نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 22-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3977
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثالث: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الثانى
“عزبة البكباشى”
ـ 1 ـ
هذا اليوم: لا أكرهه، ولا أحبه، ولا أفخر به”.
راح جلال يتذكر كيف مر عليه يومه هذا، كيف تحايل أن يمرره مثل كل يوم. كيف قفز إليه مختلفا متحديا وكأنه يرد عليه: إنه فعلا ليس مثل كل يوم، ولا مثل أى يوم مما كانوا يسمونه: “عيد ميلاد”
(= إنه.. “يوم آخر”، لم يعد عندى إعجاب برفاهة التغّزل فى هجائه،”عدتَ يا أيها الشقى”
= كامل الشناوى كان يجمـل الحزن، وفريد الأطرش يطربه
= أنا لست حزينا، ولست فرحا، لست ساخطا، ولست ثائرا!، لم تـُمتهن كلمة مثلما امتـُهنت كلمة “الثورة”، وأيضا كلمة”الحرية”.
= لست هاربا
= أنا ذاهب لأمرٍ ما.)
كل اللافتات والشعارات والعبارات أصبحت غائمة، بعيدة، ملتبسة، تحتاج إلى تصحيح، أو توضيح، كل عناوين الأفلام والروايات تحتاج إلى شئ ما، تحتاج إلى معجم خاص، إلى مذكرة تفسيرية، لستُُ بطلا، ولا أريد أن أكون بطلا، الأبطال المعروفون عبر التاريخ ليسوا هم من تعرفون من مشاهير، الأبطال الحقيقيون كانوا بداخلهم، وماتوا معهم، هذه الأسماء التى يذكرها التاريخ هى من صناعتنا نحن، أسماؤهم ليست هم، أى عبث؟ الإسكندر ليس الإسكندر، ونيتشه ليس نيتشه، وقيصر ليس قيصر، وحتى غاندى ليس غاندى، وفرويد ليس فرويد، أنا كل هؤلاء.
(= “..نعم؟ نعم؟” .
= ”شكرا”.
= ”الله يخيبك البعيد”.)
لماذا نطفئ الشموع بعدد ما مضى من سنين عمرنا؟! الأوْلى أن نشعل شمعة واحدة للعام الجديد، إما أن ينفع وإما لا ينفع، بختك يابو بخيت، هذا العدد 41، ماذا يعنى؟ لماذا لا يكون العد تنازليا من رقم افتراضى؟ ليكن 65 أو حتي70 أو مائة أى رقم، رقم قابل للتغيير، لا مانع، وليكن العد هكذا: “باقى 31 سنة، باقى30، باقى” 29، تـفرح باقتراب النهاية، وربما تحزن، كله محصل بعضه، لكنك لا بد ستتعرف على الزمن أوضح، وأدق، أراهن أن العدّ التنازلى سيتوقف عند خمسة عشر أو خمس، لكنه سيتوقف، وقد تـُوهِم نفسك فتضيف عددا آخر من السنين كلما اقتربتَ من الصفر.
(= “مرعوب أنا من الاقتراح”.
= ”كبـّر عقلك”.
= ”حاضر، ولا كأنى قلت شيئا”.)
يضحك الناس على بعضهم البعض، ضحكنا على أنفسنا بما فيه الكفاية، ضحكوا علينا فضحكنا على أنفسنا توفيرا لجهد الناس “الكُمّل”، لم أكن أعرف أننى أستطيع أن أمشى كل هذا الوقت، خمس ساعات ونصف حتى الآن، ومازلت أسير، شارع المحطة، ميدان الجيزة، محطة موبيل، أو محطة التعاون، لست متأكدا، “الأوبرج” أو كازينو الليل كله مثل كله، لعلها الباريزيانا، المريوطية، فندق سياج، ستوديو مصر، شبرامنت، اقترحوا علىّ أن يحتفلوا بعيد ميلادى بطريقة لم تخطرعلى بالى، أصدقائى حلوون، ياه ما أصعب الكلمة، حلو، والجمع حلوون، معقول؟ ليس هناك معنى أن أحتفل بما لا أنتمى إليه، بما ليست لىّ يد فيه، القرار كان قرار والدى، لا أظن أننى وُجدت بناء عن قرار أصلا، هى المصادفة، أو لعلها توريطة، لعلى ولدت عن طريق الخطأ.
المسائل تجاوزت كل تلك الشكليات، المساحة تتسع، الدنيا أصبحت أكبر، حتى أننى لم أعد أعرف أكبر من ماذا؟ هى أكبر والسلام، هى أكبر فأكبر، فأكبر، كلما نظرت إليها وجدتها أكبر، أكبر وخلاص، أحيانا أنظر إليها فأشعر أنها تكبر، حالة كونها تكبر أمامى أثناء تطلعى إليها، أثناء تمعنى فيها، أثناء محاولتى الإحاطة بأبعادها، اشتريت نموذج كرة أرضية من المكتبة المقابلة لمحلات “ويمبى” أو لعلها محلات “ماكدونالدز”، هل يوجد فرق؟ محلات النظام العالمى الجديد، محلات كلينتون ابن القحبة، أهديت الكرة الأرضية لنفسى، هدية عيد ميلادى، كل واحد يهادى نفسه، قبلتـُها شاكرا، لم تعد المسألة أن الأرض تلف أم لا تلف، رحم الله كوبرنيكس طيب ذكرى فؤاد المهندس، لم يعد ينفع أن ألففها وأتحدى السماك زاعقا “الأرض بتلف”، الشيخ خميس،”السكرتير الفنى”، حاولت طوال عشرين سنة أن أتعرف على علاقة الشيخ خميس بربه، بربنا، أنا أحب الشيخ خميس، أحب عبد الوارث عسر، أتمنى أن أستنسخه لأسأله إن كان يحبنى كما أحبه، أريد أن أسأله عن ربه، ربنا، أشعر أنه ـ ربنا هذا الذى كان يعبده الشيخ خميس وهو يعلـِّم فؤاد المهندس الغزل ـ هو شديد الجمال، الشيخ خميس -أيضا- شديد الجمال، الله جميل يحب الجمال؟ لم أتوقف أبدا عند هذا القول السائر لأتساءل: حديث شريف هذا؟ أم خفة دم الشعب المصرى؟!!، فكيف يتصور هؤلاء “الكيتش” الجديد أننى هربت منهم، يتهموننى أننى أهرب من الدنيا، كأنهم هم الدنيا، لمجرد أنهم هاتفونى ولم يجدونى، ياه!!، هل يمكن أن أكون وحيدا جميلا فى ذات الوقت، وفى هذا اليوم؟ ليس يوما شقيا يا عم كامل يا شناوى، هذا اليوم هو كما تصنع أنتَ منه، هو كما تصنع به، كما تصنعه، الزمن لا يمضى بنا، نحن الذين نصنعه.
(= “يا حلاوة!”.
= “يارب تصدق”.)
كيف لم أتعب حتى الآن؟ كيف أواصل السير طوال هذا الوقت هكذا؟ أين أنا الآن؟ شبرامنت هذه؟ هل أواصل السير إلى سقارة أم أنحرف يسارا إلى “أبو النمرس”؟ أريد أن أتعرف على النخيل من جديد، أريد أن أسلـِّم على أجدادى الأحياء فى جذوعه، لقد اختلطت الأزمان عندى حتى لم أعد أصدق، أجداد مـن يا عم؟ أهو كلام ..، التاريخ يكتبه فريق من الهواة المحترفين !!. نعم؟ نعم؟ أتعمّد الخلط طبعا مثل أدب هذه الأيام، الله يخرب بيوتهم، أشعر -أحيانا- أنه ليس أدبا بل “تورْلى” تركوه خارج المبرد (يعنى الثلاجة!!) حتى فسد، نعم، الهواة المحترفون، أنا أقولها كما يخطر لى، وأنت تحلها بنفسك، قال تاريخ قال، وهرم سقارة المدرج؟، الهرم الآن مبرمج لا مدرج، أجلس أمام ذلك الهباب الرائع الذى كاد يأخذ منى ما تبقى من عمرى، الكمبيوتر، ألعب “بالفأرة” أو “الماوس”، لمَ أسموه الفأرة، كان عبده مبروك جارى فى الفصل يرسُب فى كل العلوم “ما عدا الرسم”، أعتقد أنه كان يحتاج كل هذه التكنولوجيا قبل اختراعها لو كان عند أجدادى المزعومين هذا البرنامج التافه ومعه هذه الفارة المطيعة – إذن- لما احتاجوا لبناء كل هذه الأهرامات العبثية، كانوا عملوها بعدة قفزات من الفأرة، ودمتم، لم أحب أهرام الجيزة أبدا، لم تتملكنى الرهبة أو الخشية أو الإعجاب، لا وأنا واقف بجوار الهرم الآكبر ضئيلا ضئيلا حتى العدم، ولا وأنا أكاد أختنق فى ممراته، عاندت ذات مرة وصعدت الهرم الأكبر مع صديق رياضى شقى، كنا فى سنة ثالثة فى الكلية، ولم أشعر بشئ حتى وأنا على قمته، لم أقبل كل مبررات الخلود وراء أسطورة بنائها، ولم أفهم (وفى نفس الوقت لم أرفض) شائعات سرها، ومعجزات توجهاتها الهندسية، أعرف أنها كادت تصبح دينا عند المهووسين بها، تلك الديانة المعاصرة التى تريد أن تثبت أن الأهرامات هى رمز لاتِّساقِ قوانين هندسة بيولوجيا الصحة مع قوانين بيولوجيا الطبيعة الحجرية إلى بيولوجيا الكون، يا صلاة النبى! الموسى التى توضع فى زاوية كذا، بحيث تتوجه إلى وجهة القانون الهرمى، لا تُثلم ولا تصدأ لسنين عددا، ذات مرة قررت أن أتقمص هذه الموسى حتى لا يثلم حسى، رحت أقرأ فى كتب أوهام الأهرام وسرها الباتع، وضعت نفسى متسمـِّرا على قدم واحدة فى اتجاه الموسى الذى لا ينثلم، كنت ألعب مع القراءة لعبة أقرب إلى الكاريكاتير، لكننى شعرت أننى أبرد متجمدا، ثلُمَت كلتا الناحيتين حتى أصبحتُ مثل سكين صدئة فاترة لا تعرف ناحية حدها من الناحية الأخرى.
كان ذلك قبل هذا اليوم بكثير،
”هذا يوم موتى.”
”هو هو يوم مولدى،”
كلام ليست عليه ضريبة، يقوله أى واحد لا يفهم منه حرفا”.
”قال يعنى أنا ”اللى” فاهم !!!”.
ـ 2 ـ
عسكرى المرور عند كوبرى شبرامنت، “كشكه” أبعد قليلا من الكوبرى المتجه نحو “أبو النمرس”، كنت قد قررت ألا أمضى فى طريق سقارة وأن أتجه إلى “أبو النمرس”، لماذا أتجه إلى “أبو النمرس”، ولماذا لا أتجه إلى “أبو النمرس”؟
= “صباح الخير، صباح الفل بعد الظهر، صباح النور بالليل”.
شعب لا يحتاج إلى حشيش، حتى يحشش، هناك – فى الناحية الأخرى – أجد أجدادى بحق، تلك الغابة من النخيل التى تقع بعد المزلقان مباشرة بجوار طريق الصعيد، أبو النمرس أعرق من شبرامنت، النخيل أعرق من هرم سقارة، لماذا الخلود؟ هذا الوهم الذى أضاع الناس حتى أنكروا فضل الموت على البشر، ما هذه الشعارات؟ أنا أنتمى للنيل، للنخيل من حوله، وليس للأهرامات، نعم؟ نعم؟، خلود ماذا؟ خلود منْ؟
طريق الخلود طريق الجدود، طريق الكباش طريق البلاش “إخرس يا ولد” .
ما أقبح السجع المستظرف، لم أعد أطيقه، ما معنى كل ذلك؟.
”أنا مالى؟ أنا أقول، وهم يتصرفون،”.
من “هم”؟ لم يعد هناك “هم”، لم أعد أقابل إلا مجموعات من ضمير مستتر واحد تقديره “أنا”.
”أنا هيمان، وياطول هيامى، صور الماضى، ورائى وأمامى”، ليس تماما، لكن الأغنية جميلة، وصوت عبد الوهاب أجمل من ذكائه، هل أخذ ملايينه معه؟ لماذا حرم بناته؟ لم يكن بنات بارَّات؟ ولو…..
أنا أتم اليوم العام الواحد والأربعين من عمرى، ولولا هربى هذا بدءا من شارع المحطة إلى شارع الهرم إلى طريق سقارة إلى شبرامنت، لأنحرِف الآن نحو “أبو النمرس” لكنت أمارس طقوس الكذابين السنوية احتفالا بعيد ليس لى فضل فيه.
(= كل سنة وأنت طيب، وأنت بالصحة والسلامة.
= “شكرا”، “ربنا يخليك”، عقبال مائة سنة؟
= (أهو أنت)، الله يخيبكم، كل سنة وانت “كده”، ياليت.
= “البقاء لله”، و”لك مثلما قلت”،)
انطفأتْ وحدها كل هذه السنين، لا تحتاج حتى نفخـة رمزية من هواء زفيرى، مِـن أكذب الكذب أن تطفئ ما انطفأ فعلا، إحدى وأربعون عاما، “إذا بلغ الفتى عشرين عاما، ولم يفخر فليس له فخار”، شعراء العرب هؤلاء أنذال فعلا، هأنذا فى العقد الخامس، ولم أفخر بعد، بماذا أفخر؟ لكن سيظل عندى ما يمكن أن أفخر به، إننى أفخر بأنى مازلت قادرا على أن أحب، أحب كل من على الكرة الأرضية بلا استثناء، يعيش الهرب فى الكل، أهديت نفسى نموذج الكرة الأرضية بما عليها، وليس بما هى وهى تلف، هذا ما تخيلتُه، لا أريد أن أتوقف عند الكرة الأرضية؟ كوكب خائب عليه كيانات مغرورة تتصور أن كل شئ خلق من أجلها، تبدأ بأن تلغى بقية الكائنات على نفس الكوكب اللهم إلا ما يصلح منها للاستعمال الشخصى”!!، ثم تروح تهمِّش كل الكواكب الأخرى، أريد أن أنطلق إلى سائر الكواكب الأكثر فخامة ووعدا، إلى المجموعة الشمسية، لن تحرقنى، أنطلق إلى كل المجرات، أنطلق إلى ما لا أعرف، أريد أن أصل إلى مركز الزمن بالضبط، المركز لا يدور، يا خبر أسود، تموت الحركة فى بؤرة الدائرة!! كيف أتنازل عن زخم الحركة! لا..، سوف اخترع قانونا يحافظ على الحركة فى كل الأحوال، ولا يحرمنى من حلم وصولى لمركز الكون، يعنى ماذا؟ لا أعلم، مركز الزمن الكونى لا يوجد فيه عامٌ قادم، ولا عام مضى، ليس فيه أعياد ميلاد، هل يعنى هذا الخلود؟ يا خبر !! لا أريده، لا أريد الوصول إلى مركز الدنيا، اللهم إلا إذا ….إذا ماذا؟ إذا تغيرت القوانين..
لا بد أن مركز الدائرة يدور دورانه الخاص فى السر، ربما يدور حول نفسه، لا، ليس فى المحل، ليس “محلك سر”، ولا “محلك در”، لا أستطيع، هذا عبثٌ ضحكوا علينا به، ضيعتُ عمرى أبحث عن كيان وهمى اسمه “نفسى”، قال”البحث عن الذات” قال، الله يخيبك، هكذا أكـدوا لنا فى البداية، لست أدرى من هم الذين “أكدوا لنا”، لا أذكر، التفكير التآمرى يقول لى إنهم أهل الغرب والشمال، هم الذين جعلونا ندور حول أنفسنا كالنحلة، وهم يمسكون بكرباج التقدم ويُلهبون دوَرَاننا كلما قلت السرعةـ عمرى ما حذقت هذه اللعبة: البحث عن الذات، ماذا يا عمنا السادات، الله يرحمك ويغفر لنا ولك، تبحث عن ذاتك فتتكلم عن مصر كما يحلو لك، هىَ مصر كانت ذاتك وحدك يا رجل؟ الله يسامحك، ماذا كان قد جرى لو أنك عقلت ورضيت، وتوقفت، وباركت؟ لا أحد يتوقف بنفسه، يظل الواحد يبحث ويبحث ويؤجل ويضحك على نفسه تحت زعم أنه يبحث عن ذاته، وحين يجدها لا يكون عنده وقت ليتثبت من أنها هو. تفكير تآمرى؟ ليكن: تآمرى بتآمرى، هذا عن واحد مثل حالاتى، فما بالك برؤسائنا الأفاضل؟ قال يتوقف قال؟ رؤساؤنا ليسوا بهذه النذالة حتى يتخلى أى منهم عن شعبه بهذه السهولة ويتوقف عن البحث عن ذاته، ربنا يخليهم، على أنفاسنا رحمة بنا من أى احتمال آخر، يبدو أننا لسنا أهلا لأى احتمال آخر.
ما ذنبى أنا فى هذا كله؟
سحبونى من تلك العتمة الرائعة التى كنت أتعرف من خلالها على النور الذى لا يظهر فى النور، وضعونى على طريق مسفلت، لمعانه أكثر سطوعا من ضوء الشمس، قالوا لى: هنا سوف تجدها: نفسك، سوف تجدها بعيدا عن غيابات الحدس والتخبط، فرحت ساعتها بكل هذا السطوع القبيح، لم يكن قبيحا آنذاك، كان سطوعا هائلا داخل ”سنتيمتر ذاتى”، سرعان ما عشيتْ عيناى من خطف اللمعان، رحت أتحسر على الكيانات الرائعة التى كانت تؤنسنى فى عتمة المحاولة.
هذا الجديد الذى أنا فيه الآن مختلف عن هذا وذاك، هل هو حقا جديد؟.
هو مرعب.
فهو جديد.
هذا التفاؤل أريد أن أصفه بالغباء، لكننى لا أستطيع، خليط من الآمال والإصرار على يقين غامض، ليكن، هى محاولة لم أخترْها، هى هى، عُـرضتْ علىّ قبلا لكننى لم أتبين معالمها، وحين كانت تقترب من وعيى كنت أنكرها، لكنها هذه المرة اقتحمتنى من باب سرى لا أعرف كيف سهوْتُ عن إغلاقه.
(= “محاولة ماذا بالله عليك؟”.
– “هو كلام والسلام”.
= “تفكير تآمرى آخر، بل وخرافى أيضا”.
– “هل أنا سوف أحاسبك؟ وإذا حاسبتك، هل أستطيع أن أثبت عليك شيئا إلا أنك شقى أبله، حتى لو تمرغتَ فى خـدر كل شئ لذيذ”.
= “حقد هذا ، أم استعلاء أم ماذا؟؟؟”.
- “ليكن؛ حقد حقد!! من حقى أن أحقد”.
= ” أحقد على من؟ أنا أحسن من الجميع هكذا !”.
– “لا يا شيخ ؟!!!!”.)
جندى المرور الواقف على الكشك بعد الكوبرى المؤدى إلى طريق “أبو النمرس” من شبرامنت، يشبه “المكان” الذى يقف فيه تماما، المكان ينقع على شاغله، لست أدرى كيف، لا ينقص هذا الجندى إلا أن يلبس صديرى بأزرار ولبدة.
ـ أليس هذا هو طريق “أبو النمرس”؟
ـ لا، هذا طريق البدرشين، أبو النمرس من على الكوبرى، فيه تاكس بالنفر، وفيه ميكروباص، وفيه أتوبيس لكن ليست له مواعيد، أنت وبختك.
- كم كيلو حتى أبو النمرس؟
- كيلو ماذا يا سعادة الباشا؟
ـ ربنا يولى من يصلح.
ـ ربنا يقويك.
ـ ربنا يسد ما علينا.
ـ ربنا يسترها معك يا سيدنا الافندى.
ربنا؟ ربنا؟ ربنا؟ بين كل جملة وجملة تكتشف أن شعبنا الطيب يحشر كلمة ربنا فيها، لست متأكدا هل دار كل هذا الحوار بينى وبين الجندى أم لا، خيل إلى أننى بررت له الذهاب إلى “أبو النمرس” مشيا على الأقدام بأنه كان نذرا علىّ، أخدنى الرجل على قدر عقلى، لم يدقق.
“ندرِنْ على لو قلتى أيوه، لاخلـِّى روحى فى إديكى شمعهْ، فى إديكى شمعة…، ماعرفشى إييه فيه بعد كده!، .. تمشى عليها والشمعه والعه، والشمعة والعة، كلااااام جميل وكلااااام ماعقووول ما اقدرشى أقوول حاجة عنه. …لكن خياال حابيبى المجهووول، مش لاقيا فيه حاجة منه”.
ماذا؟ فيها ماذا؟ لم يسمعنى أحد، لم أنطق، أنا أحتفل بعيد ميلادى، أغنى لنفسى، ومـن يعجبه!! الله!!!!.
الظاهر أن حكاية حبيبى المجهول هذه أكبر من ليلى مراد ومن محمد عبد الوهاب معا، هل يمكن أن يكون سحر الحب هو فى أن يظل الحبيب مجهولا، وهل خاب حبى، حبنا أنا وثريا، إلا حين انقلب حبيبى المجهول إلى حبيبى المعلوم، هل أحتفظ بالمسافة بينى وبين منال ليظل الحبيب مجهولا؟ أنا متأكد أن هناك نوعا من الجهل أوضح من كل معرفة، حين جرجرونى من العتمة المليئة بالدفء المحيط إلى شارع الأسفلت المضئ باللون الأصفر المغير على ضوء القمر الفضى، عشقت العلم، والمادة، والعقل، منتهى العقل، كله بالعقل، كله ظاهر تحت الضوء الأصفر الساطع، كيف يصير جلدنا باهتا هكذا تحت اللون الأصفر الساطع؟، ثم يصفر وجودنا كله فنـَذْبُلُ دون أن ندرى؟.
كانت الحسابات شديدة الإحكام، والمقدمات شديدة الوضوح، لماذا كل هذا الوضوح؟ علما بأن النتائج ليست حاسمة ولا جازمة، ليست جامعة، ولا مانعة، هذه الأضواء الصفراء التى تضئ شارع العقل الأسفلتى قبيحة مُـمْـرِضَةْ، تجعلنى أرى وجوه كل الناس صفرا، مصابة بالأنيميا الخبيثة، يقولون إن أنيميا البحر الأبيض اسمها الأنيميا الخبيثة، لست أدرى، اختلطت البحار والأنيميا والأصفر والأبيض، الحل فى الجنس الأصفر.
”الصينيون قادمون”، “الإسلام هوالحل”، “حل ماذا؟ جاك حل وسطك، كانت أمّى تدعو على هذه الدعوة حين تغب منى، ولم أكن أفهم ماذا تعنى بالضبط بحل وسطى، أنور عبد الملك يصر على أن يجمع بين الصين والإسلام والرئيس مبارك فى فندق واحد، المفروض أن أقول: فى خندق واحد، غلطة مقصودة، أتعجّب من جرأة عبد الملك هذا ـ أنا أحبه بالعافية ـ جـُرأته على الحقائق لا تزعجنى، والفبركة الآمِلة تبهرنى، ربما هى “فبركة” لا شعورية كما يقولون، لم أفرح باستهانته بالخيبة البليغة التى نحن فيها، من نحن؟ التى أنا فيها، من أنا؟ التى كل الناس فيها، لقد عوْلموا الخيبة البليغة قبل أن يعوْلـِموا الاقتصاد والمعلومات، أصبح من حق أى إنسان على ظهر الأرض أن يخيب نفس الخيبة البليغة التى يخيبها الآخر مهما بعدت المسافات واختلفت اللغة، ومهما تعددت الأجناس والنظم الاقتصادية.
يمضى الوقت سريعا، عكس ما كنت أتصور، لست أعرف كيف وجدت نفسى فجأة بين هؤلاء الناس، زحمة قذرة، الزحمة ليست دائما قذرة، لكن هذه الزحمة قبيحة، لها رائحة الزحمة المنسية المتراكمة على بعضها منذ مدة، رائحة هذا العرق مختلفة، ليس عرق البشر التلقائى الذى ينضح أثناء العمل، هذا عرق لزجٌ مستورد، عرقٌ له لمعة مستفزَّة، عرق صناعى، عرق كنظام العرَق، أذان الظهر حشرجة تقف فى أذنى تسدّها، تتزاحم الأذانات من مساجد متلاصقة، لماذا ينفـِّرُون الناس من الأذان ومن أنفسهم؟
(= اختراع الميكروفونات مؤامرة على الأذان
= “اخرسْ يا تآمرى”.)
كتلٌ من الحجارة المتنافرة الملونة بألوان كالحة ليس لها اسم، رصها بـَنـَّاءٌ كاره نفسه ليعمل منها سورا للترعة التى لم تعد ترعة، كأنها مصرف مفتوح للمجارى.
رئيس مجلس هذه المدينة، أقسَمَ أن يكرِّه الناس فى عيشتهم انتقاما من كرهه لنفسه، أراد أن يحجب شاطئ الترعة بهذا الجدار القبيح.
للقبح رائحة غثيانية، كما أن للجمال حضورا طازجا، أبحث عن الجمال الذى ملأنى هذا الصباح، فأتعجب أنه مازال موجودا يقاوم لزوجة القبح ورائحته الزنخة، أجده مازال نشطا مبتسما ينتظر انتهائى من هذا الاحتجاج الفاشل بكل هذا الصراخ الصامت.
كيف يمكن أن أظل جميلا على الرغم من مؤامرات التشويه الملاحِق فى كل مكان؟
-3-
لست أدرى كم مضى من الوقت لأجدنى فى حضن غابة النخيل على الجانب الآخر، أنا أحبها، أخاف عليها، أخاف علىّ، ليس - فقط – ممن يحيطون بها، أتصور دائما أن التهديد بقطعها، هو تهديد لكيانى شخصيا، أخاف عليها من مجهول آخر يتربص، بكيتُ صامتا فى “وادى فيران” حين شاهدت ما جرى للنخيل هناك، جذوع النخل جفت وتشوهت، فهمت ساعتها معنى: كأنهم “أعجاز نخل خاوية”، عاودنى صوت عم سليمان وهو يرددها وأنا مختبئ فى عباءته، يعاودنى رنين الآية كلما شاهدت سيقان فلاحينا حين يشمـِّرون للرى أو للحصاد، نحن نضـُمـُر مثل نخل وادى فيران، تعاودنى نفس الآية أكثر حين أرى “الرجال الجوف”، يا سيدنا ”إليوت”، استقبـلنـى نخيل “أبو النمرس” بشموخ أبىّ، مازال بعافية و الحمد لله، هل هذا بفضل النيل أم بفضل الصعايدة؟ الجيزة صعيد، أى والله، برغم أنف “جامعة القاهرة”، وأبو النمرس صعيد، وأنا صعيدى وقتما أحب، رغم أنف مولدى، أنا أحب أن أنتمى إلى ما أحب، لا أستأذن أحدا، لم يستأذنوا شيخ العرب السيد وهم ينقلون قريتنا – إداريا جدا- من الغربية إلى المنوفية، فجأة أصبحنا من مواطنى البحث عن السادات، ظلمناه أكثر مما ظلم نفسه. لكنه هو الذى بدأ بظلم نفسه.
لا أذكر متى قررتُ أن يكون أصلى هو ما أذهب إليه، وليس ما آتى منه.
من حقى أن أحصل على الجنسية الصعيدية مادمتُ أنتمى إلى النخل والعرَقَ.
أريد أن آخذ تعسيلة هنا فى حضن أجدادى.
أخشى أن أستيقظ فلا أجدنى.
ـ 4 ـ
ـ صباح الخير.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ـ ألم يكن هذا أذان الظهر.
ـ ظـُهر ماذا يا سيدنا لافندى، نحن قربنا على المغرب، اسم الله على مقامك.
لم يكدْ يكمِل الجملة حتى وجدته يتلفت فزعا حواليه.
ـ خير مالك؟ مالك؟ هل أزعجتك؟
ـ مالى؟ القطار لم يحضر بعد، والمزلقان مفتوح، سعادتك شاهد.
ـ شاهد على ماذا؟
ـ على أن المزلقان مفتوح.
ـ طبعا، مادام القطار لم يأت، هل حصل شئ.
ـ ما هو المصيبة أنه لم يحصل.
ـ إذن ماذا؟
ـ ولا حاجة.
ـ طيب.. طيب هدِّئ نفسك.
ـ أنا اسمى جلال غريب.
ـ خدَّامك عبد المعطى.
ـ خدام من يا عم؟.
ـ ما هو لو كان حصلت حاجة كنت استاهل، إنما لم تحصل أيها حاجة.
ـ تستأهل ماذا؟ فهـِّمنى. هل حان موعد القطار؟
ـ حان أم لا، لن تمر عبر المزلقان إلا بعد القطار.
ـ يا عم عبد المعطى، أنا أسير على قدمى، لست عربة لتمنعنى، ثم إن المزلقان مفتوح.
ـ ولو….، طيب علىَّ الطلاق بالثلاثة ما يحصل.
ـ أنت متزوج؟
ـ لأ.
ـ طيب؟.
ـ أنا حلفت بالطلاق والختمة والمصحف الشريف وكل أيمانات المسلمين والنصارى والكفرة كمان.
ـ طيب طيب هدّئ روحك.
ـ ألا يمكن أن تكلمهم لى يا سيدنا الأفندى ينقلونى من هنا؟
ـ أكلـِّم من؟
ـ أى أحد.
ـ يعنى أروح أقول لهم يا أى أحد انقلوا عبد المعطى؟
ـ أيوه.
ـ تحكى لى، يمكن أفهم.
ـ تفهم؟ باسم الله ما شاء الله، طبعا تفهم ونصف، ألاّ قل لى يا سيدنا الأفندى، أليس كل شئ بأمره؟
ـ طبعا.
ـ إذن لماذا؟ … لماذا إذن؟
ـ يا عبد المعطى تريدنى أن أشم على ظهر يدى، عذرك معك، لكن إما أن تحكى لى، وإما أن تدعنى أمرّ.
ـ بعد القطار.
ـ بعد القطار، تحكى لى، أم أمر؟
ـ الاثنان بإذن الله.
ـ هل ستدخل لى قافية؟
ـ أستغفر الله، وحياة النبى أنا أتكلم جد.
ـ طيب.. طيب، بعد ما القطار يمر تحكى لى.
ـ أنا حكيت لما شبعت حكى بلا فائدة.
ـ ولو….
أغلق المزلقان ومر القطار، وتلكأ جلال فى العبور، وهدأ عبد المعطى...
راح يحكى بعد إلحاح متوسط:
“كان اليوم جمعة، وكنت نائما تمام التـمـام، وكنت تعشيت عند عمتى مريم ربع فطيرة بحالها، وليس بى أى “حجة”. كنا قبل صلاة الجمعة، قـل بساعة ونصف، الإشارة علقت، المفروض تنور قبل القطار ما يأتى بثلاث أربع دقائق، أقوم أنا أقفل المزلقان، وأمنع العربات، خمس دقائق فاتوا، والحكاية طالت وهات يا زمامير، وهات يا سباب، وهات يا قلة حياء، افتح يا حمار، وراءنا مصالح، افتح يالوح، وناس بهوات كما تشاء، قلت يمكن أنا غلطان، يمكن الإشارة غلط، قمت فتحت المزلقان نصف فتحة، أنا فتحت من هنا وقبل ما تمر أى عربة، لمحت القطار من هنا، رحت قفلت فى ثانية. كانت القفلة ستأتى على العربة التى كادت تمر، هل فى ذلك شئ؟ بوزها كان سيمر لكنه لم يمـر، لم تخدش، ربنا ستر.
ـ الله نوّر، جاءت سليمة.
ـ لا العربة جرى لها شئ، ولا أحد مرّ، ولا حصلت أيها حاجة من أصله.
ـ الحمد لله.
ـ بس….، من يومها وأنا لا أعرف كيف أتلم على روحى، كل شوية يهيأ لى إن العربة عدّت، وإن القطار دهسها، ودهسنى، وأنا عارف ومتأكد إنه لم يحدث أى شىء من ذلك.
ـ هذا هو كل شئ؟
ـ وهل هناك أفظع من ذلك؟
ـ الله يسامحك، قدر ولطف يا أخي!.
ـ هكذا يقولون، كل الناس تقول مثلك، هو سعادتك من أين؟
- من مصر.
ـ ما هى مصر كبيرة، يعنى من أين فى مصر؟
ـ يعنى يا عبد المعطى لو قلت لك من أين سوف تفرق معك؟
ـ لا أبدا، لكن يعنى، عن إذنك أحسن الإشارة نورت، والقطار الثانى قادم.
-5-
اقتربت من عبد المعطى حتى صرت مكانه، أحطت بما أحاط به مرعوبا، فزعت حتى شعرت أنّ على أن أنصرف حالا، أنا لا أعرف ماذا أفعل أنا أيضا، لم أفهمه في البداية، هو يعيش ما لم يحدث، كأنه حدث، فجأة صدقت مثله أنه حدث، رعبتُ مثل رعبه، كفى هذا، أريد أن أنصرف، ناديته رغما عنى بعد أن مر القطار، سلـَّمتُ عليه بحرارة وسألته إن كان يمانع أن أحضر له بين الحين والحين، نتكلم.
ـ نتكلم فى ماذا؟ هل ستكلمهم لى فى حكاية النقل؟
ـ حاضر، لكنى لا أنا أعرف أحدا، ولا أنا حتى عارف اسمك بالكامل.
ـ اسمى؟ اسمى بالكامل؟ هذه هى البطاقة.
قال ذلك وأخرج بطاقته الشخصية لتوه، فخشيت أن أنقل اسمه كتابة فيطمع فيما لا أعرف إليه سبيلا، حفظتُ الاسم من باب المجاملة “عبد المعطى أحمد أبو النجا”.
ـ بصراحة يا عبد المعطى لا أريد أن أطمّعك، أنا لا أعرف ناسا مهمين، ولكنى قد أحضر ثانية ربما لأطمئن عليك، عندك مانع؟
ـ مانع؟ اسم الله على مقامك، تحضر يا سيدى وقتما تريد، هذه أرض الحكومة، ياليت كان عندى بيت يليق بالمقام، تحضر ونصف.
ـ ونتكلم.….
ـ طبعا نتكلم، ما دمت ستحضر، سنتكلم.
لم أعرف هؤلاء الناس من قبل، مع أن كل حديثنا، أحاديثنا، كانت عنهم، كنا نتصور أننا أولياء أمورهم، نحن لا نعرفهم أصلا، لم نعرفهم فعلا، وربما لن نعرفهم أبدا.
-6-
قبل أن أنصرف، لمحتُ المرأة التى كان يناديها عبد المعطى أثناء حديثنا بالحاجة وردة، ولم أكن أتابع لمَ يناديها بهذا الإلحاح، ولا ماذا يطلب منها، هى لا تكاد تجلس على طرف أريكة من أرائكها المفروشة بشرائط مصنوعة من قصاصات قديمة حتى تقفز كأنثى النمر التى رأت ثعلبا شهيا، ساعتها لا تكون حاجّة ولا وردة، تكون نـمِـرة فتيّة متوهِّجة، جمالـُها قوىّ لا يستأذن، لم تبلغ الثلاثين، أو كأنها كذلك، صدرٌ نافر دون حامل، فى الأغلب. جلبابها أقرب إلى جلباب الرجال لكن الزركشة على الصدر تميزه، بدت لى أنثى مستكفية بلا رجل، نادت على ابنتها ذات الأعوام السبعة، لم ترد، دخلتْ إليها وعلا صوتهما دون تمييز، خرجت البنت من العشة فى نشاط يقفز حواليها، جميلة، طازجة مثل نسمة الصباح قبل طلوع الشمس قبيل دخول الشتاء، فائرة مثل القيلولة، رائقة متنوعة مثل غسق بعد الغروب، هذه البنت صورة جميلة مصغرة لكل ذلك معا، تمنيت أن تكون لى ابنة شكلها، كذاب أنا، لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية أن أكون أبا لبنت بهذا الجمال، أنا لا أصلح أبا، مثلى مثل أبى الذى لم أره، تزوجت مرة ولم أنفع، لستُ متأكدا هل أنا الذى لم أنفع أم هى؟ نحن الاثنان لم ننفع، كنا مثل بعضنا البعض، فلم ننفع لبعضنا البعض.
تعرفتُ عليها بالصدفة، والدانا جاران، كانا جارين، هى رأت والدى، أنا لم أره، لا أذكره، التقينا بعد ذلك فى ميدان التحرير ونحن نحتجّ معا على الصمت والهزيمة، ثم صنـَّفُونا سبعينيين، لست منهم، من الذى أطلق عليهم – علينا- هذا الاسم، كله من السادات، الله يرحمه، لا نحن فهمناه ولا هو وضعنا فى الاعتبار، أحسن، جاء اليوم الذى يصبح عدم الوضع فى الاعتبار مزية، السبعينيون هم نتاج الثورة الحقيقيون، بكل الحماسة، والإخلاص، والخبرة الزائفة والسطحية، والثللية والنفـَس القصير، الستينيون الذين يتباهى بهم الناصريون حملتْ بهم مصر وتكونوا قبل الثورة، لماذا استولت الثورة عليهم ونسبتهم إليها؟ لماذا فخروا هم بذلك؟ أكره هذه التقسيمات، لا أنا سبعينى ولا ستينىّ، كانت هناك ثورة، نعم، من ينكر؟ إن كان على الجيش فقد قام بحركته المباركة، الناس ثوَّرتها، ثم تنازل الناس، أو لعل الناس تنوزلوا عن الاثنين بخبطة واحدة، عن الحركة، وعن الثورة معا، لم تكن خبطة، واحدة بل خبطة، فخبطة، فخازوقا مغرِّيــا، فتلوُّثا، فانفشاخا، فانفلاتا، فوصاية، فتشققا إلى جزر منعزلة ذات سيادة.
قررتُ أن أولد اليوم كما أريد، أن أفعل ما يبرر استمرارى عاما آخر، لا أريد أن أرجع لبيتى، لست هناك، حين أذهب هناك لا أجدنى، لا بديل عن السفر، أحاور الجبال وأسمع همس بحر خليج العقبة، الأوتوبيس يقوم فى منتصف الليل، ماذا أعمل من هنا حتى منتصف الليل؟ الثوار يصنعون الثورة ولا يعرفون من يرثها، سوف أصنع ثورتى الشخصية دون أن أعلنها، ليس لى وريث شرعى، ولا غير شرعى، ”أنا مسؤول عن كل لحظة، من الآن فصاعدا”، “حلوة هذه !! كيف؟”.
= “لن أعلن عن ثورتى الخاصة حتى لا يستولى عليها غيرى”.
أخاف أن أرجع إلى منزلى، أخاف من رنين الهاتف، يصرون على تهنئتى، بـ “ماذا” بالله عليهم؟ حتى لو رفعتُ السماعة وأغلقتها دون أن أرد فمن يضمن لى أنهم لا يطبـُّون علىّ ليطمئنوا!!. أنا أحب الناس ولا أكره طبعهم، الناس بغير طباعهم ليسوا ناسا، لكن لابد من أن أحافظ على مسافةٍ ما، تتسع المسافة أم تضيق؟ لا أعرف، لكنها ضرورية كى أستطيع أن أتنفس.
كيف استطاع عبد المعطى، ووجه الصبية بنت الحاجة وردة أن يلغيا المسافة بينى وبينهم هكذا دون استئذان، هل اقتربوا هم أكثر؟ متى يختفون مثل غيرهم؟ يارب لمَ هذا؟ أعجب شئ هذا اليوم أننى لم أتعب بعد، الحاجّة وردة لم تكتف بإلغاء المسافة.
لا أحمل ساعة، قصدا، قررتُ تجاوز الزمن، قال يعنى، لولا أذان العصر الذى نبهنى إليه عبد المعطى لما عرفت أن اليوم كاد ينقضى، وحتى إذا قررتُ السفر هذه الليلة إلى دهب فى أوتوبيس منتصف الليل فسوف أفعلها دون حقيبة، سوف أظل هكذا بكامل ملابسى حتى أعود، تحسستُ جيبى ووجدت المحفظة، اطمأننت، لكنى خفت أن أفتحها لأعد ما بها، أنـا على يقين أن بها ما يكفى أجرة الأتوبيس ذهابا وعودة، أنا أكاد لا أصرف شيئا هناك، حين أعود سوف أبدأ ما انتويته.
لم يعد هناك ما يسترون به عوراتهم حتى يحتاج الأمر إلى جهد الصحافة لتعريهم، لم أعد أصلح لها، ولم تعد تصلح لى، لم تعد صحافة، ما معنى الصحافة؟ هل لها لزوم؟ الاعتراف فضيلة، لم تعد لى مهنة، هى التى استغنتْ عنى، معها حق، ثريا أيضا استغنت عنى، منال لا تقترب أصلا مع أنها الأقرب، هى أيضا معها حق، لكنها مثلى تدفع الثمن وحدها، كلهم معهم حق،
(= “دعك من حكايات الحق والواجب، لابد من عمل”.
= “آفتنا- آفة البشراليوم،”. …
= ”أهكذا خبط لصق؟! آفة البشر؟ كل البشر!!.
= لا. لا طيب آفتنا نحن، فقط – آفتنا: ليست السياسة ولا الاقتصاد، إن آفتنا ـ وربما آفة العالم….”.
= “واحدة واحدة يا جدع انت، بطل خطب”.
= “آفة العالم هى فساد اللغة”.
= “لا يا شيخ ؟!”.)
لم تعد اللغة الحاضرة قادرة على برمجة الدماغ بما يؤكد ما يميز الإنسان، أنا أحب اللغة، اللغات، أعرف أسرار لغات الحاسوب (أكره هذا الاسم بالعربية لأنه غير دقيق، سوف أسميه الكمبيوتر بعد ذلك).
نسيت نفسى وأنا أتمادى فيما لا طائل وراءه فصحت فىّ:
“ما هذا !!؟؟ اللــــّه!!” .
ومع ذلك واصلتُ: أنا تعلمت اللغة قبل أن أتعلم الكلام، كان عمى سليمان يحتوينى داخل عباءته وهو يقرأ القرآن، ربما بدأ هذا وأنا لم أبلغ الثانية، نشأتُ وأنا أهتز مع تمايل جسده وهو يهدهدنى ويقرأ، حتى لما كان يخفت صوته كانت تصلنى الأنغام كأنها هى هى، فتتخلق الألفاظ كما تشاء دون تمييز، ملأتنى هذه اللغة مشتملة، صوت عمى سليمان، دفء عباءته، الترتيل، الألفاظ، أصداء المعانى تصلنى دون ألفاظها، هل يمكن؟
أحلم أن أقدِّم خبرتى إليهم، أريد أن أنقل تجربة معنى أن يكون اللفظ صورة تبعث الأنغام، لا رمزا يترجَم إلى رموز مثله، هكذا أوصَلَ لى عمى سليمان المصحف، سوف يسخر السبعينيون منى، أنا لست منهم، أنا أصغرهم، أنا منهم، أغلب السبعينيين الذين أعرفهم تزوجوا وأنجبوا أولادا وبنات، لابد أن أولادهم فى حاجة إلى من هو مثلى، لـن أقول لهم إننى أهدف إلى تنظيم الدماغ ليصبح صالحا للعمل لما خلق له بتجويد لغته، لـن آتى بسيرة القرآن فأنا أعرف حساسيتهم وسخريتهم وغباءهم، كل ما سأعلنه أننى سوف أجعل أولادهم ممتازين فى اللغات والكمبيوتر، لغة العصر، سوف أضحك عليهم مثلما أضحك على نفسى.
من حقوق الإنسان الأساسية حق خداع النفس، لم أعد أطيق السبعينيين، لكننى أحب أولادهم وبناتهم، أحبهم حبا مختلفا، عن حب أهلهم لهم، لست أدرى كيف.
”أنا أحب الأطفال”.
لم أحزن للطلاق، كان القرار واضحا، كان أبسط وأصدق من قرارالزواج ذاته، ضاعت الفرصة كى يكون لى طفل أفرح به، أجرِّب فيه، أعطيه ما أتصور، يبدو أننى عرفتُ بحدس خاص أن طفلى سوف يكبر ولن يعود طفلا، كما أنه لن يعود طفلى، ما الفائدة؟ أطفال الناس هم الأضمن، هم يتجدَّدُون باستمرار، كلما شبَّ جيل عن الطفولة خرج جيل جديد يعلن استمرار الحياة، أنا لا أحب أن أعيدُ ما أقول، ولا أحب التدريس، ولا أعرف كيف سوف أطلب أتعابى، خصوصا من أمثال أهل أطفال هؤلاء السبعينيين، أنا لا أعرف غيرهم، مصيبة المصائب لو أهدونى كتبا من تأليفهم بدلا من الأتعاب، سأسشترط المعاملة الرسمية، يكفى أن أتعابى أقل، وأننى مخلص،لست ناقصا كتابتهم، “كتاباتهم أحالت الألفاظ إلى نيازك شاردة تبحث عما يجذبها إلى بعضها البعض”.
(= “اسم النبى حارسك وضامنك”.
= “اخرس أنت- أنت مالك؟ إيش فهِّمك؟ ”كل المسألة أننى عقلت دون أن أتنازل عن ثوريتى”.
= “لا يا شيخ؟”.
= ” تحوير فى التكتيك مع الاحتفاظ بالاستراتيجية”.)
أما الصحافة فسوف أرسل لها المقال تلو المقال، وهم وضميرهم ومدى حاجتهم إلى هذا النوع من رص الكلام؟ لم تكن عندى فرصة للنشر أصلا، أنا لم أتم عملا أبدا، وحين أتمه سوف أواجه الصعوبة التى يواجهها أى كاتب.
لو كانت لجنة الأحزاب قد أجازت حزب السبعينيين لانضممت إليه من فورى دون أى شرط مسبق، ذلك لأننى واثق أنهم سوف يرفتونى بعد الاجتماع الرابع على الأكثر، تماما مثل الصحافة وثريا، كلهم يرفتونى؟ أنا جاهز للرفت طول الوقت.
آه لو سمحوا بحزب للأطفال دون الثانية عشرة ! سوف أحفز العيال الذين أدرس لهم حتى يكوّنوا حزبا أكون مستشاره، ولا يبقى إلا تغيير الكون، وحين أعثر على الكون وصاحبه المسامِح سوف أشير عليه كيف يغيـّره، وسوف يعلم أننى كنت أساهم فى إعداد الأولاد والبنات بالطريقة التى تسمح له أن يعيد بناءه كما يشاء.
(= “خوجـَهْ”؟)
أهكذا ينتهى كل الكفاح والحماسة وحلم نضال المنشورات، ومشاريع الصحف القبرصية، ينتهى كل هذا إلى أن أكون خوجة؟ وخوجة خصوصى؟ خوجة هاوٍ؟
ياترى هل سأجد زبائن أم لا؟
من الذى سيصدق أننى أحب الأطفال كل هذا الحب؟ وأننى أتصور، دون مبالغة، هكذا أقول لنفسى، أن مشروعى هذا لا يعنى أننى أتراجع؟ لا يعنى أننى أصبحت مرتزقا “قطاع خاص”؟ من الذى يصدق أن الحفاظ على عقل طفل واحد من التشويه هو إسهام معجز فى الظروف الحاضرة؟
أنا لا أعرف أطفال اليوم، أصاب بالفزع المشوب بالحسرة وأنا أشاهد أحيانا برامج الأطفال فى التليفزيون المصرى، كأن المسئولين عنهم لم يكونوا هم أنفسهم أطفالا فى يوم من الأيام، أخاف أن أكتشف أنى مثلهم، هل أنا كنت طفلا، أم أننى أتعرف عليه الآن، من أدرانى أن الأطفال الذين سوف أدرس لهم سوف يكونون أطفالا ؟!! مثلى؟!!
(= مثل من؟!
= لا آحد مثل آحد.)
-7-
عزبة “البكباشى”.
لم أسأل يوما من هو هذا البكباشى الذى سُميت هذه العزبة باسمه، ليس جمال عبد الناصر على أية حال، الرئيس ناصر غير العقيد القذافى، صحيح أنه لم يـرقِّ نفسه إلى رتبة مشير مثلما فعل لصاحبه، اكتفى بلقب الرئيس وأطلقنا نحن عليه اسم التدليل “الريـّس”، فأى بكباشى هذه عزبته؟ لم أسأل ولن أسأل، تعبت، الفاكهة مرصوصة على الشوادر، والبطيخ بوجه خاص يأخذ مساحة أكبر من كل أنواع الفاكهة المتراكمة، والقهوة صغيرة، والجلوس عليها خليط من السائقين، والعمال، والعاطلين، والصبية متعددى الهوية، هذه هى، هنا سأحتفل بمولودى الجديد.
وجهى غريب، لكننى أعرف أن أولاد البلد كلهم ذوق، سوف يتركوننى فى حالى مالم أنكشهم، هنا يولد “خـُوجـَة” خصوصى يحمل اسما حركيا يشبه اسمى، هو اسمه جلال أيضا، لكنه ليس هو مازال يكتب للصحافة من على مسافة، يترك مسئولية نشر ما يكتب لضمير العصر.
حلوة ”ضمير العصر” هذه، وهو سوف يعلم الأطفال ما يعلم، وما لا يعلم
يبدو أن هذه الليلة لن تنتهى، لنفرض أن الأطفال تحركوا فى تلك المساحة الهائلة من الجهل العظيم، ثم لنفرض أنهم حاولوا معى أن نبحث فيما لا نعرف بجد، أنا وهم، هم وأنا، ولنفرض أن أهلهم بلغهم ما نفعل، بلغهم أننا نفخر بالجهل لنخاطر بالمعرفة.
(= “لن يرحموك حتى ولو كانوا سبعينيين”.)
”أعرف، وأحذر منهم أكثر”.
لابد أن أعمل حسابى وأن أحتفظ بأغلى منطقة عندى بعيدا عن التناول، طول عمرى أفخر بقدرتى على تحمل جهلى سرا، أعرف كيف أخفيه وراء عدد من الأسماء والأحداث والأرقام أحيانا، لكنه ثروتى الحقيقية، لم أنجح فى أن أنتمى إلى عقيدة سابقة التجهيز، خصوصا عقيدة السبعينيين الذين ليس لهم عقيدة.
(= “بطــّل افتراء”.
= “طيب !! . قل لى: ما هى عقيدتهم بالضبط؟ خصوصا بعد ما كان”
= “تريد أن تعرف عقيدتهم لتتنكر لها كالعادة، إفرح يا سيدى، لم تعد لهم عقيدة”
= “أعرف لكنهم راحوا “الناحية الثانية”.
= “أية ناحية؟.
= “أنت مالك أنت؟”.)
أحضر صبى القهوة (ذو الخمسين عاما) كوب الشاى “الذى هو”، أحضرهُ “على ميـّهْ بيضا”، وتبادلنا التحية وفرحت فرحة خفية أنه لم يقل كل سنة وأنت طيب، من أين له أن يعرف؟ تحية واردة من أولاد البلد حتى بدون مناسبة، بالرغم من ذلك كنت سأنزعج منها، حتى وهو لا يقصد.
ـ نوّرتنا يا سعادة البيه.
ـ شكرا.
ـ أهلا وسهلا.
وضع الشاى وتركنى وهو يبتسم أدبا بلا تصنع.
ارتشفُ الشاى رشفة رشفة، عمل جوهرى ليس كمثله شئ، هكذا يكون شرب الشاى، كنت دائما أشربه وهو فى خلفية الكتابة، أو القراءة، حتى أننى كنت أنسى إن كان شايا أو قهوة أو لا شئ أصلا، الآن: أجد أن شرب كوب من الشاى هكذا يمكن أن يكون محوَر الكون، هكذا تملأ الحياة وعى النمل، والنحل، والصقور والصراصير، وكلاب الزينة، وذئاب الجبل.
ياه !! هل عشتُ كل هذا العمر بمنطقٍ مقلوب؟ كان ينبغى أن أعرف مِن البداية أن “الشاى هو الحل”.
ـ خيرا يا سعادة البيه تأمر بحاجة؟
ـ لا، أبدا، شكرا.
ـ يخيل لى أن سعادتك ناديتنى، أو لعلي سمعت خطأ، هل سعادتك كنت تضحك ولامؤاخذة؟
ـ تذكرت نكتة!.
ـ والله يظهر أنك ابن حظ، مع أنى أول ما شفتك صعبت علىّ من تكشيرتك، قلت لن تفك آبدا، فلما سمعتك تضحك، فرحت، أهلا وسهلا، فـُكَّهَا وحياة النبى، فكها ربنا موجود.
لم أقل له لماذا أنت متأكد هكذا؟
فرحتُ به حتى هممت بتقبيله، ولم أفعل، والحمد لله لم يبد علىّ ما يشيرإلى مثل هذا الاحتمال، وعلمتُ أن اسمه “صابر”.
-8-
عدلت عن السفر الليلة.
لا أحتمل الجلوس فى الكرسى وحيدا ثمانى ساعات، يفرض السائق علينا أفلاما حسب مزاجه، أو يفرض علينا صوت مقرئ متحشرج بعد منتصف الليل، أو كليهما.
أجدُنى أتوجه إلى ميدان التوفيقية بدلا من سوق السلاح، إلى عم إدريس، لا مانع، ليكتمل الاحتفال.
لا أجده، أفرح أنه فى إجازة، أحسن، لا أحد يعرفنى، أحسن جدا، اريد أن أأتنس بنفسى، سوف أفكـِّكُـنى فأكون كثيرا.
الزاوية البعيدة مظلمة، والنادل الجديد يخدمنى وهو يتصور أننى زبون جديد.
أتمادى دون رغبة حقيقية وأصل إلى الدرجة التى أضمن فيها أن أعود للمنزل بأمان، من ذا يستطيع ضبط ذلك بعد عبور خط الوسط؟
أعود للمنزل متمالكا نفسى، أو هكذا أتصور.
أجد نورا مضاء يتسحب من تحت عقب الباب، أنا لم أتركه كذلك.
لا أذكر.
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .