نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 25-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3950
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) كما أشرنا الأسبوع الماضى.
وهذا هو الفصل الثالث
(رواية “مدرسة العراة”)
الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”
“نجوى شعبان”
كل شئ يقول إنه مستحيل، أنا لا أملك إلا أن أواصل فى اتجاهه، كلام غريب الأناضولى ينفذ إلى عظامى، غبى مسكين، أنا مثله.
أشفق عليه فى حماسه ومحاولته إقناعى وكأنى أعترض على آرائه، أنا أعلم حقيقة اليأس أكثر منه عشر مرات، أنا خضت التجارب لحما ودما، هو قرأها فى صومعته، اليأس والفشل هما قانوننا الأعظم، حطمت كل شئ لأفضح الواقع، وقررت أن أحاول المستحيل، غريب يثير فىّ رغبة فى الاقتراب منه، ربما لتحديه.
أقول له أحيانا إن إعلان بؤس العالم لا يبرر التسليم له، زوجى ليس له ذنب فيما أحمل فى أعماقى من نار أتصور أنها مقدسة، كثيرا ما قدرت أنها نار جهنم، هى أيضا مقدسة لأنها من عند الله، أراد زوجى أن تـدفئه نارى تلك فأحرقته وانهار البيت بلا إنذار، تركت ابنتى الوحيدة معه بين الأنقاض، هو أولى بها، يرحمها من جريى وراء المطلق المجهول، أغرقت كل مراكبى قبل أن أطرق هذا الباب، لم يعد لى خيار تركت بيتى، وبترت أمومتى، وذهبت أبحث عن أصل وجودى لأعرف على أى أساس أبنى علاقاتى بعد ذلك، أحس أن هذا الطبيب يحبس عنا أشياء يجب أن يقولها.
هو لم يشترك فى قرارى ولكنه يلوّح بإمكانية ركوب البراق، هو مسئول رضى أم لم يرض، سوف ألاحقه مهما هرب وراء أصول الصنعة أو سر المهنة، عليه أن يساعدنى لأحقق ما أريد مما أعرف ومالا أعرف، لو فشلت فهى نهاية العالم، كل شئ يقول ”لا”، كلام غريب ويأسه وصمت عبد السلام وصورة زوجته الست فردوس العروس الحلاوة، غيبوبة كمال، وذهول عبد السميع، تفاؤل إبراهيم العجيب، وتردد الباقين، لا شئ يحاول أن يهدئ من لهيبى، كل ذلك لا يزيدنى إلا اشتعالا، لا أجد فيهم ما يثنينى عن عزمى إذ يؤكد لى أن المستحيل هو مستحيل فعلا، هكذا أجد مبررا لإثبات العكس، تشتعل نارى أكثر، وحتى حين أنجح فى أن أهملها أو أتلهى عنها فإنها تندلع فى أحلامى فتكاد تحرق كل شئ.
= لماذا أنت صامت يا عبد السلام معظم الوقت مع أنى أشعر بشئ يجمعنا.
- أنت تعلمين أنى معك.
= أنت بعيد عنى.
- حملـُــكِ ثقيل ولا أريد أن أخدعك بتهوين الأمر.
= لم أطلب منك أن تهون لى الأمر أو أن تحمله عنى أو حتى معى.
- أعرف ذلك ولكنى أتساءل إلى متى تصبرين عليه وعليهم، طاقة البشر محدودة، وأخشى أن تنكسرى وحدك، حتى أمومتك ضحـَّـيت بها من أجل شئ لا معالم له.
= لن أنكسر أبدا، أنا أعرف نفسى، أنا لم تتحدد معالمى أبدا حتى أخشى عليها من الكسر.
- أنت تزوجت، وأنجبت، وطـلقت، وها أنت تسبحين عكس اتجاه التيار.
= عملتها جميعا بنفس الشجاعة دون ندم.
- لا أعتقد.
= معك حق، ندمى سيكون أكبر لو لم أكمل طريقى.
- هذا طريق ليس له نهاية.
= أعرف ذلك.
- هل تريدين منى شيئا محددا؟
= نعم.
- قولى مباشرة ماذا عندك؟
= فردوس.
- مالها؟
= لم أرتح لها أبدا، لافى الأول وهى كالبلهاء المذعورة، ولا الآن وهى كالطير العاجز المنتشى بوهم الطيران، فى حين أن قدماه تغوصان فى الطين، وهو فى غاية السعادة.
- أعرف….. المسألة أصعب من كل تصور.
= أخشى أن تيأس معها، فأحس بالوحده أكثر.
- لست هنا لأيأس، لا معها، ولا بدونها.
= اليأس يتربص بنا عند كل منحنى من الضعف أو المراجعة، وللعمر اعتباره.
- أنت إنسانة عظيمة.
=… لا تكن غبيا كالآخرين.
- معك حق.
- 1 -
حين أحسست بحريتى، أطلقت لمشاعرى العنان فانطلق حبى الملتهب يغلف كل علاقة لى حتى بالجماد والموتى، لابد أن أعترف أن شيخنا هذا شئ آخر، أحيانا يبدو لى أنه أبسط من كل تصور، وأحيانا يبدو بعيدا غريبا لا تكاد ترى معالمه، أحيانا يبارك عواطف الضعف حتى أحسب أنه حمامة تضع الحب لصغارها، وأشك فى إمكان تحقيق أى شئ، ولكنه لا يلبث أن يثور كالنمر الهائج وكأن شعلة جنونه تصارع كل شرور تاريخ البشرية جمعيا، بل وحاضرها الساحق، ومستقبلها المظلم فى وقت واحد، أية مهنة هذه التى تفرض على صاحبها صراع الدينصور وركوب البراق فى آن واحد، أقسم أنه يحتاجها لكيانه الشخصى وأنه فى أشد الحاجة لكل هذا الإصرار والتحدى، ربما هذا هو الذى يحافظ على استمراره، أنا أحترمه وأحبه، أحس به بالرغم منه، يحاول أن يخفى شقاءه وراء صياحه وأن يغلف صناعته بتقديس المطلق والحديث عن إيمان جديد قديم، وهو لا يطلب إلا الأمان فى أبسط صورة، أخاف من سلطانه رغم يقينى بأن مبالغتى فى استقبال جبروته هى منى أنا، أحس أحيانا أنى لو سهوت عن نفسى لوجدت روحى ملقاة بين يديه، لا أدرى كيف أستطيع أن أسترجعها منه.
أنا لم أحرق مراكبى وأهدم بيتى لأسلـِّـم روحى لآخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو النبى الجديد، لو رضيت بالتسليم لكانت ابنتى وأبيها أوْلى بى، أعذر غريب الأناضولى وهو لا يكف عن هجومه عليه ووصفه بأبشع الصفات، أتعجب لماذا يصر غريب هذا على الحضور، أتمنى أن يستمر فى الحضور، وجوده يطمئننى، أنا فى حاجة لأن أسمع رفضه باستمرار حتى لا أنسى، متى أستطيع أن أمسك خيوطى دون التماس العون من أحد؟ إبراهيم الطيب، هذا الفلاح الحلو..الدنيا بخير، ماشى، تحمل يا إبراهيم مشعلك المتواضع، مثل اللمبة ذات الشريط العارى التى لا يطفئها الريح أبدا..
= ألا يساورك الشك يا إبراهيم فى أن الدنيا بخير.
- يساورنى.
= وماذا تفعل؟
- أتأكد أن الدنيا بخير.
= ألم يحدِّثك غريب؟
-…. حاوَل.
= وماذا فعلت؟
-… لم أجد ما أقوله، كانت مرارة حديثة أصدق وأقسى من أن يخففها فيضان النيل قبل السد، لكنه كف منذ يوم الحادثة، كاد يـُـؤْمن، ثم ملكه رعب شياطين الأرض والسماء.
= عاد أسوأ من الأول.
- خاف حلاوة الإيمان، لا شئ يقضى على الأمل إلا تحقيقه.
= كلامك يجعلنى لا أتعجل تحقيق المستحيل.
- ألفاظك ضخمة، تبعث الشك فى حقيقتها.
= أليس مستحيلا يا إبراهيم؟
- نعم… ولا، حسب موقفك وما تريدين.
= أريد أن أجعله ممكنا، ولهذا أحضر بانتظام.
- ليس كافيا، غريب ذاته مازال يحضر بانتظام.
= أنا لست ”غريبا” يا إبراهيم، وأنت تعلم ذلك.
- أعتقد أنه سيتوقف قريبا، لا قوة فى الأرض تستطيع أن ترغمه على الحضور.
= ولا فى السماء؟
- إلا أن يفقد توازنه دون أن يفقد توازنه.
= ما أبشع رؤيتك، حكمتك، تخيفنى.
-…. قوانين الواقع هى زاد المعاد.
= تصر أن الدنيا بخير.
- ولم لا؟
= ألا تشعر أنك تهرب بهذا التفاؤل الغبى.
- هذا ما يبدو لى أحيانا، أنا لست متفائلا يا نجوى.
= إسمع، لا تربكنى، أنت تعلم أنى أهوى الحيرة، تعفينى من مسئولية التحديد.
- هذه مصيبتك.
= ردك سريع وجاهز، ومع ذلك هو محيـِّر أيضا.
- إسمعى يا نجوى، لا تغترى بشجاعتك وتذكرى دائما أنك تسيرين على الأرض، كل ما عدا ذلك هو الهرب بعينه.
= تسمى تحدياتى هربا، وتفاؤلك ليس هربا.
- قلت لك لست متفائلا بالمعنى الشائع، لكننى مـُـصـِـرٌّ
= الجميع يطمئنون إليك لأنك متفائل، حتى غريب لم يسمح لأحد أن يـْـلـَـمـْـلـِـمـْـه ذلك اليوم إلا أنت.
- كانت بضعة ثوان، ولكنه لم يهدأ إلا حين أحطنا بهما جميعا.
= هذا صحيح، ما رأيك فى الدكتور؟
- له شطحاته، أشعر كثيرا أن وحدته أقسى من أى واحد فينا.
=أحيانا أحتار مـَـنْ الذى يعالج الآخر: أنت أم هو.
- هو طبعا.
= بذمتك؟ ألا يكلفك سرا ببعض مهامه؟ يدهشنى منظرك وأنت تدفع الأتعاب كل مرة للممرض مثلنا.
- فضله علىّ لا يمكن إنكاره.
= تبدو أكثر تماسكا منه.
- هو الرائد…. ولابد من احترام شقائه، وألمه،و وحدته.
= أنا أحبه يا إبراهيم، أحيانا أشعر أننى تخطيت حدود ما تسمح به العلاقة المهنية.
- أعرف ذلك، لا حظته، ولم أرفض، ولم أنزعج.
= ماذا أفعل؟
- تعرفين الطريق.
= ليس تماما.
- سوف تعرفينه.
يتركنى إبراهيم فى كل مرة أحادثه فيها وأنا فى جو من الأمان يرعبنى، كيف يمكن أن يكون هذا الإنسان هكذا، أريد أن أعرف عنه أكثر، أريد أن أخترق صفاءه لأرى بحره حين يثور، أريد أن أعوم فى أمواجه ثم أغوص فى أعماقه، ثم قد أعلن مثله أن الدنيا بخير، أو أنه أكبر أبله فى العالم.
****
حين أرجع من هناك، أواجه عالمى الأوسع فى البيت أو فى العمل، أحس أنى أختنق، يعتبرونى فى العمل بائسة أستحق الشفقة بعد طلاقى وحرمانى من ابنتى، ويتهامسون أحيانا وكأنهم يشكـّـون فى عقلى، لا أعدم محاولات اقتراب مشبوهة بوصفى مطلقة حسناء، حاول أحد الوجهاء يوما أن يأخذ منى ميعادا خاصا وقبلت لتوى دون أن أعرف سببا واضحا لهذا السخف، كدت أتراجع بعدها ولكنى أصررت على أن أختبر قدرتى على الرؤية بعيدا عن جوهم الصناعى، رجل فى منتصف العمر، شديد العناية بالتفاصيل من أول ربطة عنقه حتى لمسات أصابعه وهو يبادلنى التحية، لاأنكر أن شيئا فىّ انجذب إليه، زاد تصميمى على الذهاب حتى أتعرف على ذلك الشئ الذى مازال مختفيا بين طيات نفسى، اكتشفت بلا دهشة أن هذا عالم تـَـرَكــَـتــْـهُ من زمن، ولا أمل فى الرجوع إليه، كنت أتتبع حركاته ومحاولاته للتظرف – رغم أنه كان يبدو ظريفا فى بعض الأحيان، رحت أتعجب من عماه وبلهه، حاولت أن أثنيه من طرف خفى، ولكنه كان يواصل كفاحه الغبى دون توقف، غرباء هؤلاء الناس، حتى زوجى الطيب كان أكثر إحساسا بحقيقة الإنسان وبعض داخله من هذا الأعمى، إذا كانت هذه هى العلاقات المتاحة فلابد من تحقيق المستحيل، يبدو أن الرجال صنفان لا ثالث لهما: واحد طيب غارق فى حسن النية متلهف إلى أمومة سرية، والآخر غبى لا يرى إلا ذاته الذكرية اللامعة يباهى بها فى سذاجة، هذه هى الاختبارات المطروحة يا إبراهيم فما قولك فى حتمية المستحيل؟ إياك أن تقول لى بعد ذلك سيرى على الأرض، ليس على أرضكم سوى ذكر الطاوس أو ذكر النعام، إن الله لم يخلقنا لنتراجع عن إنسانيتنا عند أَوَل تهديد بالوحدة أو بالهجر، حتى أنت تخيفنى أكثر من أى آخر، أكثر من الطبيب نفسه، أخشى أن تتكشف عن إنسان مخدوع لا يعرف ما يقول، سوف أخوض المعركة وحدى حتى أتحدى يأس غريب وتفاؤلك معا، أنا مع غريب أكتفى بأن ألقى فى وجهه – بصدق ما – كلمات الحب بين الحين والحين لأتمتع فى خبث سافل بخلجات وجهه المرتعدة تترجم عن رعبه المروع، أخشى أن يخطئ مرة فيقبل أحد عروض ودى فجأة، ساعتها سوف ينتقل الرعب إلىّ، لو أنى سمحت لأحد بالاقتراب فليس أمامى إلا تكرار الخيبة، أتمتع الآن بالعلاقات على مسافة، ما زالت جروحى تدمى ويعاودنى الندم على ما فعلته فى زوجى الطيب وابنتى الطاهرة، أين أنت يا حبيبتى، أخشى الانتقام من فعلتى وأحاول أن أكفر عن ذنبى بالاقتراب من بسمة وكأنها أنتِ، هل أستطيع أن أساعدها؟،
= لماذا كل هذا الحزن يا بسمة؟
- لست حزينة، رأيت أكثر من احتمالى،
= أنت رقيقة، لماذا سبقتِ سنك الغض، هلا اكتفيت بذلك ومضيت تسعدين بشبابك.
- لا تقولى ذلك وأنت خير من يعلم أنه كذب.
= أشفق عليك بصدق.
- لن أكرر مأساتك أو مأساة فردوس هانم، أنت لا تعرفين أن ما هربت منه هو البضاعة الحاضرة فى سوق العلاقات.
= هذا كلام عجوز يا حبيبتى.
- وغير ذلك كذب لا يقنع حتى الأطفال.
= الحكمة قبل أوانها تـفقد الحياة بهجتها.
- لا حكمة فى تسمية الأشياء بأسمائها.
= وسهر الليالى، وسحر الخداع، ونبض الحنان؟
- لا شئ يجمـِّـل الكذب إلا كذبٌ أنعم.
= “بدري” عليك يا حبيبتى.
- لا مجال لمراعاة فروق التوقيت.
……
هل يا ترى يا ابنتى حين تكبرين سوف ترين ما رأته بسمة هكذا مبكرا، هل سوف تكونين وحدك أم سوف تجدينى بجوارك لو نجحت فى تحقيق هذا المستحيل، ساعتها أستطيع أن أخفف عنك، ربما، سوف أنقذك من الاستسلام الميت، ومن اليأس المر، ومن الخداع الأعمى، تركتك وتركت أباك من أجلك، حين أكمل الطريق سألقاك، أنا أنتظرك، سوف تحضرين إلىّ وحدك، أنا واثقة أن بك شعلة من وجودى، أو حتى شعرة من جنونى، لن تتحملى المضى بها طويلا تحت الرماد، قولى عنى ما شئت الآن ولكنى لن أكف عن الصراع من أجلك، ومن أجل بسمة، ومن أجل كل البنات الزهور حتى لا تذبل قبل أن تتفتح.
……
- أريد أن أحدثك فى كلمتين يا نجوى.
= خيرا يا فردوس.
- لا، على انفراد.
= سر يعنى؟
- تقريبا، أخشى أن تردِّينى خائبة.
= ما هذا يا فردوس؟
- خرج الآخرون وأستطيع أن أقول لك الآن.
= خيرا.
- أنت جميلة كالقمر.
= شكرا، ولكننا نتعلم هنا أشياء أخرى.
- وأعرف أنك معجبة بجمالك.
= ليس تماما.
- أنا أعرف أننا هنا، نتطور أليس كذلك؟،
= نتــ… ماذا؟
- نتطور، أى نصبح أحرارا، أليس كذلك؟
= تنطقين بهذه الألفاظ الرنانة يا فردوس وكأنك تتحدثين عن المقادير اللازمة لطبق اليوم.
- لماذا لا تصدقونى وأنا فى غاية السعادة بفضل علاجكم، وإصرار زوجى على إحيائى.
= ماذا تقولين يا فردوس بالله عليك؟ ما هذا الكلام؟
- يـُـخرج الحى من الميت.
= هل تدركين معنى ذلك يا فردوس.
- هو الذى يقول، وأنا أحفظ وأردد، هذا أكثر راحة، استسلمت.
= أنت تظلمين نفسك.
- كنت زمانا كذلك، كم ضيعت وقتى فى المطبخ ومع العيال، أما الآن بعد مسألة التطور هذه، لم أعد أظلم نفسى، ولا غيرى، إسأليه حتى، الفضل يرجع له، عبد السلام يجعلنى أضئ فى الظلام مثل الساعات الفسفورية.
= قلبى يتقطع عليك، وأخشى أن أصدمك،
- لا تكونى مثله، ماذا تريدون أكثر من ذلك،
= عبد السلام يحبك لو أنه يرفض هذا السهل الجاهز.
- سهل ماذا؟ وجاهز أين؟ أنتم تحبون الكلام، بينى وبينك، يبدو أنه يفرح بتطورى فى الليل، ويرفضه فى النهار.
= أخشى ذلك.
- ولم تخشينه؟ كله مصلحة.
= وأنتِ؟
- أنا مالى؟ كفى الله الشر.
= فى رأيى أنك كنت أفضل قبل هذا التحول المفاجئ، كنت أحس بترددك وحيرتك ورفضك، كانت عيناك لا تغيبان عن بسمة فى أمومة محيطة،
- لا داعى للهم والفكر، ما دام الدكتور وعبد السلام يعرفان الطريق، فسوف يساعدان بسمة كما ساعدانى حتى ينقلب كيانها، وتنسى الهم إلى الأبد.
=….
- أَخـَـذَنـَـا الكلام يا نجوى، أنت حلوة كالقمر، وخسارة شبابك فى كل هذا الفكر.
= ماذا تريدين قوله؟
- زوجك الأول قليل البخت ولم يعرف كيف يحافظ عليك.
=كان رجلا طيبا ولا لوم عليه، الذنب ذنبى.
- عندى عريس.
=…… نعم؟ نعم؟
- عريس كله شباب وصحة، وحالته مستورة وقد حدثته عنك كثيرا، ماذا قلت؟،
= فردوس…. يبدو أنك لست معنا أصلا، فردوس، حاولى أن تفهمى ما يجرى.
- حاولت فى الأول حتى تعبت، ثم سلـَّـمت أمرى.
= سلمته لمن
– سلمتـِـهِ لكم ولعبد السلام.
= ربما هذا هو سبب ما أنت فيه الآن.
- أنا فى ماذا؟
= أبدا، ولكن لا بد أن تعيدى النظر.
- أنا أفكر كما تريدون، لا تنسَ أنى أحمل ليسانسا فى التاريخ، أنا لست جاهلة.
= ياليتك تستعملين فكرك بضع دقائق بطريقة أخرى.
- أنا مستعدة، قولى لى أفكر فى ماذا، لماذا؟
= فى الناس، فىّ، فى سبب طلاقى.
- أنت أدرى بهذا كله، قولى لى إذا شئت لـِـمَ طـُـلـِّـقت؟
= لأبحث عن المستحيل.
- اسم الله عليك وعلى حواليك، لقد حفظت هنا كلمات كثيرة مثل التطور والحرية، وها أنت تضيفين إلى القاموس كلمة أصعب، ما هى حكاية المستحيل هذه؟
= أن نعيش كما خلقنا الله.
– اسم النبى حارسك وضامنك، أنت امرأة مثلى وشبابك خسارة، دعى هذا الكلام الصعب للرجال.
= فردوس.
- نعم.
= الله يسامحك.
- 2 –
عينا مختار لطفى لا تتركانى فى حالى، ماذا يريد منى هذا الجائع، عيناه فيهما سحر غامض ينفذ إلى خلاياى الأنثوية دون استئذان، ليس فيه زيف ذلك الوجيه المتأنق ولا وضوح ابراهيم المزعج، ولا يأس غريب الأسود، نظراته وقحه عارية تصل دون أن يغلفها بأية محاولة أخرى، مع غريب أجد لذة فى التحدى والعناد، مع إبراهيم أحس بالطمأنينه والأمان وحنان حذر، مختار شئ آخر: ذكرٌ فحلٌ، ينادينى وكأنه يكتشفنى، أو لعله يدعونى لاكتشاف الطبقات الأخرى من أنوثتى، أتجنب التفكير فيه معظم الوقت حتى لا أجد نفسى أتجول فى بستان حلم وردى لا يكفى لتبرير تحطيم بيتى وإغراق كل مراكبى، ينجح فكرى طول الوقت فى السيطرة على الإثارة التى تسببها لى نظراته، أحيانا لا أجد مبررا لمقاومته، قد يكون هذا كله عبث فى عبث ولكنه جزء من لعبة الحرية التى أريد أن أكملها للنهاية، أنا أسعى لتحقيق المستحيل، ولن أعرف طريقى إليه إلا إذا طرقت كل باب، قانونى مسئوليتى الشخصية، قمت فزعة من نومى أمس حين حلمت به يسبح معى عاريا فى حمام سباحة سرى يقع فى بدروم مسجد أثرى، كيف أتحدث عن الصدق والشجاعة وأنا لا أسيطر على أحلامى ولا أتصالح مع بقية ذاتى، واجهته فجأة وكأننا نكمل حديثا بدأ منذ زمن.
= نعم يا مختار.
- نعم يا نجوى.
= عيناك تريدان أن تقولا شيئا باستمرار.
- صحيح.
= لماذا لا تقولها مباشرة؟
- لأنك تعرفينها مادمتِ قد أحسـَـسـْـت بها.
= دعنا من الألغاز، أنا أدفع عقلى ثمنا للمعرفة.
- كلامك كبير والحكاية أبسط من كل هذا.
= حين أترك بيتى وابنتى فلابد أن تكون الحكاية أكبر من كل تصور، أنت لا تفهم معنى البيت والأمومة.
- هذا اختيارك فماذا تريدين بعد؟
= أن اخترق المجهول.
- أنت شجاعة، ولكنك لست حرة.
= لا تتحدانى وإلا ندمت.
- المسألة ليست مسألة تحد، أنت تضعين حدودا لحريتك، والحرية الحقيقية ليس لها حدود، أنا فى انتظارك بلا خوف ولا شروط.
= الخوف الصادق جزء من لعبة الشجاعة.
- ستظلين سجينة خوفك بقية حياتك.
= ماذا تريد منى.
- أن تكونى حرة.
= ماذا تقصد؟
- الحرية عندى هى الوجود ذاته، الوجود قبل ودون أى شروط أو تفكير، هى حرية قانون الخلية الحية الأعظم من كل قيمة.
= سمعت أن الخوف هو من قوانين الخلية الحية أيضا.
- أنا لا أفرض آرائى على أحد، تعرفين احتياجك، وسأظل فى انتظارك.
أحيانا أحس أنه أقرب إلىّ من نفسى، ابتسامته الوديعة ونظراته النافذة تقول لى تصبحين على خير قبل أن أنام، وفى أحيان أخرى استطيع أن اقسم أنه لا يعرف اسمى، هو لا يخصنى بهذه النظرات بل يوزعها بالعدل على كل أنثى من أول مساعدة الطبيب حتى ملكة مناع، الفائدة التى يمكن أن أحصل عليها هى ألا أتراجع مهما تكون النتائج.
تمضى الأيام ولا أستطيع أن أتخلص من تفكيرى فيه.
– 3 -
= الا يعنى ذلك نكسة إلى الحيوانية يا مختار؟
- الحيوان كائن متناغم مع نفسه، يعيش فى حالة وجدٍ كامل دون انشقاق أو ادعاء،..الانسان هو الذى تدهور حين انقسم على نفسه.
= كلامك كبير…. وتتهمنى بالتفكير المعقد.
- هذا إحساسى الكامل بلا تفكير.
= أجد صدَى لما تقول، صدى يثيرنى ويغرينى بالمخاطرة،
- ليست مخاطرة ولكنها عودة للوجد التلقائى، أين الخطر.
= الخطر خطر.
- هذا الخطر من صنعنا نحن، هو يعوق تكامل وجودنا ويحد من انطلاقنا.
= انطلاقنا إلى أين؟
- إلى جنة الحيوان فى توافقه مع ذاته تماما.
= نحن بشر.
- حيوانات أعقد، لكننا جزء من الطبيعة لا أكثر ولا أقل، وما شقاؤنا وضياعنا إلا لأننا خاصمنا الطبيعة بغباء، لا سبيل للتوافق إلا إذا رجعنا إليها بلا تباطؤ.
= أخاف من كلمة الرجوع.
- إذا اكتشفنا خطأ الطريق فلابد من الرجوع.
= الحيوان ليس مثلى الأعلى.
- الحيوان أكثر توافقا وصدقا.
= الحيوانات تأكل بعضها بعضا.
- الحيوانات لا تفعل ذلك إلا إذا جاعت، أما الإنسان الكذاب فهو يغلف هذه الجريمة بالمبادئ ويمارسها لمجرد الجشع والسيطرة والاستغلال.
= عندك تفسير لكل شئ يا مختار، رؤيتك كاملة الوضوح، فلماذا أنت هنا؟
- لا أسأل نفسى لماذا إلا نادرا، أنا أفعل ما أحس أنى أريد أن أفعله فحسب، أنا لا أعرف لماذا أنا هنا، وجدت نفسى هنا، قلت أكمل، حتى لم أسأل: أكـْـمـِـلَ ماذا؟
= أنا خائفة.
- بل أنت شجاعة ولا أحسبك تركت الزواج وضحيت بالأمومة إلا لاسترداد حريتك.
= أحيانا أحس بالندم وأفكر فى الاحتماء بأول رجل يطرق بابى، أستظل بظله من جديد.
- لا أعتقد أنك تستطيعين أن تربطى مصيرك بواحد فقط مرة ثانية.
= يعنى، ولكن…
- لو أنك من أهل ”لكن” لما هدمت بيتك من أجل حريتك.
=…. هل أنت حر يا مختار؟
-…. تماما….
= تماما؟!! تماما..؟!.
- بلا أى قيد.
= فلماذا أنت هنا؟
- ألم أجبك؟ طائر بلا عش، أرتشف رحيقى من كل الأزهار.
= أنت وحيد.
- لا أسعى لقتل الوحدة، ولا للتمسك بها.
= ليس لك أصدقاء.
- لى…. ولكن دون وفاء مــلـزم، حتى الوفاء يحد من وجودنا الحر.
= أى شيطان يزين لى كلامك، تتفتح أنوثتى بلا استئذان.
- أنا واثق منك…. ومن صدقك.
= ليكن، وبعد؟
-…. حرة…. و…. وشجاعة.
****
لاقوة فى الأرض تستطيع أن توقفنى ولا أن تنسينى هذا الحديث، هل هذه هى حقيقتى فعلا؟ ماذا يفعل بى هذا الرجل؟ هل هذا هو المستحيل الذى سعيتُ إليه؟ الذى تركت الدنيا من ورائى لتحقيقه؟ هل أنطلق حقيقة إلى عمق أعماقى الحسية؟ هل أنا أنتقم من نفسى أم أمارس حريتى؟ نظرات إبراهيم لا تتركننى وكأنه يعرف كل شئ.
- 4 -
= إذن ما الحرية يا إبراهيم؟ فـَـلـَـقـْــتـَـنـِـى.
- هى المسئولية.
= وهل الحيوان مسئول؟
- وهل هو حر؟
= يخيل إلى أنه كذلك، أليست حريته هى حرية الخلية الحية.
- الحرية اختيار، والاختيار وعى، والوعى مسئولية، والخلية لا تعى أيا من ذلك.
= لا تبالغ فى فلسفة الأمور أنت الآخر، فأنا فى مأزق حقيقى.
- أعلم ذلك، ومختار ليس حرا على أى حال، بل لعله أبعد واحد فينا عنها.
= لم أذكر اسمه، هل تتجسس علىّ؟
– أعرف ألفاظه جيدا وخاصة حين تخرج من شفاه غيره.
= الحقيقة ليس لها صاحب.
- وأعرف قصته كذلك.
= أنا أسألك بلا لف ولا دوران.
- وقد أجبت.
= تقول مسئولية..مسئولية عن ماذا؟
- عن كل شئ: عن سعادتنا وشقائنا، وسعادة الآخرين وشقائهم.
= تـُـوَسـِّـع الدائرة….. حتى تضيـِّـق على الحرية فى النهاية.
- إما الحرية لتخدم كل ذلك، وإما الكذب والتبرير.
= البساطة فى الانطلاق بلا قيود ولا قيم من الخارج.
- ما عليكِ إلا أن تجربى.
= هل جننت..؟ أنت لا تعرفنى.
- النصح لا يفيد فى مثل هذه الظروف، لن تربيك إلا التجربة.
= اسمع، أنا لو أطلقت نفسى فسوف أكتسح العالمين، قد يتغير التاريخ، أنت تعرف أن طاقتى بلا حدود، شهيتى لا ترحم.
- أعرفها، وأخاف منها، ولكنى أعرف أنها ليست هى الحرية، ربما تكون عكسها.
= هلا راجعت نفسك يا إبراهيم؟ ربما كنت مكبوتا خائفا طول عمرك، ربما كان هذا هو مصدر حـِـكـْـمـَـتك وسر صبرك وتفسير شقائك الذى لا يعرفه أحد.
- ربما يكون شقائى هو حريتى.
= أنا لا أعيـّـرك يا إبراهيم، لا تكن حساسا هكذا، ولكنك تقيد فكرى حين تخطر ببالى، كلما هممت بالانطلاق أو تجرأتُ على علاقة ما: تذكـَّـرتـُـك، صورتـُـك وصوتـُـك، صبرك وشقاؤك، كل ذلك يذكرنى بجانب الحياة الذى أتمنى لو نسيتـُـه إلى الأبد.
- هذا ليس ذنبى.
=… تأثيرك سئ على حريتى،
- لن أتصنع الانطلاق من أجل مساعدتك على إشباع حيوانيتك.
= حيوانيتى ليست سـُـبـّـه، هى أنا.
- ألهذا سعيتِ للطلاق؟؟
= ربما، الحيوانات لا تتزوج على أى حال.
- ليس دائما، بعضها يفعل.
=… أنا من فصيلة الطيور التى تملك كل السماوات.
- لابد من عش فى النهاية، وأزواج الحمام تهدل فى كل مكان.
= بماذا تغرينى يا إبراهيم؟ هل تلوّح لى بالرجوع إلى زوجى؟
- ليس عندى ما أقوله.
= وأنت؟ لماذا لا تتزوج؟
- أنا متزوج.
=….. نعم؟ نعم؟
- أنا متزوج.
= وأين هى؟
– مع عشيقها…. عشاقها.
= ماذا تقول يا إبراهيم!!؟
- أقول ما قلت.
= أهذا هو الذى علمك الفضيلة فرحت تبخرنا برقيتك “أن الدنيا بخير”.
- لا شك أن الدنيا بخير.
= كذاب، هارب…. هارب، من منظرها بين أحضانهم.
- ربما ..! أنت حرة…
=….. رغم أنفك….
– 5 -
تأكدت أننى مجنونة، الألفاظ الرنانة التى كنت أستعملها لأخفى جنونى بدأت تتكشف على حقيقتها حين دخلت إلى الاختبار الحقيقى، النار المقدسة التى كنت أفخر بها هى نار جهنم بلا نقصان، المستحيل الذى كنت أحاول التماس الطريق إليه هو الشكل الجميل لخيال مجنون، كنت أسخر من كل من يتهمنى فى عقلى لمجرد أنه يرفض تصرفاتى، كنت أعتبره جاهلا لا يفهم، كم تساءلت لـِـمَ أذهب إلى الطبيب وليس عندى أعراض؟ الآن، عرفت أن ما بى هو ألعن من كل الأعراض!! لو كنت أرى أشباحا أو أعتقد أن الناس تضع لى السم لهان الأمر علىّ وعليه، لماذا لم يقل لى الطبيب أنى مجنونة “رسمى” منذ البداية؟ هو المسئول منذ البداية، كان عليه أن يشخص حالتى ويعطينى المهدئات اللازمة فى الوقت المناسب حتى أرجع إلى زوجى وابنتى، لا أنكر أنه عرض على ذلك فى أول الأمر وأنى رفضته بإصرار، كان عليه أن يصر حتى ولو أدى الأمر إلى استعمال القوة، تركنى لنفسى حتى اكتشفت مصيبتى بنفسى، ولكن بعد فوات الأوان، أين أنت الآن يا ابنتى يا حبيبتى، كيف تنامين؟ وكيف ترضعين؟ على صدر من تبكين؟
هل تقبلنى يا زوجى الطيب بعد الآن؟ بعد ما كان؟ كنت أخاف الانتقام مما فعلته بك، لم أتصور أنه سيكون بهذه البشاعة، الانتقام يأتى من داخلى، نار جنهم هى بالداخل.
أنا وهؤلاء الناس المخدوعين وقلوبنا التى تحجرت هى وقود هذه النار بلا نفاد، ضاق على الخناق فى كل مكان، أخى الأصغر، الذى كنت أعلمه المشى طفلاً هو هو الذى صاح بى أمس” لا حرة ولا زفت”، ”انظرى ماذا صرت إليه يا غبية” لم أرد عليه، بل إنى لا أنكر أنى شعرت أننى نلت بعض ما أستحقه، لو أن ربع هذا حدث قبل ذلك لكنت انتحرت أو قتـلت، بلعتها فى صمت جزاء لما اقترفت فى حق أبرياء.
أتبين الآن أن طلب المستحيل الذى يبدو براقا وكأنه الشجاعة والطموح فى أرقى صوره ما هو إلا مهرب حقير من مواجهة تحمل مسئولية حياتى اليومية، هأنذا – يا طالبى المستحيل- أنتقل من وجيه يعرض على خدماته فى كازينو على النيل إلى مختار الذى يغرينى بالحرية لحسابه الخاص، وهو لا يكاد يعرف اسمى، إلى إبراهيم الموتور المخادع، إلى غريب المرعوب من مجرد اللمس، كل ذلك يدور فى فلك سيدنا الشيخ ناظر مدرسة تحضير الأوهام؟ هنا والآن، أى عبث، هدمت بيتى من أجله؟ وأى ضياع ينبغى أن استمر فيه؟ متى تغلق الحكومة هذه المحال التى تبيع الأوهام للعجزة والأغبياء أمثالى؟ قاع البئر سحيقة حتى لتبدو بلاقاع.
- ما العمل يا إبراهيم؟ أنا لا أسألك، أنا أعرف ما ستقوله لكنى أريد أن أسمعه منك أنت بالذات.
- ترجعين، وبأسرع ما يمكن.
= أبهذه السهولة ؟ أنا لا آكل من بيتك، سوف أرجع حين أريد.
- مازلت تتكلمين عما تريدين وما لا تريدين.
= سافل جبان..تنتقم من زوجتك فىّ.
-…الرجوع أو التراجع أفضل من الهلاك مثلها، إنك هكذا ترقصين على السلم، لا تحصلين على عنب الشام ولا بلح اليمن.
= صفقة هى؟ أنت لا تدرك ما بى من ثورة، وتنتهز هذه الفرصة لتسقط علىّ مخاوفك، وعجزك عن إكمال الطريق.
- مازلت تتحدثين عن الطريق وإكماله وأنت إلى الخلف در.
= أحسن منك يا من أحكمت رباط عينيك وتوقفت تماما تدّعى الفضيلة وتفرز الشقاء.
- أنا سأكمله يا نجوى بالرغم من كل شئ.
= وامرأتك؟
- لها عذرها، لم تر شيئا غير ماهى فيه، لكنك أنت عرفت كل شئ، وحدك، وهذا مادعانى للائتناس بك.
= لا تخدعنى..أنت تحتقرنى من البداية.
- كانت ثورتك تخجلنى من عجزى، وكان إصرارك يزيد يقينى بالخير دون أن نتبادل كلمة، كنت دائما آنس لك من وراء ظهرك.
= كفى يا كذاب..أليس أنت الذى كنت تنصحنى منذ لحظة بما لا ترضاه لنفسك، بالرجوع بأسرع ما يمكن، يا فرحتى بائتناسك بى.
- أنا لا أنصح، أنا أقول ما أرى الآن، وكل واحد يتغير باستمرار.
= شكر الله سعيك..أنا عملتها وحدى، وسوف أتحمل مسئوليتها كاملة.
- احذرى أن يدفعك عنادك لتكرار ما كان بصورة أخرى.
= حتى لو كررتها، فمالك أنت؟
- تكرار بتكرار، زوجك وبنتك أولى بك.
= هذا ليس من شأنك.
- هو شأنى ونصف، إما الرجوع وإما المسئولية كاملة، كله إلا الضياع
= جبان، كذاب، لماذا لم تمنع زوجتك من الضياع من قبل؟
- نهايتها البشعة هى التى علمتنى ألا أتهاون فى أن اقول ما أرى، وفى الوقت المناسب.
– 6 -
ضاقت بى السبل، انطفأت حاجتى للرجال، أعلن جسدى الموت، تجمد الثلج فى أحشائى وتراكمت الأتربة على مشاعرى، مازلت أصر على الحضور بانتظام، نسينى مختار تماما وكأنه لم يعرفنى أبدا، انقطع غريب عن الحضور، طلـق إبراهيم زوجته بعد أن اختفت من المنزل بضعة شهور، امرأة شجاعة، أشجع من كل هؤلاء المخدوعين، شيخنا العنيد يحصل على الإتاوة بانتظام، كان عليه أن يعلن زيفنا وخداعنا منذ البداية لنتحمل المسئولية فى كل الأحوال، أحسب أنه ينتظر أن نصنع له المعجزة التى عجز هـُوُ عن أن يصنعها لنفسه، عبد السلام مازال يحاول فى إصرار، فردوس بدأت تعيد النظر على ما يبدو.
= عبد السلام.
- كنت أنتظرك يا نجوى، من زمن وأنا أتابع كل ما يجرى.
= قلت لك من الأول أن هناك شيئا يجمعنا.
- أعرف ذلك.
= أرهقتُ تماما وفشلتْ كل الحلول.
- تقتربين من بداية أخرى، لعلها أطيب.
= صبرك رائع ومزعج.
- لم أتعلمه فى يوم وليلة.
= وكيف حال فردوس، أظن أن هناك شيئا ثالثا بدأ يظهر.
- أنت تحبيننا يا نجوى، تحبين فردوس كما تحبيننا جميعا، أنت إنسانة كريمة.
= لا أظن، أريد نجاحكما لأستند إلى مستحيل ممكن.
- لم تتعلمى بعد يا نجوى.
= لولا أن زوجى تزوج لذهبت خادمة له بقيه عمرى،
- لا أحسب أنك تعنين ما تقولين.
= لاأعنيه، ولا أستطيعه، تعبت، هل يمكن أن يصبح السجن جنة مختارة؟
- كل شئ ممكن لو استسهلنا أن نختصر الطريق.
= المشى على الصراط لا يقدر عليه إلا ذو قلب سليم.
- قلوبنا سليمة ما لم نشوِّهها بالعجلة أو الطمع.
= لو عرض كلب علىّ الزواج الآن لقبلت.
- جهنم شرعية، بدلا من جهنم البحث الفارغ أو الكذب أو الخداع.
= جلدى رخام صدئ، ونار جهنم لم تعد تؤثر فيه.
- هذا تشويه بلا مبرر.
= يبدو أنى سأستمر بلا أمل.
– أنت لم تبيعى نفسك، أو تكذبى عليها.
= هذه مرحلة استهلكت فعلا، أتساءل كيف تحاول مع فردوس، وباستمرار.
- وستحاولين أنت أيضا، ولكن بشكل آخر، مع شخص يستأهلك.
= حاولتُ مع إبراهيم لعبة الزواج، وفشلت قبل أن تبدأ.
- إبراهيم مجروح، وهو يتجاوز جرحه دون أن ينساه.
= لماذا لا يتزوجنى ألست كزوجته السابقة على الأقل؟
- له حساباته، فلا تقللى من قدرك بحكاية “على الأقل” هذه.
= على الأقل، على الأكثر، أنا تعبت.
- يخاف أن تعملى منه نسخة من زوجك السابق، ربما شعر بذلك.
=… لا تبدو أمامى أيه فرصة لمحاولة أى شئ آخر.
- أنت لا تعرفين نفسك، ما تحدثه فينا هذه التجربة أعمق من أن يظهر على السطح فى ألفاظ.
= الوحدة صعبة.
- وأصعب منها الكذب والضياع.
****
أغلقت خلفى الأبواب الجديدة التى فتحت على مصراعيها، لم يكن لها مزاليج أصلا، تتعمق الوحدة حتى تسحبنى الدوامة إلى أعمق بؤرة لا أعرف لها قرارا، ثم أطفو فأجدنى أقدر على السباحة والطيران، لم يعد الواقع فى السماء، ولم تعد الأجنحة للطيران، أسير ببطء لكننى مفتحة العينين طول الوقت، يتسحب إلىّ معنى آخر للواقع، أرى الناس من جديد، أكاد أعرف ما أريد، الأمل ليس فيما وراء الأفق، بل فيما بين أيدينا.
…….
…….
= إبراهيم، سوف أتزوجك الليلة،
- يا خبر أسود.
= ليس أسود من ظلام الوحدة وعمى الكذب بإدعاء الاستغناء.
-…. هل تتحملين مسئولية ما تقولين؟
= أعرف أى مصيبة نحن مقدمان عليها.
- بـشـَّـرَكِ الله بالخير….. لم تنتظرى ردى.
= أنا أتكلم بالأصالة عن نفسى والنيابة عنك.
- سبق أن رفضت محاولتك الأولى، ماذا حدث؟
= كان عندك كل الحق، شتان بين زواج الاختباء…. وبين اقتحام الواقع.
- وإذا فشلنا.
= كل شىء جائز، لكن لا مفر من قبول التحدى.
- تعرفين ما تفعلين.
= وأنت؟
- أعرف الضرورة، فأقترب منها دون أن أتنازل،
= ليكن ما يكون.
- ليكن ما نصنع.
= لا وقت للكلام.
-…المستحيل هو أبسط صور الممكن.
= بلا ألفاظ رنانة،
- ولا حديث عن التطور ولا يحزنون.
= عندك حق: الحديث عن القيمة يـُـهدرها.
- كل يوم زاخر بكل شئ،
=.. كم يظلم الإنسان نفسه بكل هذه الضجة!،
- لابد أن فى الأمر سرا.
= هو أن للاستمرار معنى.
- ربما..
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).