نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 8-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3963
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الثامن
“بسمة قنديل”
-1-
– ماله يا ابنتى؟، عريس لقطة.
= لا اعتراض لى عليه ولكنى لا أريد “هذا”.
- هذا..ماذا؟، أريد أن أطمئن عليك قبل أن أموت، أنا صاحبة مرض، وأنت تعلمين.
= إطمئنى يا أمى، أنا أعرف طريقى.
- ما هذا الكلام يا ابنتى؟، أنت بنت متى؟، أنت لا تعجبينى هذه الأيام، كأنك تحملين هم الدنيا على رأسك يا روح قلب أمك.
= مادام فى الدنيا هم يا أمى، فلا بد أن يحمله أحد،
- ماذا تقولين يا ابنتى، خل الهم لأصحابه، أنت شابه، وأمامك العمر كله.
= وأنت يا أمى؟،
- أنا انتهيت والحمد لله،
= انتهيت من ماذا؟
- من واجبى نحوكم، أريد أن أطمئن عليك، بسمتى آخر العنقود، ثم يتذكرنى الذى لا ينسى .
= كلامك يقطر مرارة يا أمّى.
- استغفر الله ماذا بك يا ابنتى؟
= عاجزة عن مساعدتك.
- نعم؟، نعم؟، من الذى يساعد من؟، الله يسامحك، أنت بسمتى يا حبيبتى،
= أنا بسمتك، وأنت شقائى،
- اللهم اخزك يا شيطان، ماذا تقولين؟، كل هذا حتى لا تقبلى ذلك الشاب اللقطة.
= وأنت؟ … لقد تزوجت زين الرجال،
- الحمد لله….. ربنا يطول عمره، ماذا جرى لك؟، هل يصل الأمر إلى لمز أبيك؟، لا…. لست أنت بسمة.
= أنا آسفة، ولكنى لن أقبل هذا أبدا.
- هذا ماذا؟، ماله يا ابنتى؟ شاب مستور، أعرف عمته منذ كنا فى مدرسة المعلمات معا، وهو من عائلة فاضلة تعرف الأصول،
= أتركينى الآن يا أمى … الله يخليك،
- سبحان الله…. أنت حرة، سوف تندمين.
وأنت يا أمى ألا تندمين؟، أنا أُشْـبـِـهـُـك وأخاف منك، أخاف أن ينتهى أمرى إلى ما أنت فيه الآن، لم أرك فى حياتى تشعرين بشئ لك، لك أنت، أنت لا تقولين قولا من داخلك أبدا، شقاؤك يتحرك فى كل مكان، يوهمك ويوهمنا أن الحياة تسير، يارب ماذا أفعل لها، يارب لم جعلتنى أرى الآن هكذا،…. كان مجرد حديث عابر بينها وبين أختى المتزوجة، أمى هذه لم تسعد أبدا، كتلة من الشقاء تتحرك، ترشو أبى بالمديح والتأليه والطاعة طول النهار حتى يعفيها من متطلباته ليلا، وجهها مازال ينبض بالحياة بالرغم من كل شئ، وراء كل تجعيدة أخدود من الألم والحسرة، شعرها ناصع البياض يذكرها بالنهاية، ولكن مشيتها الريفية تمضى فى قفز مستمر تتحدى.
لماذ لم تستسلم بعد؟، لماذا تصر بالرغم من مقاومتها أن أكرر نفس مأساتها؟، هل تريد أن تطمئن على أنه ليس هناك حل آخر؟، إننى أعتقد أنها تعى تماما بؤسها وشقاءها فلماذا تصدّره إلى أعز الناس إليها على حد قولها، لماذ تصدّر ما فشلت فيه…؟، كل تصرفاتها وطريقة انتقائها تؤكد الفشل، سمعتك يا أمى وأنت تقولين لأختى فى صدق حكيم بائس إن المرأة هى الأولاد والبيت وراحة الزوج، وأن على أختى أن تقفل أذنيها ومشاعرها عما عدا ذلك، هل وظيفتك يا أمى بعد طول هذا الكفاح أن توزعين اليأس بالتساوى؟، ياليتك قلت هذا الكلام وأنت تلبسين قناع البلادة والاستسلام مثل خالتى أم حسين، أو جارتنا الست جليلة، أو حتى مذيعات التليفزيون، أنت غير كل هؤلاء، أنت دائمة الحركة دائمة الحديث دائمة الشجار عظمية الشقاء، ثم تصرين على تكرار المسرحية بنفس فصولها، تـُـرى هل يداعبك أمل ما…. لا أعرفه…؟
= هل هناك أى أمل يا أمى؟
- فى ماذا يا ابنتى..؟، الله يهديك، مازال العريس يرسل المراسيل .
= لا يشغلك إلا عريس الغفلة، أنت لست معى يا أمى أصلا.
- بل أنا معك ولا يشغلنى إلا هناؤك، فكـّـرى وهو مستعد لكل طلباتك.
= أفكر طول الوقت، ولكن فى شئ آخر.
- خير، هل هناك غيره يشغلك؟
= نعم .
- ليس لى إلا راحتك، كلمينى عنه، من هو يا ابنتى؟
= أنتِ، أنتِ يا أمى.
- أنا؟، كفى الله الشر.
= أفكر فى إسعادك طول الوقت.
- ماذا جرى لعقلك يا حبيبتى، أنا سعيدة والحمد لله .
= تكذبين على كل الناس، ولكنك لن تكذبى على .
- ماذا تقولين يا بسمه..؟
= أحمل همك أكثر مما تحملين همى .
- إذا كنت حقيقة تحملين همى فلماذا رفضت العريس؟
= أمى.
- روح قلبى .
= لن أكرر مأساتك ولو أموت.
- مأساتي!!، عن ماذا تتحدثين؟
= عن شقائك، عن نسيانك لنفسك .
- منـك لله، أفسدتك كثرة القراءة.
= لا تنسى أنى ابنتك، وأنى أعرف ماذا أريد، وماذا تريدين؟
-…. وبعد؟ … ماذا بعد؟ إلى أين أنت ذاهبة بى؟ بنا؟
= لا تخفى الدموع التى تطل من عينيك، فأنت لم تفلحى أن تتبلد مشاعرك أبدا.
= بسمة، أتركينى فى حالى: لا فائدة .
- وهذا ما يقطع قلبى.
= عن إذنك، والدك ينادى.
****
كل شئ يهون إلا أن أرى أمى هكذا.
****
-2-
ذهبت إليه بعد أن سمعت من أختى عنه، كان أستاذها وتقول إنه يفهم ويحس، رحت أستشيره فى مشكلة أمى ولكنه كان غبيا صريحا وقاسيا، لو أنه اكتفى بأن قال لا فائدة مثلما قالتها أمى، لقلت طبيب عاجز وانتهى الأمر، قلبها على رأسى وقال إنى لا أهتم بها اهتماما حقيقيا وإنما أهتم بنفسى، ليكن، ماذا يضيرنى لو اهتم بنفسى؟، ثم إنه لوح لى بأنى أنا التى ينبغى أن أعالج، لم يقلها صريحة ولكنه ألقى بطعم الأمل بشكل ما، مهما يكن من أمر، فأنا أمامى الدنيا واسعة والعمر طويل، المهم ان تذوق هى طعم الحياة قبل أن ترحل بكل هذا الشقاء وهذا الألم الطاحن.
- مالك يا ابنتى كفى الله الشر؟
= أفكر فيك ليل نهار.
- ثانية ؟، هذا ما لا يمكن أن يستمر، لا بد أن بك شيئا هذه الأيام، ماذا جد على حتى تنصبى هذا المبكى ليل نهار، كلما سألتك عن أحوالك، قلت أفكر فيك،أفكر فيك، ماذا بك يا ابنتى يا حبيبتى؟
= أنا ليس بى شئ، ولكنه بك أنت.
- أستغفر الله العظيم، لا، لا لا ، لقد أفرطت يا ابنتى، هذا أمر لايمكن السكوت عليه، لعلها مصيبة من المصائب ”الموضة” التى يقرفوننا بها هذه الأيام فى التليفزيون.
= أى مصيبة يا أمى..؟، هل عيب أن أنشغل بك؟
- لولا الملام لذهبت بك إلى طبيب نفسانى؟
= لا ملام ولا يحزنون يا أمى… لقد ذهبت إلى واحد فعلا .
- يا حسرة قلبى، لقد كنت أمزح، لماذا ذهبت؟
= ذهبت من أجلك.
- نعم؟، نعم؟، تفضحيننى بتخريفك أمام الغرباء، هل شكوت لك من شئ.
= لا….. لم تشتك وهذه هى المصيبة، كل ما قلته له أنك لا تشتكين من شئ.
- عقلى سيطير بحق، ذهبت تقولين للطبيب أن أمى لا تشتكى من شئ، لا حول الله يا ربى.
= … هذا ما حدث .
- سبحان الله يا بسمه..سبحان الله ، وماذا قال لك؟
= قال، وانتِ مالك (؟!)
- عين العقل.
= ولكنه أضاف أنها مشكلتى أنا، وأنه على أن أتغير جوهريا لأتجنب مصيرك.
- مصيرى؟، ماله مصيرى الله يسامحك ويسامحه.
= هذه ليست حياة يا أمى.
- وكيف تكون الحياة إذن يا ست بسمة…؟
= شئ آخر، أنتِ الأدرى.
- أنا؟، لماذا تتكلمين بلسانى، وتحسين بجلدى، وتتألمين بمشاعرى، أكاد أصدق الطبيب أنك لا بد أن تنتبهى لما أصابك أنت فجعلك بكل هذا البؤس فى هذه السن.
= كلما نظرت فى نفسى رأيتك أتعس.
- وما ذنبى أنا، تحشريننى بين عظمك وجلدك وتنعين حياتى قبل الهنا بسنة؟،
= أين الهناء الذى تتكلمين عنه؟
- الهناء فى الرضا والحمد لله.
= أنت غير راضية .
- أستغفر الله العظيم، هل ينقصنا هذا الهم الذى تطحنينه ليل نهار؟
= إن المصيبة أنه لا ينقصنا، ونحن لا نريد أن نواجهه.
- كيف نواجهه يا ابنتى؟ أنت صغيرة على هذا الكلام الكبير يا حبة عينى،
= لم أسمعك مرة تتحدثين مع أبى كما يتحدث الناس.
- ماذا تقولين؟، إذن كيف أتحدث معه؟
= لم أسمعك مرة تقولين له، كيف حالك مثلا.
- ماهذا الذى تقولينه؟، أنا ليس لى فى الدنيا إلا حاله.
= لم تقوليها مرة واحدة من قلبك.
- قلبى؟، إيش عرفك أنت بقلبى؟، إسمعى لا تدخلى أباك فى الأمر، أنا ليس لى فى هذه الدنيا إلا العمل على راحته ليل نهار.
= ولكنه لم يرتح وأنت خير من تعلمين ذلك.
- أنا عملت ما على، وهذا طبعه، ولا توجد امرأة فى الدنيا تستطيع أن تعمل مثلما عملت أو تضحى مثلما ضحيت.
= هذا هو.
- ما هذا الذى هو يا بسمه، برج من مخى سوف يطير.
= أنا برج من مخى قد طار فعلا.
- اسم الله ”عليكى” وعلى ”حواليكى”، ماذا جرى؟
= وياليته طار واختفى وأراحنى، إلا أنه وقف على رأسى يضيف تعليقا ساخرا، على كل مايدور حولى .
- لا، لا … لا، فى الأمر شئ خطير، أنا لا أفهم ما تقولينه ولكنه خطير.
= يا أمىّ .. يا أمىّ يبدو كأن هذا البرج الذى طار من مخى له أبراج صديقة تشبهه، عندك مثلا وعند أبى،…. وعند كل الناس، وهو يستطيع أن يفهم لغتهم، وربما يحدثهم مباشرة من ورائى.
- ما هذا كله؟ … ما هذا كله؟، يا رب لطفك.
= استيقظت على شجارك مع أبى قبيل الفجر ذات صباح، وشعرت فجأة بما أحكيه لك الآن.
- لا تلصقيها بنا، نحن لا نتشاجر أبدا، كان تفاهما بصوت عال.
= سـمه ما تشائين، من يومها وهذا البرج الذى طار استقل وراح يمارس هواية الترجمة الفورية لما تقوله أبراجكم.
- أبراجنا؟ ، ماذا تقول أبراجنا؟، هل لنا أبراج دون أن ندرى؟، ماذا تقول أبراجنا؟
= أخشى أن أقلب كيانك إذا قلت لك.
- لقد قلبته والذى كان قد كان.
=أسمع “برجك” يقول شيئا آخر غير ما تقولينه لأبى.
- شيئا آخر؟، ماذا يقول “برجى” من ورائى يا ست بسمة؟
= تصرين أن تعرفى.
- ماذا فى هذا؟، طبعا أحب أن أعرف ما يدور…. الله!!
= أخشى أن تختل الأمور، لو عرفتِ.
- قولى لى، وما يحدث يحدث.
= دعينى وشأنى، اعتبرى كل ذلك مداعبة ، كنت أضحك معك.
- لا يا شيخة !!… حدثينى الله يهديك.
= هل تتحملين ولا تغضبين ؟
- طبعا، أريد أن أعرف.
= إذا قلت لأبى، “ربنا يخليك”، سمعت برجك يقول “حتى أتشفى بانتقام الأولاد منك جزاء ما فعلته بي”.
- يا نهار أسود.
= وإذا قلت له “أنت سيد العارفين” سمعت برجك يقول “يا جاهل يا غبى”.
- أهذه آخر تربيتى فيك… يا بنت أنت، هل تمزحين أم أنك جننتِ؟
= وإذا قلت “أنا تحت أمرك” سمعت برجك يقول “حتى أضمن سجنك فى خدماتى وتضحياتى”.
- كفى كفى كفى يا بسمة، سلامتك يا ابنتى ألف سلامة، هذا تخريف رسمى، لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، اسم النبى حارسك وضامنك، لابد أن تذهبى إلى الطبيب فورا.، فورا.
= ولكنى لا أشكو من شئ يا أمى، كل ما فى الأمر أنى رأيت شقاءك رأى العين.
- شقائى، مالك أنت وشقائى؟، لقد حدث لعقلك شئ والذى كان قد كان، استغفر الله العظيم، إرحم يا من ترحم، لابد من الطبيب ، لا بد من طبيب.
= قلت لك أنى ذهبت، ولكن من أجلك أنت، وقد قال لى “إنه لا شأن لك بها، أنت التى تحتاجين للمساعدة”.
- هذا هو؟، هذا طبيب ناصح، وعرف أنك أنت التى تخرفين،
= … أمى يا حبيبتى؟
- حبيبة ماذا ونيلة ماذا، حاسبى على نفسك ولا تستمرى هكذا، بعيد الشر عنك ألف مرة.
= الشر ليس بعيدا يا أمى، الشر فى داخلنا يطحننا، الشر هو الجبن والنفاق، أنا لم أخلقه من عندى، أنا أعلنته ليس إلا.
- الله يسامحك، كان الله فى عونك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
= كان الله فى عونى أنا؟
- من أين يارب أرسلت لنا كل هذا البلاء؟
= ….
- خير يا بسمة لماذا سكت؟
= …
- بسمة يا ابنتى فيم سرحت..؟
= آسفة يا أمى آسفة، كنت أمزح فعلا وزادت منى حبتين، أرجو أن تنسى كل ما كان، هل هذا معقول أن أعرف شيئا من داخل أى بشر، كانت لعبة أثيرك بها وطالت منى بالرغم عنى، آسفة يا أمى آسفة، سأذهب من فورى.
-3-
ما هذا الذى فعلت؟ ما الذى دفع بسيل الألفاظ يجرف كل ما يقابله حتى تصدعت القوائم واختل الأساس، هذه أمى حبيبتى، ما هذا الذى فعلته بها؟ قلبت كيانها رأسا على عقب ولم تنفع كل تراجعاتى واعتذاراتي!! ماذا أفعل لك يا حبيبتى يا أمى؟ لم أستطع أن أحتمل رؤية شقائك، وإذا بى أصبح سببا فى إذكاء نار جحيمك، لسانك يقطر مرارة وأنت تقولين لأختى أنك لا تعرفين المتعة أصلا، ولا مرة واحدة، كنت تنصحينها أن تكون مثلك حتى تعيش وتتستر، هأنذا أنصحك ألا تكونى مثلها، أنت مازلت أكثر حياة وإحساسا منها، أنا جئت أكحلها أعميتها، أنا مجرمة ولن أغفر لنفسى ما حييت، قال لى الطبيب لا فائدة، وقد قلتها أنت مرارا قبل ذلك، فما فائدة كل هذه الحمم التى ألقيتها عليك وكأنى كنت أنتقم من استسلامك وسلبيتى، لن يتكرر ما حدث ما حيت، سوف أعيش أكفر عنه بقية عمرى، يا رب، كيف أمحو ما قلته لها، كيف أرضيها، كيف أجعلها تنسى، هل أتمادى فى تصنع الخبل حتى تطمئن أن ما قلته لا يعدوا أن يكون مزاحا فعلا، أو تخريفا عابرا، ولكنها أذكى من أن تصدقنى، و ليس أمامى إلا إعلان الهزيمة واتقان دورى المفروض فى هدوء وصبر أقتل أكفر عن ما فعلت فلأقبل عريس الغفلة، هذه قسمتى وقسمتها، إذا كنت لا أستطيع أن أرفع عنها الظلم، فلأشاركها فيه، ولتسقط كل محاولات الحياة.
= أنا موافقة يا أمى.
- على ماذا يا ابنتى؟
= على الخطيب، ابن أخى صديقتك.
- أبدا، لن يكون ما دمتُ حية.
= ماذا جرى لك يا أمى؟، كنت تلحين علىّ ليل نهار.
- غيرت رأيى.
= ماذا جرى يا أمى؟ أنا أطلب رضاك وأعلم أن هذا يسعدك.
- لم يعد يسعدنى.
= ماذا جرى؟ بالله عليك؟
- تــُـعالـجين أولا.
= أعالج مِنْ ماذا؟، لقد كنت أمزح وانتهى الأمر.
- حتى ولو كان حلما وليس مزاحا، فلن أتعسك بيدى، لا يمكن أن يحدث هذا ما دمت حية.
= تتعسيننى؟ تقولين إنه من أحسن الشباب.
- كان زمان.
= ماذا جرى له فى يومين، لقد كنت تعددين ميزاته أول أمس.
- أول أمس أصبح “زمانا” الآن، ونحن أبناء هذه اللحظة.
= تتقلب الأمور هذه الأيام بسرعة، حتى معك يا أمى.
- أدفع عمرى وتعالجين يا ابنتى.
= أعالج من ماذا بالله عليك؟
- لست أدرى.
= تحسبيننى مجنونة؟
- أبدا والله، خطر هذا الخاطر على عقلى فترة ولكنى تأكدت بعدها من خطئى،، هذه رؤية من حقك، والطبيب يمكن أن يساعدك.
=…… إذن مم أعالج؟، من صدق الرؤية؟ أعالج بحبوب “طمس الرؤية” ؟ ثم إنى أكرر لك أنى كنت أمزح…. ليس لدىّ ماأقوله إلا ما قاله الطبيب
- يا بسمة، لقد أيقظتِ فىّ أملا لم أستطع أن أحققه، فلتحققيه أنت،… أنا أحس أن هذا الطبيب يعرف الطريق، هذا كل ما هنالك.
= وأنت يا أمى؟
- إسألى طبيبك.
= ليس طبيبى بعد، أنا لم أقرر الذهاب.
- أسأليه حين تذهبين، ولسوف تفعلين من أجل خاطرى، وإن أشار عليك أن أذهب فلسوف أذهب دون تردد.
= لقد قال إنه لا فائدة.
- لا فائدة من حالتى أنا وليس منك؟، هو طبيب ماهر ما فى ذلك شك، خذى فرصتك إذن.
= أنا يخير يا أمى، لا عليك.
- …. أنت تعرفين كل شئ يا ابنتى، لا تخدعى نفسك
= أخشى يا أمى أن يصحو فى نفسى أمل يشقينى، ويشقيك أكثر.
- لقد صحا والذى كان قد كان، فإما أن تحققيه وإما أن تقتليه، الطبيب سوف يساعدك فى كل حال.
= ومن أدراك؟
- إحساسى وكلامك عنه، يبدو أنه يعرف الطريق.
= المهم أن أعرف أنا الطريق.
-4-
أعالـَجُ؟، أعالج من ماذا؟، من رؤية الحقيقة؟، من إحياء الأمل؟، لو كنت أسمع أصواتا أو أرى خيالات، لو كنت أهذى أو أهيم على وجهى، كل ما هنالك أنى رأيت، ثم قلت ما رأيت وإذا بكيانها ينقلب بلا رحمة، ها هى ذى تتراجع حتى عن الخطوبة ذاتها، كانت خطوبتى هى سعادتها وسـَتـْرِى هو غاية أمانيها، ثم ها هو ذا علاجى يصبح أولى مطالبها، هل حالتى خطيرة إلى هذا الحد؟، أو أنها صدقت حقيقة رؤيتى؟، هل تريد أن أحقق ما عجزتْ هى عن تحقيقه كما تقول فيكون فيه سعادتى سعادتها؟
مهما يكن من أمر فقد تورطت بالحديث معها، وتورطت أكثر بالذهاب إلى هذا الطبيب، لم أقاوم كثيرا وادعيت أنى أذهب إرضاء لها، ومازلت أواصل تعاطى الورطة.
إننى أفهم أن تكون مهمة الطبيب أن يستأصل الزوائد المرضية، أن يخفف من حدة الآلام، هذا الرجل يزيد ما أصابنى من تضخم فى الرؤية، يريدنى أن أرى أكثر ويتركنى أتألم بلا رحمة، ثم أخيرا هو يحمـّـلنى مسئوليتها، هذا إجرام مستـَـتـِـر، مع سبق الإصرار، الحزن يلفنى من كل جانب، عمرى ألف عام، لم أعد أستطيع مزيدا من التعرى، أحس أنه لم يبق فى كيانى خلية لم يفتضح أمرها، بل إن كيان الآخرين أصبح لدىّ صفحة مفتوحة، كنت أحسب أن المصيبة مقصورة على أمى وأبى وأختى وزوجها ولكن يبدو أنها مصيبة عامة، أصبح الكذب والنفاق هو الأصل، ما هذا الذى يجرى بين غالى وملكة طول الوقت، أسمع النقاش المضحك بينهما، وبرج عقلى الطائر يسمع حقيقة ما وراءه واضحا لا لبس فيه ولا غموض، يتكلمان عن الاشتراكية وطحن الإنسان المصرى، برج عقلى الطائر يسمع أشياء أخرى؟، مرضى طريف يمارس الترجمة الفورية بشكل ساخر، يعرى كل الناس دون استئذان، يسمع الحوار “الآخر” بين أبراج عقول البشر، غالى وزوجته يتبادلان الحب فيترجم حوارهما برج عقلى فوريا كما يلى:
[- كم أكرهك يا غالى.
= من القلب للقلب رسول، يا ملكة يا آكلة لحوم البشر.
– لن أتركك تتمتع بحريتك إلا على جثتى.
= وأنا سأستغلك حتى الثماله.
– أنا التى أمتص وجودك وأسجنك فى آرائك التى حسبت أنك تفرضها علىّ.
= وأنا ألهيك فى مشاكل لا تخصك حتى أستمر فى العيش على حسابك.
– تضحك على نفسك وأنت مستسلم تماما.
= شكلك كالبومة يا بنت الكلب.
– لن تتخلص منى حتى أزهق وحك].
ومع ذلك أصر أنى لم أجن، هى ليست أصواتا أسمعها، هى رؤية كاملة، أسمع أصواتهم الحقيقية كأنها تتحاور وأنا أرى هذه الصورة الأخرى وراء نقيق الضفادع الذى يتبادلونه، أصبحت قراءة القسمات والخلجات هواية مرعبة، نظرات فردوس الطبلاوى تهتف بى كل مرة أن أكف عن المجئ، امرأة طيبة متواضعة، ألغت شقاءها فى لحظة وانطلقت تتمتع بجسدها وزوجها “حسب التعليمات” كما تصورتـْـها، يبدو أن عبد السلام يرفض هذا الذى حدث فجأة، يبدو أنه غير راض عن هذه السعادة الرخوة، يبدو أنه ليس على بالها الآن إلا الدعة واللذة والمتعة، وتسميها تطورا، أمٌّ طيبة مازالت، ترفض شقائى – وهى تناديني- صامتة أن أكف عن المجئ، أحس أنى أكبر منها عشرات السنين، التعرى فى هذه المجموعة يلهب كل خلية فى وجودى ثم يتركنى معلقة بين السماء والأرض،علاج يعمق التناقض ويشعل الألم، فردوس ذات الأربعين تعيش سعادة الأطفال وأنا أعجز من أهل الكف، لو علمتِ يا أمى مايجرى هنا لراجعتِ نفسك وعملت على أن أوقف هذا العلاج، ترى لو كنت جئتِ بدلا منى هنا، هل كانت براعمك ستتفتح من جديد مثل فردوس الطبلاوى، إذن لطلقك أبى بعد خمس دقائق، أو ربما سلمك للسراى الصفراء مع مخصوص، فردوس – رغم كل ذلك – ليست سعيدة كما ترسم نفسها، عبد السلام يأخذ منها وجه القشدة ثم يعيب عليها أن اللبن حامض، مختار لطفى يلتهمها على ما قـُسِم فهو لا يدع أنثى إلا وناداها نداءه الصامت، موقف عبد السلام يحيرنى، ماذا يريد منها بالضبط، سمعته يقول لها مرة “من يضمن الاستمرار لو سلمنا لهذه السعادة السهلة، مازلنا على الأرض يا فردوس ولابد للسعادة من أشواك تحميها حتى لا يقطفها عابر سبيل ثم يلقيها بعد بضعة خطوات”، يريد ضمانا مدى الحياة.
سمعهما برج عقلى الطائر يتحاوران ذات مرة، يقول عبد السلام:
“لا يمكن الاطمئنان لإنسان بلا أعماق”.
ترد فردوس بحدّة:
”… من أين أشترى لى أعماقا حتى أعجبك” .
أمره عجيب ومحير عبد السلام هذا…. الظاهر أن الحق معك يا أمى، والدى أول من سيرفض سعادتك، الرجال يرفضون سعادة النساء التمليك، يخافون منها، عبد السلام مازال يواصل المسيرة، يبدو أنه مازال ينقصه شئ هام، شئ أساسى قد يسمح لعبد السلام أن يطمئن، ما أصعب كل هذا.
أقرأ نداء أمومة فردوس بسهولة مباشرة: “قلبى عليك يا بسمة يا حبة عينى”.
ماذا تريدين منى يا خالة فردوس، يبدو أننا تبادلنا الأدوار، أنت طفلة سعيدة وأنا عجوز أصابنى داء الحكمة، برج عقلى الطائر هو السبب، المسكنات اللذية ليس لها عمر يا فردوس، تصورى أننى أنا الذى أقول لك هذا وليس العكس، هذا هو ما يخيف عبد السلام منك، أنت وأمى وجهان لعملة واحدة، أنت ضائعة فى السعادة الرخوة، وهى ضائعة فى الشقاء المر الجاف، أزعم أننى أواصل علاجى من أجل أمى، إلى متى ينجح هذا التلاعب؟ لست أدرى، قد تكون فائدة حضورى إلى هنا أن تعتقد أمى أنى مريضة فعلا، فتنسى ما قلته لها يوما فى لحظة تهور أعمى، لن يرحمها من حقيقتها إلا إقناعها التدريجى بأن كل ذلك كان جنونا، أو تخريفا.
يا رب سامحنى، ولا تحرمها نعمة العمى.
-5-
احتد الديالوج المرئى بين غالى جوهر وزوجته المقدسة ملكة، حتى دخلت طرفا ثالثا دون أن يسمح لى أو يدعونى أحد منهما، نظرات غالى لا تتركنى منذ عدة أسابيع، ماذا يريد منى؟، أحيانا تنتقل نظراته بينى وبين زوجته وكأنه يستنجد بى منها، أنا لا أريد أن أقلب كيانه أو كيانها مثلما فعلت بأمى.
لو عملها عبد السلام وفردوس…. لو تم ما يجرى بين إبراهيم ونجوى، لو غامر كمال فتحمل مسئولية فنه دون جنون أو انتحار، لو حدث كل ذلك، أو شئ من ذلك، فسوف ألقى بنفسى إلى الأتون مباشرة، أنا الأصغر، عندى وقت كاف أغير فيه تاريخ البشرية، أكاد أحمد الله أن شيئا من ذلك لا يحدث.
ماذا تريد منى يا أستاذ غالى؟، أنا أشفق عليك وأنت تضرب بجناحيك فى قفصها المحكم، أكاد أقضم منقارك وأنت تلتقط ما تلقيه لك من حب، هل تريدنى أن أفتح لك القفص؟، سوف تطير إلى قفص آخر فلقد نسيتَ قيمة الخلاء، أحيانا تطلق سراحك من قفص حبها إلى حظيرة مبادئ الحزب دون أى طيران خطر، جناحاك أثقلهما الخوف وريشك مندوف أولا بأول، تحبنى يا غالى؟، أقرأ ذلك على وجهك ، كيف تصدق نفسك وأنت لا تعرف معنى الحب أصلا؟، المصيبة أنى أُعـَـدُّ من الجميلات، يحجزنى هذا الجمال وراء تقاطيعى المتناسقة، فإذا أضيف إلى شكلى ما يتصورونه من رقتى وذكائى المزعومين، ضعت أنا بلا أمل فى إنقاذ، لا أحد يعرفنى أنا، وخصوصا أنت يا غالى.
عندك حق يا فردوس، ورطتى أكبر من كل تصور، كيف سأتزوج بعد كل هذه الرؤية، هل أنا التى ستتزوج أم برج عقلى الطائر؟، لا أنكر أنى أغلى بالرغبة، هذا الإلتحام مع آخر حتى الذوبان فى كتلة واحدة من اللحم الذى يغلى باليقظة والنشوة يتمثل أمامى فى كل لحظة، لا أعرف سبيلا إليه، البضاعة المعروضة كلها بيع وشراء مع الاحتفاظ بحق المنفعة، لا أخدع فى العلاقات الحرة المزعومة فهى أخبث من الزواج فى نظرى، علاقات تشبه حجز ليلة فى فندق عام، الزواج عقد إيجار مفروش.
استدرجت نادرا زميلى أمس إلى بوفيه الكلية لأقطع عليه أحلامه التى تتبعنى فى كل مكان فى الكلية، لابد وأن يعرف أنى غير صالحة لما يدور فى ذهنه، عرض على الزواج فعلاً بسرعة ومباشرة ظانا أنى دعوته لذلك، ابتسمت وأنا أنظر إلى المنديل الورق الملقى بجوار فنجان الشاى، كانت بنود العقد التى كتبها برج عقله إياه، مكتوبة بوضوح عليه:
“عقد إيجار مفروش”: يعرض الطرف الرجولى المدعو “نادر” أن يقوم بتأجير الجسد الأنثوى – الذى تحتله الآنسة بسمة قنديل – معظم ليالى الشتاء وبعض ليالى الصيف، وذلك على أن يظل محجوزا له بقية أيام العام لحسابه الخاص، مقابل أن يقول أحبك ثلاث مرات يوميا لمدة ثلاثة شهور تتناقص بمرور الزمن ويمكن أن تزداد حسب الحاجة أو تنقص حسب الظروف، أو حسب التغيرات المناخية خاصة لو تعرض هذا الجسد للإتلاف أو العطب نتيجة لسوء الاستعمال.”
- فيم تفكرين يا بسمة؟
= أقرأ شروط العقد يا نادر.
- أى عقد تعنين؟
= أُنـْـظـُـر إلى هذه النقوش على المفرش الورق.
- جميلة.
= خسارة أن نلقى به بعد استعماله.
- هومصنوع لذلك، أفضل من الغسيل والمكوى.
= الاختراعات تتجه إلى الاستسهال، فتنتهك حرمة كل أصالة.
- حكمتك تخيفنى أحيانا يا بسمة.
= هل حاولت أن تقرأ معنى هذه النقوش يا نادر؟
أخذ منديله بين يديه يحاول أن يقرأ نقوشه فى بله عظيم، استمرت عيناى تتابع بقية بنود العقد فى صمت.
”…. على أن تقوم هى بتكاليف أكلها وكسوتها من مرتبها الخاص، حسب القوانين الحديثة لتحرير المرأة”.
- لا أفهم ما تعنين، أعرف فكرة قراءة الفنجان، ولكن هذه أول مرة أسمع عن قراءة مناديل الورق…. يبدو أن فى الأمر لغزا.
= لا لغز ولا يحزنون، هأنذا أقرأ أمامك فحاول وسوف تجد السر،
- سر ماذا، هذه نكتة، أنا أعرف سخريتك، هى أكبر من احتمالى الآن.
= حاول ودعنى أكمل.
- تكملين ماذا؟
= أكمل القراءة يا أخى.
- سأصبر عليك حتى أفهم، هات.
مضيت أقرأ بقية البنود فى صمت أيضا.
”…. كما يقوم السيد نادر، دون اعتبار لدرجة غبائه، بالاستيلاء على روحها تدريجيا، ويشترط أن تكف هى عن التفكير نهائيا قبل مرور خمس سنوات من إبرام هذا العقد”.
- ماذا وجدت يا بسمة؟، تبدين وكأنك تقرئين شيئا مكتوبا فعلا.
= فرصة عابرة أردت أن أسمح لنفسى أثناءها بالتفكير العميق فى عرضك الزواج.
– ولكنك كنت منهمكة جدا..حتى تفصد العرق من جبينك وأنت تبحلقين فى منديل الورق.
= كانت شروطا صعبة.
- أية شروط..؟
= والمصيبة أن كل النساء يتقبلنها بترحاب شديد.
- يتقبلن ماذا يا بسمة، لا تحيرينى.
= …. يبدو أنهن يتقنّ التحايل لقدرتهن على التنفيذ لصالحهن.
- … هذا كثير..أكاد لا أتابعك.
= أعرف أنك لا تحتمل شطحاتى.
- للمزاح حدود، أنا لا أعرف عنك إلا الرقة والعقل والاتزان.
= ما رأيك أن تتزوجهم.
- أتزوج من ؟
= الرقة والعقل والاتزان.
-… أنا أحبك يا بسمة.
= أعلم ذلك، لكننى لست مستعدة للارتباط الآن، نظل أصدقاء إن شئت.
- أنا آسف إن كنت قد ضايقتك باعتراضاتى، ولكنى لم أفهم.
= لقد سرحت أكثر من اللازم وهذه غلطتى.
- هل أنت مصممة؟
= تماما.
- قرار نهائى.
= جدا.
-…. سأنتظرك ما حييت.
= ما حييت؟ لا تطل الانتظار يا نادر وإلا فإننى سأتألم لك بلا داع .
- أنا حر أنتظر كما أشاء ولا أريد الضغط عليك، عن إذنك.
عندك حق يا فردوس، ورطتى فى هذه السن أكبر من كل تصور، لابد أن أفقد الوعى قبل أن أوقع مثل هذا العقد، نجوى شعبان عجزت عن تنفيذ بنوده فهجرت زوجها وابنتها وها هى ذى تبدأ من جديد، يا ترى هل تستمر أم تعاود الكرة بوعى آخر يحميها من قراءة كل البنود بهذا الوضوح؟، نجح الأطباء فى إعادة الإبصار للعـمى فلماذا لا يقوم طبيبنا هذا بإعادة العمى للمبصرين؟، مازلت أذكر حديث نجوى مصباح، وأذكر كيف كان برج مخى يقرأ النسخة الأصلية وهى تظهر مكتوبة على ناحية بجوار حديثها الظاهر كأنها مجلة ميكى.
- لماذا كل هذا الحزن يا بسمة؟
= (أنا فخورة بك وبشجاعتك).
-…….
أنت رقيقة، فهلا اكتفيت بذلك ومضيت تسعدين بشبابك.
= (إياك أن تصدقينى واستمرى فى طريقك).
…………
- أشفق عليك بصدق، أخشى أن تتسع رؤيتك أكثر
= (طريقك هو عين الحق…. صدقينى).
كنت أقبل صدق نصائحها، لكن يصلنى فى نفس الوقت تحذيرها أن أصدقها، كما كنت أحذر أن أتمادى فى إخبارها عن حقيقة ما يسمعه برج عقلى الطائر من داخلها، لم أكن متأكدة إن كانت سترجع إلى زوجها وابنتها أم ستواصل رفع الحجر بكفيها الداميتين إلى أعلى الجبل، تعلمت منذ حكايتى مع أمى ألا أقترب منهن أو أعلن محتوى الحوار المرئى أبدا.
كمال يفهمنى بلا حديث، يبدو أنه يستطيع أن يقرأ الديالوج المرئى مثلى، فنان تدرب على رؤية وتشكيل ما بعد الظاهر، أما عبد السميع، فالله يغفر لى إذ كدت أبصق عليه وهو يتشنج فى نقاش مع إبراهيم الطيب.
ما أصبرك يا إبراهيم وما أوسع صدرك.
-6-
= أنت معى يا كمال.
- بكل قلبى… وأنت تعلمين، مع أنك صغيرة، لكنك تعرفين كل شئ، أكثر من كل الذين هنا.
= اتفاقنا فى الرؤية لا يطمئننى، هل رؤيتنا هى الصحيحة؟
- صحيحة…. وصعبة.
= يعنى مستحيلة.
- ياليت.
= لا فائدة إذن.
- تقريبا.
= أنت فنان وتستطيع أن تصوغها فى رمز للمستقبل، أما أنا، أما نحن؟!
- لم أعد فنانا ولا يحزنون.
= هل كتب علينا أن نهيم على وجوهنا بغير هدف؟
- لا شئ يعين.
= هذا كلام مزعج، ولا أحسب أنك تصدقه على طول الخط.
- هو مزعج فى البداية ولكنه مريح بشكل ما.
= ولماذا لم تسترح؟
- فرشاتى جفت وسن قلمى قصف.
=…. وبعد؟
- أنا فى انتظار الفرج فى الفرشاة القلم.
=…. والحياة؟
- حياتى فيهما، أرسم المستقبل لمن يصنعه فيما بعد…. أرسمه لك يا بسمة.
=…. أنا؟
-..أى بسمة، هن كثيرات، لا أظن، دعينى أشك أنهن كثيرات.
= أنا فى أول الطريق…. أريد قدوة ، أتطلع إلى أى نجاح حتى أنجح مثله.
- تحملين عبئا، يا بسمة فى هذه السن، حرام عليك نفسك، الحمل ثقيل جدا.
= تتكلم يا كمال مثل الطبيب، على كل واحد أن يحمل مسئولية قراره،… ولكنك أرق منه، أتساءل أحيانا ماذا يعمل فينا هذا الرجل بكل هذا التخلى وهو يشير إلى أن يفعلها كل منا على مسئوليته.
- أنا مرتاح لهذا التخلى.
= أعلم ذلك.
- هو يتقدم بلا تردد لمن يقبل تدخله.
= أحيانا أراه يربط غالى فى عنق ملكة حين يحاول أن يطير منها.
- يبدو أنه يعرف أنها ندفت ريشه فلم يعد يستطيع الطيران، ربما هو يخشى عليه.
= ما رأيك فيه يا كمال؟
- فى مــن؟
= فى شيخنا هذا؟
- أُعـْجـَبُ بمهارته أحيانا، أعتبره فنانا ليس له علاقة بالطب والحياة.
= تمنيت فى بعض الأحيان أنى ولدت ابنته.
- حذار من الاعتماد عليه، وإلا فقدت نفسك.
= حاولت الاعتماد فعلا ولكنه راقد فى الخط، هل يوجد سبيل للالتفاف من باب آخر.
- بل هو أخفى مما تظنين.
= إن كان ثمة حب، فأنا أحبه.
- حذار يا بسمة، أنت تعرفين كل شئ، قد يشكلك على مزاجه..
= لا أبيع نفسى ولو للإله نفسه، ولا أستطيع أن أعيش وحيدة، وأنت جبان يا كمال.
- حرصى على حريتى لا مثيل له.
= هل ندفع ثمن هذه الرؤية التى ابتلينا بها: وحدة حتى الموت.
- يبدو ذلك، ما هذا يا بسمة، أنت صغيرة، لماذا تتكلمين عن الوحدة، والموت هكذا؟
= الموت أهون يا كمال.
- وأشرف، ولكنك صغيرة على كل هذا، كيف عرفت؟ هل جننت؟
= جائز، غالباً…
- أنت خبيثة، صغيرة…. لكن خبيثه، ورائعة.
ياليتنى تعلمت فنا أفرغ فيه شحنات هذه الرؤية حتى أعفى نفسى من معاينة الفشل المر على أرض الواقع، كمال يفشل فى أن يواصل رسم المستقبل فيحاول أن يتخلص من أثقال الواقع ليجد نفسه متفرجا فى عيادة فنان أخطر، نقاش إبراهيم مع عبد السميع يجذب انتباهى أحيانا ولكننى أتقزز من تشنج عبد السميع.
= إبراهيم إنسان رائع يا كمال.
- وعنيد، ولكن من يدرى حقيقته وراء كل ذلك.
= لو نجح مع نجوى، فسأعلم أن كل شئ ممكن.
- إنه يحاول النجاح مع كل واحد حتى مع عبد السميع.
= لا أطيق رؤية عبد السميع.
- إصراره على المجئ بانتظام يغفر له عماه.
= عبد السلام صبور ومثابر.
-…. ومناور كذلك…. ولكنه قد يستسلم أخيرا لطبق القشدة.
= لا أظن، لو تم نجاحه مع زوجته فهى المعجزة بعينها،
- أشفق عليه من أحلامه.
= ترى هل نستطيع أن نتكاتف لتحقيق نجاح واحد منا على الأقل.
- لن أخدع فى التماس الدفء باقتراب خائف.
= أرفض يأسك وسوف أعلن التحدى.
- تذكرى قول عمنا، القوة على أرض الواقع هى وحدها القادرة على قول “لا”.
= تخاف يا كمال من نجاح أى آخر حتى تبرر عجزك.
- وراء رقتك نـَـمـِـرَة ذكية مفترسة يا بسمة.
= ووراء حكمتك ثعلب مراوغ عداء.
- نظل أصدقاء.
= لتكن صفقه أشرف من عقد إيجار مفروش.
- لا تبخلى على أحد بما يدور بخلدك.
= وماذا لو جرحته، فعلتها يوما مع أمى ومازلت نادمة.
- عندك حقك، لكنى عند رأيى.
= ما أمكن ذلك…، ربنا يستر.
-7-
لم أكد أعبر عن رأيى فى عبد السميع بصدق مباشر حتى كان ما كان، لست أدرى ما الذى دفعنى نحوه ثائرة مفترسة هكذا؟! كرهت وجهه وصفرته وهزة رأسه وإصراره على العمى وكلامه الشاحب عن الدين والطاعة بقدر ما شعرت بوحدته وحاجته لمن يكسره له، يبدو أنه لم يكن ينتظر ذلك، ومنى بوجه خاص.
لما انفجر كالبركان رُعـْبِتُ وكأنى فجرته بنفسى، أحسست أنى أنا التى انطلقت من داخله أحطم كل شى، عاودتنى الشجاعة وساهمت فى ضبط حركته والحد من مضاعفات ثورته، نظر إلىّ فى عتاب وألم لم أر مثلهما فى حياتى، شئ ما اهتز فى كيانى حين أصر أن هذا هو كل ما يعرف من إحساس، رعبت رعبا هائلا من التمادى، تمنيت أن ترجع بى الساعة سنة كاملة إلى الوراء وأن يأتى هذا الخطيب الذى عرضته علىّ أمى وأن أقبله فورا، أحسست أنى على أبواب الجنون إن لم أكن قد جننت فعلا.
من يضمن أى شئ بعد ما حدث الذى حدث، عبد السميع الأشرم آخر من كنت أتصور أنه قادر على النطق بما فى داخله، فعلها كالنمر الهائج، لماذا أحـِسٌّ نحوه بكل هذا الحب الغامر بعد أن كنت أصاب بالغثيان بمجرد أن أسمع صوته؟ أخذت ألوم نفسى على سابق احتقارى له، حين تمادى فى هياجه كالثور الأعمى لم تعاودنى رغبة الهزء به أو النفور منه، كل أعمى مهما بلغ عماه هو بصير ولكنه عاجز، حتى أنتِ يا أمى، الوحيد الذى لم يهتز ولم يتراجع أمام ثورة عبد السميع هو إبراهيم الطيب، ظل يواصل معه الحوار، ويحمله مسئولية العجز والتحطيم فى آن واحد، كيف ذلك يا إبراهيم، إرحمه وارحمنا يرحمك الله، كان أقرب وأقوى وأقدر من شيخنا نفسه.
****
لن أذهب بعد اليوم..هذا فوق طاقتى وطاقة البشر أجمعين، وليذهب إبراهيم بإصراره إلى الجحيم…
****
- لم تذهبى للعلاج منذ أسابيع يا بسمة.
= شفيت يا أمى والحمد لله.
- قلبى دليلى يا ابنتى، مازال المشوار طويلا، هل حدث منهم ما يكدرك؟
= قلت لك شفيت، وعندى دروس ولا داعى لضياع الوقت…. كفى ما كان.
- هل هذا هو الشفاء؟
= لست أدرى، فأنا لم أدر ما هو المرض حتى أعرف ما هو الشفاء، أنت تعلمين أنى ما ذهبت إلا إرضاء لك، وهأنذا قد شفيت والحمد لله.
- لهجتك لا تدل على ما تقولين.
= ماذا تريدين منى يا أمى؟ أنا ما طاوعتك أول الأمر إلا تكفيرا عن تهورى.
- هل حدث شئ يا ابنتى؟
= طبعا تحدث أشياء.
- ماذا بالله عليك؟
= بالذمة هل هذا كلام؟ لم أحك لك عن أى شئ من قبل، فماذا أحكى الآن؟
- أنا لم أسألك قبلا لأن الأمور كانت تسير.
= كانت تسير نحو الجنون.
- كفى الله الشر يا ابنتى، كان وجهك نضرا ونظراتك توحى بالأمل.
= ثم عقلت وتركت الأمل لأصحابه، وليس عندى مانع أن أتزوج اليوم قبل الغد.
- ظنى فى محله، دائما تذكرين حكاية الزواج هذه عند ما تسوء الأمور.
= لا تضطريننى يا أمى لما لا تعرفين، طاوعتك فى الأول حتى كان ما كان، فماذا تريدين الآن؟
= تتكلمين بالألغاز وأنا لا أعلم شيئا من هذا الذى كان، كل همى أن أراك سعيدة
- وكان همك قبل ذلك أيضا أن ترينى سعيدة حين جئت لى بعريس الغفلة.
= أعمل ما أراه مناسبا فى كل وقت.
- ما أسهل تمنيات السعادة وما أصعب الطريق إليها، لا فائدة يا أمى، لا فائدة.
= تذكرين أنى قلت لك عن نفسى لا فائدة”، وساعتها رفضتِ أنت استسلامى، وتريدين منى الآن أن أقبل هذا اليأس لكِ وأنت فى هذه السن يا ابنتى؟
- ماذا تريدين أن تقولى يا أمى، ماذا تريدين منى؟
= لن يكون مصيرك هو مصيرى.
- نعم؟، نعم؟، أنت تقولين ذلك يا أمى؟، الآن؟، ألم يكن هذا هو بداية اختلافنا منذ شهور، أنت يا أمى؟، ترفضين مصيرك في!
= قلت لك من الأول أدفع عمرى وتعالجين مما أنت فيه.
- مما نحن فيه..
****
لست وحيدة.
هذه العجوز بإصرارها وشجاعتها تخجلنى من نفسى، تخلت عن أنانيتها بعد أن لاح لها الأمل ولو كان سرابا، الناس لا تستسلم اختيارا ولكنهم يقتلون الأمل أولا، أمى يا حبيبتى سوف أذهب وأصنعها مهما طال الزمن.
= شئ ما فى داخلنا يظل ينبض بالحقيقة حتى طلوع الروح يا إبراهيم.
- عدت بالسلامة يا بسمة.
= عدتُ أطلب السلامة.
- كنت واثقا أنك ستعودين.
= عدت من أجل خاطر أمى، ربما بدلا عنها.
- بل من أجل خاطر ابنتك.
= عنيد أنت مثل النيل يحفر طريقه فى الصحارى وبين الجبال عبر آلاف السنين.
- لا جدوى من أى بطولة خارجك، إبحثى عن النيل والشمس والجبال تجدينها فى الداخل.
= أطمئن لإصرارك ووضوح رؤيتك.
- صـِـدْق أمـك وشجاعتها يطـمئن جيلا بأسره.
= اضطرابات الطلبة تغرينى بالمساهمة، ولتكن المسئولية فعلٌ يومى.
- على شرط أن تكتمل فى وعى شامل.
= خوفى من ثورة مثل ثورة عبد السميع ذلك اليوم حين انفجر كاللغم غير الموجه.
- يبدو أحيانا أنه لا مفر منها، أو مما هو مثلها، ربما تسمح بأن يراجع كل واحد قدرته وإحساسه معا، ربما يكون ذلك مكافئ لتاريخ الثورات بمضاعفاتها.
= لا ضوابط للجنون ولا حدود للتحطيم.
- أى شئ هو أفضل من الموت واليأس والضياع؟!
= تشجعنى على التشنج والصراخ.
- بل أحملك مسئولية التشنج والصراخ.
= حكمتك ترعبنى، تزيد طاقة شبابى ومسئولية شيخوختى فى ذات اللحظة.
- قانون الحياة واضح رائع…. لكنه كما تعلمين.
= لا سبيل غير ذلك، هربت من مسئولية أمى، ومسئولية بيت صغير هادئ، فوجدت نفسى أمام مسئولية الناس جميعا.
- دون نسيان مسئولية وجودك شخصيا بكل عبء العلاقات البسيطة العادية، لن أطمئن عليك حتى تتزوجى ويعلن انتصار الواقع جنبا إلى جنب مع استمرار الحلم.
= أنت كالصقر اليقظ، كيف أهرب منك؟
- بل كيف تهربين من نفسك؟
= وأنت؟، أنت هارب بجلدك من بيتك وتلوح لنا طول الوقت بما فشلت فيه.
- لا أنكر مصيبتى، ولا أخدع أحدا.
= ماذا فعلت مع نجوى.
- تعرفين كل شئ…
= أقرأ الحوار الصامت.
- أعرف ذلك، وأطلب مساعدتك.
= لا تـَـخـَـفْ منها…. ألمها يحميها من تفكك فردوس الرخو.
- لست وحيدا ما دمتِ ترينى بهذا الكشف.
= وأنا كذلك.
- من أين لك بكل هذه الحكمة فى هذه السن؟
= ومن أين لك أنت بها؟
- من الوحدة، والهجر، والدعارة، والجنون، والإيمان.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).