أحوال وأهوال (73): ترحالات يحيى الرخاوى “الترحال الأول” (الناس والطريق… )
نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 16-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3910
الأربعاء الحر:
أحوال وأهوال (73)
ترحالات يحيى الرخاوى “الترحال الأول”(1)
“الناس والطريق…” مقتطف: صفحة (93- 94)
الأحد 26 أغسطس 1984:
كان الصباح غـائما فأتاح لنا فرصة التلكؤ. كان الطعام جيدا كمّا وتشكيلا لكنّه كان بلا روح. بدا لنا أقل كرما و أضيق سماحا من الإفطار الفقير الذى تناولناه فى فى موتيل الجبل، وكأن روح المكان تسرى حتى فى مذاق طعامه، لكننا تمتعنا مرة ثانية بمجرد الجلوس “معا حول المائدة”، بعد أن بدأنا نخاصم البسكويت بأنواعه، كما بدأنا نمل من الأكل فى العربة فى الوضع “جالسا، وأمامك قفاً غير مشارك”.
أخذ كل منا يخمن كم أمضينا فى الرحلة حتى الآن. ابتدأت معالم الزمن تضيع، وأجمعنا جميعا أننا نحس بالزمن أطول بكثير مما هو، وكأننا بدأنا الرحلة منذ بضعة أسابيع، ونتحدى بعضنا بعضا أن نذكر الأحداث بتواريخها. فبدلا من أن نقول: “لما كنا فى اليونان”، نقول: “أول أمس: لما كنا فى اليونان”، ولم يخفف تكرار هذه التذكرة من وقع المفاجأة فى كل مرة نذكر فيها أننا أول أمس- فقط- كنا هناك. أو أننا عصر هذا اليوم، أو مغربه- وربنا يستر- سوف نكون فى إيطاليا. والذى شغلنى حتى العجب (والخوف) هو ملاحظتى لتلك السرعة العجيبة التى يسير بها قادة السيارات فى الضباب؛ إذ يبدو أن السيارات تسير بالسرعة ذاتها ليلا أونهار بغض النظر عن مدى الرؤية، كان الجو ضبابا أو انقشاعا. فى الضباب تعلّمت أن الأخطر هو أن تمشى ببطء. الحادث الوحيد الذى هدد حياتى، فعرفنى الخط الدقيق الفاصل بين الموت والحياة، كان خبطة من الخلف عند “قها” على طريق القاهرة الاسكندرية الزراعى، حدثت بسبب إبطائى المفاجئ فى الضباب. هاجت علىّ وساوسى ومخاوفى أكثر فأكثر حين تذكرت تلك الخبرة الباقية كما هى حتى دقّ قلبى تحسّبا، وقبل أن أواجه الشجعان الصغار بتصنّع شجاعـةٍ داعيا الله ألا تُختبر، سَتَرها رب العالمين، بلطفه على أبناء السبيل، وانقشع الضباب فجأة. الحمد لله.
انطلقنا فى اتجاه زغرب، وعادت الخضرة والمروج تغمر وعيى. ومن فرط موجات الجمال تلو الجمال، قالت بنتٌ من بناتى إننا قد شبعنا جمالا (وخضرة) حتى لم يعد مزيد من الجمال يلفت النظر. وقد صدقتها لها وليس لى، فكل ما يزيد ويتكرر لا بد أن تشبع منه الحواس فى وقت ما، لكنى لا أشبع من الجمال أبدا. أنا أحس بجمال جديد فى كل شئ مهما تكرر، فثَمّ اختلاف لمن يريد، ويبدو أنى أعيش فى حالة دهشة مستمرة، وهذا هو الشق الاستقبالى من وجودى. أما الشق الفاعل فلعله هو ماوصفنى به أستاذنا الدكتور/مصطفى زيور فى إحدى الندوات العلمية، من أننى فى حالة “مخاض دائم”. وحين أتمثل حالى هذه فأجدنى “مستقبِلاً: مندهشا أبدا، وفاعلا: فى مخاض دائم”، أشفق على نفسى وأحسد الزلط الأمـَلس والعقول المستقرة داخل المناهج الثابتة، والوجدان الرائق المتمتع بالسواء والسلامة طول الوقت، طول العمر. لا أستطيع أن أستسلم لهذا النوع من الشبع والسلامة. يفاجئنى الجمال بتجلياته المتنوعة، فهو لا يتكرر أبدا.
أتذكر أنى اكتشفت فى طريق الصعيد (بين عزبة البكباشى وطموه، ثم بين بنى سويف وملوى، ثم فى كل مكان) طبقات من الخضرة، وتنويعات من المناظر لم أكن أتصور أنها فى مصر بهذه الروعة والتنسيق، وخاصة حين تلاحظ كيف يقوم النخل شامخا بهاماته يحدد الأفق، ويثبت البساط الأخضر من تحته. ظللت أقارن وأُبـهر حتى أسوان، ثم عائدا بمحاذاة البحر الأحمر، مخترقا الجبل من قنا إلى سفاجة، ومنها إلى العين السخنة، ياه!! ما أجمل بلدنا أيضا، بل ما أجمل بلدنا قبلا،، وخاصة قبل نشاز بيوت الطوب الأحمر المتناثرة المرشوقة كبصقات مصدور يائس، على بساط أخضر. ولولا ضيق الطريق، وضحالة ذوق العائدين من بلاد البترول، وكثرة المفاجآت، ولولا قلة الخدمات، وقلة النظافة، وقلة الرحّالة..، ولولا..ولولا …ولولا …وأوقف نفسى؛ إذْ ماذا يتبقى من الجمال بعد كل هذه “اللوْلـوَات”، وأثق فى مستقبل بلدى على الرغم من كل شىء.
وأربـّت على عنق (عجلة قيادة) الحافلة المطيعة. وأسوى شعر عرفها المتناثر، ونمضى… بلا مفاجآت جبلية أو طقسية.
وصلنا إلى محيط زغرب، ولم ندخلها، وقد بدت لنا ونحن نلف حولها (أكثر من عشرين كيلو متراً هى المسافة بين سهمى “زغرب شرق”، و”زغرب غرب” (مثل مجموعة قلاع شرقية متعددة الأبراج، وتنتهى الطريق السريعة (إسما على الأقل).
[1] – يحيى الرخاوى: الترحال الأول: الناس والطريق الطبعة الثانية 2000 (الطبعة الأولى صدرت باسم تداعيات السيرة الذاتية) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
2018-05-16