ لا أعرف، ولكن لم يبق إلا أنت وأنا.
ـ سأنصرف معك.
قررت ألا تصحبها فى الطريق مهما كان، ولم تنجح.
ـ 8 ـ
تـُرى أين ذهب الدكتور، هل اختطفوه؟
هل تحققت أمنيته فاغتالوه؟
بسمة رجحت هذه الفكرة من بعض محاضراته وكتاباته، هى لا تعلم لماذا تركوه حيا يرزق حتى الآن، لقد اغتالوا من هم أخفت منه صوتا، وأقصر لسانا، ثم من أين لها هذا التصور: تصور أنه يريد أن يغتالوه؟ إنها حين تكتب القصة القصيرة تجد نفسها أحيانا فى هذه المنطقة، منطقة الكشف المغامر، وهى كثيرا ما تكتشف نفسها كما تكتشف ما لم تأمل فى اكتشافه، بعض ذلك يخرُج قصصا، والبعض الآخر يقودُها إلى ما تسعى إليه حثيثا برغم جهلها به لكنه محور سعيها، وبعضها يقفز إليها فى شكل استنتاجات أو نبوءات، هذه الفكرة عن رغبة الدكتور فى أن يكون قربانا جاءتها بشكل ما أثناء كتابتها قصة قصيرة عن “طفل فى الرابعة، شديد السعادة، نسيه أهله على الشاطئ، بخطأ غير مقصود، وحين تأكد من غيابهم بكى، ثم صمت فجأة واندفع إلى الماء جريا بأقصى سرعة وغرق.”
ما علاقة هذه القصة بتأويلها لموقف الدكتور ورغبته فى أن يقتلوه؟ إن الذى يعنيها قبل كل هذا وبعد كل هذا، هو أن تتأكد من أن الذى يتبدى لها فى إبداعها ليس له أدنى علاقة بهذا الذى يهاجمه الدكتور سرا وعلانية، إنها متأكدة أن القصص التى تكتبها، التى تـُكتب منها، هى الطريق إليه، وهى التى يمكن أن تجعلها تفهم التاريخ دون وثائق، أو تؤمن دون مشايخ.
ـ9ـ
جلست بسمة أمام الكمبيوتر، وفتحت ملف بريدها الإلكترونى وهى حريصة على الاستماع إلى صديقها الهولندى، تعرفت عليه عن طريق إعلانات التراسل عبر الإنترنت، تلك البدعة الجديدة الرائعة الخطيرة، حاولت هذه المحاولة حين ضاقت بها السبل، وتأكدت أنها كلما اقتربت من آخر، حقيقى، ابتعدت عنه ضعفين، هى لم تستطع أن تتخلص من الخبرة التى عاشتها فى تجربة العلاج المجنون فى صدر شبابها، جعلتها هذه الخبرة دائمة الكشف والاكتشاف بما أعاقها وأوحدها، كلما اقتربت من رجل (أو امرأة) اكتشفت فيه ما يبرر ابتعادها، مرة تكتشف فيه بلادة الوعى، ومرة تكتشف الصفقة، ومرة تكتشف الجوع الذى لا يرتوى، ومرة تكتشف المناورة، وماذا فى هذا؟ هى لا تزعم أن كل ذلك مكتسب من خلال كتابتها القصة أو تجربة علاجها. لقد كانت الحال هكذا وهى فى السادسة عشرة، لا تزال تذكر حوارها الأول مع أمها، وهى ترفض خطيبها الأول فى هذه السن، ذلك الخطيب “الجاهز من كله”، كما أنها تذكر بذات الحـدة موافقتها المستسلمة، على خطيب آخر انتقاما من فرط الرؤية، وإمعانا فى إيذاء الذات، حين تظاهرت بقبول الخطيب المناسب (الجاهز من كله أيضا) أمها هى التى رفضته من أجلها بعد أن احترمت موقفها، منذ ذلك الحين وبسمة تواصل سلسلة من الرفض ليست لها نهاية، حتى وجدت نفسها تعيش قصصها بدل حياتها، زاد الكشف وزاد البهر، وزاد الجوع إلى التعرية والتعرى، ولم يعد يرويها شئ مما يرتوى به الناس، ولولا ما تجده من خلال همس القلم للأوراق لما أكملت.
هل سلكت طريقا خطأ؟
إنها فى أشد الحاجة إلى لغة أخرى، ذات طعم آخر.
ليست اللغة الإلكترونية الحديثة على كل حال، ومع ذلك ….
فتحت البريد الإلكترونى، وقرأت بالإنجليزية.
” أو حشتنى، أفتقدك هذا اليوم بوجه خاص، أنتظر بفارغ الصبر عودتك آخر النهار لأسمع منك اليوم مساء، اليوم إن أمكن، أنا أحتاجك أكثر من أى يوم، هناك كلام عن احتمال نقلى إلى مكتب الشركة فى إيطاليا، لكننى أفكر فى رفض الترقية، مازلت أزاول التدريبات اللازمة للإعداد لاجتياز المرحلة التالية التى أستطيع بها أن أصبح بوذيا أكثر عطاء، يعنى أخذا، اعتناقى البوذية هو أهم حدث فى حياتى حتى الآن، لست أدرى هل هو الأهم أم تعارفنا هو الأهم؟ أظن أن التعرف عليك هكذا بكل هذا القرب، هو جزء من تحولى إلى البوذية، كل يوم أكتشف فى البوذية بعدا رائعا، هذه ديانة تحترم الإنسان، إن كانت ديانة أصلا، هى إيمان سلوكى لا يعـِدُ ولا يهدِّد، وهل الإيمان إلا هذا؟ لا جنة، ولا نار، ولا آخرة ولا عبودية، التزام واحترام وصفاء، أليس هذا هو ما يحلم به كل مؤمن، لا أريد أن أقنعك أكثر، البوذية التى تعرفت عليها وتحولتُ إليها موجودة فى كل دين، أنتظر موعد لقائنا فى إجازتى القادمة، وأخاف منه خوفا حقيقيا، أفتقدك اليوم أكثر، استجيبى لى الآن”.
قرأت الرسالة مرة ثانية، وثالثة، ولم تجد فى نفسها أية رغبة فى أن تكتب له الآن هكذا من فورها كما طلب، أحست بأسف لذلك، هى لا تحاول أن تراجع نفسها فى رأيها فيه، إلا حين يقترب احتمال اللقاء المزعوم، تنتظر بريده كل ليلة دون استثناء، تعرف صورته، أرسلها لها عبر الإنترنت، وهى كذلك، هذا هو النموذج المناسب لها تماما، يعرف سنها، يعرف تاريخها، هو تزوج أربع مرات وفشل، أو لعله نجح فى أن يفشل، له ابن من واحدة، وبنتان من أخرى. أما الثالثة والرابعة فكانتا أعقل، هى لم تدخل التجربة أصلا، علاقاتها كاملة، ورؤيتها حادة، ليس عندها ما يمنع، تتساءل: ماذا لو عرض عليها الزواج فى إجازته التالية، هل تقبل؟ وهل هو سيقبل قبولها؟ ولماذا فشلت كل محاولاته السابقة؟.
لابد أن هذه الأميال هى التى تطمئنها، وتشجعها على الاستمرار فى الحوار.
أعظم ما يحافظ على علاقِةِ ما، هو ألا تـُختبر.
فتحت الإنترنت وحاولت الدخول إلى بريدها، وإذا بها تكتب “كلمة المرور”.
خطأ لأول مرة، تعجبت وتوقفت، ثم عادت تحاول وهى غير مصدقة…
انقطع النور فجأة، وأظلم كل شئ حولها، لكن عينيها كانتا تلمعان مثل قط جميل.
غمرتها راحة غريبة، وإن لم تظهر تفاصيل تعبيرات وجهها فى الظـلام.
* * *
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .