نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 30-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3985
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
قبل المقدمة: (من بريد الجمعة 27-7-2018)
أنا أسف
يبدو أن نشر الرواية مسلسلة، خاصة الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” فى هذه النشرات اليومية هو ضد التلقى الأشمل.
أنا اسف،
وأعتقد أنه لا سبيل للتوقف أو للتراجع
وعموما فالرواية بأكملها متاحة إلكترونيا وورقيا لمن شاء (1)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثالث: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل السادس
“وادى النطرون”
ـ 1ـ
راح يعبث بأزرار جهاز التحكم عن بعد (الريموت) وهو يبتسم فى ألفة ليست جديدة عليه فى المدة الأخيرة على الرغم من كل شئ، من كل شئ.كان قد اشترى هذا “الطبق” (الدش) المتوسط أيام أن كان صحفيا نشطا لزوم تتبع الأخبار فى قنواتها المتعددة، خصوصا القناة المسماة “الجزيرة”، هو لا يملك ثمنه، وليس عنده الوقت للتمتع بالتجوال حول العالم مسحوبا بهذه التفاهات المتنوعة، كان قد اضطر لشرائه للقيام بمهمة مجزية، كانت الصحيفة التى يتعامل معها بالقطعة قد كلفته أن يعمل دراسة مقارنة بين قناة الأخبار العربية، وقناة الجزيرة القطرية، والفضائية المصرية والـCNN. أحب هذه المهمة، وهو نادرا ما يحب عملا له عائد كبير هكذا مما سمح له أن يقتنى طبقا، انتهت المهمة بنجاح، وخرج منها وقد كسب الطبق وخسر المهنة، تعرت أمامه حتى باخت.
كان فى البداية يجتهد للبحث عن القنوات، أما الآن فهو يحذق الهرب منها، كانت ثريا قد أبلغته باعتذار محمود الذى طرأ له طارئ ذلك الصباح لم يسمح له حتى أن يرسل اعتذاره ولو هاتفيا فى الوقت المناسب، قبل جلال العذر بينه وبين نفسه، لكنه تعجب لماذا لم يعتذر محمود له مباشرة، لماذا أبلغ ثريا اعتذاره دونه مع أنه يعرف رقم هاتفه، كما أن ثريا لم تعد زوجته مع أنها ظلت أخت محمود!، برغم هذه التساؤلات فقد وجد جلال فى نفسه عزوفا عن أن يتصل هو به ليجد الإجابات، لن تفرق .
أخذ يرتب أوراق حافظته، فوجد بطاقة الأستاذ شريف قلتة المحامى، وبطاقة الصيدلية، واسم الصيدلانية مادلين رياض، الشهيرة بالدكتورة مادلين، وعلى الجانب الآخر من بطاقة المحامى وجد اسما آخر مكتوبا بخط اليد، هو فعلا ما خطر غامضا بباله حتى أنكره، “غالى جوهر”، ياه! كيف لم ينتبه، لمَ شك أنه سمع الاسم؟ لقد ذكرت له الدكتورة الاسم كاملا، محمود لم يذكر إلا الاسم الأول، أيكون هو عمنا اليسارى التقدمى ذو التاريخ. ربما، لكن الدكتورة ذكرت الاسم بوضوح، بل كتبته فى ظهر البطاقة، لم يلاحظ إلا اسم المحامى على وجه البطاقة، بل إنها أضافت العنوان أيضا، يا ترى هل هذا هو عنوان منزل المحامى، أم عنوان خالها ذى الاسم الشبيه باسم أستاذه، 128 الترعة البولاقية شبرا، تشابه أسماء فى الأغلب؟ ما علاقة هذا المفكر الرائد بهذه الصيدلة وتلك الصيدلانية؟ ثم إيش عرفه بحماه السابق عبد السلام المشد؟ هذا فى واد وذاك فى واد، ثم إنه يذكر أن الأستاذ غالى قد اشتغل بالنقد الأدبى بعد أن ترك السياسة، وقد سمع حوله لغطا كثيرا، فمن قائل إنه انهزم، ومن قائل إنه تراجع، ومن قائل إنه عقل، كل ذلك جائز، حتى تحوله إلى النقد الأدبى مفهوم، ولو أنه ناقد دون المتوسط، لكن مستحيل أن يكون صاحب صيدلية، وبالذات مستحيل أن يكون هو خال الدكتورة مادلين رياض.
لماذا مستحيل؟
-2-
فى محاولة ألا يبدو متطفلا سمجا، راح يرتب كلماته، وأحيانا مداعباته، مع بعض التظرف الذى لا يحذقه؛ فبدا زائفا حتى السخف برغم ضحكها الخافت، ربما مجاملة سألها معتذرا إذا كان خالها هذا هو الأستاذ غالى جوهر، الـ..، الـ.. سياسى، يعنى البطل السياسى، الناقد المعروف. كان قد اصطنع أى شئ يبرر هذه الزيارة التى فرضها عليه هاتف داخلى يتراوح بين حب الاستطلاع وسوء الظن.
ـ هل تعرفه يا أستاذ؟ .خالى؟ لماذا تسأل بهذه اللهفة.
ـ ليس تماما، ولكن إن كان هو هو، فهو أستاذ الجيل.
ـ يعنى ..، لقد طلق خالى السياسة بالثلاث.
ـ أظن أنه اشتغل بالنقد الأدبى.
ـ ليس لى فى النقد ولا فى الأدب، ولكنى سمعت شيئا كهذا.
رمى آخر سهم ليتأكد مما أصبح مؤكدا:
ـ هو زوج الأستاذة ملكة مناع، أليس كذلك؟
ـ هل تعرفها أيضا؟ لقد أصبحنا معارف قدامى إذن.
راح يشرح لها أنه فى زواجه كان يرجو أن يقتدى بأستاذه، فاختار زميلة كفاح كان والدها جار والده الذى لم يره، وجاء تعارفهما وهو يخلى شقة والده بعد طول اختفائه، بناء على طلب صاحب العمارة، ولم يتردد جلال فى أن يذكر للدكتورة مادلين كيف فشلت الزيجة برغم استمرار الود والاتصال.
ـ صدقنى يا أستاذ أنت رجل طيب، هذاما قلته لك من أول مرة، حذار أن يضحك عليك قريبك هذا، ويبيع لك الترام.
ـ يا سيدتى قلت لك أنا لا أملك ثمن تذكرة الميكروباص، إن أحسن وقاية من السرقة والاحتيال، هو الفلس العظيم.
ـ بصراحة يا أستاذ، أنا من ساعة ما رأيتك، وأنا أتعجب من موقفك، ومن تصرفاتك، ومن طريقة تفكيرك، ومن أسئلتك، لاتؤاخذنى إذا أنا قلت لك أننى تصورتك مثل صبى ترسله أمه لأول مره للشراء وحده، آسفة، فعلا، لست أدرى كيف ستتقبل ملاحظتى هذه؟ أرجو أن تعتبرها مديحا وتذكرة فى ذات الوقت، كل ما أقصده هو أن أحذرك من الاحتيال خصوصا هذه الأيام.
انتهز الفرصة، وفرح بمبادرتها للكلام فيما هو شخصى إلى هذه الدرجة، فتمادى فى سؤالها عن خالها بالذات، ولم يتطرق إلى أحوالها الخاصة، وهو يتجنب النظر إلى أصابعها الخالية من أية علامات ارتباط، وشم الصليب على باطن أسفل رسغها يقول أشياء ذات معنى، ويبدو أنه نجح فى استدراجها للحكى باعتباره ساذجا لا خوف منه.
ترددت، وأشفقت، ورحبت، وحكت له -ليس يدرى كيف – أنها تحب خالها هذا جدا، وأنها لم ترتح لزوجته ملكة مناع يوما، وأنها تعلم أنهما قررا (خالها وزوجته) ـ فى البداية ـ ألا ينجبا ليتفرغا للسياسة، لكن زوجة خالها ملكة عدلت فجأة وأنجبت ابنها الأول “جوهر” فى ظروف اختلف المحيطون فى تأويلها، ثم أنجبت بعده ثلاثة آخرين، ثم قررت السفر بناء على إغراء من أخت لها فى مونتريال، سافروا جميعا إلا جوهر، بقى مع والده، لكن ظَلَّ خالها غير موافق على سفر الأسرة برغم أنه يتمنى الآن سفر جوهر، وهو لم يفلح حتى الآن فى إقناعه بذلك؛ لأن جوهر كان قد ذهب إلى الناحية الأخرى.
ـ أية ناحية أخرى؟ وما هى الناحية الأولى؟ .
ـ جوهر ابن خالى يا سيدى، فى سبيله أن يتم إجراءات الرهبنة، وهذا ما يكاد يجنن خالى.
ـ لماذا؟ .
ـ خالى الآن حائر بين ابنه الذى يعد نفسه للقبول فى دير فى وادى النطرون، وبين زوجته وبقية أولاده فى كندا، وهو ينتظر أن يعدل أى منهم عن موقفه، ويبدو أنه فشل حتى الآن.
انقطع الحوار فجأة، شكرها بشدة، فشعرت بصدقــه، حتى تجرأ أن يصافحها باليد وهو خارج، ولعله شعر أنها تضغط على يده، أو ربما هو تصور ذلك متعجبا.
ـ3ـ
ماذا جرى لك يا أستاذنا الجليل؟ وكيف ترهبن ابنك هكذا؟ هل هو هروب جماعى؟ ماذا جرى فى الدنيا؟ وماذا يجرى؟ محمود، النقيب محمود، الرائد محمود عبد السلام المشد يزمع أن يحزم زوجته وأولاده إلى جرزة ليعذبهم فى أرض قاحلة بالقرب من هرم ميدوم، وأولادك يا أستاذنا العظيم غالى: يتركونك ويذهبون إلى كندا، وابنك يترهبن، لا أحد يريد أن يواصل …
ابتسم وهو ينبه نفسه متذكرا تنبيه ثريا ومنال الواحدة تلو الأخرى، بل والآخرين كذلك، أنه أكثر هربا، وشطحا، وربما جنونا من الجميع.
ـ4 ـ
أضاء شاشة التليفزيون، وأمسك بجهاز التحكم وهو مستلق على وشك النوم، هو يستعمل التليفزيون الآن منوما إلكترونيا، هو لا يذكر مؤخرا أنه أكمل فيلما حتى لو كان انتظره شهورا، ما إن يبدأ الفيلم، إثارة لا إثارة، حركة لا حركة، رومانسية، أكشن!، كلها أفلام مفعولها أكيد فى التهيئة لنوم عميق.
السى إن إن. الله يخرب بيوتكم. كتر الله خيركم. إلى أية مصيبة تذهبون بنا؟
كيف كنا سنعرف كل هذا بدونكم؟
مازال يقاوم التسليم بفضل هذه الإنجازات الاعلامية عليه كصحفى، وكبنى آدم، وهو يحاول إبعاد تعداد مخاطرها على وعيه وعلى استقلال فكره، إذ يعترف بضرورتها المثيرة، ولكن تسحبها الـلزج يصيبه بالغثيان، ماذا يعمل؟ اكتشف كل هذا بوضوح أكبر من خلال مهمة البحث المقارن الذى كلفوه به وستره قليلا.
هؤلاء الأطفال على الشاشة ليسوا أطفال البوسنة، بل أطفال كوسوفو، كله واحد، أهذا ما كنت تقصده يا محمود؟ مازال يذكرالمقال الذى قرأه عن سيربرنسكا أيام مجازر البوسنة، واهتز له حتى أنه احتفظ به، المسألة هنا زادت وفاضت، يطل عليه الأطفال المسلمون الخواجات الشقر، على رأى محمود عبد السلام، فيتذكر ذلك الطفل الصربى الذى أنقذه محمود، ويكاد يسمع دقات قلبه وهو فى حضن محمود يرتجف خوفا ثم يبتسم ثم ينام مطمئنا، يتقاذف الأطفال المطرودون من بيوتهم حول أهليهم الممزقين جزعا، أما جدودهم، فهم يجرون أرجلهم زحفا حولهم إلى المجهول ـ هو سيتذكر ذلك أيضا بألم ساحق وهو يتابع ما سيجرى فى فلسطين ـ يقوم جلال فيحضر المقال القديم عن سيربرنسكا الذى كان قد احتفظ به لأسباب غير واضحة، يقرأه ثم يمزقه فى غيظ مكتوم، لم يلق بجهاز التحكم عن بعد، بل راح يعبث به مغيظا أو محبطا حسب محطة الإرسال، راح يتبين أن شعورا أشبه بشعور التلبس بالخيانة هو الذى جعله يكف عن الكتابة، يترك الصحافة، ثم ها هى الأخبار تلاحقه وكأنه مسئول، ليس فقط عن إعلانها، ولكن عن حدوثها. يريد أن يهرب أبعد.
(=”لا !!. “ما أنا بهارب”!.
= “إذن ماذا يا روح امك؟ “)
اكتشف باسما أن تعبير”روح أمك “ليس سبابا، نعم كان هو روح أمه حقيقة.
من هو الذى أكثر صوابا؟ جوهر غالى جوهر على أبواب دير وادى النطرون، أم إخوته وأمه الذين فروا إلى كندا؟ من الذى سينجح فى الهرب المحلى؟ محمود عبد السلام الذى يريد أن يهرب من القاهرة إلى الأدغال الخيالية فى جـِرزة محافظة بنى سويف؟ أم هو الذى يريد أن يعطى دروسا خصوصية لأولاد أمين عبد الحكيم من الست فاتيما الألمانية؟ أم “منال” التى تتفرج على الرجال فى ملهاة الجنس دون مشاركة، وترفع راية الكفاح ضد الختان، وهى خير دليل على أن مخبأ قوالب الجليد أبعد من متناول الكذابين – لكن يا ترى هل هى فى متناول الصادقين أمثاله؟ (يعنى!) لماذا لا يجربان؟ ـ أم أخوها أنور إبراهيم الذى افتتح جامعة “الدنيا” فى كافتريا فى دهب فى جنوب سيناء.
ما الحكاية بالضبط؟
لم يسمح لنفسه أن ييأس أو ينحو باللوم على أحد إلا نفسه، هو يفهم تماما خدعة الشعور بالذنب، هو لم يذنب فى حق أحد، هو ليس مذنبا أصلا، هذا يقين لا يتزحرح، المسئولية ليست ذنبا ومن لا يفهم ينفلق.
أخذ يعبث بأزرار التليفزيون وهو يغيـّر المحطات: صورة بدون صوت كالعادة غالبا، لعبة اعتادها للتسلية والتأمل، ضغط زر ضابط القنوات فجاءته قناة الجزيرة، ثم قناة “أبوظبى”، ثم دبى، و السودان، فاليمن، يا صلاة النبى لمن كل هذا البث؟ يبثون ماذا؟ لماذا؟ ليلهونا عن ماذا؟ أما القنوات الخوجاتى فخذ عندك، قنوات قليلة باللغات التى يعرفها، وعشرات غيرها بلغات لا يعرفها، أحيانا يأتنس أكثر باللغات التى لا يعرفها.
ذات مرة أخذ يلعب فى التليفزيون، وكلما أطل عليه وجه طفل أو امرأة جميلة أو شيخ عجوز يتكلم لغة لا يفهمها توجه بالسؤال فى عشم أو عتاب أو احتجاج عن هذا الطفل بالذات، وهذا الفتى الجميل الأمرد الذى بلغ الحلم لتوه، وهو يسير فى الجبل وحيدا يغنى بلغة غريبة جميلة، وهذا الشيخ الطيب، أين سيذهبون؟ الناحية الثانية؟ كم مرة نبهه عمه سليمان أنه لا يمكن “إثباته”، ولكن يمكنه أن يجده، طيب كيف؟ أين؟ فى دير أبينا متى المسكين يا جوهر يا ابن غالى جوهر؟ فى أرض جـِرزة يا محمود يا عبد السلام يا مشد؟ فى معرض سيارات أمين عبد الحكيم يا جلال يا غريب يا أناضولى؟ ثم ما الذى جعل إسرائيل هكذا؟ ملعون أبو كل شئ.
أحيانا يتقمص الطبق فوق السطح ويلف معه وهو يلف يجوب العالم، أى والله، يشعر أن جسمه يدور نصف دائرة، ثم ربع دائرة، ثم ثلث دائرة وهكذا، حلوة هذه اللعبة، هذه الحركة وأنت تتجول حول العالم وأنت مستلق فى حجرتك هى التى ستغيـِّر وعى البشر؟ فماذا سوف يفعل هو بدروسه لبضعة أطفال وهم يمضون ثلاثة أرباع حياتهم أمام كل هذا البث الدوّار؟ وما الذى أتى بكِ يا فاتيما من آخر الدنيا إلى مصر هكذا؟ هذه السيدة، تبحث عن ماذا؟ هكذا؟ أما كان يكفى أن تجلسى فى شتوتجارت، وتلعبى بأزرار “طبقك” الخاص، وتسمعى أخبار مصر المحروسة التى تبدأ بمقابلات الرئيس، وتنتهى بتهنئة وزيرالإعلام؛ لتعرفى إلى أى بلد تهاجرين! ألم تبلغك هجرة أولاد غالى جوهر هم وأمهم؟ لماذا هذا التبادل الخائب؟
خفض من صوت المحطة ذات اللغة التى لا يفهمها أصلا، مع أن الوجوه أوروبية، وهو يراهن على ذلك، لكن اللغة ليست فى متناول تخميناته، وليس فيها حتى المَدَّة الإيطالية أو إيقاع إنهاء الكلمات الاسبانى، ولا ضخّ الحجارة الألمانى، أدار قرص التليفون وطلب رقما، الرقم الذى قفز إلى وعيه والسلام. كان التليفزيون صورة، بلا صوت، استجاب الهاتف، ليس مشغولا، خير وبركة، جاء صوتها عبر الهاتف:
ـ آلو.. آلو…من؟
لم يرد، ولم يسرع بوضع السماعة، فرح بسماع صوتها على الرغم من أنه لم يكن متأكدا من أن هذا هو رقمها، أصابعه عرفت الطريق إلى رقمها دون أمر منه، انتظرحتى وضعت هى السماعة، وجهها جميل رائق، حوله تلك الهالة البيضاء كسحابة تتخطر بدلال حول مشرق الشمس القمر، يا خبر!! همَّ بأن يدير رقما آخر لكنه تراجع مؤقتا، لم يعدل، راح يفكر، وجدها لعبة لطيفة، وتمنى ألا تنزعج، سخيف هو؟ ليس بالضرورة، المعاكسة الصامتة مطلوبة أحيانا، يمكن للمنزعجة، لأول وهلة، أن تخلق منها خيالا كما تشتهى، فقرر أن يظل التليفزيون صورة بلا صوت، وأن يظل الرادّ على الطرف الآخر من الهاتف صوتا بلا رد، غير محطة التليفزيون فجاءته قناة دبى، كانت بدون صوت مثل الباقى، لكن خيل إليه هذه المرة أنه سمع صوت المذيعة الجميلة تناديه باسمه، ردَّ شاكرا واعتذر، ضغطة أخرى، أطلت عليه وجوه هندية فى الأغلب، كاد يعلى الصوت ليسمع الأغنية الهندية؛ لأن الجميلات السمراوات اللاتى ظهرن، والمغنى المتمايل الفاحم الشعر، كانوا يعدون بلحن جميل، ولكنه لم يرفع الصوت، أدار رقم الهاتف الخاص الآخر الذى يستعمله نادرا، جاءه الصوت الآخر.
ـ ألو..، وبعد؟ ألوا.. ألو.. طيب اقفل يابن القـ…..
سارع بوضع السماعة مبتسما حتى لا يسمع بقية الكلمة، هى هى لا فائدة فيها، متنمرة أبدا، حتى وهى ترد على مجهول فى الهاتف، راهن بينه وبين نفسه أنها لو صالحت أنوثتها بطيبة حقيقية، فسوف تكون أجمل امرأة فى العالم، وصل به الابتسام إلى ضحك خفيف، خجل من كمية القسوة التى يخفيها هذا الضحك، منال لا تستأهل ما حبست نفسها فيه، لم لا يتقدم حتى لو…، كم هو جبان نذل.
غير محطة التليفزون من جديد فقفزت له صورة إيهود باراك، وهو يقفز كالفهد الصغير الذى يتلمظ فى انتظار حارسه الذى يهيئ له فرائسه من الحِمْلان حديثى الولادة، لم يسارع بتغيير المحطة، لكنه فرح أن التليفزيون ـ فعلاـ صورة فقط، أطلت صورته كهلا وشفته السفلى ترتعش، عيناه زائغتان، وهو يشب بقدر ما يستطيع، لعل طوله يزيد ولو سنتيمترا واحدا عما كان عليه طالبا فى الجامعة، بعيدا عن السياسة. تساءل: يا ترى ماذا تفعلين يا سُها مع هذا المسكين؟ خجل من هذه السخرية القبيحة من عجوز له تاريخ طويل زاخر مهما كان.
سافر بضغطة زر أخرى فوجد نفسه أمام أوربيات سمراوات أكثر منهن شقراوات، فأعْلَى الصوت، فجاءته اللهجة الممطوطة كأن خيوط المكرونة الأسباجيتى لا تريد أن تتوقف عن التدلى مهما لففت الشوكة، ابتسم ابتسامة أوسع، ملعون أبو الغم، حتى لو نام أطفال كوسوفو فى العراء فوق الجليد، هل هو الذى طردهم من بيوتهم؟ جاءه خاطر من داخله ردا على السؤال، أن “نعم”، هو الذى طردهم !! فوجه الكلام إلى داخله الذى لا يكف عن التعقيب، نهره، وسبه أن: “ملعون أبوك أنت أيضا “، أدار قرص الهاتف هربا من داخله قبل أن يرد السباب بسباب أفظع. رقم آخر، نفس اللعبة.
ـ ألو..آلـووو.. ألو..آلـووو…
خيل إليه أنها تبكى، أو أنها قد استيقظت على الرغم منها أثناء حلم مزعج لم ينته، أو أنها نادمة على طلاقها منه، أو أنها كل ذلك، اغرورقت عيناه وأسف على هذا العبث، لماذا هو مازال يحب ثريا كل هذا الحب، سمع صوت السماعة وهى توضع على الجانب الآخر فى رقة حزينة، ليكن، هو ليس مذنبا، ولا هى.
عاد إلى لوحة الأزرار، واستدعى موجة الجزيرة، صوت وصورة، هذه المرة، شاهد الرجل ثقيل الظل الذى يمثل ما يشبه الديمقراطية وهو يعلن عن موضوع برنامج “الرأى الآخر” ويحرك يديه بأصابعه المفرودة انفراجا وضما قبالة بعضها، وكأنه بهذا يؤكد أن الحوار وارد، وأن الخلاف محتمل. لماذ تحقد هذه المحطة على مصر بالذات، وأين أخبار قطر المحروسة؟ منع يده من أن ترتفع إلى جبهته تبحث عن آثار البطحة.
غير المحطة بسرعة فجاءه تسجيل هذا الرجل الشيخ الداعية، البالغ الحضور، المحب للغة، خفيف الظل، طلق اللسان، أغلب الناس يحبونه، فلماذا هو لا يحبه مثلهم، ليس كذلك تماما، هو يحبه لكنه لا يقبل منه أن يستهين بعقله، كان قد اعتاد أن يرد على تساؤلات هذا الشيخ الجليل الذى يتمايل زهوا بنفسه وبتخريجاته وهو يشاهده وكأنه سوف يسمعه، يرد بعكس ما يتوقع الشيخ، انتبه فجأة إلى أن مولانا الشيخ مد رجله اليمنى إلى الأمام فتصور أنه يعدل من جلسته، وإذا برجله تخرج من الشاشة إلى الحجرة، ثم تتبعه رجله الأخرى، ثم هو يخطو إلى الأريكة فى الحجرة ويتربع ثم يواصل تمايله إلى الأمام وعلى جانب ثم الآخر، كل ذلك وجلال غير منزعج، وغير مرحِّـب فى نفس الوقت، واصل الشيخ تساؤلاته فوجد جلال أنه جمهوره الوحيد، وقرر أنها فرصة ليرد عليه بما كان دائما يخالف به جمهوره.
(ـ جهنم “إييييه”؟
= وبئس المصير.
ـ لأنهم “إييييه”؟
= لأنهم مغفلون، فهموا الدين خطأ، وباعوا أنفسهم لعقول غيرهم.
ـ إذن “إييييه”؟
= إذن.. ربنا ينتقم منهم.
ـ مـِنَ الذين هم إييييه؟
= من الذين ضحكوا عليهم.
ـ ورضيوا ينضحك عليهم “ليييه”؟
= لم يسمعوا كلام عبد المعطى عامل المزلقان، ولا عمى سليمان، ولا الحاجة وردة.
= يعنى عبد المعطى هذا يمثل أحباب “إييييه”؟
= أحباب الله.
ـ على أساس “إييييه”؟)
هز جلال رأسه يمينا يسارا بشدة وهو يعتذر للشيخ، فرك عينيه وعاد لشاشة التليفزيون فإذا بها خالية من أى صورة أو صوت، يبدو أنه أغلقه حفاظا على خصوصية الحوار، وحتى لا يربك المشاهدين المشدوهين فيحذون حذوه، وأيضا حتى لا تسمعهما الحكومة، الاحتياط واجب. عاد يلوم الشيخ بينه وبين نفسه على تسطيحه للأمور هكذا رغم حسن نيته وجمال حضوره خصوصا لمحبيه، رد على نفسه أن لكل واحد أن يبتدع لغته الخاصة التى توصله إلى غايته وتقنع مستمعيه، انتبه إلى أن له هو أيضا لغته الخاصة التى لا يستطيع أن يدافع عنها، خذ مثلا الكلمة التى يرددها بلا توقف وهو لا يستطيع أن يضع لها تعريفا إذا سئل، كلمة “الفطرة”، كل واحد يستعملها على مزاجه، الهارب والمناور والمجتهد والأبله، الفطرة وما أدراك ما الفطرة، طيب ما علاقة الفطرة بالفطيرة؟ ثم ما علاقة الفطيرة السخنة، بالبليلة السخنة؟ ثم بالبطاطا السخنة؟ وبحمّص الشام؟ وكلام قلة أدب وسمج جدا، هو يعترف أنه مخطئ إذ يسخر بهذه الصورة، وأن دمه ثقيل، وهو لا يستطيع أن يحول دون ذلك.
أعاد فتح التليفزيون ليوقف هذا السيل من التفكير المعاد، فإذا بالشيخ الجليل يقول كلاما رصينا، ويخرِّج من اللغة العربية معان لم تخطر على باله، يعتذر له جلال عن الحوار الذى وصله دون أن يحدث، ويهم أن يقوم ليقبل يده من باب النفاق النصف نصف، لكن شاشة التليفزيون تحول دون ذلك قبل أن يخرج من تحت الغطاء. يكتفى بأن يرجوه عن بعد -وبكل إخلاص عاتب- ألا يستهين بعقله مرة أخرى حتى لو كان خطابه موجها إلى هؤلاء المطأطئين رؤوسهم بالموافقة، الممصمصين شفاهم بتقوى لن تشفع لهم فى الأغلب. خيل إليه أن الشيخ يبتسم له، أو أنه يغمز له بطيبة أبوية ، ولكن من موقع متعال ، لم يرفض سماحه، ولم يقبله.
تساءل: هل سيأخذ هذا الشيخ المتحمس كل ثروته معه إلى الجنة؟ تلفت خشية أن يكون أحد قد سمعه، كماتذكر ميراث محمد عبد الوهاب وموقف بناته، اعتذر مرة أخرى، واستغفر للجيمع وهو واثق من رحمته.
ـ5 ـ
أدار الرقم الأخير الذى كان قد طلبه حالا؛ ذلك أنه كان ما زال منشغلا على ثريا وصوتها الأقرب إلى الحزن، . فعلا هو ما زال يحبها، فعلا هى تستأهل الحب، لكن قرارهما بالانفصال كان عين العقل على الرغم من كل شئ.
جاءه صوتها عبر الهاتف بنفس النبرة الجياشة فصدَق حدسه، صوتها يقول إنها “فى حال”:
ـ أنا جلال يا ثريا.
- عارفة.
ـ عارفة؟ من أين؟
ـ أنت طلبتنى قبل ذلك، منذ قليل.
كاد ينكر خجلا، لكنه سارع معترفا.
ـ نعم، ولكن من أدراك أنه أنا؟
ـ أنا أشم رائحتك عن بعد، فى التليفون وغير التليفون، كيف حالك يا جلال؟
ـ ولم لا تشمين رائحة حالى بالمرة؟
ـ أنت تخاف أن أفعل.
ـ سوف أتحمّل هذه المرة، فماذا عن رائحة حالى؟
ـ عرق طازج، وعنادٌ ذكى، وهربٌ دائم.
ـ هذه روائح قديمة، تعرفينها عنى من زمان، أنا أسألك عن رائحتى الآن.
ـ أشم رائحة الجبن والمراوغة، لا تريد أن تعترف أنك تحبنى.
ـ أعترف بماذا وأنت تعرفين كل شىء،هل عندك اقتراح؟
ـ أبدا.
ـ طيب، خلاص.
ـ خلاص، خلاص. ماذا كنت تريد؟
ـ كنت أريد أن أطمئن عليك، بعد أن سمعت صوتك مليئا بالشجن؛ حين علقتك فى المكالمة السابقة.
ـ لا عليك، أنا بخير، على فكرة محمود يكرر اعتذاره كما أبلغتك قبلا، كانت ظروفا قاهره، هو يريد أن يبلغك….
سارع جلال بمقاطعتها:
ـ بصراحة حدثت أشياء نتيجة تخلفه عن هذا الموعد تستأهل أن أشكره عليها، أشياء فى منتهى الغرابة.
ـ دائما أشياؤك فى منتهى الغرابة يا جلال، كل ما يحدث لك وحولك غريب عجيب يا جلال. أما آن الأوان أن تكف عن هذا الاستغراب الذى لا ينتهى؟
ـ تظلميننى كالعادة، يعنى مثلا تريدين منى أن أسمع عن استقالة أخيك، وتهديد أولاده بالجوع، ثم خوفى عليه من الجنون، ثم لا أستغرب، أو لا أحاول أن أحول دون ذلك؟
ـ وأنت مالك يا أخى، أنا يا أخته، لا أملك إزاءه شيئا.
ـ مالى كيف؟
ـ هو عقله فى راسه، يعرف خلاصه.
ـ المسألة ليست خلاصه هو، المسألة خلاصنا كلنا.
ـ لن تتوب عن محاولة تعديل الكون بادعاء النبوة المعبأة فى قراطيس نبض اللغة؟.
ـ تسخرين؟ اسألى أخاك، يبدو أن الأمر سوف ينتهى إلى أن أذهب أدرس لأولاده فى جرزة هذه، أعلمهم كيف يستخرجون دودة الأرض من جوف الطين؛ ليصطادوا بها فى المصرف القذر السمكة التى ابتلعت خاتم سليمان أثناء “العشاء الأخير”.
ـ اتلم المتعوس على خائب الرجاء.
ـ لست متعوسا، حتى لو كان أخوك خائب الرجاء.
ـ طيب هل تريد شيئا؟ خلِّ بالك من نفسك.
ـ تصبحين على خير.
ـ وأنت من أهله.
ـ6ـ
إلى متى يظل الحال هكذا ؟ كلما زادا ابتعادا عن بعضهما زادا اقترابا.
إلى متى يظل الاقتراب مستحيلا، والبعد ضامَّا مع وقف التنفيذ؟
اغرورقت عيناه ولم يسمح للدمعة أن تنزل.
هو لا يذكر أنه أضاء شاشة التليفزيون من جديد، يبدو أنها اشتعلت تلقائيا،. هذا الشاب الذى يسير وحيدا يدعوه إليه، يشبه أستاذه غالى جوهر، هل هو جوهر ابنه الصيدلى حديث التخرج الذى يريد أن يترهبن فى دير وادى النطرون. عاود الشاب الإشارة فاستجاب جلال بنفس حب الاستطلاع وبسوء ظن أقل، رجح أنه يمكن أن يعرف من جوهر ما لا تعرفه عمته شخصيا. يبدو أن جوهر قد اطمأن إلى تحقيق ما أراد فاستدار وانطلق دون أن يلتفت وراءه، وجلال يتبعه وهو محتفظ بالمسافة.
الصحراء مترامية، صحراء وادى النطرون ليست صحراء تماما، هو الذى قرر ذلك منذ زيارته لدير أبونا متى المسكين، توجد علامات متفرقة على جانبى طرق بعضها ممهد، والأخر يبدو أنه كان ممهدا، وبعضها لا يعدو أن يكون “مدقا” اخترعته سيارات الربع نقل لاختصار الطريق، انتظر أن يلتفت إليه جوهر ليطمئن أنه ما زال وراءه لكنه لم يفعل.
لم يتساءل لماذا ناداه جوهر ولا هو عرف لماذا استجاب.
تسارعت خطوات جوهر ولم تتسارع خطوات جلال بنفس القدر، وتعجب أن المسافة ظلت ثابته، هل يسحبه جوهر إلى هناك ليعلمه شيئا من واقع الممارسة بدلا من الضياع وسط كتابات ليس لجلال هم إلا أن يتشكك متى كتبت، وهو غير متأكد من مصدرها؟ اكتشف جلال فجأة أنهما يسيران داخل طرق ضيقة لم تعد تصلح لسير سيارة، طرق أشبه بمدقات الراجلين، تكاثفت أشجار الزيتون المحيطة وبدت وافرة الإثمار شديدة الجمال، كيف نبتت هكذا كاملة دون أن يلحظ؟ أين الصحراء؟ كأن المزرعة انبثقت من تحت الأرض، ومازال جوهر يسير دون أن يلتفت، كل ما فى الأمر أن عباءة سوداء لبسته فى نفس الوقت الذى اكتملت فيه مزرعة الزيتون، العباءة تشبه عباءة عمه سليمان، امتد أعلى العباءة ليخفى الرأس بغطاء مدبب الطرف حتى بدا السائر أكبر سنا (مع أنه لم يعد يرى وجهه) المشية مِشية عمه سليمان والعباءة تمتد حتى تكاد تحيط بجلال كله رغم الحفاظ على المسافة، ما هذا الرحم الغامض الذى يعيشه دون تمييز.
استسلم جلال للجارى وكأن هذا هو المفروض أن يحدث، لم يكن يشعر لا بالمفاجأة، ولا بالخوف، ولا بالتعب، وجد صدره يتفتح وكأنه يتسع فعلا لا مجازا، فأخذ شهيقا عميقا سمع من خلاله لحنا يحبه مع أنه لم يسمعه من قبل، راح ينصت بحنان إلى نبضات قلبه فاكتملت الحركة الثانية بتماوج قوى برغم نعومته، دون أن يفقد اللحن انتظامه المعاد بلا إملال.
همً أن ينادى جوهر ليسأله إلى أين، وربما يعرفه بنفسه، وأنه من حواريي والده، فلم يخرج صوته أصلا رغم وضوح الكلمات، هو لم يعد جوهرا (فى الأغلب)، فليناد عمه بصوت أكثر حياء، تراجع بإصرار، فهو لا يدرى كيف يواجهه وكأنه قد تخلى عن وصاياه.
ليس زيتونا فقط هذا الشجر الذى يزداد خضرة وطزاجة وكثافة وجمالا، هو لا يعرف اسمه ولا طبيعة ثماره، كان وهو ينصت للتلاوة داخل عباءة عمه سليمان يتشوق أن يتذوق ما كان يدعوه عمه “أبّا”. ظل يتصور أن “الأب” هذا هو فاكهة غامضة سرية برغم أنه كشف فى المعجم على الكلمة يوما فوجد أن معناها هو العشب أو الكلأ، رفض ما جاء فى المعجم واعتبره خطأ لأن طعم “الأبا” الذى تذوقه داخل العباءة طفلا ما زال يستشعره بمذاقه الفريد حتى الآن، هو الآن وسط شجر الزيتون وهو يستطعم ثمار “الأبّا”، ثمة فواكه أخرى ليس لها اسم تتبدى له فوق أشجارها فتحل محل بعضها بفضل الهندسة “الرؤيوية” وهو يمضى دون تردد وراء جوهر غالى جوهر.
توقف فجأة، قرر أن يتراجع مادامت المسائل تتساوى، جوهر، أو عمه، لا أحد منهم يهتم إن كان يتبعه أم لا، وإلا لماذا لم يلتفت أحدهما إليه ولو مرة واحدة؟ توقف فعلا، وحتى يتأكد أنه لن يواصل المتابعة كالمسحور، هبط فجأة جالسا على الأرض حتى آلمتـه مقعدته، لم يتوقف جوهر (أوكائنا من كان) رغم صوت ارتطام مقعدة جلال بالأرض، لكنه تباطأ، ثم تباطأ أكثر حتى خيل لجلال أنه سيدعوه (أو يأمره) أن يواصل، وتمنى ألا يفعل.
استدار لابس العباءة للخلف لأول مرة فإذا وجه فاتيما هو الذى يطل مثلما أطل عليه أول مرة من بين سحاب الحجاب الشفيف، فرح جلال بالمفاجأة وكأنه كان يتوقعها، لم تكن مفاجأة تماما. هو لا يدرى ماذا كانت بالضبط، لكنها لم تكن مفاجأة، اتسع صدره أكثر وتنوعت الأنغام التى تتردد فيه بآلات الشهيق والزفير ونبض القلب المنساب فى هدوء صاخب، لم يشعر أنه بحاجة للترحيب بها فقد كان على يقين أن فرحته وصلتها بما يكفى، تركت فاتيما العباءة تتهادى ساقطة من حول كتفيها، وإذا بها لا تسقط وإنما تتحول إلى ملاءة لف” مثل تلك التى أحبها فى طفولته وأطلقت لخياله العنان، تـُحكم فاتيما حبك الملاءة فى دلال، هى لا تغمز بعينيها مثل نساء سوق السلاح حين تغمرهن أنوثتهن فخرا واستبدادا، تستدير فاتيما وتعاود السير بكل ما تقوله الملاءة لجسدها وكل ما يقوله فرعها المتمايل بانسياب للملاءة.
هو ما زال متربعا لا ينادى، أو لعله ينادى بغير صوت.
قبل أن تختفى فاتيما عند نهاية الممر لوحت له بيدها وهى تقول :”باى”.
- “باى” يادّ لعدى!! أهكذا أيضا؟
أفاق ولم يـُفِق
ـ7ـ
انتبه لأصابعه تعبث بجهاز التحكم من جديد، هوالذى أضاء الشاشة هذه المرة، أخذ يعبث بالأزرار حتى جاءته إحدى المحطات التى تعلن عن فتيات تحت الطلب، بالتليفون، لم يكن يعرف كيف يحضرن من هذا البعد بمجرد إدارة أرقام الهاتف التى تتدحرج فى بطء أسفل الشاشة، نبهه أحدهم إلى أن مثل هذه الدعوة هى لممارسة الجنس بالهاتف، وليس للحضور جسديا، يا خبر أسود!! كيف؟ كاد ألا يصدق لولا أن محطة أخرى من ذات النوع عثر عليها بالصدفة، كتبتها صراحة، “اتصل بى الآن، إن كنت تريد أن تمارس الجنس بالهاتف”، إذن فهذا هو “النظام الجنسى الجديد”، حاول أن يستسيغ التأوهات، أو أن يشتهى صدرا متضخما، وصاحبته تضمه بين كفيها، أو أن يتقمص إصبع موز ضخم نزعت قشرته لتمر عليها بلسانها تجسد هواية السيد كلينتون، فلم يستطع. لم يشك فى نفسه، حتى حين أصابه الغثيانـ لم يفسر غثيانه بالكبت أو خلافه، كان منشغلا تماما بربط كل هذا بالفجوة التى تتسع بين الناس وهم يتكلمون عن ثورة التوصيل والتواصل، تواصل ماذا؟ حلت المعلومات محل المعانى، كما حل الخيال محل اللحم والدم. لم يبق إلا أن يعبـِّئوا المشاعر حسب درجة حرارة الاحتياج، ثم يعلنوا، توصيل المشاعر المصنعة إلى القلوب المميكنة لتليين العلاقات المبرمجة.
الله يخرب بيوتهم.
يبدو أن المصيبة أكبر من كل تصور، المفروض أن يغير المحطة كما اعتاد، لكنه هذه المرة تلكـّأ ليربط بين تجواله مع الطبق حول العالم، وبين دوره التربوى الجديد.
أخذ يسترجع الصور التى مرت به أثناء لعبته الطبقية “هذا المساء”. عادت إليه الواحدة وراء الأخرى، أطفال كوسوفو، باراك، عرفات، الأغنية الهندية، اللغات التى لم يفهمها، وتساؤلاته عن كيفية حسابهم فى الآخرة، وبأية لغة، فضائية أولى، ثانية، دبى، السودان،اليمن. الجزيرة، المحطة الطليانى، استضافة شيخ اللغة والتفسير، رحلة الصحراء والزيتون وتوالى الانسلاخ فى وادى النطرون.
ماذا يعنى كل هذا؟
ماذا بعد؟
مازالت محطة الجنس أمامه، يا خبر أسود، ما هذا؟ ماذا تفعل هذه المرأة، بتلك الأخرى؟ ماذا يريدون أن يقولوا بهذا؟ من هذا الغبى الذى تثيره مثل هذه المناظر؟ ثم ما هذا بالضبط؟ امرأة تمارس العادة من فوق السروال، وتتأوه دون شريك أو شريكة، لا يبدو وجهها أصلا، ثم يظهر وجهها وهى ترتعش حتى تهمد.
ـ8ـ
قام إلى النافذة وفتحها على مصراعيها.
نظر إلى السماء فى جوف الليل، وقال معاتبا فى عشم باد، واحتجاج متردد:
ـ أيرضيك هذا؟
***
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .