مونودراما الممثل
قصيد درامى
أرغب هذى الليلة أن أتكلم بلسانى
كل ليالى كلام الثانى
ركب الثانى صهوة حنجرتي
منذ عرفت النطق
عرفت بأن لهاتى كرباج فى يمناه
وأن سنابك مهرته المجلودة أسناني
أخرجنى الثاني
من بشرتى البشرية والتحف بها
كامرأة عارية
تزهو كتفاها بفراء المنك
وساقاها بحذاء من جلد الثعبان
ياسادتى أنا الليلة حر منه
أنا الليلة أنتصر لجرحي
أقتصرعلى فرحي
أختصر هموم الدنيا فى أحزاني
الليلة أكسر بندقتي
أفتح فستقتي
أخرج من جوف محارة أيامى لؤلوتي
أعرض لشعاع الضوء المخروطي
شريط حياتى السرية
بالمجان
كان الثانى يستأجرني
ويبيع على حسي
كل أحاسيس الشخصيات القزحية
من أول حد الأبيض حتى آخر حد الأسود
ويحاسبكم يا سادتى على ما بينهما
من درجات الألوان
ويقاضيكم من خلف الشباك على اسمي
ويسمينى الأسماء الأخري
يمحو وجهى بالممحاة
ويرسم فى صفحته الخالية
ملامح عنترة العبسى المشغولة بتقاطيع أبى سفيان
قل : إني/هـملت .. قلت
وقلت أنا يوليوس قيصر روما
وأنا كسرى الفرس أنو شروان
وأنا هولاكو خاقان التتر بن الخاقان
قل: إنى قيس .. قلت أنا قيسان
قيس بن ذريح وقيس المجنون
وقلت أنا لبنى وأنا ليلى فى بعض الأحيان
كان على الغيرة تطفر من بين ضلوعكم
نافرة الصدر لكى تتقمصني
حين أقول عطيل أنا
كان على الغدر الغائر فى أعماقكم
أن يحكم قبضتى على الخنجر
حين أصيح : أنا ماكبث
كان على العشق الساكن أرواحكم
أن يهدر فى شفتى : أنا روميو
لولاى لمات العشق كما ماتت جولييت
ومات العشاق جميعا
لولا هاتان الشفتان
من هذا الثانى الراني
من خلف النظارة عبر عيونى للنظارة
كالوثن الورقى المبحر
فوق فقاقيع الحبر الأسود
من عصر الأوثان
قال : أنا شخصتك فتشخص
شيئتك فتشيأ .. جسدتك فتجسد
حولتك فتحول .. حورتك فتحور
دورتك فتدور.. كورتك فتكور
ورميتك حين رميتك حيث رميتك
وتمطى كالقطة .. ورماني
قال أنا كف أصابع وبنان
وعجينة صلصال أنت أشكل منها العالم
فالعالم كل العالم – إن لم تدر – على أطراف بناني
قال أنا مسئول عن تشكيلي
فصلاح طاهر المصرى أنا
وأنا بيكاسو الأسباني
قال أنا مسئول
عن زمنى الصلصالى المختلف عن الزمن البندولي
أنا سلطان فى سلطنتي
ومصائر مخلوقاتى الصلصالية لا تتبع إلا سلطاني
أحييك فتحيا .. وأميتك فتموت
وأبعثك فتبعث فردا
أدخلك نعيمى الفردوسي
فتنعم بالفردوسيات
وأدخلك جحمى مجرورا من قدميك
فتصلى نيراني
كانت تلك الجملة آخر ما نطق به المتألة
ذياك المغرور الحاكم بأوامره
الناهى بنواهيه
القاضى بقوانين أمانيه
الجلاد المتعطش للدم يشربه كدركيولا
من كاسات الأعناق المكتظة بالدم
حتى حافات الأذقان
فأنا الليلة قررت بأن أقتله
أن أنتقم لصمتى المرغم
لسكوتى المكره
لوجودى السرى .. لعدمى العلني
لأيامى المنسية .. لليالي
الليلة قررت بأن أنتقم لعمرى ولأمري
ولصوتى ولصورتي
لكل كياني
حتى يتسنى لى أن أتنفس
أتنهد
أهمس همسى .. أصرخ صرخاتي
أنطق نطقى .. أهذى أو لا أهذي
فأنا حر فى هذيانى أو لا هذياني
أهجو الأخطل وجرير معا
وسويا أمدح كافور وسيف الدولة
إخشيديهما والحمداني
لحسابى سوف يكون هجائى ومديحي
لشراعى سوف أوجه ريحي
وعلى جدران ضريحي
سوف أصف كما قدماء المصريين
سجل حياتى اليومية
وأنا شيدى ومواجيدى وتباريحي
وفقا لشريعة فتح فمى الموصوفة فى بردية آني
لا .. وفقا لشريعتى الحية
آنى كالثاني
والاثنان من الكهان
وويلى من كهنوت الكهان
فأنا المصرى العادى المصرية
والنيل كما رواه رواني
والكلمات أواني
فلماذا صار هو الخزاف
وصرت أنا الخزف المجبول
من الطين المجلوب، من الدلتا والوادي
من كفر الشيخ إلى أسوان
ثبتنى الخزاف على عجلته الدائرة
وراح يدس الحفريات بطبقاتى الخزفية
من حقبة ما قبل الأسرات
إلى ما بعد العصر الروماني
وفؤادى ينزف ألما ودما
وفمى مملوء بالماء
وكل حناياى تعاني
وهو يزخرف خصرى بالسكين
ويعجننى ويمعجننى بالحمأ المسنون
وإصبعه تضغط فوقى ضغطا عصبيا دون تواني
ولذلك قررت الليلة أن أخلص منه
لكى أتخلص من مأزقى التاريخى الجغرافى الفونوغرافى الفوتوغرافي
ولو لثواني
فلقد حاولت كثيرا معه
أطلقت النار عليه مرارا
وكأن رصاصات مسدسى ‘فشنك’
وكأن مسدسى مسدس ألعاب
وكأن حياتى أضحت تمثيلا فى تمثيل
فالتمثيل ورائى وأمامي
داخلى وخارجي
فأين أقلب عينى أراه حواني
آه .. لو أطويه بحلقي
هذا الفارد حلقات روايته فى عنقي
لو أطويه
كما يطوى قرص الليزر مكتبة حافلة بالموسوعات
فكم فى سن القلم المبرى طواني
لو أكويه بنارى المندلعة بين جوانحي
لكم بحروف جهنمه الحمراء كواني
ما أحلى أن أقتله قتلا رومانسيا
فالبطلة فى تمثيلية هذى الليلة
يكتب فيها أشعار العشق
ويطلب منى أن ألقيها فى عينيها ومضات
فى شفتيها قبلات
فى أذنيها وشوشة
وعواطف جائشة وأغاني
الليلة
سوف أمارس سحرى الخاص عليها
سوف أريه بأن الكلمات ملائكة
أبرأ من أن تحدث فيها أثرا هرمونيا
الليلة سوف أحضر من سابع أرض شيطاني
وسيعلم هذا الثانى أنى الأول
وسيعلم أن التمثيل حقيقي
حين يباشر فعل الحب على المسرح
حين يصير لشعر الحب ذراعان
سوف يموت الليلة
حين يرى السيدة البلورية
تمسى ضوءا فسفوريا
يتذرى عريا أسطوريا
فى أحضاني
الليلة يعلم أنى البطل
وأن تحول أحلام اليقظة
من خلدى ليدي
فى إمكاني
الليلة سوف يسيل دم الثاني
حبرا أحمر
هو ليس سوى أوردة وشرايين امتلأت عن آخرها
بالحبر الأحمر
مثل دواة تنسكب على خارطة العالم
كالطوفان
لن يعصمه أحد مني
فأنا الليلة ممسوس بي
مشدود للغاية عصبي
من حافة جلدى حتى بؤرة وجداني
الليلة سأمثل نفسي
وسأرفع أقنعتي
وأشد الباروكة عن رأسي
لن أضع الكوكاكولا بعد الآن بكأسي
وأسير على المسرح
أتطوح كالسكران
طوحت البارحة الورق
على طاولة بروفة تمثيلية هذى الليلة
لما صاح المخرج : يوسف إدريس يريدك فرفورا
فلماذا تحلم أن تصبح أنت السيد
اخلع عنك السترة طهمها الذهب
وطعمها القصب
فلست سوى أحد الأقنان
ماذا تفعل يا فرفور وعصرك عصر السادة
والسادة يمتلكون حقول القمح
وأحجار رحى الطحن
وأقدار الزارع والطحان
فى عصر السادة
لايسمح بتبادل أدوار الدب الروسي
مع الحمل الشيشاني
قال المخرج: أنت تريد الزج بنا
فى أحداث مسلسل صندوق النقد الدولى مع الدول النامية
وفى معترك الجات مع الحاجات
وفى قصة مونيكا وكلينتون .. وقضية لوكيربي
أنت تريد الزج بنا فى فوهة البركان
قلت له : لكن يوسف إدريس انتصر لفرفور الستينيات
فقال الستينيات توارت خلف السبعينيات
ولم يكن القرن العشرون
سوى قرن أماني
العالم أضحى الآن
كمثل شريط الرسم المتحرك
حين سيبكى المسخ ستبكي
وستضحك حين سيضحك
هذا عصر الإستنساخ
ألم تسمع عن دوللي
قل لي
أو ليس برأسك أذنان
هذا عصر الإستمساخ
وسوف يصير البشر
قطيعا تتشابك فيه الأعراق
كما الشركات المتعددة الجنسية
من بين الأحراش الأفريقية
كالسافانا ستطول القدمان
والحوض سيطلع من حوض البحر المتوسط
والصدر تصدره أوربا
ودماغ العالم
تستورده من كل بقاع الدنيا أمريكا
والكفان
اليمنى تجميع تايواني
واليسرى تصنيع ياباني
الليلة
سوف يموت مؤلف نص العولمة
وسوف يموت المخرج
سوف أظل أنا وحدى .. والمتفرج
لا ..
سأظل أنا وحدي
للمسرح حيطان أربعة منذ الآن
لتصفيق النظارة عندي
تأثير شهواني
والمسرح تطهير، قال أرسطو ذلك
فى الواقع ليس يهم البتة ما قال أرسطو
وأنا لا أتطهر دون الناس
بهذا الشكل الإعلاني
أنا أرفض هذا التطهير الصابونى العلني
وأرفض أيضا أن أنزلق
على سطح النظريات الناعمة
كما الباليرينا المتزلجة
على الشمع الموسيقى لشوبان
كان أرسطو أستاذا
للمقدونى الإسكندر ذى القرنين
غزا التلميذ العالم
حين تحرر من أسر الكلمات
فأخضع نصف الدنيا القاصي
للنصف الداني
الليلة نرتجل
تذكرت لبرنادلو عملا يحمل نفس العنوان
الليلة أرتجل وحيدا
أنشد أغنية البجعة قبل الموت
وأنشد بعد الموت دعاء الكروان
ما من أحد بعد الليلة
سوف يرص الكلمات على شفتي
ولو كان المتنبي
أو هوميروس
أنا أوديسيوس الأوديسا الزمكانية
- أينشتاين صاحب هذا التعبير الزمكانى – وأنا أقبله نسبيا
وأسافر فى ضوء مقولته كشعاع
حتى أرسو فى قرطبة
أغازل ولادة بنت المستكفي
بقصائد أحلى من شعرالعباس بن الأحنف فى فوز
فهو صريع غواني
وأنا أغواني
أنى كنت المبصر وحدي
فى مملكة الشعراء العميان
أبصر وحدى الأشياء
وأخبرهم أن القمرعلى هيئة طاووس
والليل مدائن من أبنوس
والشمس امرأة تتمدد
فوق أريكتها الممتدة
من غبش الفجر إلى غسق المغرب
وتحاول أن تستر بالشعر الذهبى المتموج
جزر الجسد العريان
كالزبد الطافي
فوق الماء الشفاف
يحاول أن يحجب فى قاع البحر شعاب المرجان
الليلة
سوف يكون على رهاني
الليلة سوف أمثل نفسي
سوف أقدم للنظارة فوق الخشبة رأسي
تقطر منها ذاكرتى .. أفكاري
يقطر منها وجداني
هذا المشهد يشبه ما سطره ديستويفسكي
فى لحظة ما بعد الإعدام
ورأس الراوى تتدحرج بين الأقدام
لسوف أعالج أمرى بطريقتى بعيدا عن ديستويفسكي
فأنا الليلة تتملكني
شهوة أن أصلح هذا العالم
قال شلى هذى الجملة
حسنا
سوف أغادر هذا العالم لأحركه من خارجه
ثمة شخص آخر قال كلاما ما يشبه هذا
ثمة ثاني
يتربص بي
يقف بحلقي
ويفتش كرجال الجمرك نبراتي
ويدس الكلمات
ويلغى إحساسى الجواني
يضع بحنجرتى آلة تسجيل وشريطا مكرورا
يضع بكفى سيفا خشبيا
وأنا تواق لمبارزة
أقتل فيها أو أقتل
حتى يحترم فروسيتى حصاني
إنى تواق لثياب تتمزق عن لحمي
يتمزق عنها لحمي
تبرز من لحمى كتلة أعصاب
تتلوى بين أياديكم
تصرخ فيكم :
أن قوموا من فوق كراسيكم
ماذا أنتم تنتظرون
فبعدى الطوفان سيأتيكم
بالحيتان
الفك المفترس
سيسعى بين نسائكم السمراوات
يعرى الأكتاف من الأعطاف
يعرى الأفخاذ من السيقان
إنى أخشى يا بلقيس على سبأ
أن تفعل فيها ما فعلت
يا حسناء الساقين بساقيك
قوارير الملك سليمان
فالملك إذا ما دخل القرية أفسدها
هذا مذكور فى القرآن
من عشرة أعوام
أحببت امرأة مثلك يا بلقيس
ورحت إليها أنشد :
إنى أشهد ألا امرأة إلا أنت
كما شهد نزار
قالت إن نزارا قباني
يزن الكلمات
فقلت لها للأفعال نصبت أنا يا سيدتى ميزاني
كفاى ككفتى الميزان تقيمان العدل المطلق
ولسانى كلسان الميزان يقول الصدق
أنا مصلوب يا سيدتي
فوق صليب من خشب الزان
وعلى قلبى من شوقى لك وصدودك
مسماران عزيزان
قالت لى:
إن الثانى زوجنى غيرك
كتب كتابته الزرقاء
على صفحة جلدى الشقراء
وقال بأن العاشق
لو خرج عن الكلمات المنقوشة
بالفيروز على الزنبق
زاني
من عشرة أعوام
وأنا مقتول
أمشى أتكفأ فى أكفاني
من منكم يا نظارة فى قلبى عزاني
من منكم يرشدني
عن قاتلى المحترف المأجور المرسل خلفى
فى كل مكان
تهمتى العشق البري
جريمتى مطاردة غزال
ليس له شبه فى تاريخ الغزلان
أرهفت القوس طويلا
وأخيرا
وجهت السهم إلى قلبي
فالعشق فناء العاشق فى ذات المعشوق
وإنى من يومى فاني
العشق الراشق فى صدري
مونودراما تتنامى تحت ضلوعي
يترامى فيها بالنار النصف المجنى عليه من القلب
مع النصف الجاني
ما دخل الثانى فى قلبي
صف القتلة من كل زمان
- فعل صلاح فعلته فى مأساة الحلاج-
وعراني
سارتر كان قصيرا أحول
شغل الصف الأول
قال وجودك عدم
وجحيمك يعنى الآخر
كان سفكليس الأطول
شغل الصف الآخر
قال كأوديب تصير حزين الروح
وتسمل منك العينان
قلت لسارتر وسفكليس
إنكما الرجل الثاني
صاح من الصف الثالث إبسن
ومن الرابع ونوس
ومن الخامس تنسى وليامز
ومن السادس عبد الرحمن الشرقاوي
ومن التاسع جوته
ومن الحادى عشر أسامة أنور عكاشة
قلت : جميعكم الثاني
وأنا يا سادتى الأول
الليلة أرتجل
الليلة بالفعل أمثل
واليلة لابد سأقتل أحمد تيمور
ليصبح هذا الشعر المرسل ملكى وحدي
فالرجل – كما تدرون أنانى وأنا – وكما تدرون – أناني
القراءة
قبل القراءة، ننبه على القارئ – ما أمكن – أن يحضره الفرض التركيبى الأساسى فى هذه القراءة، وهى أنها ‘قراءة من الداخل إلى الخارج، وبالعكس’، إنها محاولة لعرض كيف أن كل هذا القهر، وكل هذا الفرض المفروض على الكيان النامى، هو تركيب داخلى من منظومات الذات، حتى وإن كان مصدره هو الخارج السلطوى القاهر، إنها معركة الداخل دون استبعاد الخارج أو الحكم ببراءته، وبقدر ما هى معركة الداخل، هى فرصة النماء إذا نجح المتعاركون فى الحوار للتوليف، وليس فى مجرد وقف إطلاق النار للتسوية.
البداية
يتكرر فى القصيد تحديد البداية بأنها كانت ‘هذى الليلة’، وتتراوح البداية بين الرغبة (أرغب هذى اليلة أن أتكلم بلساني)، وبين الإقدام على الكشف (الليلة أكسر بندقتي)، ثم قرار القتل (فأنا الليلة قررت بأن أقتله)، ليعقب القتل – أو يتبادل معه- محاولة إخفاء جسم الجريمة ربما منعا لتقمص المقتول (…. قررت الليلة أن أخلص منه). المهم هو التخلص من هذا الآخر الجاثم فوق أنفاسه، القاهر فوق وجوده، بالقتل أو بالموت أو بأى وسيلة كانت، لا بد أن يختفى حتى يفسح الطريق لهذا الأخر (الأول) الذى قرر أخيرا أن ‘يوجد’ بأى وسيلة : بالقتل، أو بالإلغاء، أو بتعجل الموت الطبيعى، (سوف يموت الليلة – الليلة سوف يسيل دم الثاني).
إن تحديد البداية فى لحظة بذاتها، ليلة بذاتها، ‘هذى الليلة’، ينبهنا إلى أنها معركة فرضت نفسها في’لحظة إفاقة’، ومع أن هذه الرؤية الحادة تبدو مفاجئة، وفارقة، إلا أنها فى طبيعتها الأعمق، هى نتاج تحضير لم يتوقف أبدا منذ أن فرض’الانشقاق’ ثم سيطرت’وصاية’ الآخر – الداخلى أساسا- و’قيادته’. قبيل قرار الانعتاق تلك الليلة كان ثم تمهيد وتجريب ( طوحت البارحة الورق، على بروفة تمثيلية هذى الليلة)، ثم كان الشعور بالازدواج (فأنا الليلة ممسوس بى).
تمتد الرغبة فى التخلص من هذا الآخر الجاثم الوصى، إلى كل الآخرين المحتمل أن يصيغوه فيما لم يختر، فيما ليس هو، فالموت للجميع – هذه الليلة – حتى لا يبقى إلا هو (الليلة، سوف يموت مؤلف نص العولمة، وسوف يموت المخرج، سوف أظل أنا وحدى… والمتفرج).
وهو إذ يتصور انفراده بالمسرح لا يعلن استيلاءه على الأرض، ولا يعين نفسه قائدا للمسيرة، بل يطلق لنفسه العنان ليستعيد التلقائية (الارتجال). هو يتخلص من أى نص سابق التجهيز، كما تخلص من أى آخر حتى لا يبقى إلا هو وحده منطلقا مرتجلا ما لا يعرف (الليلة نرتجل – الليلة أرتجل وحيدا – ما من أحد بعد الليلة سوف يرص الكلمات على شفتى).
هذه الوحدة المطلقة تؤلهه . الواحد الأحد هو الذى لا يكون بغيره، ولا يحتاج إلى من يخلقه، لا تأخذه سنة ولا نوم. الوحدة بكل زخمها القاسى تتطلب تعويضا هائلا لا تحققه إلا قدرات غير محدودة، قدرات تستطيع أن تجدد العالم أجمع، وليس فقط ذاتها، فهو التأله(فأنا الليلة تتملكنى شهوة أن أصلح هذا العالم) …… (كفاى ككفتى الميزان تقيمان العدل المطلق).
يصر الشاعر أن يؤكد أن نقطة البداية (وهى هى نقطة النهاية) كانت هذى الليلة، وهو يشير فى نهاية القصيدة أن هذا الثانى ليس فردا، بل هو’كل’ من ليس هو الذى لا يعرفه، (قلت: جميعكم الثاني)، والأهم من ذلك أن ‘أحمد تيمور’ الشاعر هو نفسه ضمن ‘جميعكم الثاني’، وهو يعلن أنه لن ‘يكون ‘ الأول (تحت وهم أن الأول هو نفسه)، إلا إذا تضمنت قائمة قتلى هذه الليلة ذلك الشاعر أيضا، وربما أولا( الليلة سيقتل أحمد تيمور). وهو يقتل الشاعر الوصى، لا ليكف عن الشعر، هو يقتل الذى ‘يقرض الشعر’، ليحل محله من’يعيش الشعر’لا يقوله (ليصبح هذا الشعر المرسل ملكى وحدي).
هذا الوعى بـ’الثاني’ شديد الوضوح فى هذا القصيد، إن مفهوم تعدد الذوات صعب الاستيعاب على الشخص العادى إلا من مدخلين : الشعر والجنون. هذا المفهوم يهدد الواحدية اللازمة لاستمرار الفعل والمسئولية، ومن ثم نجد مقاومة شديدة فى قبوله لدى الشخص العادى، فالمتعدد عند الرأى العام هو المجنون، أو الفصامى (انفصام الشخصية)، أو الملبوس بالجان، أو على أحسن الفروض متقلب المزاج. الشاعر (والمسرحي) هو من أقدر الناس (إن لم يكن أقدرهم فعلا) على توصيل فكرة التعدد فى التركيب البشرى، ربما دون أن يدرى، وغالبا دون أن يقصد.
موقف الشاعر هنا، ليست بحثا عن الذات، ولا سعيا لتحقيق الذات. المسألة أن فينا ثمة ‘آخر’ حقيقة وفعلا ، نتكون به ، نتبادل معه، نتجادل لنكوننا فى تخلق مستمر. الإشكال الذى ضخمه الموقف الاستقطابى، يكمن فى تصوير أن هذا الآخر هو خارجى، وأنه ليس ضروريا وأساسيا فى مرحلة النمو، وبالتالى يتضخم تصوير الصراع على أنه سعى للحرية ورفض للاغتراب، مع أن الجهد الحقيقى ينبغى أن يتوجه إلى استعمال هذا الآخر المفروض حتى استيعابه.
لكى يتم ذلك، لا مفر من الفصل للاتصال، والوصل للانفصال، بحوار متصل، ينتهى فى الظروف الملائمة إلى تخليق متجدد لذات(فذوات) أخرى أعلى نضجا، وأشمل احتواء.
متى يبدأ الانشقاق؟ ومتى يبدأ الوعى بالانشقاق؟
يعلن الشاعر هنا أنه أدرك هذا الانشقاق منذ الطفولة الأولى، منذ بداية امتلاكه أداة التعبير لفظا. حدوث الانشقاق سابق للوعى به، بل إن الوعى اللاحق به، حتى فى منتصف العمر، وبعده، لا يعرف توقيته تحديدا، وإنما هو حين يعلن يرصد البداية بأثر رجعى، هذا ما نسميه فى أزمة المرض ‘سبق التوقيت’، الانشقاق يحدث – تبعا لنظرية العلاقة بالموضوع- منذ الولادة، بمجرد الخروج من الرحم، ومواجهة حضور الآخر(الأم)، حيث يتم انسحاب جزء من الوعى يمثل الموضوع الداخلي.ينقسم هذا الجزء بدوره إلى ‘أنا’ لذية حسية لذيةHedonic Ego ، وإلي’أنا’ضابطة ضد-لذية قامعة Anti-Hedonic Ego. ويظل الحوار بين الذوات المنشقة طول الحياة، هذا من وجهة نظر مدرسة العلاقة بالموضوع، أما من وجهة نظر مدارس تركيبية أخرى، (مثل التحليل التفاعلاتى، والنظرية الإيقاعية التطورية للكاتب) فإن هذا الانشقاق هو أصل فى التركيب البشرى، الذى يحتوى تاريخه منذ الولادة، ليس فقط تاريخه العائلى الجينى، ولكن أيضا تاريخه الحيوي.
يتحدد الانشقاق (فى تطور الفرد وتطور النوع على حد سواء) بوضوح فى مرحلة اكتساب الكلام. بقدر ما أن الكلام نعمة كبرى تميز بها الإنسان حتى وصف بها تمييزا عن سائر الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق) فهو -الكلام واللغة- فى نفس الوقت اغتراب يفصل الذات عن جذورها، من هنا تبدأ مداخلتنا بإعلان أنه’لا نمو دون اغتراب’، صحيح أن الاغتراب يحدث ليذوب فى الكل النامى فى مرحلة لاحقة، لكنه إذ يتم يبدو وكأنه باق أبدا، وبالنسبة لاكتساب اللغة بالذات، يتم الاغتراب (الطبيعي) بأن يحل الرمز محل الوجود الأصل. التقط الشاعر كل هذا بحدسه الأعمق، فراح يعلن أنه منذ عرف النطق، انقسم على نفسه، ما عاد هو الذى ينطق، أصبح هذا الآخر يمسك بلهاته كرباجا يلهب ظهر وجوده، وصير أسنانه سنابك مهرة الرمز المشدودة. أخرجه اكتساب الرمز من بشرته البشرية.
هل هذا التنبيه على أن اكتساب اللغة/الكلام اغترابا هو مدح أم ذم؟
فى البدء كان الكلمة، صحيح، الكلمة هى قبل الرمز، الكملة تأبى أن تحشر فى الرمز. لكن بدون اللغة المرموزة نظل نتخبط فى ظلامات الحس العام، والحدس الغامض، والوحدة المغلقة. ما العمل؟
هذا الوعى بهذا الانفصال، هو ما يقابل ما يسمى فى الطب النفسى الفرنسى أوتوماتية عقلية Autaumatism Mentale وللأسف، فليس له ما يقابله تحديدا فى الطب النفسى الأنجلوساكسونى، فالعالمى، اللهم إلا أن يختزل فيما يسمى وسواس. هو قريب أيضا من مجموعة تسمى مجموعة أعراض شنايدر من الدرجة الأوليSchneider s first rank symptoms . الغرب يعتبر هذه الأعراض من أهم أعراض تشخيص الفصام، لكن الفروق الثقافية تعلمنا، كيف أن هذه الخبرة واردة بشكل متواتر عند عدد وافر من عامة الناس، دون مرض، وهى تتحول أحيانا إلى معتقدات اللبس (بالجان).
أما عند الشعراء خاصة والمبدعين عامة، ورغم هذا التشابه، فهى ليست هذا ولا ذاك، وإنما هى مرحلة التعتعة التى تفكـك تركيب الذات الواحدة إلى ذواتها المتعددة. إن إدراك ذلك، ومدى مرونة ولطف التفكيك الخفيف (التعتعة)، هو ما يسمح للشاعر (أو المبدع) أن يتحرك لإعادة التنظيم، هو تفكك بصيرى مسئول، يرتحل بصاحبه إلى تفوق على وجوده الآنى، فيتمكن من أن يطلع، من موقع ما، على حقيقة ما يجرى، ومن يتجاور، وعلى ما يتحاور، أو لا يتحاور من منظوماته، ثم هو يمسك بأداته ليصنع الجديد، ذاتا أكثر نماء (إعادة ولادة) أو قصيدة (الشعر) أو ما تيسر من إبداع.
نرجع لموقع الرمز وكيف نكتشف أننا لا ينبغى أن نستسلم له كبديل عن وجودنا، رغم ضرورته لتحديد معالم إنسانيتنا كـكيانات ناطقة متفاهمة (شاعرة أيضا). إن هذا الإحلال الطبيعى كمرحلة فى النمو، يتجسد ويتعملق أحيانا، عندما يحل الإبداع الرمزى محل الوجود الشخصى، وخاصة فى حالة الشعر. (وهذا ما فاض بشاعرنا فى نهاية القصيد دون أن يقصد غالبا).
نحن نرضى بالرمز، وهو يلهب ظهرنا إن كان كرباجا، لكننا نستعمله لجاما لجموحنا الانفعالى، وضابطا لدفعات القتل المتربص بداخلنا. نظل كذلك نترجح بين الاستسلام له بديلا، وبين ركوب صهوته أداة. ثم إنه فى ظرف خاص قد يحتد الوعى بالشق الأول لسيطرة الرمز، وهذا قد يترتب عليه رفض عشوائى لهذه السيطرة، فيتفسخ صاحبه فصاما، أو فى ظرف طيب قد تعاد صياغته وتضمينه وتشكيله أداة طيعة جديدة، وهذا هو الشعر.
المبدع والمجنون يكسران البندقة، واحد يكسرها ليجادل ما بداخلها،ويحتويه وينمو به ومن خلاله، والآخر يكسرها فإذا به -شخصيا – يتفتت تناثرا مع كسرها.
(الليلة أكسر بندقتى، أفتح فستقتى، أخرج من جوف محارة أيامى لؤلوتى، أعرض لشعاع الضوء المخروطى شريط حياتى الـسرية بالمجان).
القراءة الحالية تريد- أساسا – أن تقدم مفهوم التعدد، من خلال نبض وبصيرة شاعر استطاع أن يكشف معالم هذه الظاهرة، مع أنه كشف الجانب الفنى الحماسى فيها أكثر من جانب الولاف، وهذا جيد ، الشاعر (والمبدع عامة) لا يضع حلا لكن يرى، ويغرى بحل ما، وهذا ما كان.
مفهوم ‘تعدد الذوات’ وعلاقتها ببعضها البعض فى الكل الفرد الواحد، يتجلى بصورة صريحة فى هذا القصيد، وإن كان محدودا بالمستوي’الصراعي-التحرري’ الذى حضرت به القصيدة فى وعى الشاعر.علينا أن نقبل ذلك ، ثم نتحرك منه وإليه وحوله، دون أن نستدرج إلى منهج نقدى صرف.*
[‘لفتة نقدية“: لماذا يكرر الشاعر نفس المعنى بأسلوب مختلف، يكاد لا يبرره إلا جذب الشاعرية نحو التأكيد الذى قد يضعف الصورة الجميلة الأولي. ألم يكن أبلغ وأعمق أن يكتفى الشاعر بكسر البندقة دون فتح الفستقة، ثم عن الترتيب: أيهما أولى بالانتقال من السطح إلى العمق: فتح الفستقة أم كسر البندقة. ثم لماذا بالمجان. هل لأن الثمن أكبر من أن يدركه الشاعر؟ إن الذى يعرض ذاته/ذواته لشعاع الضوء بالمجان هو المريض دون الشاعر، أما شاعرنا فهو يدفع ثمنا رائعا وكريما، ونحن نفعل ذلك مثله ونحن نرتحل معه إلى حيث تعري].
يبدأ شريط الحياة بإعلان تطور العلاقة بين الآخر وبين الحاكى (لا أسميه الممثل مع الاعتذار للعنوان، وللأستاذ الدكتور ماهر شفيق) ، يكتشف الحاكى أنه (ربما طول تاريخ حياته حتى ‘هذى الليلة’) لم يكن’هو’كما تصور أنه’هو’.هذه الظاهرة تسمى فى حالة المرض عرض’الشعور بتغير الذات’Depersonalization. إن هذا العرض لا يعنى أن الشخص تغير، رغم أن هذا هو ما يشعر به ويعلنه، لكنه يشير إلى أن الشخص اكتشف أنه ‘مصنوع’ بشكل غير ما كان يحسب ويرجو. إذن هو اكتشاف أكثر منه تحولا أو تغييرا. هو إعلان بصيرة وليس عملية تغير نوعي. والبصيرة هنا تتعمق حتى تنكر ما كان يحسبه صاحبها مشاعرا، وعلاقات، وأحيانا معتقدات، لأن المريض (أو الشاعر) يكتشف أنه لم يختر أيا من ذلك أصلا، هو يكتشف أنه ‘ليس هو’، وبالتالى فإن مشاعره وقراراته التى كان يحسبها ‘هي’ ليست ‘هي’. إنه لم يكن إلا ما أريد له أن يكونه، إنه لبـس كل ما عرف ومن عرف ، لكنه لم ينجح فى أن يكون ما لبسه أو تلبسه. هذه الظاهرة لها تجلياتها – لكن دون وعى أصلا – بما يسمى ‘شخصية: كأن’ As if Personality التى وصفتها هيلين دويتش. هى شخصية تتقمص بسهولة بالغة كل من تلقى، وليس فقط كل من تعجب به، تقمص جاهز بالمجان ، ثم إنها تخلع من تتقمصه دون أن يترك فيها أثرا، ثم تعود تتقمص غيره وهكذا، بلا توقف، وربما بلا انتقاء. الفرق بين هذه الشخصية وبين التقمص للنمو هو أن الأخير لا يتم هكذا بسهولة ، ثم إنه لا يزول بلا أثر. كل تقمص للنمو هو إجراء رائع طالما يترك بصماته المغيرة، لا تتوقف هذه العملية (التقمص فالتمثل النسبي) أبدا وهى لا تكتمل أبدا، لكنها تقترب من الاكتمال ، ربما، عند بعض المتصوفة وقليل من المبدعين. المتصوف ساعيا إلى وجه الله، الحقيقة، يبدع ذاته إيمانا متجددا، والمبدع يلعبها رواحا وجيئة، تاركا خلفه آثارا تكاملية فى كل رحلة.
فى كل نقلة تطور أو إبداع أو جنون، تحتد البصيرة ويقفز كشف الحساب. تصل البصيرة إلى الوعى بدرجات مختلفة.
فى عملية التطور (النمو) لا تتضح تفاصيل ما يجرى فى وعى ظاهر، لكن تتبدى آثارها فى أزمات لا تخفى، وهى تؤثر عميقا فى الخطوة التالية، إذ يختلف الإنسان النامى نوعيا بعدها.
فى الجنون تحتد البصيرة فى المراحل الباكرة، لكنها سرعان ما تضرب وتتشظى مع تفسخ وتناثر القديم والجديد.
أما فى الإبداع، فإن البصيرة ترتبط بجزئية الرؤية وقدرة الأداة معا. هى حادة ومخترقة وقادرة، سواء التحمت النتيجة بالكيان النامى، أم اقتصرت على النتاج الرمزي.
الشاعر(الحاكي) هنا يعلن هذه المرحلة التى يختلط فيها الفرح بالحزن (أنا الليلة أنتصر لجرحى، أقتصرعلى فرحى، أختصر هموم الدنيا فى أحزاني). ثم تتعمق بصيرته حتى تغوص فى الماضى فتحضره (تجعله حاضرا)، فيتجلى بكل دقة. يحكى ماذا كان، لـم كان، كيف كان، ثم ماذا، لا يحكيه كذكرى بقدر ما هو إعادة معايشة،فهو الشعر.(أو ما يعادله).
يحكى الشاعر كيف فرض هذا الثاني’ عليه كل تلك الأدوار دون استئذان. كيف كان عليه أن يطيع ويتسلم ليستمر، مجرد استمرار، حتى يرضى عنه هذا الآخر (الثاني)، حتى يمنحه بطاقة (كارنيه) دخول النادى الاجتماعى البشرى، بشروط النادى المتعسفة من حيث المبالغة فى التشكل الضارب ‘تعظيم سلام’ لكل المؤسسات والقيم الراسخة. (كان الثانى يستأجرنى، ويبيع على حسى، كل أحاسيس الشخصيات القزحية، من أول حد الأبيض حتى آخر حد الأسود، ويحاسبكم يا سادتى على ما بينهما، من درجات الألوان) [لفتة نقدية : لماذا لم يتوقف الشاعر عند ‘القزحية’؟]
هذا القصيد يعلن خطورة (وربما ضرورة)، لا مانع فى النمو النفسى من لعب الأدوار، بل إنه لا مفر من لعب الأدوار، لكن الخطر هو أن تظل المسألة هكذا فحسب، نلبس من ليس نحن، ونخلعه لنلبس غيره، دون أن يتبقى من هذا أو ذاك ما نصنع به أنفسنا، ما نتزود به لنكون (لا لنكونه).
[لفتة نقدية: الشاعر هنا منزعج من طول ما استعمل. ربما هذا هو ما يفسر هذا الإطناب فى الأمثلة التى أوردها شعرا* كان يكفى مثل أو اثنين، أما وأن الشعر ‘حالة’، وليس إخطارا على يد محضر، فخذ عندك لكن ليس إلى هذه الدرجة: من أول عنترة العبسى حتى روميو مرورا بأبى سفيان، و قيس، وكسرى، وعطيل، وماكبث ..لماذا كل هذا، ماذا كان ينقص القصيد لو اختزلت نصف الأسماء، ونصف الأحداث ونصف الاستشهادات ؟].
تساؤل:
هل أنا الذى أتقمص الآخر (السلطة، الوالد، الكلام، الحكمة)، أم أن الآخر هو الذى يفرض نفسه على وجودى ليحل محله؟ الحاجة إلى التقمص ضرورة مفيدة، وفرض التقمص وارد كمرحلة نمو، لكن عادة ما يصعب تحديد الجرعة بين هذا وذاك. يؤكد الشاعر موقف الضحية باعتباره، المجنى عليه فحسب، وهو لا يشير لا هنا، ولا فى أى موقع لاحق إلى دوره وهو يطلب -سرا و تحايلا – أن يكون كذلك، هذه المبالغة فى تصوير ذات قاهرة قادر ة تمارس ضغط الاغتراب طول الوقت، دون الانتباه إلى أن دور ‘المفعول فيه’ أو ‘المفعول به’ فى تحقيق صفقة القهر، هو سمات تزييف المعركة تحت عنوان التحرر الزائف (فى كل المجالات تقريبا) . إن المسألة ليست هكذا تماما، إن كان لنا أن ننظر فى حقيقة ما يعد بحل ما، حل نمائى وليس تسوية.
هذه الصورة المكررة التى تقسم الناس (مثلما تقسم الذوات) إلى قاهر ومقهور ، وتتوقف عند هذا الاستقطاب هى المسئولة عن كثير من القيم الصراعية دون الجدلية، تلك القيم التى سادت، وتمادت، تبرر صراع الأجيال (داخل وخارج النفس) الذى لا ينتهى إلا بالتخلص من أحد شقى الصراع، أو بالتسوية الباهتة المسخ. هو -بهذا الاختزال الصراعى – لا ينتهى، بل يختفى، ويؤجل لجيل لاحق. ( قال : أنا شخصتك فتشخص، شيئتك فتشيأ .. جسدتك فتجسد، حولتك فتحول .. حورتك فتحور، دورتك فتدور.. كورتك فتكور )
[لفتة نقدية : هنا أيضا استدرج الاستطراد الشاعر دون داع، لكنه عاد يرسم صورة جميلة تقول: ورميتك حين رميتك حيث رميتك، وتمطى كالقطة .. ورماني.]
يؤكد الجزء التالى من القصيدة مدى استسلام الشاعر لإله جبار مزعوم، يصف بشاعته مرة بأنه دراكيولا، ويصفه نحاتا مبدعا مرة أخرى حين يشير كيف صيره إذ شكل وجوده الزائف من صلصال، أو نحاتا لعب بألوانه، حتى غطت الألوان الأصل فأخفـته.
هذا المقطع الطويل الذى يهاجم فيه الوالد الداخلي/الخارجى المتأله المكلف بتصنيع العالم نمطيا، بما يريد كيف يريد. هو من الحدة والوضوح والتحديد بحيث يعلن التمادى الذى وصل إليه القهر المسئول فى النهاية، عن تفجر أحداث تلك الليلة، ليلة الثورة (المجهضة : انظربعد) على كل هذا الذى كان. (قال أنا كف. أصابع وبنان، وعجينة صلصال أنت أشكل منها العالم، فالعالم كل العالم -إن لم تدر – على أطراف بنانى، ……..ومصائر مخلوقاتى الصلصالية لا تتبع إلا سلطاني)
ويبلغ الوضوح أن هذا الثانى لم يعد والدا، بل إله حين يعلن أنه الذى يدخل الجنة أو يلقى فى النار (أدخلك نعيمى الفردوسى، فتنعم بالفردوسيات، وأدخلك جحيمى مجرورا من قدميك فتصلى نيراني).
مثل هذه الذات (الداخلية أو الخارجية أوكليهما)، التى تألهت حتى طغت واستعبدت كل هذا الطغيان وذاك الاستعباد، يبدو مستحيلا التخلص منها إلا بالقتل، هكذا يصبح التقمص معيقا للنمو لا حافزا له ولا مرحلة فيه. لا ينفع فى مواجهة الاقتحام الأقصى سوى الاحتجاج الأقصى، هذا هو ما وراء الموقف الأوديبى الذى لم يكن يحتاج لقصص فرويد وتخريجاته، لأنه صرخة مواجهة مباشرة. إن فرويد حين لم تخطر على باله فكرة تعدد الذوات، وما يترتب عليه من انفصال، وحوار ،وصراع، واحتمال ولاف، هكذا بطبيعة النمو، اضطر أن يفتح ملفات جانبية، وأن يستخرج تفسيرات ليست بالضرورة خاطئة، لكنها قد تكون ثانوية.
يعلن الشاعر هنا، بعد أن قرر أنها ‘ليلته’، يعلن أن هذا يكفى، أنه إلى هنا ولا ينفع أن يستمر ما كان كما كان، ثم تنقلب رغبته أن ‘يتكلم بلسانه’ تلك الليلة، إلى قرار بالانتقام بالقتل: (فأنا الليلة قررت بأن أقتله، أن أنتقم لصمتى المرغم، لسكوتى المكره، لوجودى السرى .. لعدمى العلنى، الليلة قررت بأن أنتقم لعمرى …لكل كـياني).
الانتقام هنا طفلى بحت، والمعركة المنتصر فيها مهزوم. واضح أن هذا الثائر طفل (ذات طفلية) لا يعرف طريقه، كاد يختنق حين أنكر أصلا، وحين لاحت له الثورة راح يتنسم أى ريح اعتراف تـثبت له أنه ما زال يستطيع أن يحتج، أن يرفص، أن يرفض. إلا أن انطلاقة الطفل، مهما لبست ثوب الحرية، هى أقرب إلى تكسير الحدود منها إلى عرض البديل (أصرخ صرخاتى، أنطق نطقي..أهذى أو لا أهذى، فأنا حر فى هذيانى أو لا هذياني).
وعلى الرغم مما تبع ذلك من زعم أن كل ما سيأتيه بعد هذه البهجة الطفليلة (لم تعد تستحق كلمة ثورة) هو لحسابه (لحسابى يسوف يكون هجائى ومديحى، لشراعى سوف أوجه ريحي…وأناشيدى ومواجيدى وتباريحي).
مرة أخرى يتجلى وعى الشاعر، إذ تعود بصيرته إلى تحديد موقع اللغة منفصلة عن الوجود، بعد أن أشرنا كيف نبه إلى كم تكون اللغة بديلا عن الوجود. هنا يعود للكلمات(التى هى ليست مرادفة دائما للغة)، ليعلن أنها مجرد أدوات يستعملها من يسود المسيرة (والكلمات أوانى، فلماذا صار هو الخزاف، وصرت أنا الخزف المجبول) ثم راح الطفل الذى استيقظ فى غير أوانه، يجتر آلام صياغته ليكون ما ليس هو، وبلغ من الاجترار المكرور، أنه يذكرنا بنقد آخر طالما نبهنا إليه، وهو أن البصيرة المعقلنة ، حتى لو امتدت إلى تفاصيل تفاصيل الماضى، حتى لو وضعت إصبعها على أصل أصل السبب ،فإنها مجرد مرحلة وليست حلا، وكل ما يشاع على أن تذكر آلام الماضى، وتفريغ مكنون الداخل ، هو أمر مطلوب، وعلاجى، لا أساس له من الصحة إلا نادرا.
هو هنا -مثلا- يجتر ما قهره حتى محاه بشكلى تفصيلى، سوف نكتشف أنه لم يجد عنه شيئآ فى النهاية’..وهو يزخرف خصرى بالسكين، ويعجننى ويمعجننى بالحمأ المسنون’
الطفل حين يثور، لا يتفاهم، لا يحاور، لا يجادل ، هو يتخلص (يقتل ، ينفى، ينكر) ثم تفرج!!! (أو لا تفرج، بلا مسئولية)، ‘ولذلك قررت الليلة أن أخلص منه’
والطفل -ثائرا رافضا هكذا- لا يتعلم من خيبته السابقة، ولا يتذكر ضعفه، وأن كل أسلحته كانت ‘لعب أطفال'(فشنك، مسدس ألعاب)، إن قتـل الوالد الذى نسج له فرويد القصص ليفسره، لا يحتاج أكثر من هذه الرؤية المباشرة، أساسا لفهم عمق المغالاة فى الصراع للبقاء ضد السحق. لكن بما أنه قتل طفلى، فهو قتل مزعوم لأن القاتل لا يملك أدواته، وإن كان يعيش دوافعه طول الوقت، كما يحققه فى أحلامه بشكل متواتر.
ينتقل الحاكى من إعلان خيبة الفشل إلى التمنى، وكأنه يتراجع، لم يعد يملك أكثر من التمنى الخائب، (آه .. لو أطويه بحلقى …… لو أكويه بنارى، لكم بحروف جهنمه الحمراء كواني)’ ثم إنه سرعان ما يكتشف، وهو يتراجع أنه ليس قاتلا . هو ليس إلا طفل يبكى حظه، ولا يريد أن يرى دوره فيما أصابه(‘ما أحلى أن أقتله قتلا رومانسيا’) يقتله بكلمات جميلة عقيمة فى نفس الوقت، وكأنها زخارف نعش التسليم النعاب،(‘سوف أريه بأن الكلمات ملائكة، أبرأ من أن تحدث فيها أثرا هرمونيا’) [لفتة نقدية : لماذا ‘هرمونيا’، كلمة لا شعرية، ولا علمية كذلك ؟؟!!]
حين يهم الطفل المحتج أن يكشر عن أنيابه يستلهم شيطان الشعر، ويرتقى المسرح، ليكون ممثلا لا أكثر، وكأنه لم يعد أمامه إلا ‘ألا يكون’، هو ممثل سواء بأوامر هذا الثانى الطاغى الذى رسم له الأدوار وفرضها عليه منذ أن وعى النطق، أم كان التمثيل بمحاولة استبدال الأدوار، ليصير ممثلا متطوعا بلا نص مسبق.
يبدأ الوعى الذى لم يعلن عنه الحاكى مباشرة أبدا، بأن قرض الشعر هو تمثيل أيضا، وهو تمثيل مفروض، وهو إحلال محل الوجود، وهو بديل عن تخليق الذات’ وسيعلم هذا الثانى أنى الأول، وسيعلم أن التمثيل حقيقي’ الفرض الذى سوف ننتهى إليه تتضح معالمه رويدا رويدا.
حين فرض التمثيل على صاحبنا، مثل، وحين حاول أن يتخلص من التمثيل اكتشف أنه لم يكن ممثلا، وكأنه – من بعيد جدا – يعترف أن ذلك كان برضاه حسب طاعته، وحين حاول أن يثور * لم تخرج منه إلا صرخات الاحتجاج، ثم كلمات الشعر. هنا يظهر الشعر كوجود بديل، (فنتذكر موقف أفلاطون والسرير)، الشعر وجود زائف حتى لو استعمل كلمات الثورة. حين يقرض الشاعر شعره بديلا عن نموه فهو يحله محله. (الليلة سأمثل نفسي) .
إن الذى يرفع القناع رافضا أن يمثل ما يـملى عليه، يمضى هو بعيدا عن المسرح يبحث عن ذاته الحقيقية، إنه لا يبحث عنها ليعثر عليها جاهزة مصنوعة، إنه يبحث ليخلقها، لكنه حين اختار التمثيل ولو كان هو كاتب النص، والمخرج، والممثل معا، فإنه ما زال ممثلا. كان كمن تورط من فرط التمثيل فما عاد أمامه إلا التمثيل. دور السيد فى الفرافير ليس هو السيد، إنه ‘دور السيد’. هو تمثيل أيضا !!. وحتى استشهاده بانتصار يوسف إدريس للفرفور، هو استشهاد يحتاج لمراجعة، ترك يوسف إدريس النهاية مفتوحة (على ما أذكر).
ثم يروح القصيد يعلن أن هذا القرن(العشرين) الماحى للهوية، والمجهض لمحاولة التخلق، هو قدر الإنسان المعاصر، إذن فهى ليست مسألة فردية، ليست مأساته وحده، بل مأساة القرن العشرين (قرن الأماني)، وربما هى مأساة كل القرون، مأساة العالم أجمع ‘العالم أضحى الآن، كمثل شريط الرسم المتحرك’،
لا أظن أن الشاعر قد غاب عنه قدم هذه الحقيقة ‘قبل الآن’، فهو يمدها إلى ما هو ‘بعد الآن ‘(… وسوف يصير البشر، قطيعا تتشابك فيه الأعراق. كما الشركات المتعددة الجنسية’) ثم يروح يرسم الإنسان المعولم تعسفا : قدمان من أفريقيا، وحوض من المتوسط، وصدر من أوربا، ودماغ مجمع فى أمريكا بعد شرائها – استيرادها- أدمغة أذكياء العالم، أوخطفها (تستورده من كل بقاع الدنيا أمريكا).
هذه الرؤية المستقبلية للعالم هى رؤية تسليمية، سببها فرط القهر الذى لحقه فردا، وهو يسارع بإعلانها تبريرا، يتنبأ أن هذا المسخ المعولم هو منته بطبيعته، عمره الافتراضى شديد القصر. إن نصا بهذه الصورة هو ميت بالضرورة (‘سوف يموت مؤلف نص العولمة، وسوف يموت المخرج’).
لم يعد – إذن – ثم مجال للقتل، ولكن هل لو مات القاهر، لو تم التخلص من كل مصادر القهر بالقتل، هل أى من هذا سوف يعطى الطفل القاتل حقه فى الحياة مستقلا، تلقائيا مرتجلا كما يلوح؟ أم أن الأوان قد فات؟
إن هذا الثائر الصغير يكتشف بكل بلاهة، أن ما تبقى له بعد كتابة هذا النعى المطول هو دور المتفرج، ليس ثم وجود ساع إلى تحقيق الذات النامية، ناهيك عن تخليقها. أين الحركة المفتوحة النهاية المغامرة بالاكتشاف؟
إن تعرية الاغتراب، وقتل القاهر أو موته أو التخلص منه بكل، وبأى وسيلة، ثم التحذير من المصير العولمى المسخى الجديد، فموت كاتب النص ومخرجه، كل ذلك لم يحل الإشكال، لم يوقف القهر، لم يحتو الاغتراب، بل إنه فرض على كاشف الغطاء بعد أن فرت من بين يده الحقيقة فى خبطات المعركة العشوائية، فرض عليه كلا من ‘الوحدة والفرجة'(‘سوف أظل أنا وحدي… والمتفرج’) هو الممثل والمتفرج جميعا بغض النظر عن أوهام أنه أصبح كاتب النص والمخرج أيضا
وهو إذ يؤكد الوحدة، يعود إلى المتمثيل منتشيا بتصفيق النظارة، الذى يمتلئ به نشوة شهوانية (بدائية)، فهو الممثل أخيرا بعد أن كان الممثل أولا، وهو المتفرج الوحيد بعد أن زال القاهر أو أعدم الجانى، فأين ‘هو’، هل كل ما استطاع أن يحقق، هو أن يؤكد نرجسية منغلقة بديلا عن تبعية مفضوحة.
ثم إنه ينتبه إلى أن المسألة (قرض الشعر فى الأغلب، وهو ما أعنيه بالتمثيل الجديد) ليست تطهيرا بالتفريغ كما زعم أرسطو، وينتبه أيضا إلى أن وحدته التى فرضتها عليه نقلة التحرر الطفلى هى مقولة بالتشكيك، وأنه بدون ناس شركاء، لا وجود ولا تخليق(‘…..أنا لا أتطهر دون الناس،….. أنا أرفض هذا التطهير الصابونى العلني)، وهو يرفض أيضا أن يكون ‘التنظير هو الحل’ !!! ويفضل المقدونى الذى تحرر من أسر كلمات أستاذه أرسطو، ليختبرها على أرض الواقع.
تلوح له علامات الخلاص فى فطرته التى لم تتشوه رغم كل ما كان، فطرته الكامنة وراء الممثل المصنوع من خارج، وأيضا وراء الممثل الذى حل محله من الداخل، تتحرك فيه، وإن كانت ضعيفة، نشاطات متسحبة، أغلب الظن أنها التلقائية الطفلية البكر، فهو الجنون أو الارتجال ‘ الليلة نرتجل’ لكن من أين له هذا الـ’نحن’؟(نرتجل بدلا من أرتجل) ، فيتراجع :’الليلة أرتجل وحيدا..’ ويشطح به خياله فى اللازمان، واللامكان ، أى فى ‘زمكان أينشتاين، حيث يسافر كشعاع، وكأنه يطير كيفما اتفق، ولادة خيالية شاطحة يبررها قهر لا حل له، يتعرى، ويتقمص الطبيعة. يصبح زبدا طافيا فوق ماء شفاف، يتحسس شعاب المرجان ويخشى عليها اللمس. لكنه – فى نهاية النهاية – لا يكون نفسه، ولا مشروع نفسه، أدمن التمثيل حين فـرض عليه، وحين تصور أنه تخلص منه، واسترد تلقائيته، وارتجل مساره، وجد نفسه، فى نهاية النهاية ليس هو أيضا، بل شبيهه ‘الليلة سوف أمثل نفسي’
كيف يمثل الإنسان نفسه، هل هو شيء أقرب إلى ‘مـثـــل'(كما ذكرنا) ، وبالتالى نحن لسنا إلا ممثليها دونها ؟
إن تقديمى لهذه القراءة من الأول للأخر ليس بغرض تقييمها شعرا، أو نقدها أسلوبا، أو مناقشتها بلاغة. لقد وجدت فيها ما يؤيد فرضا شغلنى قديما وما زال يشغلنى، انظر: (الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد(2)، لسنة 1985)، موجزه يقول :
‘إن الإبداع المنتج (فى رمز مهما بدا جماله وصقله) هو بديل عن ‘إبداع الذات والحياة’ فى مسار جدلى متخلق’. بعد أن مررت بمرحلة شجب الإبداع البديل (الشعر بديلا عن تحقيق مضمونه)، تراجعت راضيا بتفسير لحقنى يقول :
’إن لم نستطع أن نكون ما رأينا، فلنسجله رمزا لمن يستطيع بعدنا، حتى على حسابنا’،
هدانى هذا التفسير، وهدانى إلى دور الشعر الذى يعلنه شاعرنا هنا هكذا مباشرة بعد ‘سوف أمثل نفسي’، وكأنه يقول : أنا لم أستطع أن ‘أكون’ نفسى، لكنى رأيتها، فهاكم إياها، لعلكم تحققون ما عجزت عنه، هاكم أنا شعرا ( حتى لو تم قرضه على حساب كيانى الذى لم أستطع أن أحققه) يقولها مباشرة بعد إعلان أنه إنما يمثل نفسه….’ سوف أقدم للنظارة فوق الخشبة رأسى،تقطر منها ذاكرتى .. أفكارى، يقطر منها وجدانى،’.
حين يتضح العجز بهذه الصورة، رغم تمثيل الذات كأنها هى، تقفز حلول شاطحة أخرى ، حلول تعويضية توهم صاحبها العاجز – إلاعن قرض الشعر، ورسم صورة لنفسه لم يستطع تحقيقها – بأنه قادر على إصلاح الكون، أو أنه مبعوث العناية وقد حمل هذه الرسالة، فهى النبوة، أوالتأله .يظهر ذلك فى الجنون صراحة فى صور متعددة أهمها ضلالات التنبى (ادعاء النبوة)، وضلالات المهدى المنتظر، وضلالات الرؤية المقتحمة، والقدرة غير المحدودة..إلخ.، أما تجليات تعويض هذا العجز إبداعا شعريا، فيعلنها الشاعر صراحة’… فأنا الليلة تتملكنى، شهوة أن أصلح هذا العالم’
هذا العاجز أن يكون نفسه، وجد الحل فى أن يكون إلها يصنع عالما على مقاسه تحت عنوان ‘إصلاح الكون’، انسلخ عن العالم الذى قهره فانقهر، وحين حاول أن يواجهه روع من حجم عجزه، فتمادى فى دور الممثل وإن أوهم نفسه أنه الآن يمثل لحسابه، ويتفرج على نفسه وكأنه هو.
.. إنه حين لم يستطع أن يعيش العالم بما هو، ليكـون مشروعه الخاص، من خلال تخلق واعد متجدد طول الوقت، غادر هذا العالم إلها، يديره بعيدا عنه (‘… حسنا، سوف أغادر هذا العالم لأحركه من خارجه’).
هل هذه هزيمة أم نصر؟
هلى كف أن يكون كما صنعوه وقهروه ‘ممثلا’ ليس له خيارا حتى فى انتقاء أدواره؟
هل هذا حقا هو ما أراده برؤيته، فثورته ‘تلك الليلة’، أن ينتهى به المطاف ممثلا، ثم إلها زائفا، ثم مفارقا للعالم، تحت زعم أنه يصلحه من خارج؟
تبين الشاعر، ربما فى آخر لحظه، أنه لم ينتصر بثورته الطفلية هذه، ولا بنزوعه القاتل، ولا بهربه المتخلص، ولا بموقفه المتفرج، ولا بشعره الواصف المتجمل.
تبين الحاكى أن الشاعر ثائر مهزم، لقد حل الشاعر ممثلا متطوعا باختياره، محل الضائع المهجور الذى كان ممثلا مقهورا بطاعته.
يكتشف الحاكى بخبطة خاتمة، هى مفتاح هذه القراءة أنه بعد كل ذلك، ليس هو، وإنما شخص آخر يشبهه، شخص سرق منه حقه أن ‘يكون’، وراح يتكلم بدلا عنه وكأنه هو، كما وكان القاهر الأول (الثاني!!) متكلما بلسانه منذ عرف النطق’. (.منذ عرفت النطق، عرفت بأن لهاتى كرباج فى يمناه)’، جاء هذا ‘الآخر'(الشاعر) يسرق منه ثورته ، يصور له أنه قد تخلص من القاهر الأول، لكن يحل محله بدلا من يعطيه الفرصة أن يخلق ذاته، لا أن يكتب ذاته شعرا. فى آخر لحظة يكتشف الحاكى أنه خدع للمرة الثانية ، وليست الأخيرة على ما يبدو . ها هو يعلنها صريحة أنه (‘…ثمة شخص آخر قال كلاما ما يشبه هذا، ثمة ثانى، يتربص بى، يقف بحلقي………..، ويدس الكلمات ويلغى إحساسى الجوانى، يضع بحنجرتى آلة تسجيل وشريطا مكرورا، يضع بكفى سيفا خشبيا)
إذا كان الوصى الأول هو من جعل لهاته كرباجا فى يمناه، ثم اكتشف أخيرا أن الطفل البازغ يحتج قد سرق أيضا، سرقه الشاعر غالبا، فأين الخلاص؟
فهى المبارزة .لكن: يبارز من؟ من ضد من وقد أصبحا: القاهر القديم، والقادم المزيف وجهان لعملة واحد. ليس مهما، المهم المبارزة
هذا ما يفعله كل، أو أغلب، المنظـرين المعمقين لما يسمى صراع الأجيال، أو صراع الطبقات، أو صراع الاستعمار. إن المنتصرين للأصغر تحت زعم التحرير والحرية تفوتهم لعبة التقمص بالمعتدى من ناحية، كما تفوتهم أن الهدف من المبارزة ليست المبارزة، ولا حتى الانتصار، وإنما التكامل (لا التسوية).
نتيجة هذه المعارك المغتربة المفروضة علينا جيلا بعد جيل، أن ينتهى القاتل والمقتول إلى العدم، ينتبه الشاعر إلى ذلك ( يقول: وأنا تواق لمبارزة، أقتل فيها أو أقتل، حتى يحترم فروسيتى حصاني’) هذه فروسية دون كيشوتية لا تقنع حتى حصان الفارس، ولا يغنى فى تبريرها صيحة التعميم الذى يدعيها الصارخ منذرا، وهو فى الواقع يستغيث ، (‘فبعدى الطوفان سيأتيكم..’).
شاعرنا يدرك، مرة أخرى، ليست أخيرة، اغتراب الشعر ولاجدواه. وهو يحب ويحترم شعر نزار ويتناص معه، لكنه يوهم نفسه أنه يتجاوز كلمات الشعر إلى الفعل 🙁 فقلت لها: للأفعال نصبت أنا يا سيدتى ميزاني’). أين هذه الأفعال؟ إنها شطح إلى الناحية الأخرى، إلى التأله، إلى المطلق’كفاى كـكـفتى الميزان تقيمان العدل المطلق، ولسانى كلسان الميزان يقول الصدق ‘هذه صفات الطفل العاجز حين يعوض عجزه بالتأله، وهو مصلوب كإله، وفى نفس الوقت كشهيد للمطلق،
[لفتة نقدية : خدعت القافية الشاعر فجرجرته إلى تشبيه باهت حين أضاف بعد : ‘أنا مصلوب يا سيدتي’ أضاف ‘فوق صليب من خشب الزان’].
ثم يعود الشاعر ليشكك ليس فقط فى مسار نموه شخصيا، وإنما أيضا فى طبيعة اختياراته، وعلاقاته حتى التى تبدو حميمية، أو المفروض أنها كذلك، (‘إن الثانى زوجنى غيرك’) أى العلاقات الأولى باعتبارها زنا، زواج فرضته النظم والقهر والتورط والصفقات؟ أم علاقة مختارة متجددة ما أمكن ذلك، هى زواج أيضا عند الله؟ سماها الشاعر العشق البرى، لنتذكر معه موقعه الفطرى، وابتعاث طلاقته ومبادأته، رغم الطفولة والإجهاض. (‘تهمتى العشق البرى، جريمتى مطاردة غزال، ليس له شبه فى تاريخ الغزلان’).
الحاكى فى ارتداده إلى ذاته يعلن فشلا جديدة، ونرجسية تتخفى تحت مطلق جديد ، وفناء مزعوم من عاشق فى معشوق، وهما ليسا إلا وجهان لنفس العملة، وهو يخلط عامدا، أو غافلا بين الثانى الوصى (أول القصيد)، وبين الثانى المزيف (الشاعر العاجز عن الفعل، آخر القصيد). يخلط بين النصف الثاني. النصف الجانى، مع أن المجنى عليه فى نهاية النهاية هو الجاني. (نرجسيا وتركيبيا).
وهو يقترب من النهاية يعلن، وكأنه محضر من قبل محكمة الاغتراب الكلية، عددا من المنظرين، والحكائين، والممسرحين، والشعراء ، والسيناريست !! من أول سارتر حتى أسامة أنور عكاشة، مرورا بسفوكليس وونوس والشرقاوى وغيرهم، يعلن أنه’الثاني’. هل هناك أصرح من هذا فى رفض ‘الحل الشعري’، ‘الحل الرمزي’ ‘الصراع الصوري’؟
’الثاني’ هم كل هؤلاء، بل هم كل الناس ‘ قلت : جميعكم الثاني’
فمن الأول؟
يزعم الحاكى وهو ينهى القصيدة أنه هو ‘الأول’، وأنه قادر على المبادأة بعد نصر (مزعوم) حققه هذه الليلة.’وأنا يا سادتى الأول، الليلة أرتجل’. كيف يكون الأول وليس ثم أول فى الحكاية أصلا، كل هذه القراءة أريد أن أقول من خلالها، أن الأول هو الآخر طالما أن المسيرة متضفرة متجادلة مستمرة. هذا هو ما اكتشفه الحاكى لكن فى النهاية.
بسرعة فائقة، يكتشف، ويعترف أنه ليس تلقائيا، وأن شعره ليس هو وأنه يمثل.
لولا هذا البيت فى نهاية القصيدة ، لما خطرت ببالى كل فروض هذه القراءة.
إن الذى قتل فى نهاية النهاية هو الشاعر’أحمد تيمور’، لا أكثر ولا أقل،’والليلة لابد سأقتل أحمد تيمور’ إذا كان القتيل هو أحمد تيمور ، فمن هو القاتل؟ ولحساب من؟ ومن الذى كتب هذه القصيدة ؟ أحمد تيمور ‘المشروع الذى ضاع فى صراعات لم يخترها؟ أم أحمد تيمور الشاعر الذى حل شعرا محل وجود صاحبه؟
فإذا قتل ‘المشروع’ الشاعر ليتحقق، فهل نصدق أنه سيمتلك شعر أحمد تيمور دون الشاعر، يملك حتى يصيره فعلا مختلفا ممتدا إلى غاية بلا نهاية؟
هل يمكن أن نصدق أنه بقتل الشاعرسوف ‘..ليصبح هذا الشعر المرسل ملكى وحدي’ الأول، المشروع، الأمل، المتخلق؟
النهاية مفتوحة رغم جمود المواجهة. ‘فالرجل – كما تدرون أنانى وأنا – وكما تدرون – أناني.
هذه الأنانية المعلنة فى النهاية ، هى البداية الحقيقية للقصيدة.
لا حل فى صراع ينتصر فيه الأول على الثانى، فلا يتبقى إلا نصف باهت مزيف يزعم أنه الأصل.
الطفل الأبكم الذى يرفس اللغة، ويشك فى الشعر، ويهيم فى المطلق، ويقتل الأب، ويتغنى فى حرية لا يعرف عنها شيئا، ليس هو المشروع البشرى القابل للتحقق، المستحيل التحقق طول الوقت.
الطريق إلى التحقق يبدأ بما حدث هذه الليلة، لكنه لا ينتهى أبدا.
لا حل فى صراع ينتصر فيه الثانى على الأول بأن يخدعه، ويختزله فى كلمات الشعر، أو أى رمز من رموز الإبداع.
الشاعر لا يفعل شيئا، إلا أن يحل القصيدة محل مشروعه التكاملى للتخليق، إما بصفة مستمرة، وإما لوقفة مرحلية يلتقط فيها أنفاسه.
البداية التى هى النهاية ، أى البداية، هو أن ينجح الجدل ، مهما كان مؤلما، ليظل الشاعر ، هو المخطط، وفى نفس الوقت هو جزء لا يتجزأ من مسيرة التحقق
خاتمة:
مرة أخرى : كيف ننقد الشعر، و كيف نقرأ الشعر، بل كيف نقرأ الإبداع عامة.
الإبداع ليس فيضا مضطردا من حلو الكلام، إنه إشراقات نبية، تطالعنا من خلال متن يطول أم يقصر، يكفى المبدع شرفا أن يصدق مع نفسه، وأن يجمع خبرته، وأن يصقل أداته، ثم يواصل ويثابر حتى تحل بنا وبه ما تيسر من إضاءة، بيت واحد من قصيدة يكشف للشاعر، فالمتلقى عن حقيقية بشرية أو كونية من خلال معاناة ذاتية/موضوعية، يمكن أن يكون إضافة ليس كمثلها شيء.
النقد ليس تصيدا متربصا ، ولا هو حكم فوقى يصدر من هيئة محلفين ، ثم إن هذه الدراسة ليست نقدا بالمعنى المعتاد. يمكن أن نسميها استلهاما، ويمكن أن نسميها معرفة موازية.
نحن أحوج ما نكون إلى الإنصات لكل الأصوات، ننتقى منها ما نستطيع، وندع ما لا يصلنا إلى أصحابه، فله أصحابه.
المطلوب هو التقاط اللؤلؤ بغض النظر عنما حوله، أو ما هو دونه.
نحن نتعلم من رطان المجنون كما نتعلم من نبض الشاعر، ونتحمل فى سبيل ذلك كل ما هو غير ذلك، فيتحملنا كلاهما لنلتقى ونستمر.
نحن فى حاجة إلى وقت طويل ، وجهد كبير، وذهن مفتوح ، ومثابرة، وأن يرى بعضنا بعضا من كل زاوية، نخطئ ونصيب، نحسن ونتخبط، ونستمر.
لا يصح أن نشكر مبدعا على إبداعه.
لكن قد يجوز أن ندعو لنا وله، بأن نواصل حتى نتواصل، لعل فى وجودنا معا ما ينفعنا، فننفع الناس.