نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 9-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3964
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل التاسع
“مختار لطفى”
-1-
“لماذا أنا هنا؟” “نفس السؤال”، قاله كمال فى صدق وحيد حائر، وقالته نجوى فى خوف، وقاله غريب دون أن ينطقها، وأراه فى عيونهم فردا فردا، وأسأل نفسى قبلهم وبعدهم: “لماذ أنا هنا؟”.
كل واحد وله مشكلة، أنا أرفض أن يكون لى مشكلة أصلا، أختبئ أحيانا فى إجابات عابرة لا تعنى شيئا، تموت قبل أن تولد فلا تفيد فى التخفيف من سخف سؤال لا معنى له، عيونهم تريدنى كما أنا، وتتحدانى فى نفس الوقت، وتحاول أن تخلق لى مشكلة من لا شئ، لعلى هنا لأتأكد أنه لا يوجد حل آخر، لا حرية إلا بإلغاء كل قيد تماما، تماما، ألغيت الارتباط والمبادئ والأهداف مرة واحدة، صنعت منها لفافة مثل بقايا وجبة سمك: الشوك مع القشر مع الأمعاء، يبدو أننى كنت فى عجلة من أمرى حتى نسيت أن أستخلص اللحم الأبيض، إما أنى ألقيته مع اللفافة أو أن قطة بشرية انتهزت الفرصة فسرقته منى دون أن أدرى، لعلى هنا أبحث عنه، أبحث عن لحمى الأبيض فى حلقة السمك البشرية فى عيادة طبيب مخرف يحاول أن يصدق نفسه، لن أحصل على ذاتى بلا خوف إلا إذا تخلصت من كل شئ، كل شىء، حتى ذاتى نفسها، لا مفر من أن أتخلص منها، كيف أتخلص منها قبل أن أحصل عليها؟ أنا لست محاربا، أنا أرفض أن يكون لى قضية أحارب من أجلها، وجودى هو كل شئ من البداية إلى النهاية، هو ماهيتى وغايتى وقدرى، هل أنا بهذا أجعل منه قضية؟ ليكن، قضية قضية لكننى لن أدخل فى سبيلها معركة، المعارك تحدد وجهتى وأنا أريد أن أتحرك بلا وجهة، أريد أن أطير فى كل اتجاه.
”حريتى” هى زادى وسعادتى وثروتى وكيانى، علمنى والدى ألا أتنازل عنها بأى ثمن، والدى اغتال كل من تنازل عن حريته وراح يمارسها هو بالنيابة عنه، كان سجانا ممتازا وقحا لا يتردد، ظلت والدتى نزيلة قفصه الذهبى حتى ماتت، لم أتعرف عليها أبدا إلا من وراء قضبان، لم تتعرف على هى أبدا حتى داخل ذلك القفص الذى حبسها فيه والدى، كنت أتسحب داخلا خارجا منه لصغر حجمى دون أن يلحظنى أحد، هى لم تلحظ ذلك أبدا، نسيتنى تماما – أو هى لم تعرفنى أصلا – ربما لانشغالها الدائم بالتقاط بقايا وجبات والدى الشهية، كانت تلملم نفسها كالمأخوذة فى سعادة غبية، ظللت أنتظر منها أن تفيق من هذا الانجذاب بأى قدر لكنها كانت قد نسيت كل شئ، حتى أوقات إفاقتها كان أغلب كلامها متفجرات تطلق سيلا من الشتائم والتوتر الذى لا يهدأ إلا بعودة التنويم والانجذاب، كبرتُ وأنا أشاهد هذه التركيبة العجيبة وأتساءل عن حقيقة استسلامها، تجرأت، ذات مرة وفتحت لها القفص، وبدلا من أن تخرج منه كادت تقتلنى.
= لقد كبرت وأريد راحتك وسعادتك يا أمى.
- وهل اشتكيت لك يا أخى.
= أريد أن أعطيك بعض ما يمنحنى أبى من مال حتى تتصرفى فيه بما تريدين.
- “هو” يكفينى ولا حاجة لى بما تعرض على.
= كله من خيره، ولكنى أحس أنك لا تجرئين على الطلب منه يا أمى.
- أنت لا تعرفه، كبرتَ وكدتَ تـفسد، ظفره برقبة كل الناس.
= فلتكفى إذن عن الأنين.
- أنين ماذا يا أصم ؟ مالك بى أنت..؟ تشطـَّـر على خيبتك.
وتشطرت على خيبتى وخاصة بعد أن ترك مشكورا ما أعاننى عليها، أعفائى بما ترك من مال من معركة لقمة العيش، أعطانى فى حياته دروسا فى الحرية التى نصبها شركا للآخرين والأخريات، ثم فرضها علىّ بعد موته، حاولت أن أطبق طريقته الخاصة فى ممارسة الحرية فلم أستطع، تأكدت أنه يمارسها حتى لا يستطيع أن يمارسها مـَنْ حوله، حاولت أن أتزوج من شبيهة أمى وأن أمارس لها حريتها بالنيابة، فشلت فشلا ذريعا، شئ ما ثار فىّ حتى أفشلنى من البداية، عظمة أبى لن تتكرر، كان يطلق سراحهن فى الحجرة كما يشاء، (لم تكن أمى وحدها) ثم يرجعهن إلى القفص قبل أن يفتح الأبواب والنوافذ، أنا – بخيبتى – فتحت لامرأتى القفص عنوة فطارت لفورها، طارت بغباء لم تتمتع به أمى، طارت بلا أجنحة فوقعت تتخبط، ما أبشع منظرها وقد اختلطت دماء الإصابة بطين الكذب بنفايات البشر، وقفت أتأمل جريمتى فى هدوء سعيد وأنا أوقع ورقة الطلاق.
هكذا فشلت أن أكون أبى.
بدأت أسعى إلى حريتى بطريقتى الخاصة، حريتى هى وحدتى، جنتى هى سكونى، لا لغو فيها ولا تأثيم، كونى ينتهى عند أطراف أصابع قدمى، أسأل نفسى بعد كل ذلك “لماذا أنا هنا إذن”؟ يهتف بى صوت أبى فى حماس خبيث.
- أنت هنا لأنك تبحث عن الناس.
= جاءتك نيلة، تضحك على غيرى يا كذاب، أنت آخر من يتكلم عن الناس.
- كانت حياتى مليئة بالناس.
= العبيد ليسوا ناسا ولكنهم تكرار سمج لصورتك الأخرى.
- هذه الفلسفة ستحرمك من الحسنييـن.
= إشبع بهما، لن أكونك أبدا، أسعى إلى حريتى بطريقتى، زوجتى طلقتها حتى لا تصبح مثل أمى المسكينة.
- أمك لم تكن مسكينة يا غبى.
= أنت لم تعرفها على طول ما عاشرتها.
- لن تحتمل الوحدة وستقع صريع خيالك الأحمق.
= بل أحتملها فهى أفضل من كذبك.
- تشترى ناسا بعض الوقت فى عيادة مجنون، يا خيبتك، إنتظر ما يجرى لك،
= إطمئن، أنا قادر أن أفشل أى محاولة للاقتراب، من أى نوع.
- أنت حر، خيبت أملى فيك.
= هذا يسعدنى… جنتى ليس لك مكان فيها.
- أنت لا تفعل شيئا إلا أن تواصل الهرب، فلا تكون إلا مقلوب صورتى.
= هذا أملك الذى لن يتحقق أبدا.
****
- قل لى بربك يا غريب لماذا أنا هنا؟
= تسألنى؟ وأنا متورط مثلك تماما.
- إذن أنت لا تعرف مثلى؟
= بل أعرف مثلك!!!.
- إذن قل لى: لماذا نحن هنا؟
= نحن نتحدى محاولة مجهولة العواقب.
- لا يا شيخ !!؟
= محاولة فاشلة مسبقا، إلا أن فشلها هو عين النجاح.
- كنت أجد فى الأنفاس العطرة الزرقاء والماء الأصفر وتهاويم الخيال خير ونيس، فلماذا أحضر إلى هنا.
= لتتأكد أن المخدرات الكيميائية لتعديل المزاج هى خير وأبقى.
- فلماذا لا نتوقف بعد أن تأكدنا.
= لكل شئ أوان، أخاف أن نذهب مبكرا فنخدع فى تصور أمل ما فى مكان ما، لابد من التأكد من فشل كل البدائل، وبالنسبة لك، أمامك فرصة دائما لصيد ثمين.
- أعلم أنك تعنى إشعاعاتى الجنسية، لا أخفى عليك: إنه بالرغم من غمزات السنارة الأكيدة فإنها كثيرا ما تخرج خالية بعد أن يأكل السمك الطعم بنذالة.
=……
- لا مفر من المثابرة حتى تنضج كل الثمار.
=……
– ثم يقطفها غيرى، حتى ”الحاجة” فردوس ترفل فى روض الشهوة فيقطفها زوجها عبد السلام فى متعة سرية، ثم هو يتصنع الرفض الكاذب.
= زوجها يا أخى.
- لا تنس يا غريب أننا فى الهوا سوا.
= يا ليت، أنت لا تعرفنى، وإن كنا نتفق فى أن هذا الالتزام الزواجى أخبث وأنذل من أن نتحمله.
- جربته يا غريب، ولا أخفى عليك أنى أعيش لذة الانعتاق حتى الآن، أحتفظ بصورة ورقة الطلاق فى حافظتى طول الوقت حتى أتأكد من حريتى بين الحين والحين، لم يبق إلا أن أكـَـبـِّـرُها وأعلقها على زجاج السيارة.
= فلماذا تحسد عبد السلام على ”الحاجة” فردوس.
- أنا لا أحسده يا أخى، أنا أقرر أنه حتى هذه البضاعة الرخوة، التى تفتحت فى الزحمة هى ليست فى متناول من يعرفها ويقدرها حق قدرها.
= مازلت يا مختار تطمع فى صفقة سرية.
- لا أحسب إلا أنك أيضا تتمناها.
= لى ظرفى الخاص.
- أنا لابد وأن أوفـّق بين حريتى وحقى فى حريم الدنيا.
= تريد امرأة من نوع خاص؟
- بلا زواج ولا ارتباط.
= لى صديقة، أشعر أنكما أقدر على التفاهم.
- ماذا تقول بحق الطب والأطباء؟ كيف تواتيك كل هذه الشجاعة.
= قلت لك لى ظرفى الخاص، وأحب أن أضع الأمور فى نصابها.
- لا أفهمك.
= الشخص المناسب للشخص المناسب.
– لا أفهمك.
= أعتنق آراءك يا مختار ولا أستطيع تنفيذها.
- ليس لى آراء يا غريب، وأنت سيد العارفين.
= وهذا هو ما أعجب به على وجه الخصوص.
- لا أحتاج إعجابك، فهو يذلنى.
= كذاب.
- غريب؟!؟
ثم ماذا يا غريب، أنــا كذاب وإبن كلب، ماذا تقترح حتى أكون صادقا؟ لولا أنى أعرف أنك لا تستطيع إيذائى، ولا تحاول تغييرى، وأن خيبتك أكبر من خيبتى لخفت من رأيك فى؟ هل تريدنى صادقا لدرجة أن أعلن حاجتى لهمسة رضا أو لفته تقدير أو كلمة رغبة أدفع مقابلها كيانى وعمرى ووجودى؟ ما أمارسه ليس كذبا فحاجتى إلى تقديرك أو حتى حضنهم لن تذلنى ما حييت، الفرصة سانحة كما قلت وسوف أواصل البث حتى تلتقطنى محطات الاستقبال المناسبة، أقرب محطة جاهزة الآن تلوح لى فى عينى هى نجوى شعبان، تستمع إلىّ بشغف وأملى كبير فى شجاعتها التى حطمت بها عشها الصغير، لابد أن تكتمل هذه الشجاعة بأن تستقبل بثـى الدافئ، مطلــقه وجميلة وتحسن الاستماع وتعشق الحرية، ماذا تبقى لها لتكون ذلك الطير الخليق أن يحلق معى فى السماء الواسعة،
= يا نجوى أنت خسارة، قلت لك ألف مرة أنت خسارة.
- مازلت أفكرفى حديثنا آخر مرة عن الحرية والحيوانية.
= هل عرفت كم هو راق ذلك الحيوان المتناسق مع نفسه؟
- عرفت، إلاّ أن…
= لا لزوم لإلاّ، يقولون إنها مدخل الشيطان.
- هذا من صالحك.
= لا…. شيطانى واقعى لا يحب ”الاستثاء بإلا.” يحب حروف العطف وعلامات الضم.
- يا مختار، أنت لا يعنيك فى هذه الدنيا إلا هذا الشريط المعاد.
= هو أصل الحياة، ولابد من تعميق المعرفة من خلال التجربة.
- تجربة ماذا يا مختار؟
= تجربة معرفتك، “فى البدء كان الجنس”.
- بإذن شيطانك الغبى؟
= جربى.
- إبراهيم عنده حق.
= إبراهيم موتور مكبوت مدّع، لا تغرك مساعداته ومبادراته، كلها لحسابه، كلها لتضميد جرحه بلا طائل.
- حتى هذا، لو صح، فهو لا يخفى حقيقتك.
= ماذا تعنين بحقيقتى يا نجوى؟ أفسدك هذا الغبى المعقد المدعو “إبراهيم،
- لماذا تخاف من مجرد ذكر اسمه؟
= أنا لا أخاف، المحتاج هو الذى يخاف، وأنا ألغيت احتياجى من زمن بعيد.
- هلا نظرت فى نفسك قبل النوم وبعده.
= ماذا تعنين يا نجوى.
- أعنى أنك إن هربت من العالم كله فلن تستطيع الهرب من نفسك،
= لا تحاولى أن تخدعى نفسك بأن تختبئى فى الهجوم على الآخرين، هذه لعبة سخيفة ترددونها كالببغاوات.
- ماذا تريد، يا مختار.
= لا أريد شيئا.
- لا يا شيخ؟!!.
= أريد حريتك المقدسة.
- فى حضنك؟
= طبعا.
- اطمئن يا مختار، انطفأت حاجتى للرجال أمثالك ولا أملك لك إلا الاحتقار.
= هذه بداية الطريق المبهج.
- يقززنى عماك ودناءتك، وأنت لا تحس بأى مخلوق،
= أنظرى فى عينى تعرفين أنى أحس بك، وبجسدك الفائر الذى تدعين موته وهو يدعونى ويبعث فىّ الحياة حتى قاع وجودى.
- مختار يالطفى.
= نعم.
- الله يخيبك.
****
أفسدهن ذلك الوغد المدعو إبراهيم، لا فائدة وهو واقف لى كاللقمة فى الزور، حامى حمى الحريم، جبان موتور.
= ما هى حكايتك ياابراهيم؟
- خيرا يا مختار.
= أنا الوحيد الذى يفهمك وأنت تعلم ذلك.
- يجوز,أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنين، أن يفهمنى أحد، قل لى يا مختار من أنا؟
= أنت مجرم جبان.
- فقط؟!!.
= تسخر أم تميع الموقف بخبثك.
- أبدا، ولكنى أريد رأيك كاملا.
= وقواد وحقود خبيث.
- صحيح، إلا أنى أحاول فى المنطقة الأخرى أيضا.
= لا تخدع نفسك، فأنت تكبتهن لصالحك.
- هنّ؟ من “هنّ” يا مختار.
= كبتك وخوفك يحبس الأطفال فى مهودهم حتى تكاد تموت من الشلل والرعب.
- أنت تصور الأمر بمبالغة سخيفة، أنا لى أسبابى التى تخيفنى من الخيانة والغدر، وقد قلت لك إنى أحاول أن اخترق كل ذلك.
= أنت لا تستأهل إلا الخيانة، أى طائر يطير بعيدا عن حظيرة جبنك تعتبره خائنا.
- جرحِى عميق يا مختار.
= لا تتكلم عن الجرح فكذبك لا يطاق ومسكنتك مزرية.
- الحياة صعبة يا مختار ولا أستطيع أن أعيش وحيدا حتى بعد أن كان الذى كان، أنا أعجب كيف تطيق أنت كل هذه الوحدة؟
= أنت مالك؟، ثم من قال لك إننى وحيد؟
- هل نجحت أنت أو غريب أو كمال فيما فشلتُ أنا فيه؟
= أرفض تقييمك لفشلى أو نجاحى، معاييرك ياابراهيم يا طيب لا تهمنى.
- أنا أسألك عن معاييرك أنت، هل نجحت يا مختار؟ علـِّـمنى يا أخى،
= كفى تخابـُـثـًـا واستعباطا.
- أتحملك لأنى أقدر صدق محاولتك ولولا إيذاؤك لطفولة الآخرين لظللتُ بعيدا.
= حامى حمى العيال والحريم أنت، أليس كذلك؟
- منظرك وأنت تتوسل الرضا بالإثارة الجنسية يؤكد لى فشلك رغم ادعائك.
=راجع عجزك أولا، وأصلح نفسك قبل أن تعلن وصايتك على رعايا مملكة الخوف.
- الضحايا تملأ الشوارع والبيوت، والمجتمع القاسى يضرب فى عمى فى كل اتجاه وأنا مثل كل الناس.
= أمور لا تخصنى أنا أعيش وأحقق رغباتى، والضحية تريد ذلك.
- هكذا!!… تلقائيا؟
= نعم تلقائيا، أى فعل غير تلقائى هو حقير لا دوام له، التلقائية هى الأصالة.
- عنيد يا مختار ومحير، يا ليتنى افهمك، لعل هذا هو الطريق، هل نجحت؟
= كفى تخابثا، خوفك يمنعك من أى فهم آخر.
- احتياجك يمنعك من أى فرصة للتفاهم.
= أقوالك تتردد كالحكمة على أفواههن أضعتَ علىّ فرصا رائعة، قرفتنى الله يقرفك.
- أقول ما عندى، لأتيح فرص اختيار حقيقية، أليست هذه هى الحرية.
= وأنت تستعمل ذكاءك فى تكبيل عقولهن وكبت حرياتهن، أنت وحيد يا إبراهيم أكثر منى.
- صدقت، أنا وحيد يا مختار، وأسعى بكل جهدى لأكسر هذه الوحدة ليل نهار.
= بنشر تعليمات القمع ونشر أوهام أنت أول الواثقين من استحالة تحقيقها،
- سأظل فى المحاولة حتى النهاية.
= كلام فارغ.
…..
وغد لئيم، لن أتنازل عن حريتى حتى لو لم تنكسر وحدتى، الوحدة غذاء الحرية وبالعكس، أنت لا تعرف شيئا عن الحرية يا إبراهيم، ما أنت إلا مكبوت تكبت الناس لحسابك.
- 2 -
– إسمى صفية، قادمة من طرف صديقك غريب الأناضولى.
= أهلا، وسهلا، لكن.
- ولكن ماذا؟ حدثنى عنك وقال إنك تحتاج إلى امرأة من نوع خاص، وأنا من نوع خاص، ألا ترى ذلك؟
= هه…. لقد فهمنى غريب خطأ، لقد كان نقاشا لوجهات النظر.
-اعـْـتـَـبـِـرنى مجرد وجهة نظر من لحم ودم، جاءت تتفاهم معك مباشرة.
= تجربة مثيرة.
- أنت لم تر شيئا بعد.
ماذا فعلت يا غريب بالله عليك,؟ فكاهة؟ أم سخرية؟ أم تحد؟ أم تجربة؟ أم أنك تتغابى؟ ماذا تظن بى أيها الأبله؟ أنا لا أفهمك، ومع ذلك فلتكن التجربة والمصادفة أروع من الحقيقة والحسابات.
لم أضِعْ وقتا، وجدتها امرأة من نوع خاص فعلا، تفاهمنا بسرعة ولزم كل منا حدوده، تعودتْ على الحضور كلما ضاق بها الحال أو عز الصيد، ثم زادت فترات حضورها بل انتظمت تقريبا، ثم لم تعد تطلب منى نقودا ولكنها أصبحت تتصرف فى البيت كما لو كانت صاحبته، سألتها يوما لماذا كفت عن الذهاب إليك يا غريب؟
- أحسست بعجزى عن مساعدته تماما.
= مساعدته فى ماذا؟
- كان الألم يعتصره فى كل مرة وهو يواجه عجزه.
= هل يكون هذا هو السبب الذى دعاه لإرسالك هنا؟
- ربما.
=…. شكر الله سعيه..!.
- لا مجال للسخرية، هل أنت نادم على ذلك؟
= أبدا ولكنى أفكر فيه هو.
- أنا شخصيا ارتحت والشهادة لله.
= الحمد لله أنها راحة فحسب.
- ماذا تعنى؟
= كنت أخشى أن تدعى حبى.
- أنت تعلم أنى أحب غريب أولا وأخيرا.
= هنيئا له من بعيد لبعيد.
- أما أنت فطريقتك فى الحياة تعجبنى.
= ليس لى “طريقة” فى الحياة.
- وكذبك هذا أيضا يعجبنى.
= حتى أنت يا صفية تتهميننى بالكذب.
- الكذب ميزة وليس تهمة ياأكبر حر.
= هل كذبت عليك؟
- طبعا.
= فى ماذا، ذكـرينى.
- فى إدعائك إهمالى، وتصنعك التجاهل حين أتأخر أو أغيب.
= هذا بديهى.
- تقدمنى لأصدقائك على أنى خادمة نصف الوقت.
= لابد من تفسير لانتظام مجيئك أمام الناس والجيران.
- هذا أريح لى، أنا فقط أذكرك ببعض التفاصيل حتى لا تتمادى فى ادعاء الصدق.
تعودت عليك يا صفية والذى كان قد كان، لابد من رسم خطة إطلاق سراحى بسرعة، أنا لا يخفى على كيف تتطور الأحداث، وها أنت تسدين نقصا هائلا فى حياتى، لابد أن أفكر عشر مرات قبل أن أتخلص منك، تخلصت من زوجتى قبلك بأن طيرتها دون أجنحة، أما أنت فأجنحتك أكبر من طائرة بوينج، سوف أرتب أمورى حتى أطير أنا، جاء دورى.
- أحيانا أفكر أن أكتفى بوجودى هنا، ولو فى ليالى الشتاء الباردة.
=….
- ولأكن خادمة “طول الوقت”، أنا لم أنس عملى الأصلى.
= عرض مغر ولكن المقابل قد يكون خطيرا.
- لا مقابل إلا اللقمة والصمت.
= وماذا تجنين من هذا؟
- وماذا أريد أكثر من هذا؟
= أشك فى نواياك.
- أريد إجازة طويلة من دورى “العام”، ولن أكلفك شيئا.
=…. لا….. لا….لا مانع…
- نكتب بنود الصفقة حتى لا نختلف.
= عندك..عندك؟ لم يبق إلا المأذون.
- لا تخف فلست غبية حتى أتزوجك.
لم أنتهز الفرصة، ولم أطمئن، بل زادت شكوكى، هى لا تطلب منى شيئا ولا تتعدى حدودها أبدا، يحسدنى أصدقائى عليها ولا يستطيعون إخفاء معرفتهم لطبيعة علاقتى بها، أخذت أفكر – بالرغم منى – فى طبيعة علاقتها بغريب ولماذا تكن له بالذات كل هذا الحب ؟ هل كانت ستحبه بنفس الدرجة لو أنه لم يكن عاجزا، حب هذا أم شفقة؟ هل الذى حافظ على حبها له طول هذه المدة أنه لم يدخل الامتحان الحقيقى: حب مع وقف التنفيذ، مالى أنا؟
ضبطت نفسى متلبسا مرة – أو مرات – بأمنية أن تحمل لى صفية بعض هذه المشاعر، ولكنى طردت الفكرة فى ازدراء.
= ألا تذهبين إلى غريب الآن البته يا صفية؟
-…. إطلاقا.
= لماذا؟
- قلت لك لأنى أحبه.
= أحيانا يتحرك فى داخلى شئ غامض حين تتكلمين هكذا بحرارة عن حبك له.
- إلى أين أنت ذاهب يا سى مختار، هأنذا أرد إليك جميل تحذيرك، حذار من الخروج عن بنود العقد، لا حب، ولا مقابل، ولا يحزنون.
= لم نتفق على حكاية “يحزنون” هذه.
- نضيفها للعقد يا سيدى ومولاي.
= لست سيدك ولا مولاك.
- ألست خادمتك؟
= أمام الناس.
- ووراء الناس: ماذا أنا بالنسبة لك؟
= إنسانة صادقة.
- هل تأكدت من صدقى؟
= كل تصرفاتك تدل على أنك لا تكذبين.
- أنت أعمى يا مختار،
= نعم؟ نعم؟
- لا ترى إلا ما تريد، حتى فى السرير.
= ماذا تريدين قوله.
- لا شئ.
بعد هذا الحديث: بدأت أراجع علاقتنا، خائف أنا، كنت أحسب أننا يمكن أن نعيش معا دون أن يكون هناك “علاقة” قابلة للفحص أصلا، كانت مفاجأة خبيثة حين أدركت أنها تقدم لى جسدها باحتراف خال من أى إرادة، فى تلك الليلة بالذات، نظرت إلى عينيها أتأكد من ظنونى فوجدتها تتفرج على من بعيد وأنا مزهو برجولتى، لم أحتمل نظراتها ولم أستطع أن أكمل الشوط.
= ماذا تقول عيناك يا صفية؟
-…. ربنا يعطيك العافية، لا تفتح الجرح يا مختار وخذ حاجتك دون تردد.
= لم أعد أعرف ما هى حاجتى؟
- حديث عيناى ليس من بنود الاتفاق، فلا تفسد ما بيننا.
= ماذا “بيننا” يا صفية؟
- خادمة بلا أجر، على أن تشمل خدمتها طلبات السرير.
=… هذا صحيح,… ولكن…. ألست أنت التى نبهتنى إلى طبيعة ما يجرى؟
- كنت تتحدث عن الصدق والكذب، فحدثتك عن عماك.
= أفسد ذلك كل شئ.
- لا تبالغ فإنى مستعدة للتكفير عن خطئ بأن أدفع ضعف الحساب.
= ضعف ماذا؟ ونصف ماذا؟
- ضعف الحساب…. أرضيك أكثر (!).
= يبدو أن علاقتنا بدأت تتعدى كل ذلك.
- كله إلا الحب، لقد تجاوزنا كلانا مثل هذا الكلام الفارغ، لا مكان للكذب والخداع بيننا.
= التعود أقوى وأخطر من الحب.
- أخشى أن تكون النهاية قد بدأت، أنا لا أنكر أنى أفضل أن نستمر هكذا، لا أكثر، ولا أقل.
= لماذا..؟
- سريرك المضمون أفضل من وقفة الأرصفة والكرسى الخلفى للعربات، خاصة فى ليالى الشتاء.
= أهذا كل ما أعنيه لك؟
- هذا هو الاتفاق.
= ليس تماما..
- بل تماما ونصف، أم تريدنى أن أدفع مقابل دفء سريرك أيضا!
لم أنجح بعد تلك الليلة، بدأت أحس بالخوف كلما هممت بالاقتراب منها، أحسست بالخطر ولكنها لم تتنازل عن النوم فى سريرى حتى فكرت أن أتركه لها إلى الأريكة التى فى الصالة، لو كنت زوجها لطلقتها دون تردد، ميزة الزواج أنه يحتمل الطلاق، لا أدرى ماذا أفعل الآن.
هى لا تطالبنى بأى شئ.
أى تجربة قذفتنى فيها يا غريب حتى تختبر آراءك، أوقعتنى فى المصيدة وأنا الثعلب المراوغ إلى الأبد، ولكنى متأكد أنى لن أعدم حلا.
-3-
قالت لى ملكة مناع.
-…. آراؤك كلها لصالح غرائزك.
= تخافين من رغبتك فى الحياة وفى الحب الطليق، مصهر الجنس هو الطريق إلى الحقيقة.
– غالى يقول إنى باردة.
= لم يعرف الطريق إلى مفاتيحك.
تعجبت من نفسى وأنى ما زلت قادرا على أن أقول نفس الكلمات بسهولة وثقة، غالى لم يعرف مفاتيح ملكة وهأنذا أحدد العيب وأعد اللمبات المحروقة، وأتهيأ لإصلاح هذا الجهاز الأنثوى حتى أسهل المهمة لغالى فيدير مفاتيحه بنجاح، فأين مفاتيحك يا صفية؟ مع أن جسدك هو رأس مالك ولابد أن مفاتيحه ظاهرة للأعمى.
ماذا تنوين أن تصنعى بى يا صفية بعد أن تعودت عليك؟، يشغلنى ليل نهار البحث عن وسيلة للتخلص منك دون أن تشعرى، شريطة أن أكون قد تهيأت تماما لهجرك النهائى.
لا أكاد أتصور ذلك فى الوقت الحالى، إلا أننى لن أعدم وسيلة.
****
عادت “فؤادة” فجأة وكأن القدر أرسلها لتنقذنى من الدوران فى هذه الدوامة الجديدة.
= أهلا يا فؤادة جئت فى وقتك.
– أنهوا مهمة البعثة الصحفية قبل أوانها لأسباب مادية.
=…. الحمد لله على الفقر.
- لا أدرك ماذا تعنى فقد كنت أتمنى أن أكمل مهمتى، كنت بدأت كتابة شئ مبشر، كانت رحلة صحفية لها كل مبررات النجاح.
= أتكلم عن أشياء شخصية، فأنا أحوج ما أكون إليك الآن.
- تتكلم عن الاحتياج يا مختار، أنت سيد الاستغناء، ماذا جرى لك.
= ظرف طارئ وسيمضى.
- تغيرت يا مختار أثناء غيابى فماذا جرى؟
= قلت لك جئت فى وقتك ويكفى هذا الآن.
عادت علاقتى مع فؤادة أبو النصر المحررة فى مجلة الصباح أقوى مما كانت، كنت أتعمد أن تعد صفية لنا كل شئ، لم تتردد أو تضجر أو تتساءل أو ترفض بل أصبحت أكثر هدوءا واستقرارا بعد أن ابتعدت عنها، كنت أحسب أن عودة فؤادة، وانقطاع علاقتى بصفية سوف يساعدنى على التخلص منها فورا ولو بالطرد الوقح، لم يحدث شى من ذلك، ذكاء فؤاده لم يخطئ موقف صفية.
- صفية يا مختار.
= مالها؟
- فى عينيها شئ غامض.
= إياك أن يجرى لعابك الصحفى على بيتى وخادمتى.
- فى كل مرة تقدم لى شرابا أو طعاما أكاد أقرأ فى وجهها نداء ما.
= لا أكتمك أنى قلق من ناحيتها فقد بدأت تتعلق بى بشكل مبالغ فيه.
- لا أخال الأمر بهذه البساطة.
= ماذا تريدين قوله يا فؤاده؟
- أرجو أن تعرف ماذا تفعل يا مختار على وجه التحديد.
= لا أفهمك.
- أحسن.
= رجعنا إلى الجدل العنيد ولم تمض على عودتك بضعة أسابيع.
- كنت متأكدة منذ البداية أنك لن تحتمل أكثر من ذلك.
= علاقتنا حرة، وهذا يجعلها أقوى من أى عهود.
– ليس بيننا علاقة يا مختار، فلا تخدع نفسك.
=… هل تذهبين يا فؤادة؟
- لا أنتظر إذنك على أية حال.
ما هذا كله؟ ما الذى جرى لى هذه الأيام؟ النحس يحيط بى من كل جانب، ولكن الشياطين مجتمعة لا تستطيع أن تشككنى فى طريقى، لو ظللت أجتر الفشل بقية حياتى فلن أتراجع، لست وحدى الفاشل، كل من “بالمجموعة” حضروا هنا لأنهم فشلوا، لعل هذا وحده يرد على التساؤلات الحائرة بلا إجابة، لعلى أحضر “هنا” لأشارك الفاشلين فشلهم، مفاتيح صفية مغلقة منذ البداية، لم أكتشف ذلك إلا مؤخرا، وفؤادة تهم بالهجر، ولا أدرى متى تعود؟ نجوى شعبان أصبحت بعيدة المنال ويبدو أن علاقتها تتطور بإبراهيم بشكل محسوب، بسمة الطفلة العذبة تنظر إلى بشفقة وكأنها أكبر منى بخمسين عاما، حتى ملكة مناع صاحبة المبادئ التقدمية جدا تمارس مبادئها فى استعادة أرض زوجها بلا زيادة.
رقصتَ على السلم يا مختار يا ابن لطفى، لم تنجح فى استعمال الناس مثل أبيك، كما فشلت فى إغراء الناس بالكذب والمناورة، ثم ها أنت تعجز عن إثارة النساء أو إرضائهن حتى النهاية.
من أنت يا مختار؟ ولماذا؟
لماذا تفشل نفسك قبل أن تبدأ كل مرة؟ هل هذا هو سبب مجيئك إلى هنا؟ لتبحث أسباب فشلك أم لتؤكده؟ والدى كان ناجحا على حساب أمى ولابد من أن أنتقم منه، تـرى هل يتم ذلك بأن أفشل، فيلحق به فشلى وكأنى أفشله هو فى قبره؟، حينما أحاول أن أحطمه لا أحطم إلا نفسى.
مادمت هنا بينهم والدنيا تضرب تقلب: لماذا لا أستغل الفرصة وأعلن فشلى أو أكسره، ما فائدة هذا التكرار السخيف؟ كل أسبوع، كل أسبوع، ومع ذلك أصر على المجئ، إذا قررت أن أفعلها وأشارك فلمن أعلن هذه المصيبة؟ لشيخهم الخبيث أم لإبراهيم اللدود؟ أين أنت يا غريب؟ لم ذهبت وتركتنى بعد أن لعبت هذه اللعبة البشعة، هل أذهب إليك أسألك وألعنك وأرد لك الهدية بأحسن منها؟
****
لابد من المحاولة، وها هى ذى المساعدة الذكية إصلاح فاضل، تلميذة مجتهدة ولكنها لا تعطينى إلا شعورا أمويا هادئا.
=… أرجو أن تفهمينى يا إصلاح.
- أحاول طول الوقت يا مختار، صدقنى.
= مشكلتى أنى أعبد حريتى.
- لا تتحدث يا مختار عما لا تعرف.
= ماذا تقولين يا إصلاح؟
- أقول إنك لا تعرف معنى الحرية ولا تحتمل عبئها.
= أنا؟ أنا أتحمل عبئها وحدى حتى كدت أتحطم من أجلها.
- الحرية بناء يا مختار.
= الحرية هى اللاحدود حتى النهاية.
- هذا هو الذى لا يتحقق إلا بالموت.
= لو كان الموت ثمنا لها لدفعتـه عن طيب خاطر.
- كفى خداعا.
= أنا ما كلمتك يا إصلاح إلا بعد أن لاحظت رفضك لتعليمات أستاذك وهو يحاول أن يثبت رجليك إلى أرض الواقع البشع.
- أنا أعارض أستاذى لأتعلم، أنت أيضا علمتنى الكثير.
= أنا؟ … علمتك؟
- طبعا، علمتنى كيف يكون الهرب الجبان سباحةً فى فراغ المطلق.
= يبدو أنى خدعت فيك أنت الأخرى يا إصلاح، خدعتنى مناقشاتك مع أستاذك وحماسك المتناهى بلا حدود، هل تراجعت عن موقفك فى طلب المطلق.
- معك؟، نعم، المطلق غير فراغ المطلق.
= ماذا تعنين، هل تغيرين مواقفك مثل الجوارب والأحذية حسب المناسبات.
-…. أنا حرة، أليس كذلك؟
= أشرب دائما من نفس الكأس، ما عليك، سوف أتفرج عليك حتى النهاية حين يجرجرك هذا التراجع إلى قفص الزواج الفولاذى.
- حسبك…. لن أنزلق أبدا خوفا منك أو منهم، لا إلى الزواج التقليدى ولا إلى حريتك المزعومة.
=… النصف الأول من رفضك هو الذى شجعنى على الحديث معك، ولكن يبدو أن الأمر أصعب مما نتصور.
- صعوبة أى أمر لا تبرر الهرب منه تلقائيا.
= هل أفهم من ذلك أنك ستتزوجين يوما ما؟
- ولم لا؟
= خيبت أملى يا شيخة، كلكن سواء حتى صفية.
- صفية؟، من صفية؟
= إنسانة لا تعرفينها.
- إحساسى يقول إنى سمعت عنها من كمال.
= هل تعرفينها يا إصلاح؟
- ربما.
= لعلك تقصدين من “غريب”؟
- بل كمال، قابلها عند غريب وحدثنى عنها حتى خجلت من صدقها وبؤسها وهى تمارس حياتها العملية الشريفة، ونحن هنا نتبادل أحاديث الوجهاء، هل هى هى يا مختار؟
= لعلها هى، شغلتنى فأنا لا أعرف لها حكاية مع كمال.
- كيف حالها، قل لى بربك كيف هى؟
= بخير، ولعلها هى التى ألجأتنى إليك.
- هى؟ كيف؟
= قصة ليست للحكاية، مشكلة سوف أحلها بنفسى.
- حاول يا مختار، فلعلك تجد ما تريد حقا، أو تراجع نفسك منذ البداية.
حتى أنت يا إصلاح، حتى أنت تغرينى بمراجعة نفسى، ومنذ البداية؟
أنت لا تعرفين متى كانت البداية ولا كيف، أحاول أن أتذكر فلا يخطر على بالى إلا جبروت والدى وخوف والدتى المستسلم، متى بدأت عبادتى لذاتى وحريتى؟ لا أكاد أتذكر إلا أنى اضطررت أن أكون حرا منذ كل العصور، أهملنى الجميع حتى أصبحت حرا جدا، أى اقتراب منى يذكرنى بالتهام والدى لوالدتى، أحس أن بداخلى كليهما معا.
ما ذنبى أنا يا خلق هوه.
-4-
= عندى صنف الليلة يا فؤادة سوف يرفعنا إلى السماء التاسعة.
- ذهابا وإيابا أم ذهابا فقط؟
= المصيبة الكبرى فى الإياب.
- لا فائدة فيك يا مختار، أريد أن أبحث معك……
= يا ساتر استر، خذى نفسين أولا وحافظى على الطافية ثم نبحث ماتشائين ولو حتى شئون أنجولا أو مشكلة عجول البحر على شواطئ النرويج.
تبحث ماذا هذه الصحفية محررة أوهام الناس، عدة أنفاس ويبدأ البحث الحقيقى، البحث لا يكون إلا فى الداخل ولا بد للسفر إلى الداخل من ركوب البراق، والبراق هو مطية الست المفضلة موديل 1974، سبسيال، وطائرات الفانتوم المستوردة من شارع الشواربى تسير بالطاقة الشمسية.
- أين ذهبت يا مختار؟
= معكى على الخط يا صفية.
- لست صفية…أنا فؤداه.
= ” فؤداه صفية…. صفية فؤاده.
تطور شوية…حرية زيادة،
حشيشة هنية، والوحدة سعادة “.
- ما هذا التخريف الذى تقوله يا مختار، لم أعهدك هكذا أبدا مهما شربت،
= أتصنع الخبل لأقرض الشعر، لم يبق أمامى إلا أن أرسم، ثم أكتب الموسيقى.
- لا تزودها يا مختار.
= هل تعرفين من هو أول من قرض الشعر حسب نظرية التطور لأبينا القسيس العنين تشارلس ابن داروين.
- ماذا تريد أن تقول…؟
= اسألى كمال نعمان.
- اسأل من؟
= كمال نعمان.
- كمال نعمان؟ ما هذا الخلط يا رجل هل تعرفه يا مختار؟ إنى من المعجبين به ولكنى أفتقد شعره هذه الأيام، هل هو فى رحلة فى الخارج؟
= فى الخارج جدا يا ست الكل.
- كفى مزاحا، أنا أسأل جدا.
= أقول لك الحق كل الحق ولا شئ غير الحق: تعين كمال نعمان خارج الهيئة العامة لقرض الشعر، بوظيفة مريض ممتاز عند طبيب مجنون، ولا عزاء للسيدات.
- مختار…. المسألة اليوم ليست مسألة سيجارة حشيش، إما أنك فعلا تتصنع أو أن عقلك اختل.
= الاثنان معا يا سيدتى، يا سيدتى: هل لك فى قدح من الجعة الباردة أيضا؟
- يبدو أنى سأضطر للذهاب إذا أصررت على التمادى.
= صفية، يا صفية هذه سيدتى الجميلة تصر على الذهاب قبل الزفاف، فهى ناشز وأشهدك على ذلك لزوم طلبها فى بيت الطاعة،
- لست زوجتك يا غبى، فكف عن أحلام والدك البشعة.
= بسيطة، أتزوجك فى التو، على شرط أن أتزوج صفية فى نفس اللحظة، آمن وأحدث طريقة للزواج منعا للتسمم والمضاعفات: إذا اضطررت لأخذ السم النسائى دواء فضاعف الجرعة تنجو، هذا ما جاء فى تذكرة دواود العصرى ابن خالة أيوب المصرى وزوج عمة أبو حيان البصرى.
-……. هذا فوق الطاقة،
= إنتظرى، والله إنى جاد، نحضر المأذون الآن ونكتب الكتاب جماعة، ندفع الربع، والباقى على سنة وربع.
- قلت لك إن فى الأمر شئ.
= عليك نور على نور، يهدى الله لنوره من يشاء، اسألى إبراهيم الطيب، إن فى الأمر شيئا، وشيئا إسم إن مؤخر، وأنا لن أكتب المؤخر لأنى سأطلقكما فى الصباح معا.
- ليست المسألة سيجارة حشيش وأقسم على ذلك.
= دعينى آخذ تعسيلة حتى يحضر المأوذن.
****
أفقت فى الصباح فوجدتنى ملقى على الأريكة فى الصالة كما أنا بملابس الأمس، أخذت أتبين ملامح الحجرة بصعوبة حتى ظهر وجه صفية وهى جالسة على الأرض بجوار رأسى، هززت رأسى واعتدلت فى جلستى سريعا وتذكرت كل شئ منذ هربى الأول، ظلت صفية صامتة هادئة، أحسست برغبة جارفة فى أن ألقى برأسى فى حجرها، فعلت، وانفجرت باكيا، لم تتحرك صفية وظلت ساهمة تفكر فى شئ ما، رفعت رأسى فى إصرار جاد.
= هل تتزوجينى يا صفية؟
- انتظر ياسى مختار حتى تكتمل إفاقتك.
= أنا لم أكن واعيا ولا يقظا مثلما أنا الآن، وإنى جاد فى عرضى الزواج منك
– هذا فصل جديد فى حلقات معادة لدرجة الإملال.
= لن يتغير شئ من واقعنا فماذا تخشين.
- ما لزوم الزواج مادام لن يتغير شئ.
= إتماما للتجربة.
- أية تجربة؟ يا سيدى، خلها على الله.
= فى الواقع إنى أتساءل عن السبب الذى يمنعك أن تعطينى نفسك تماما.
- هكذا هداك ذكاؤك إلى أنى أنتظر الإذن من المأذون؟ أليس كذلك؟ يا سيدى: أنا أعطيك جسدى حسب بنود الاتفاق الشفوى.
=… غير صحيح أنت لا تعطيه تماما.
- لم ترد حكاية تماما ولا جدا فى أى بند بيننا فلا تفسد الاتفاق بتصورات سخيفة.
= أنا أعرف ما أقول.
- وهل الزواج سيجعلنى أعطيك جسدى وروحى ببصمة على ورقة؟ لا تنسى أنى لا أفك الخط.
= تصورت أن الزواج قد يعطيك أمانا أو يؤكد لك صدق عواطفى نحوك.
- صدق ماذا ياسى مختار؟ اسم الله عليك.
= ألا تصدقينى والدموع مازالت على خدى.
- يتبخر كل شئ بتبخرها، لا تنس أنى ابنة كار ولكنى فقط فى إجازة ولم أنس أصول اللعبة.
= أنا أعنى ما أقول يا صفية.
- تعنى أن تتزوجنى أنا؟
= وماذا فى ذلك؟
- وماذا تقول لأصدقائك؟
= لن أقول شيئا، لست ملزما بقول شئ لأحد.
- زواج سرى؟
= مجرد طمأنينة لك.
- أم لك؟
= لا أنكر أنى أخشى اليوم الذى ستتركينى فيه، أريدك كاملة بلا نقصان، حتى فؤادة لم تملأ الفراغ الذى يتهددنى بعدك، لقد تعودت عليك.
- تعودت على ماذا؟ وأنت لا تعرفنى.
= دعينا من التفاصيل، هل تقبلينى زوجا.
-…….. دعنى أفكر.
****
هل جننت حتى أعرض عليها الزواج دون مبرر؟ أى شئ ينقصنى؟ التحدى يكاد يقتلنى، لا أستطيع أن أنسى نظراتها الرافضة يوم فشلى، لابد وأن ألف حولها حتى تلين ثم أحس بحريتى وأتخذ قرارى النهائى، لا يخلو الأمر من فائدة، لعلها تقبل فأجد مبررا لطلاقها فى حينه، أو لعها ترفض فأجد مبررا للتخلص منها احتجاجا مثلا، مغامرة مجنونة لكن نهايتها فى يدى، وسوف تنهى هذا الموقف الفظيع على أية حال.
تمر الأيام ولا يبدو على صفية أنها تنوى الرد، حتى مجرد التفكير لا أحس أنه يشغلها وكأن الأمر لا يخصها.
رجعت فى تلك الليلة بعد جلسة علاجية حامية انفجر فيها عبد السميع إثر كلمة رفض عابرة من بسمة قنديل، آخر شخص كنت أتصور أنه يحمل أى طاقة من أى نوع، أذكر أنى خفت على نفسى خشية أن يقتربوا منى أكثر فأكتشف فى داخلى أى شئ آخر غير ما أعرف فأتفجر مثله دون علم منى.
رجعت ملهوفا إليها لعلها تحمينى منهم ومن أى احتمال آخر، هجومها على ورؤيتها لى أهون ألف مرة من هذه الفضيحة المحتملة بين هؤلاء، دخلت عليها فإذا بى أجدها نائمة كالملقاة على الأريكة فى الطرقة الموصلة إلى حجرة النوم، لونها شاحب لا يكاد يتميز من لون الوسادة البيضاء، عيناها غائرتان، صعقت من منظرها حتى كدت أتراجع خارجا.
ردت بصوت لا يكاد يسمع.
- يبدو أنى أكلت شيئا فاسدا.
= ماذا حدث؟ خبريني!!.
– لا شئ، ولكنى لم أستطيع أن أقوم لمسح باقى القئ وسوف أقوم بعد قليل.
= لا تكادين تقوين حتى على مجرد الكلام، هل أستدعى طبيبا؟
- أرجوك، أنا بخير، عمر الشقى بـَـقى، فى الصباح كل شئ سيكون على ما يرام، إبعد عن هذه الرائحة الكريهة، واذهب أنت إلى حجرتك، فى الصباح سأوقظك كالمعتاد.
ذهبت إلى غرفتى جزعا خائفا أحاول أن أنسى وجودها أصلا، خيل إلى أن أى تدخل فى حالتها سوف يحرمها من اختيارها، شربت، شربت، شربت، حتى يلطشنى النوم وأمضيت ليلة لم أستطع أن أميز فيها بين الحلم واليقظة، اختلط على صوت كالقئ مع زئير لبؤة فى القطب الشمالى.
استيقظت متأخرا وما كدت أخرج حتى وجدتها: ملقاه على وجهها فى الأرض وقد غرق كله فى القئ الأسود والأخضر العفن ويدها متقلصة على الخيشة، هززتها بعنف فتحرك جسدها باردا فى يدى وانقلبت على ظهرها وأنا فى حال.
ماذا حدث؟
فعلتيها يا صفية بذكاء مجرم، وفى الوقت المناسب.
****
رجعت من مدافن الصدقة مع غريب بعد إجراءات معقدة، كاد البوليس أن يتخذ موقفا سخيفا لولا البطاقة التى وجدتها فى ثيابها مع عنوان غريب، تولى غريب باقى الإجراءات وأنا فى ذهول، لم يتعرف أحد على أهلها فمر الاستجواب بسلام إذ يبدو أن البوليس لا يهتم كثيرا بمن لا أهل له، كنت أسير راجعا مطأطئ الرأس وغريب مازال يذرف الدموع فى صمت.
= مازلت محتارا يا غريب فيما حدث، حياتى تكاد تنقلب رأسا على عقب.
- كانت شجاعة فى حياتها، شجاعة فى موتها.
= يبدو أن هذه هى الحرية الوحيدة المتاحة، حرية الموت…
- من يدرى؟
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).