الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 2000 يوليو 2001 / عدد‏ 69 – 74 ‏إبريل 2000 – يوليو 2001 مونودراما الممثل قصيد درامى

عدد‏ 69 – 74 ‏إبريل 2000 – يوليو 2001 مونودراما الممثل قصيد درامى

مونودراما‏ ‏الممثل‏ ‏

قصيد‏ ‏درامى ‏

أرغب‏ ‏هذى ‏الليلة‏ ‏أن‏ ‏أتكلم‏ ‏بلسانى

كل‏ ‏ليالى ‏كلام‏ ‏الثانى

ركب‏ ‏الثانى ‏صهوة‏ ‏حنجرتي

منذ‏ ‏عرفت‏ ‏النطق

عرفت‏ ‏بأن‏ ‏لهاتى ‏كرباج‏ ‏فى ‏يمناه

وأن‏ ‏سنابك‏ ‏مهرته‏ ‏المجلودة‏ ‏أسناني

أخرجنى ‏الثاني

من‏ ‏بشرتى ‏البشرية‏ ‏والتحف‏ ‏بها

كامرأة‏ ‏عارية

تزهو‏ ‏كتفاها‏ ‏بفراء‏ ‏المنك

وساقاها‏ ‏بحذاء‏ ‏من‏ ‏جلد‏ ‏الثعبان

ياسادتى ‏أنا‏ ‏الليلة‏ ‏حر‏ ‏منه

أنا‏ ‏الليلة‏ ‏أنتصر‏ ‏لجرحي

أقتصرعلى ‏فرحي

أختصر‏ ‏هموم‏ ‏الدنيا‏ ‏فى ‏أحزاني

الليلة‏ ‏أكسر‏ ‏بندقتي

أفتح‏ ‏فستقتي

أخرج‏ ‏من‏ ‏جوف‏ ‏محارة‏ ‏أيامى ‏لؤلوتي

أعرض‏ ‏لشعاع‏ ‏الضوء‏ ‏المخروطي

شريط‏ ‏حياتى ‏السرية

بالمجان

كان‏ ‏الثانى ‏يستأجرني

ويبيع‏ ‏على ‏حسي

كل‏ ‏أحاسيس‏ ‏الشخصيات‏ ‏القزحية

من‏ ‏أول‏ ‏حد‏ ‏الأبيض‏ ‏حتى ‏آخر‏ ‏حد‏ ‏الأسود

ويحاسبكم‏ ‏يا‏ ‏سادتى ‏على ‏ما‏ ‏بينهما

من‏ ‏درجات‏ ‏الألوان

ويقاضيكم‏ ‏من‏ ‏خلف‏ ‏الشباك‏ ‏على ‏اسمي

ويسمينى ‏الأسماء‏ ‏الأخري

يمحو‏ ‏وجهى ‏بالممحاة

ويرسم‏ ‏فى ‏صفحته‏ ‏الخالية

ملامح‏ ‏عنترة‏ ‏العبسى ‏المشغولة‏ ‏بتقاطيع‏ ‏أبى ‏سفيان

قل‏ : ‏إني‏/‏هـملت‏ .. ‏قلت

وقلت‏ ‏أنا‏ ‏يوليوس‏ ‏قيصر‏ ‏روما

وأنا‏ ‏كسرى ‏الفرس‏ ‏أنو‏ ‏شروان

وأنا‏ ‏هولاكو‏ ‏خاقان‏ ‏التتر‏ ‏بن‏ ‏الخاقان

قل‏: ‏إنى ‏قيس‏ .. ‏قلت‏ ‏أنا‏ ‏قيسان

قيس‏ ‏بن‏ ‏ذريح‏ ‏وقيس‏ ‏المجنون

وقلت‏ ‏أنا‏ ‏لبنى ‏وأنا‏ ‏ليلى ‏فى ‏بعض‏ ‏الأحيان

كان‏ ‏على ‏الغيرة‏ ‏تطفر‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏ضلوعكم

نافرة‏ ‏الصدر‏ ‏لكى ‏تتقمصني

حين‏ ‏أقول‏ ‏عطيل‏ ‏أنا

كان‏ ‏على ‏الغدر‏ ‏الغائر‏ ‏فى ‏أعماقكم

أن‏ ‏يحكم‏ ‏قبضتى ‏على ‏الخنجر

حين‏ ‏أصيح‏ : ‏أنا‏ ‏ماكبث

كان‏ ‏على ‏العشق‏ ‏الساكن‏ ‏أرواحكم

أن‏ ‏يهدر‏ ‏فى ‏شفتى : ‏أنا‏ ‏روميو

لولاى ‏لمات‏ ‏العشق‏ ‏كما‏ ‏ماتت‏ ‏جولييت

ومات‏ ‏العشاق‏ ‏جميعا

لولا‏ ‏هاتان‏ ‏الشفتان

من‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏الراني

من‏ ‏خلف‏ ‏النظارة‏ ‏عبر‏ ‏عيونى ‏للنظارة

كالوثن‏ ‏الورقى ‏المبحر

فوق‏ ‏فقاقيع‏ ‏الحبر‏ ‏الأسود

من‏ ‏عصر‏ ‏الأوثان

قال‏ : ‏أنا‏ ‏شخصتك‏ ‏فتشخص

شيئتك‏ ‏فتشيأ‏ .. ‏جسدتك‏ ‏فتجسد

حولتك‏ ‏فتحول‏ .. ‏حورتك‏ ‏فتحور

دورتك‏ ‏فتدور‏.. ‏كورتك‏ ‏فتكور

ورميتك‏ ‏حين‏ ‏رميتك‏ ‏حيث‏ ‏رميتك

وتمطى ‏كالقطة‏ .. ‏ورماني

قال‏ ‏أنا‏ ‏كف‏ ‏أصابع‏ ‏وبنان

وعجينة‏ ‏صلصال‏ ‏أنت‏ ‏أشكل‏ ‏منها‏ ‏العالم

فالعالم‏ ‏كل‏ ‏العالم‏ – ‏إن‏ ‏لم‏ ‏تدر‏ – ‏على ‏أطراف‏ ‏بناني

قال‏ ‏أنا‏ ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏تشكيلي

فصلاح‏ ‏طاهر‏ ‏المصرى ‏أنا‏ ‏

وأنا‏ ‏بيكاسو‏ ‏الأسباني

قال‏ ‏أنا‏ ‏مسئول

عن‏ ‏زمنى ‏الصلصالى ‏المختلف‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏البندولي

أنا‏ ‏سلطان‏ ‏فى ‏سلطنتي

ومصائر‏ ‏مخلوقاتى ‏الصلصالية‏ ‏لا‏ ‏تتبع‏ ‏إلا‏ ‏سلطاني

أحييك‏ ‏فتحيا‏ .. ‏وأميتك‏ ‏فتموت

وأبعثك‏ ‏فتبعث‏ ‏فردا

أدخلك‏ ‏نعيمى ‏الفردوسي

فتنعم‏ ‏بالفردوسيات

وأدخلك‏ ‏جحمى ‏مجرورا‏ ‏من‏ ‏قدميك

فتصلى ‏نيراني

كانت‏ ‏تلك‏ ‏الجملة‏ ‏آخر‏ ‏ما‏ ‏نطق‏ ‏به‏ ‏المتألة

ذياك‏ ‏المغرور‏ ‏الحاكم‏ ‏بأوامره

الناهى ‏بنواهيه

القاضى ‏بقوانين‏ ‏أمانيه

الجلاد‏ ‏المتعطش‏ ‏للدم‏ ‏يشربه‏ ‏كدركيولا

من‏ ‏كاسات‏ ‏الأعناق‏ ‏المكتظة‏ ‏بالدم

حتى ‏حافات‏ ‏الأذقان

فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏قررت‏ ‏بأن‏ ‏أقتله

أن‏ ‏أنتقم‏ ‏لصمتى ‏المرغم

لسكوتى ‏المكره

لوجودى ‏السرى .. ‏لعدمى ‏العلني

لأيامى ‏المنسية‏ .. ‏لليالي

الليلة‏ ‏قررت‏ ‏بأن‏ ‏أنتقم‏ ‏لعمرى ‏ولأمري

ولصوتى ‏ولصورتي

لكل‏ ‏كياني

حتى ‏يتسنى ‏لى ‏أن‏ ‏أتنفس

أتنهد

أهمس‏ ‏همسى .. ‏أصرخ‏ ‏صرخاتي

أنطق‏ ‏نطقى .. ‏أهذى ‏أو‏ ‏لا‏ ‏أهذي

فأنا‏ ‏حر‏ ‏فى ‏هذيانى ‏أو‏ ‏لا‏ ‏هذياني

أهجو‏ ‏الأخطل‏ ‏وجرير‏ ‏معا

وسويا‏ ‏أمدح‏ ‏كافور‏ ‏وسيف‏ ‏الدولة

إخشيديهما‏ ‏والحمداني

لحسابى ‏سوف‏ ‏يكون‏ ‏هجائى ‏ومديحي

لشراعى ‏سوف‏ ‏أوجه‏ ‏ريحي

وعلى ‏جدران‏ ‏ضريحي

سوف‏ ‏أصف‏ ‏كما‏ ‏قدماء‏ ‏المصريين

سجل‏ ‏حياتى ‏اليومية

وأنا‏ ‏شيدى ‏ومواجيدى ‏وتباريحي

وفقا‏ ‏لشريعة‏ ‏فتح‏ ‏فمى ‏الموصوفة‏ ‏فى ‏بردية‏ ‏آني

لا‏ .. ‏وفقا‏ ‏لشريعتى ‏الحية

آنى ‏كالثاني

والاثنان‏ ‏من‏ ‏الكهان

وويلى ‏من‏ ‏كهنوت‏ ‏الكهان

فأنا‏ ‏المصرى ‏العادى ‏المصرية

والنيل‏ ‏كما‏ ‏رواه‏ ‏رواني

والكلمات‏ ‏أواني

فلماذا‏ ‏صار‏ ‏هو‏ ‏الخزاف

وصرت‏ ‏أنا‏ ‏الخزف‏ ‏المجبول

من‏ ‏الطين‏ ‏المجلوب‏، ‏من‏ ‏الدلتا‏ ‏والوادي

من‏ ‏كفر‏ ‏الشيخ‏ ‏إلى ‏أسوان

ثبتنى ‏الخزاف‏ ‏على ‏عجلته‏ ‏الدائرة

وراح‏ ‏يدس‏ ‏الحفريات‏ ‏بطبقاتى ‏الخزفية

من‏ ‏حقبة‏ ‏ما‏ ‏قبل‏ ‏الأسرات

إلى ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏العصر‏ ‏الروماني

وفؤادى ‏ينزف‏ ‏ألما‏ ‏ودما

وفمى ‏مملوء‏ ‏بالماء

وكل‏ ‏حناياى ‏تعاني

وهو‏ ‏يزخرف‏ ‏خصرى ‏بالسكين

ويعجننى ‏ويمعجننى ‏بالحمأ‏ ‏المسنون

وإصبعه‏ ‏تضغط‏ ‏فوقى ‏ضغطا‏ ‏عصبيا‏ ‏دون‏ ‏تواني

ولذلك‏ ‏قررت‏ ‏الليلة‏ ‏أن‏ ‏أخلص‏ ‏منه

لكى ‏أتخلص‏ ‏من‏ ‏مأزقى ‏التاريخى ‏الجغرافى ‏الفونوغرافى ‏الفوتوغرافي

ولو‏ ‏لثواني

فلقد‏ ‏حاولت‏ ‏كثيرا‏ ‏معه

أطلقت‏ ‏النار‏ ‏عليه‏ ‏مرارا

وكأن‏ ‏رصاصات‏ ‏مسدسى ‘‏فشنك‏’‏

وكأن‏ ‏مسدسى ‏مسدس‏ ‏ألعاب

وكأن‏ ‏حياتى ‏أضحت‏ ‏تمثيلا‏ ‏فى ‏تمثيل

فالتمثيل‏ ‏ورائى ‏وأمامي

داخلى ‏وخارجي

فأين‏ ‏أقلب‏ ‏عينى ‏أراه‏ ‏حواني

آه‏ .. ‏لو‏ ‏أطويه‏ ‏بحلقي

هذا‏ ‏الفارد‏ ‏حلقات‏ ‏روايته‏ ‏فى ‏عنقي

لو‏ ‏أطويه

كما‏ ‏يطوى ‏قرص‏ ‏الليزر‏ ‏مكتبة‏ ‏حافلة‏ ‏بالموسوعات

فكم‏ ‏فى ‏سن‏ ‏القلم‏ ‏المبرى ‏طواني

لو‏ ‏أكويه‏ ‏بنارى ‏المندلعة‏ ‏بين‏ ‏جوانحي

لكم‏ ‏بحروف‏ ‏جهنمه‏ ‏الحمراء‏ ‏كواني

ما‏ ‏أحلى ‏أن‏ ‏أقتله‏ ‏قتلا‏ ‏رومانسيا‏ ‏

فالبطلة‏ ‏فى ‏تمثيلية‏ ‏هذى ‏الليلة

يكتب‏ ‏فيها‏ ‏أشعار‏ ‏العشق

ويطلب‏ ‏منى ‏أن‏ ‏ألقيها‏ ‏فى ‏عينيها‏ ‏ومضات

فى ‏شفتيها‏ ‏قبلات

فى ‏أذنيها‏ ‏وشوشة

وعواطف‏ ‏جائشة‏ ‏وأغاني

الليلة

سوف‏ ‏أمارس‏ ‏سحرى ‏الخاص‏ ‏عليها

سوف‏ ‏أريه‏ ‏بأن‏ ‏الكلمات‏ ‏ملائكة

أبرأ‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تحدث‏ ‏فيها‏ ‏أثرا‏ ‏هرمونيا

الليلة‏ ‏سوف‏ ‏أحضر‏ ‏من‏ ‏سابع‏ ‏أرض‏ ‏شيطاني

وسيعلم‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏أنى ‏الأول

وسيعلم‏ ‏أن‏ ‏التمثيل‏ ‏حقيقي

حين‏ ‏يباشر‏ ‏فعل‏ ‏الحب‏ ‏على ‏المسرح

حين‏ ‏يصير‏ ‏لشعر‏ ‏الحب‏ ‏ذراعان

سوف‏ ‏يموت‏ ‏الليلة

حين‏ ‏يرى ‏السيدة‏ ‏البلورية

تمسى ‏ضوءا‏ ‏فسفوريا

يتذرى ‏عريا‏ ‏أسطوريا

فى ‏أحضاني

الليلة‏ ‏يعلم‏ ‏أنى ‏البطل

وأن‏ ‏تحول‏ ‏أحلام‏ ‏اليقظة

من‏ ‏خلدى ‏ليدي

فى ‏إمكاني

الليلة‏ ‏سوف‏ ‏يسيل‏ ‏دم‏ ‏الثاني

حبرا‏ ‏أحمر

هو‏ ‏ليس‏ ‏سوى ‏أوردة‏ ‏وشرايين‏ ‏امتلأت‏ ‏عن‏ ‏آخرها

بالحبر‏ ‏الأحمر

مثل‏ ‏دواة‏ ‏تنسكب‏ ‏على ‏خارطة‏ ‏العالم

كالطوفان

لن‏ ‏يعصمه‏ ‏أحد‏ ‏مني

فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏ممسوس‏ ‏بي

مشدود‏ ‏للغاية‏ ‏عصبي

من‏ ‏حافة‏ ‏جلدى ‏حتى ‏بؤرة‏ ‏وجداني

الليلة‏ ‏سأمثل‏ ‏نفسي

وسأرفع‏ ‏أقنعتي

وأشد‏ ‏الباروكة‏ ‏عن‏ ‏رأسي

لن‏ ‏أضع‏ ‏الكوكاكولا‏ ‏بعد‏ ‏الآن‏ ‏بكأسي

وأسير‏ ‏على ‏المسرح

أتطوح‏ ‏كالسكران

طوحت‏ ‏البارحة‏ ‏الورق

على ‏طاولة‏ ‏بروفة‏ ‏تمثيلية‏ ‏هذى ‏الليلة

لما‏ ‏صاح‏ ‏المخرج‏ : ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏يريدك‏ ‏فرفورا

فلماذا‏ ‏تحلم‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏أنت‏ ‏السيد

اخلع‏ ‏عنك‏ ‏السترة‏ ‏طهمها‏ ‏الذهب

وطعمها‏ ‏القصب

فلست‏ ‏سوى ‏أحد‏ ‏الأقنان

ماذا‏ ‏تفعل‏ ‏يا‏ ‏فرفور‏ ‏وعصرك‏ ‏عصر‏ ‏السادة

والسادة‏ ‏يمتلكون‏ ‏حقول‏ ‏القمح

وأحجار‏ ‏رحى ‏الطحن

وأقدار‏ ‏الزارع‏ ‏والطحان

فى ‏عصر‏ ‏السادة

لايسمح‏ ‏بتبادل‏ ‏أدوار‏ ‏الدب‏ ‏الروسي

مع‏ ‏الحمل‏ ‏الشيشاني

قال‏ ‏المخرج‏: ‏أنت‏ ‏تريد‏ ‏الزج‏ ‏بنا

فى ‏أحداث‏ ‏مسلسل‏ ‏صندوق‏ ‏النقد‏ ‏الدولى ‏مع‏ ‏الدول‏ ‏النامية

وفى ‏معترك‏ ‏الجات‏ ‏مع‏ ‏الحاجات

وفى ‏قصة‏ ‏مونيكا‏ ‏وكلينتون‏ .. ‏وقضية‏ ‏لوكيربي

أنت‏ ‏تريد‏ ‏الزج‏ ‏بنا‏ ‏فى ‏فوهة‏ ‏البركان

قلت‏ ‏له‏ : ‏لكن‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏انتصر‏ ‏لفرفور‏ ‏الستينيات

فقال‏ ‏الستينيات‏ ‏توارت‏ ‏خلف‏ ‏السبعينيات

ولم‏ ‏يكن‏ ‏القرن‏ ‏العشرون

سوى ‏قرن‏ ‏أماني

العالم‏ ‏أضحى ‏الآن

كمثل‏ ‏شريط‏ ‏الرسم‏ ‏المتحرك

حين‏ ‏سيبكى ‏المسخ‏ ‏ستبكي

وستضحك‏ ‏حين‏ ‏سيضحك

هذا‏ ‏عصر‏ ‏الإستنساخ

ألم‏ ‏تسمع‏ ‏عن‏ ‏دوللي

قل‏ ‏لي

أو‏ ‏ليس‏ ‏برأسك‏ ‏أذنان

هذا‏ ‏عصر‏ ‏الإستمساخ

وسوف‏ ‏يصير‏ ‏البشر

قطيعا‏ ‏تتشابك‏ ‏فيه‏ ‏الأعراق

كما‏ ‏الشركات‏ ‏المتعددة‏ ‏الجنسية

من‏ ‏بين‏ ‏الأحراش‏ ‏الأفريقية

كالسافانا‏ ‏ستطول‏ ‏القدمان

والحوض‏ ‏سيطلع‏ ‏من‏ ‏حوض‏ ‏البحر‏ ‏المتوسط

والصدر‏ ‏تصدره‏ ‏أوربا

ودماغ‏ ‏العالم

تستورده‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏بقاع‏ ‏الدنيا‏ ‏أمريكا

والكفان

اليمنى ‏تجميع‏ ‏تايواني

واليسرى ‏تصنيع‏ ‏ياباني

الليلة

سوف‏ ‏يموت‏ ‏مؤلف‏ ‏نص‏ ‏العولمة

وسوف‏ ‏يموت‏ ‏المخرج

سوف‏ ‏أظل‏ ‏أنا‏ ‏وحدى .. ‏والمتفرج

لا‏ ..‏

سأظل‏ ‏أنا‏ ‏وحدي

للمسرح‏ ‏حيطان‏ ‏أربعة‏ ‏منذ‏ ‏الآن

لتصفيق‏ ‏النظارة‏ ‏عندي

تأثير‏ ‏شهواني

والمسرح‏ ‏تطهير‏،  ‏قال‏ ‏أرسطو‏ ‏ذلك

فى ‏الواقع‏ ‏ليس‏ ‏يهم‏ ‏البتة‏ ‏ما‏ ‏قال‏ ‏أرسطو

وأنا‏ ‏لا‏ ‏أتطهر‏ ‏دون‏ ‏الناس

بهذا‏ ‏الشكل‏ ‏الإعلاني

أنا‏ ‏أرفض‏ ‏هذا‏ ‏التطهير‏ ‏الصابونى ‏العلني

وأرفض‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏أنزلق

على ‏سطح‏ ‏النظريات‏ ‏الناعمة

كما‏ ‏الباليرينا‏ ‏المتزلجة

على ‏الشمع‏ ‏الموسيقى ‏لشوبان

كان‏ ‏أرسطو‏ ‏أستاذا

للمقدونى ‏الإسكندر‏ ‏ذى ‏القرنين

غزا‏ ‏التلميذ‏ ‏العالم

حين‏ ‏تحرر‏ ‏من‏ ‏أسر‏ ‏الكلمات

فأخضع‏ ‏نصف‏ ‏الدنيا‏ ‏القاصي

للنصف‏ ‏الداني

الليلة‏ ‏نرتجل

تذكرت‏ ‏لبرنادلو‏ ‏عملا‏ ‏يحمل‏ ‏نفس‏ ‏العنوان

الليلة‏ ‏أرتجل‏ ‏وحيدا

أنشد‏ ‏أغنية‏ ‏البجعة‏ ‏قبل‏ ‏الموت

وأنشد‏ ‏بعد‏ ‏الموت‏ ‏دعاء‏ ‏الكروان

ما‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏بعد‏ ‏الليلة

سوف‏ ‏يرص‏ ‏الكلمات‏ ‏على ‏شفتي

ولو‏ ‏كان‏ ‏المتنبي

أو‏ ‏هوميروس

أنا‏ ‏أوديسيوس‏ ‏الأوديسا‏ ‏الزمكانية

‏- ‏أينشتاين‏ ‏صاحب‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏الزمكانى – ‏وأنا‏ ‏أقبله‏ ‏نسبيا

وأسافر‏ ‏فى ‏ضوء‏ ‏مقولته‏ ‏كشعاع

حتى ‏أرسو‏ ‏فى ‏قرطبة

أغازل‏ ‏ولادة‏ ‏بنت‏ ‏المستكفي

بقصائد‏ ‏أحلى ‏من‏ ‏شعرالعباس‏ ‏بن‏ ‏الأحنف‏ ‏فى ‏فوز‏ ‏

فهو‏ ‏صريع‏ ‏غواني

وأنا‏ ‏أغواني

أنى ‏كنت‏ ‏المبصر‏ ‏وحدي

فى ‏مملكة‏ ‏الشعراء‏ ‏العميان

أبصر‏ ‏وحدى ‏الأشياء

وأخبرهم‏ ‏أن‏ ‏القمرعلى ‏هيئة‏ ‏طاووس

والليل‏ ‏مدائن‏ ‏من‏ ‏أبنوس

والشمس‏ ‏امرأة‏ ‏تتمدد

فوق‏ ‏أريكتها‏ ‏الممتدة

من‏ ‏غبش‏ ‏الفجر‏ ‏إلى ‏غسق‏ ‏المغرب

وتحاول‏ ‏أن‏ ‏تستر‏ ‏بالشعر‏ ‏الذهبى ‏المتموج

جزر‏ ‏الجسد‏ ‏العريان

كالزبد‏ ‏الطافي

فوق‏ ‏الماء‏ ‏الشفاف

يحاول‏ ‏أن‏ ‏يحجب‏ ‏فى ‏قاع‏ ‏البحر‏ ‏شعاب‏ ‏المرجان

الليلة

سوف‏ ‏يكون‏ ‏على ‏رهاني

الليلة‏ ‏سوف‏ ‏أمثل‏ ‏نفسي

سوف‏ ‏أقدم‏ ‏للنظارة‏ ‏فوق‏ ‏الخشبة‏ ‏رأسي

تقطر‏ ‏منها‏ ‏ذاكرتى .. ‏أفكاري

يقطر‏ ‏منها‏ ‏وجداني

هذا‏ ‏المشهد‏ ‏يشبه‏ ‏ما‏ ‏سطره‏ ‏ديستويفسكي

فى ‏لحظة‏ ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏الإعدام

ورأس‏ ‏الراوى ‏تتدحرج‏ ‏بين‏ ‏الأقدام

لسوف‏ ‏أعالج‏ ‏أمرى ‏بطريقتى ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏ديستويفسكي

فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏تتملكني

شهوة‏ ‏أن‏ ‏أصلح‏ ‏هذا‏ ‏العالم

قال‏ ‏شلى ‏هذى ‏الجملة

‏ ‏حسنا

سوف‏ ‏أغادر‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏ ‏لأحركه‏ ‏من‏ ‏خارجه

ثمة‏ ‏شخص‏ ‏آخر‏ ‏قال‏ ‏كلاما‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏هذا

ثمة‏ ‏ثاني

يتربص‏ ‏بي

‏ ‏يقف‏ ‏بحلقي

ويفتش‏ ‏كرجال‏ ‏الجمرك‏ ‏نبراتي

ويدس‏ ‏الكلمات

ويلغى ‏إحساسى ‏الجواني

يضع‏ ‏بحنجرتى ‏آلة‏ ‏تسجيل‏ ‏وشريطا‏ ‏مكرورا

يضع‏ ‏بكفى ‏سيفا‏ ‏خشبيا

وأنا‏ ‏تواق‏ ‏لمبارزة

أقتل‏ ‏فيها‏ ‏أو‏ ‏أقتل

حتى ‏يحترم‏ ‏فروسيتى ‏حصاني

إنى ‏تواق‏ ‏لثياب‏ ‏تتمزق‏ ‏عن‏ ‏لحمي

يتمزق‏  ‏عنها‏ ‏لحمي

تبرز‏ ‏من‏ ‏لحمى ‏كتلة‏ ‏أعصاب

تتلوى ‏بين‏ ‏أياديكم

تصرخ‏ ‏فيكم‏ :‏

أن‏ ‏قوموا‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏كراسيكم

ماذا‏ ‏أنتم‏ ‏تنتظرون

فبعدى ‏الطوفان‏ ‏سيأتيكم

بالحيتان

الفك‏ ‏المفترس

سيسعى ‏بين‏ ‏نسائكم‏ ‏السمراوات

يعرى ‏الأكتاف‏ ‏من‏ ‏الأعطاف

يعرى ‏الأفخاذ‏ ‏من‏ ‏السيقان

إنى ‏أخشى ‏يا‏ ‏بلقيس‏ ‏على ‏سبأ

أن‏ ‏تفعل‏ ‏فيها‏ ‏ما‏ ‏فعلت

يا‏ ‏حسناء‏ ‏الساقين‏ ‏بساقيك

قوارير‏ ‏الملك‏ ‏سليمان‏ ‏

فالملك‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏دخل‏ ‏القرية‏ ‏أفسدها

هذا‏ ‏مذكور‏ ‏فى ‏القرآن

من‏ ‏عشرة‏ ‏أعوام

أحببت‏ ‏امرأة‏ ‏مثلك‏ ‏يا‏ ‏بلقيس

ورحت‏ ‏إليها‏ ‏أنشد‏ :‏

إنى ‏أشهد‏ ‏ألا‏ ‏امرأة‏ ‏إلا‏ ‏أنت

كما‏ ‏شهد‏ ‏نزار

قالت‏ ‏إن‏ ‏نزارا‏ ‏قباني

يزن‏ ‏الكلمات

فقلت‏ ‏لها‏ ‏للأفعال‏ ‏نصبت‏ ‏أنا‏ ‏يا‏ ‏سيدتى ‏ميزاني

كفاى ‏ككفتى ‏الميزان‏ ‏تقيمان‏ ‏العدل‏ ‏المطلق

ولسانى ‏كلسان‏ ‏الميزان‏ ‏يقول‏ ‏الصدق

أنا‏ ‏مصلوب‏ ‏يا‏ ‏سيدتي

فوق‏ ‏صليب‏ ‏من‏ ‏خشب‏ ‏الزان

وعلى ‏قلبى ‏من‏ ‏شوقى ‏لك‏ ‏وصدودك

مسماران‏ ‏عزيزان

قالت‏ ‏لى:‏

إن‏ ‏الثانى ‏زوجنى ‏غيرك

كتب‏ ‏كتابته‏ ‏الزرقاء

على ‏صفحة‏ ‏جلدى ‏الشقراء

وقال‏ ‏بأن‏ ‏العاشق

لو‏ ‏خرج‏ ‏عن‏ ‏الكلمات‏ ‏المنقوشة

بالفيروز‏ ‏على ‏الزنبق

زاني

من‏ ‏عشرة‏ ‏أعوام

وأنا‏ ‏مقتول

أمشى ‏أتكفأ‏ ‏فى ‏أكفاني

من‏ ‏منكم‏ ‏يا‏ ‏نظارة‏ ‏فى ‏قلبى ‏عزاني

من‏ ‏منكم‏ ‏يرشدني

عن‏ ‏قاتلى ‏المحترف‏ ‏المأجور‏ ‏المرسل‏ ‏خلفى ‏

فى ‏كل‏ ‏مكان

‏ ‏تهمتى ‏العشق‏ ‏البري

جريمتى ‏مطاردة‏ ‏غزال

ليس‏ ‏له‏ ‏شبه‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏الغزلان

أرهفت‏ ‏القوس‏ ‏طويلا

وأخيرا

وجهت‏ ‏السهم‏ ‏إلى ‏قلبي

فالعشق‏ ‏فناء‏ ‏العاشق‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏المعشوق

وإنى ‏من‏ ‏يومى ‏فاني

العشق‏ ‏الراشق‏ ‏فى ‏صدري

مونودراما‏ ‏تتنامى ‏تحت‏ ‏ضلوعي

يترامى ‏فيها‏ ‏بالنار‏ ‏النصف‏ ‏المجنى ‏عليه‏ ‏من‏ ‏القلب

مع‏ ‏النصف‏ ‏الجاني

ما‏ ‏دخل‏ ‏الثانى ‏فى ‏قلبي

صف‏ ‏القتلة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏زمان

‏- ‏فعل‏ ‏صلاح‏ ‏فعلته‏ ‏فى ‏مأساة‏ ‏الحلاج‏-‏

‏ ‏وعراني

سارتر‏ ‏كان‏ ‏قصيرا‏ ‏أحول

شغل‏ ‏الصف‏ ‏الأول

قال‏ ‏وجودك‏ ‏عدم

وجحيمك‏ ‏يعنى ‏الآخر

كان‏ ‏سفكليس‏ ‏الأطول

شغل‏ ‏الصف‏ ‏الآخر

قال‏ ‏كأوديب‏ ‏تصير‏ ‏حزين‏ ‏الروح

وتسمل‏ ‏منك‏ ‏العينان

قلت‏ ‏لسارتر‏ ‏وسفكليس

إنكما‏ ‏الرجل‏ ‏الثاني

صاح‏ ‏من‏ ‏الصف‏ ‏الثالث‏ ‏إبسن

ومن‏ ‏الرابع‏ ‏ونوس

ومن‏ ‏الخامس‏ ‏تنسى ‏وليامز

ومن‏ ‏السادس‏ ‏عبد‏ ‏الرحمن‏ ‏الشرقاوي

ومن‏ ‏التاسع‏ ‏جوته‏ ‏

ومن‏ ‏الحادى ‏عشر‏ ‏أسامة‏ ‏أنور‏ ‏عكاشة

قلت‏ : ‏جميعكم‏ ‏الثاني

وأنا‏ ‏يا‏ ‏سادتى ‏الأول

الليلة‏ ‏أرتجل

الليلة‏ ‏بالفعل‏ ‏أمثل

واليلة‏ ‏لابد‏ ‏سأقتل‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور

ليصبح‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏المرسل‏ ‏ملكى ‏وحدي

فالرجل‏ – ‏كما‏ ‏تدرون‏ ‏أنانى ‏وأنا‏ – ‏وكما‏ ‏تدرون‏ – ‏أناني

‏القراءة

قبل‏ ‏القراءة‏، ‏ننبه‏ ‏على ‏القارئ‏ – ‏ما‏ ‏أمكن‏ – ‏أن‏ ‏يحضره‏ ‏الفرض‏ ‏التركيبى ‏الأساسى ‏فى ‏هذه‏ ‏القراءة‏، ‏وهى ‏أنها‏ ‘‏قراءة‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏إلى ‏الخارج‏، ‏وبالعكس‏’، ‏إنها‏ ‏محاولة‏ ‏لعرض‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏القهر‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏المفروض‏ ‏على ‏الكيان‏ ‏النامى، ‏هو‏ ‏تركيب‏ ‏داخلى ‏من‏ ‏منظومات‏ ‏الذات‏، ‏حتى ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏مصدره‏ ‏هو‏ ‏الخارج‏ ‏السلطوى ‏القاهر‏، ‏إنها‏ ‏معركة‏ ‏الداخل‏ ‏دون‏ ‏استبعاد‏ ‏الخارج‏ ‏أو‏ ‏الحكم‏ ‏ببراءته‏، ‏وبقدر‏  ‏ما‏ ‏هى ‏معركة‏ ‏الداخل‏، ‏هى ‏فرصة‏ ‏النماء‏ ‏إذا‏ ‏نجح‏ ‏المتعاركون‏ ‏فى ‏الحوار‏ ‏للتوليف‏، ‏وليس‏ ‏فى ‏مجرد‏ ‏وقف‏ ‏إطلاق‏ ‏النار‏ ‏للتسوية‏.‏

البداية‏ ‏

يتكرر‏ ‏فى ‏القصيد‏ ‏تحديد‏ ‏البداية‏ ‏بأنها‏ ‏كانت‏ ‘‏هذى ‏الليلة‏’، ‏وتتراوح‏ ‏البداية‏ ‏بين‏ ‏الرغبة‏ (‏أرغب‏ ‏هذى ‏اليلة‏ ‏أن‏ ‏أتكلم‏ ‏بلساني‏)، ‏وبين‏ ‏الإقدام‏ ‏على ‏الكشف‏ (‏الليلة‏ ‏أكسر‏ ‏بندقتي‏)،  ‏ثم‏ ‏قرار‏ ‏القتل‏ (‏فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏قررت‏ ‏بأن‏ ‏أقتله‏)، ‏ليعقب‏ ‏القتل‏ – ‏أو‏ ‏يتبادل‏ ‏معه‏- ‏محاولة‏ ‏إخفاء‏ ‏جسم‏ ‏الجريمة‏ ‏ربما‏ ‏منعا‏ ‏لتقمص‏ ‏المقتول‏ (…. ‏قررت‏ ‏الليلة‏ ‏أن‏ ‏أخلص‏ ‏منه‏). ‏المهم‏ ‏هو‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏الجاثم‏ ‏فوق‏ ‏أنفاسه‏، ‏القاهر‏ ‏فوق‏ ‏وجوده‏، ‏بالقتل‏ ‏أو‏ ‏بالموت‏ ‏أو‏ ‏بأى ‏وسيلة‏ ‏كانت‏، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يختفى ‏حتى ‏يفسح‏ ‏الطريق‏ ‏لهذا‏ ‏الأخر‏ (‏الأول‏) ‏الذى  ‏قرر‏ ‏أخيرا‏ ‏أن‏ ‘‏يوجد‏’ ‏بأى ‏وسيلة‏ : ‏بالقتل‏، ‏أو‏ ‏بالإلغاء‏، ‏أو‏ ‏بتعجل‏ ‏الموت‏ ‏الطبيعى، (‏سوف‏ ‏يموت‏ ‏الليلة‏ – ‏الليلة‏ ‏سوف‏ ‏يسيل‏ ‏دم‏ ‏الثاني‏).‏

إن‏  ‏تحديد‏ ‏البداية‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏ليلة‏ ‏بذاتها‏، ‘‏هذى ‏الليلة‏’، ‏ينبهنا‏ ‏إلى ‏أنها‏ ‏معركة‏ ‏فرضت‏ ‏نفسها‏ ‏في‏’‏لحظة‏ ‏إفاقة‏’، ‏ومع‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏الحادة‏ ‏تبدو‏ ‏مفاجئة‏، ‏وفارقة‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏فى ‏طبيعتها‏ ‏الأعمق‏، ‏هى ‏نتاج‏ ‏تحضير‏ ‏لم‏ ‏يتوقف‏ ‏أبدا‏ ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏فرض‏’‏الانشقاق‏’ ‏ثم‏ ‏سيطرت‏’‏وصاية‏’ ‏الآخر‏ – ‏الداخلى ‏أساسا‏- ‏و‏’‏قيادته‏’. ‏قبيل‏ ‏قرار‏ ‏الانعتاق‏ ‏تلك‏ ‏الليلة‏ ‏كان‏ ‏ثم‏ ‏تمهيد‏ ‏وتجريب‏ ( ‏طوحت‏ ‏البارحة‏ ‏الورق‏، ‏على ‏بروفة‏ ‏تمثيلية‏ ‏هذى ‏الليلة‏)، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏الشعور‏ ‏بالازدواج‏ (‏فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏ممسوس‏ ‏بى‏).‏

تمتد‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏الجاثم‏ ‏الوصى، ‏إلى ‏كل‏ ‏الآخرين‏ ‏المحتمل‏ ‏أن‏ ‏يصيغوه‏ ‏فيما‏ ‏لم‏ ‏يختر‏، ‏فيما‏ ‏ليس‏ ‏هو‏، ‏فالموت‏ ‏للجميع‏ – ‏هذه‏ ‏الليلة‏ – ‏حتى ‏لا‏ ‏يبقى ‏إلا‏ ‏هو‏ (‏الليلة‏، ‏سوف‏ ‏يموت‏ ‏مؤلف‏ ‏نص‏ ‏العولمة‏، ‏وسوف‏ ‏يموت‏ ‏المخرج‏، ‏سوف‏ ‏أظل‏ ‏أنا‏ ‏وحدى‏… ‏والمتفرج‏). ‏

وهو‏ ‏إذ‏ ‏يتصور‏ ‏انفراده‏ ‏بالمسرح‏ ‏لا‏ ‏يعلن‏ ‏استيلاءه‏ ‏على ‏الأرض‏، ‏ولا‏ ‏يعين‏ ‏نفسه‏ ‏قائدا‏ ‏للمسيرة‏، ‏بل‏ ‏يطلق‏ ‏لنفسه‏ ‏العنان‏ ‏ليستعيد‏ ‏التلقائية‏ (‏الارتجال‏). ‏هو‏ ‏يتخلص‏ ‏من‏ ‏أى ‏نص‏ ‏سابق‏ ‏التجهيز‏، ‏كما‏ ‏تخلص‏ ‏من‏ ‏أى ‏آخر‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يبقى ‏إلا‏ ‏هو‏  ‏وحده‏ ‏منطلقا‏ ‏مرتجلا‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ (‏الليلة‏ ‏نرتجل‏ –  ‏الليلة‏ ‏أرتجل‏ ‏وحيدا‏ – ‏ما‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏بعد‏ ‏الليلة‏ ‏سوف‏ ‏يرص‏ ‏الكلمات‏ ‏على ‏شفتى‏).‏

هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏المطلقة‏ ‏تؤلهه‏ . ‏الواحد‏ ‏الأحد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏بغيره‏، ‏ولا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏من‏ ‏يخلقه‏، ‏لا‏ ‏تأخذه‏ ‏سنة‏ ‏ولا‏ ‏نوم‏. ‏الوحدة‏ ‏بكل‏ ‏زخمها‏ ‏القاسى ‏تتطلب‏ ‏تعويضا‏ ‏هائلا‏ ‏لا‏ ‏تحققه‏ ‏إلا‏  ‏قدرات‏ ‏غير‏ ‏محدودة‏، ‏قدرات‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تجدد‏ ‏العالم‏ ‏أجمع‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏ذاتها‏، ‏فهو‏ ‏التأله‏(‏فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏تتملكنى ‏شهوة‏ ‏أن‏ ‏أصلح‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏) …… (‏كفاى ‏ككفتى ‏الميزان‏ ‏تقيمان‏ ‏العدل‏ ‏المطلق‏).‏

يصر‏ ‏الشاعر‏ ‏أن‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏نقطة‏ ‏البداية‏ (‏وهى ‏هى ‏نقطة‏ ‏النهاية‏) ‏كانت‏ ‏هذى ‏الليلة‏، ‏وهو‏ ‏يشير‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏القصيدة‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏ليس‏ ‏فردا‏، ‏بل‏ ‏هو‏’‏كل‏’ ‏من‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يعرفه‏، (‏قلت‏: ‏جميعكم‏ ‏الثاني‏)، ‏والأهم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‘‏أحمد‏ ‏تيمور‏’ ‏الشاعر‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏ضمن‏ ‘‏جميعكم‏ ‏الثاني‏’، ‏وهو‏ ‏يعلن‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‘‏يكون‏ ‘ ‏الأول‏ (‏تحت‏ ‏وهم‏ ‏أن‏ ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏)، ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏تضمنت‏ ‏قائمة‏ ‏قتلى ‏هذه‏ ‏الليلة‏ ‏ذلك‏ ‏الشاعر‏ ‏أيضا‏، ‏وربما‏ ‏أولا‏( ‏الليلة‏ ‏سيقتل‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏). ‏وهو‏ ‏يقتل‏ ‏الشاعر‏ ‏الوصى، ‏لا‏ ‏ليكف‏ ‏عن‏ ‏الشعر‏، ‏هو‏ ‏يقتل‏ ‏الذى ‘‏يقرض‏ ‏الشعر‏’، ‏ليحل‏ ‏محله‏ ‏من‏’‏يعيش‏ ‏الشعر‏’‏لا‏ ‏يقوله‏ (‏ليصبح‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏المرسل‏ ‏ملكى ‏وحدي‏).‏

هذا‏ ‏الوعى ‏بـ‏’‏الثاني‏’ ‏شديد‏ ‏الوضوح‏  ‏فى ‏هذا‏ ‏القصيد‏، ‏إن‏ ‏مفهوم‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏صعب‏  ‏الاستيعاب‏ ‏على ‏الشخص‏ ‏العادى ‏إلا‏ ‏من‏ ‏مدخلين‏ : ‏الشعر‏ ‏والجنون‏. ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏يهدد‏ ‏الواحدية‏ ‏اللازمة‏ ‏لاستمرار‏ ‏الفعل‏ ‏والمسئولية‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏نجد‏  ‏مقاومة‏ ‏شديدة‏ ‏فى ‏قبوله‏ ‏لدى ‏الشخص‏ ‏العادى، ‏فالمتعدد‏ ‏عند‏ ‏الرأى ‏العام‏  ‏هو‏ ‏المجنون‏، ‏أو‏  ‏الفصامى (‏انفصام‏ ‏الشخصية‏)، ‏أو‏ ‏الملبوس‏ ‏بالجان‏، ‏أو‏ ‏على ‏أحسن‏ ‏الفروض‏ ‏متقلب‏ ‏المزاج‏. ‏الشاعر‏ (‏والمسرحي‏) ‏هو‏ ‏من‏ ‏أقدر‏ ‏الناس‏ (‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏أقدرهم‏ ‏فعلا‏)  ‏على ‏توصيل‏ ‏فكرة‏ ‏التعدد‏  ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى، ‏ربما‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى، ‏وغالبا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يقصد‏.‏

‏ ‏موقف‏ ‏الشاعر‏ ‏هنا‏، ‏ليست‏ ‏بحثا‏ ‏عن‏ ‏الذات‏، ‏ولا‏ ‏سعيا‏ ‏لتحقيق‏ ‏الذات‏. ‏المسألة‏ ‏أن‏ ‏فينا‏ ‏ثمة‏ ‘‏آخر‏’ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ ، ‏نتكون‏ ‏به‏ ، ‏نتبادل‏ ‏معه‏، ‏نتجادل‏  ‏لنكوننا‏ ‏فى ‏تخلق‏ ‏مستمر‏. ‏الإشكال‏ ‏الذى ‏ضخمه‏ ‏الموقف‏ ‏الاستقطابى، ‏يكمن‏ ‏فى ‏تصوير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏هو‏ ‏خارجى، ‏وأنه‏ ‏ليس‏ ‏ضروريا‏ ‏وأساسيا‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏النمو‏، ‏وبالتالى ‏يتضخم‏ ‏تصوير‏ ‏الصراع‏ ‏على ‏أنه‏ ‏سعى ‏للحرية‏ ‏ورفض‏ ‏للاغتراب‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الجهد‏ ‏الحقيقى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتوجه‏ ‏إلى ‏استعمال‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏المفروض‏ ‏حتى ‏استيعابه‏.‏

‏ ‏لكى ‏يتم‏ ‏ذلك‏، ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏الفصل‏ ‏للاتصال‏، ‏والوصل‏ ‏للانفصال‏،  ‏بحوار‏ ‏متصل‏،  ‏ينتهى ‏فى ‏الظروف‏ ‏الملائمة‏ ‏إلى ‏تخليق‏ ‏متجدد‏ ‏لذات‏(‏فذوات‏) ‏أخرى ‏أعلى ‏نضجا‏، ‏وأشمل‏ ‏احتواء‏.‏

متى ‏يبدأ‏ ‏الانشقاق؟‏ ‏ومتى ‏يبدأ‏ ‏الوعى ‏بالانشقاق؟

يعلن‏ ‏الشاعر‏ ‏هنا‏ ‏أنه‏ ‏أدرك‏ ‏هذا‏ ‏الانشقاق‏ ‏منذ‏ ‏الطفولة‏ ‏الأولى، ‏منذ‏ ‏بداية‏ ‏امتلاكه‏ ‏أداة‏ ‏التعبير‏ ‏لفظا‏. ‏حدوث‏ ‏الانشقاق‏ ‏سابق‏ ‏للوعى ‏به‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الوعى ‏اللاحق‏ ‏به‏، ‏حتى ‏فى ‏منتصف‏ ‏العمر‏، ‏وبعده‏، ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏توقيته‏ ‏تحديدا‏، ‏وإنما‏  ‏هو‏ ‏حين‏ ‏يعلن‏ ‏يرصد‏ ‏البداية‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى، ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏نسميه‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏المرض‏ ‘‏سبق‏ ‏التوقيت‏’،  ‏الانشقاق‏ ‏يحدث‏ – ‏تبعا‏ ‏لنظرية‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏- ‏منذ‏ ‏الولادة‏، ‏بمجرد‏ ‏الخروج‏ ‏من‏ ‏الرحم‏، ‏ومواجهة‏ ‏حضور‏ ‏الآخر‏(‏الأم‏)، ‏حيث‏ ‏يتم‏ ‏انسحاب‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏يمثل‏ ‏الموضوع‏ ‏الداخلي‏.‏ينقسم‏ ‏هذا‏ ‏الجزء‏  ‏بدوره‏ ‏إلى ‘‏أنا‏’ ‏لذية‏ ‏حسية‏ ‏لذية‏Hedonic Ego ، ‏وإلي‏’‏أنا‏’‏ضابطة‏ ‏ضد‏-‏لذية‏ ‏قامعة‏ Anti-Hedonic Ego. ‏ويظل‏ ‏الحوار‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏المنشقة‏ ‏طول‏ ‏الحياة‏، ‏هذا‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏مدرسة‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏، ‏أما‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏مدارس‏ ‏تركيبية‏ ‏أخرى، (‏مثل‏ ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى، ‏والنظرية‏ ‏الإيقاعية‏ ‏التطورية‏ ‏للكاتب‏) ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏الانشقاق‏ ‏هو‏ ‏أصل‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى، ‏الذى ‏يحتوى ‏تاريخه‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏تاريخه‏ ‏العائلى ‏الجينى، ‏ولكن‏ ‏أيضا‏ ‏تاريخه‏ ‏الحيوي‏.‏

يتحدد‏ ‏الانشقاق‏ (‏فى ‏تطور‏  ‏الفرد‏ ‏وتطور‏ ‏النوع‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏) ‏بوضوح‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏اكتساب‏ ‏الكلام‏.  ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أن‏ ‏الكلام‏ ‏نعمة‏ ‏كبرى ‏تميز‏ ‏بها‏ ‏الإنسان‏ ‏حتى ‏وصف‏ ‏بها‏ ‏تمييزا‏ ‏عن‏ ‏سائر‏ ‏الحيوانات‏ (‏الإنسان‏ ‏حيوان‏ ‏ناطق‏) ‏فهو‏ -‏الكلام‏ ‏واللغة‏- ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏اغتراب‏ ‏يفصل‏ ‏الذات‏ ‏عن‏ ‏جذورها‏، ‏من‏ ‏هنا‏ ‏تبدأ‏ ‏مداخلتنا‏ ‏بإعلان‏ ‏أنه‏’‏لا‏ ‏نمو‏ ‏دون‏ ‏اغتراب‏’، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏الاغتراب‏ ‏يحدث‏ ‏ليذوب‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏النامى ‏فى ‏مرحلة‏ ‏لاحقة‏، ‏لكنه‏ ‏إذ‏ ‏يتم‏ ‏يبدو‏ ‏وكأنه‏ ‏باق‏ ‏أبدا‏، ‏وبالنسبة‏ ‏لاكتساب‏ ‏اللغة‏ ‏بالذات‏، ‏يتم‏ ‏الاغتراب‏ (‏الطبيعي‏) ‏بأن‏ ‏يحل‏ ‏الرمز‏ ‏محل‏ ‏الوجود‏ ‏الأصل‏. ‏التقط‏ ‏الشاعر‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏بحدسه‏ ‏الأعمق‏، ‏فراح‏  ‏يعلن‏  ‏أنه‏ ‏منذ‏ ‏عرف‏ ‏النطق‏، ‏انقسم‏ ‏على ‏نفسه‏، ‏ما‏ ‏عاد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏ينطق‏، ‏أصبح‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏يمسك‏ ‏بلهاته‏ ‏كرباجا‏ ‏يلهب‏ ‏ظهر‏ ‏وجوده‏، ‏وصير‏ ‏أسنانه‏ ‏سنابك‏ ‏مهرة‏ ‏الرمز‏ ‏المشدودة‏. ‏أخرجه‏ ‏اكتساب‏ ‏الرمز‏ ‏من‏ ‏بشرته‏ ‏البشرية‏.‏

‏ ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏التنبيه‏ ‏على ‏أن‏ ‏اكتساب‏ ‏اللغة‏/‏الكلام‏ ‏اغترابا‏ ‏هو‏ ‏مدح‏ ‏أم‏ ‏ذم؟

‏ ‏فى ‏البدء‏ ‏كان‏ ‏الكلمة‏، ‏صحيح‏، ‏الكلمة‏ ‏هى ‏قبل‏ ‏الرمز‏، ‏الكملة‏ ‏تأبى ‏أن‏ ‏تحشر‏ ‏فى ‏الرمز‏. ‏لكن‏ ‏بدون‏ ‏اللغة‏ ‏المرموزة‏ ‏نظل‏ ‏نتخبط‏ ‏فى ‏ظلامات‏ ‏الحس‏ ‏العام‏، ‏والحدس‏ ‏الغامض‏، ‏والوحدة‏ ‏المغلقة‏. ‏ما‏ ‏العمل؟

هذا‏ ‏الوعى ‏بهذا‏ ‏الانفصال‏، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الفرنسى ‏أوتوماتية‏ ‏عقلية‏ Autaumatism Mentale ‏وللأسف‏، ‏فليس‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏يقابله‏ ‏تحديدا‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الأنجلوساكسونى، ‏فالعالمى، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يختزل‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏وسواس‏. ‏هو‏ ‏قريب‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏مجموعة‏ ‏تسمى ‏مجموعة‏ ‏أعراض‏ ‏شنايدر‏ ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الأولي‏Schneider‏ ‏s first rank  symptoms . ‏الغرب‏ ‏يعتبر‏ ‏هذه‏ ‏الأعراض‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏أعراض‏ ‏تشخيص‏ ‏الفصام‏، ‏لكن‏ ‏الفروق‏ ‏الثقافية‏ ‏تعلمنا‏، ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏واردة‏ ‏بشكل‏ ‏متواتر‏ ‏عند‏ ‏عدد‏ ‏وافر‏ ‏من‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏، ‏دون‏ ‏مرض‏، ‏وهى ‏تتحول‏ ‏أحيانا‏ ‏إلى ‏معتقدات‏ ‏اللبس‏ (‏بالجان‏).‏

‏ ‏أما‏ ‏عند‏ ‏الشعراء‏ ‏خاصة‏ ‏والمبدعين‏ ‏عامة‏، ‏ورغم‏ ‏هذا‏ ‏التشابه‏، ‏فهى ‏ليست‏ ‏هذا‏ ‏ولا‏ ‏ذاك‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏مرحلة‏ ‏التعتعة‏ ‏التى ‏تفكـك‏ ‏تركيب‏ ‏الذات‏ ‏الواحدة‏ ‏إلى ‏ذواتها‏ ‏المتعددة‏. ‏إن‏ ‏إدراك‏ ‏ذلك‏، ‏ومدى ‏مرونة‏ ‏ولطف‏ ‏التفكيك‏ ‏الخفيف‏ (‏التعتعة‏)، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يسمح‏ ‏للشاعر‏ (‏أو‏ ‏المبدع‏) ‏أن‏  ‏يتحرك‏ ‏لإعادة‏ ‏التنظيم‏، ‏هو‏ ‏تفكك‏ ‏بصيرى ‏مسئول‏، ‏يرتحل‏ ‏بصاحبه‏ ‏إلى ‏تفوق‏ ‏على ‏وجوده‏ ‏الآنى، ‏فيتمكن‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يطلع‏، ‏من‏ ‏موقع‏ ‏ما‏، ‏على ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏يجرى، ‏ومن‏ ‏يتجاور‏، ‏وعلى ‏ما‏ ‏يتحاور‏، ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتحاور‏ ‏من‏ ‏منظوماته‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يمسك‏ ‏بأداته‏ ‏ليصنع‏ ‏الجديد‏، ‏ذاتا‏  ‏أكثر‏ ‏نماء‏ (‏إعادة‏ ‏ولادة‏) ‏أو‏ ‏قصيدة‏ (‏الشعر‏) ‏أو‏ ‏ما‏ ‏تيسر‏ ‏من‏ ‏إبداع‏. ‏

نرجع‏ ‏لموقع‏ ‏الرمز‏ ‏وكيف‏ ‏نكتشف‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نستسلم‏ ‏له‏ ‏كبديل‏ ‏عن‏ ‏وجودنا‏، ‏رغم‏ ‏ضرورته‏ ‏لتحديد‏ ‏معالم‏ ‏إنسانيتنا‏ ‏كـكيانات‏ ‏ناطقة‏ ‏متفاهمة‏ (‏شاعرة‏ ‏أيضا‏). ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الإحلال‏ ‏الطبيعى ‏كمرحلة‏ ‏فى ‏النمو‏، ‏يتجسد‏ ‏ويتعملق‏ ‏أحيانا‏، ‏عندما‏ ‏يحل‏ ‏الإبداع‏ ‏الرمزى ‏محل‏ ‏الوجود‏ ‏الشخصى، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏الشعر‏. (‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏فاض‏ ‏بشاعرنا‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏القصيد‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يقصد‏ ‏غالبا‏).‏

‏ ‏نحن‏ ‏نرضى ‏بالرمز‏،  ‏وهو‏ ‏يلهب‏ ‏ظهرنا‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏كرباجا‏، ‏لكننا‏ ‏نستعمله‏ ‏لجاما‏ ‏لجموحنا‏ ‏الانفعالى، ‏وضابطا‏ ‏لدفعات‏ ‏القتل‏ ‏المتربص‏ ‏بداخلنا‏. ‏نظل‏ ‏كذلك‏ ‏نترجح‏ ‏بين‏ ‏الاستسلام‏ ‏له‏ ‏بديلا‏، ‏وبين‏ ‏ركوب‏ ‏صهوته‏ ‏أداة‏. ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏فى ‏ظرف‏ ‏خاص‏ ‏قد‏ ‏يحتد‏ ‏الوعى ‏بالشق‏ ‏الأول‏ ‏لسيطرة‏ ‏الرمز‏،  ‏وهذا‏ ‏قد‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏رفض‏ ‏عشوائى ‏لهذه‏ ‏السيطرة‏، ‏فيتفسخ‏ ‏صاحبه‏ ‏فصاما‏، ‏أو‏ ‏فى ‏ظرف‏ ‏طيب‏ ‏قد‏ ‏تعاد‏ ‏صياغته‏ ‏وتضمينه‏ ‏وتشكيله‏ ‏أداة‏ ‏طيعة‏ ‏جديدة‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الشعر‏.‏

المبدع‏ ‏والمجنون‏ ‏يكسران‏ ‏البندقة‏، ‏واحد‏ ‏يكسرها‏ ‏ليجادل‏ ‏ما‏ ‏بداخلها‏،‏ويحتويه‏ ‏وينمو‏ ‏به‏ ‏ومن‏ ‏خلاله‏، ‏والآخر‏ ‏يكسرها‏ ‏فإذا‏ ‏به‏ -‏شخصيا‏ – ‏يتفتت‏ ‏تناثرا‏ ‏مع‏ ‏كسرها‏.‏

‏(‏الليلة‏ ‏أكسر‏ ‏بندقتى، ‏أفتح‏ ‏فستقتى، ‏أخرج‏ ‏من‏ ‏جوف‏ ‏محارة‏ ‏أيامى ‏لؤلوتى، ‏أعرض‏ ‏لشعاع‏ ‏الضوء‏ ‏المخروطى ‏شريط‏ ‏حياتى ‏الـسرية‏ ‏بالمجان‏).‏

القراءة‏  ‏الحالية‏ ‏تريد‏- ‏أساسا‏ – ‏أن‏ ‏تقدم‏ ‏مفهوم‏ ‏التعدد‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏نبض‏ ‏وبصيرة‏ ‏شاعر‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يكشف‏ ‏معالم‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏كشف‏ ‏الجانب‏ ‏الفنى ‏الحماسى ‏فيها‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الولاف‏، ‏وهذا‏ ‏جيد‏ ، ‏الشاعر‏ (‏والمبدع‏ ‏عامة‏) ‏لا‏ ‏يضع‏ ‏حلا‏ ‏لكن‏ ‏يرى، ‏ويغرى ‏بحل‏ ‏ما‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏كان‏. ‏

مفهوم‏ ‘‏تعدد‏ ‏الذوات‏’ ‏وعلاقتها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏الفرد‏ ‏الواحد‏، ‏يتجلى ‏بصورة‏ ‏صريحة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏القصيد‏،  ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏محدودا‏  ‏بالمستوي‏’‏الصراعي‏-‏التحرري‏’ ‏الذى ‏حضرت‏ ‏به‏ ‏القصيدة‏ ‏فى ‏وعى ‏الشاعر‏.‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نقبل‏ ‏ذلك‏ ،  ‏ثم‏ ‏نتحرك‏ ‏منه‏ ‏وإليه‏ ‏وحوله‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نستدرج‏ ‏إلى ‏منهج‏ ‏نقدى ‏صرف‏.*‏

‏[‘‏لفتة‏ ‏نقدية“: ‏لماذا‏ ‏يكرر‏ ‏الشاعر‏ ‏نفس‏ ‏المعنى ‏بأسلوب‏ ‏مختلف‏، ‏يكاد‏ ‏لا‏ ‏يبرره‏ ‏إلا‏ ‏جذب‏ ‏الشاعرية‏ ‏نحو‏ ‏التأكيد‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏يضعف‏ ‏الصورة‏ ‏الجميلة‏ ‏الأولي‏. ‏ألم‏ ‏يكن‏ ‏أبلغ‏ ‏وأعمق‏ ‏أن‏ ‏يكتفى ‏الشاعر‏ ‏بكسر‏ ‏البندقة‏ ‏دون‏ ‏فتح‏ ‏الفستقة‏، ‏ثم‏ ‏عن‏ ‏الترتيب‏: ‏أيهما‏ ‏أولى ‏بالانتقال‏ ‏من‏ ‏السطح‏ ‏إلى ‏العمق‏: ‏فتح‏ ‏الفستقة‏ ‏أم‏ ‏كسر‏ ‏البندقة‏. ‏ثم‏ ‏لماذا‏ ‏بالمجان‏. ‏هل‏ ‏لأن‏ ‏الثمن‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يدركه‏ ‏الشاعر؟‏  ‏إن‏ ‏الذى ‏يعرض‏  ‏ذاته‏/‏ذواته‏ ‏لشعاع‏ ‏الضوء‏ ‏بالمجان‏ ‏هو‏ ‏المريض‏ ‏دون‏ ‏الشاعر‏، ‏أما‏ ‏شاعرنا‏ ‏فهو‏ ‏يدفع‏ ‏ثمنا‏ ‏رائعا‏ ‏وكريما‏، ‏ونحن‏ ‏نفعل‏ ‏ذلك‏ ‏مثله‏ ‏ونحن‏ ‏نرتحل‏ ‏معه‏ ‏إلى ‏حيث‏ ‏تعري‏].‏

يبدأ‏ ‏شريط‏ ‏الحياة‏ ‏بإعلان‏ ‏تطور‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الآخر‏ ‏وبين‏ ‏الحاكى (‏لا‏ ‏أسميه‏ ‏الممثل‏ ‏مع‏ ‏الاعتذار‏ ‏للعنوان‏، ‏وللأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏ماهر‏ ‏شفيق‏) ، ‏يكتشف‏ ‏الحاكى ‏أنه‏ (‏ربما‏ ‏طول‏ ‏تاريخ‏ ‏حياته‏ ‏حتى ‘‏هذى ‏الليلة‏’) ‏لم‏ ‏يكن‏’‏هو‏’‏كما‏ ‏تصور‏ ‏أنه‏’‏هو‏’.‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏تسمى ‏فى ‏حالة‏ ‏المرض‏ ‏عرض‏’‏الشعور‏ ‏بتغير‏ ‏الذات‏’Depersonalization. ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏تغير‏، ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏  ‏يشعر‏ ‏به‏ ‏ويعلنه‏، ‏لكنه‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏اكتشف‏ ‏أنه‏ ‘‏مصنوع‏’ ‏بشكل‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يحسب‏ ‏ويرجو‏. ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏اكتشاف‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏تحولا‏ ‏أو‏ ‏تغييرا‏. ‏هو‏ ‏إعلان‏ ‏بصيرة‏ ‏وليس‏ ‏عملية‏ ‏تغير‏ ‏نوعي‏. ‏والبصيرة‏ ‏هنا‏ ‏تتعمق‏ ‏حتى ‏تنكر‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يحسبه‏ ‏صاحبها‏ ‏مشاعرا‏، ‏وعلاقات‏، ‏وأحيانا‏ ‏معتقدات‏، ‏لأن‏ ‏المريض‏ (‏أو‏ ‏الشاعر‏) ‏يكتشف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يختر‏ ‏أيا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أصلا‏، ‏هو‏ ‏يكتشف‏ ‏أنه‏ ‘‏ليس‏ ‏هو‏’، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏مشاعره‏ ‏وقراراته‏ ‏التى ‏كان‏ ‏يحسبها‏ ‘‏هي‏’ ‏ليست‏ ‘‏هي‏’. ‏إنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يكونه‏، ‏إنه‏ ‏لبـس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏عرف‏ ‏ومن‏ ‏عرف‏ ، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏ينجح‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ما‏ ‏لبسه‏ ‏أو‏ ‏تلبسه‏. ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏لها‏ ‏تجلياتها‏ – ‏لكن‏ ‏دون‏ ‏وعى ‏أصلا‏ – ‏بما‏ ‏يسمى  ‘‏شخصية‏: ‏كأن‏’ As if Personality ‏التى ‏وصفتها‏ ‏هيلين‏ ‏دويتش‏. ‏هى ‏شخصية‏ ‏تتقمص‏ ‏بسهولة‏ ‏بالغة‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏تلقى، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏تعجب‏ ‏به‏، ‏تقمص‏  ‏جاهز‏ ‏بالمجان‏ ، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏تخلع‏ ‏من‏ ‏تتقمصه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يترك‏ ‏فيها‏ ‏أثرا‏، ‏ثم‏ ‏تعود‏ ‏تتقمص‏ ‏غيره‏ ‏وهكذا‏، ‏بلا‏ ‏توقف‏، ‏وربما‏ ‏بلا‏ ‏انتقاء‏.  ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الشخصية‏ ‏وبين‏ ‏التقمص‏ ‏للنمو‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏الأخير‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏هكذا‏ ‏بسهولة‏ ، ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يزول‏ ‏بلا‏  ‏أثر‏. ‏كل‏ ‏تقمص‏ ‏للنمو‏ ‏هو‏ ‏إجراء‏ ‏رائع‏ ‏طالما‏  ‏يترك‏ ‏بصماته‏ ‏المغيرة‏، ‏لا‏ ‏تتوقف‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ (‏التقمص‏ ‏فالتمثل‏ ‏النسبي‏) ‏أبدا‏ ‏وهى ‏لا‏ ‏تكتمل‏ ‏أبدا‏، ‏لكنها‏ ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏الاكتمال‏ ، ‏ربما‏، ‏عند‏ ‏بعض‏ ‏المتصوفة‏ ‏وقليل‏ ‏من‏ ‏المبدعين‏. ‏المتصوف‏ ‏ساعيا‏ ‏إلى ‏وجه‏ ‏الله‏، ‏الحقيقة‏، ‏يبدع‏ ‏ذاته‏ ‏إيمانا‏ ‏متجددا‏، ‏والمبدع‏ ‏يلعبها‏ ‏رواحا‏ ‏وجيئة‏، ‏تاركا‏ ‏خلفه‏ ‏آثارا‏ ‏تكاملية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏رحلة‏.‏

‏ ‏فى ‏كل‏ ‏نقلة‏ ‏تطور‏ ‏أو‏ ‏إبداع‏ ‏أو‏ ‏جنون‏، ‏تحتد‏ ‏البصيرة‏ ‏ويقفز‏ ‏كشف‏ ‏الحساب‏. ‏تصل‏ ‏البصيرة‏ ‏إلى ‏الوعى ‏بدرجات‏ ‏مختلفة‏.‏

فى ‏عملية‏  ‏التطور‏ (‏النمو‏) ‏لا‏ ‏تتضح‏ ‏تفاصيل‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏فى ‏وعى ‏ظاهر‏، ‏لكن‏ ‏تتبدى ‏آثارها‏ ‏فى ‏أزمات‏ ‏لا‏ ‏تخفى، ‏وهى ‏تؤثر‏ ‏عميقا‏ ‏فى ‏الخطوة‏ ‏التالية‏، ‏إذ‏ ‏يختلف‏ ‏الإنسان‏  ‏النامى ‏نوعيا‏ ‏بعدها‏.‏

فى ‏الجنون‏ ‏تحتد‏ ‏البصيرة‏ ‏فى ‏المراحل‏ ‏الباكرة‏، ‏لكنها‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تضرب‏ ‏وتتشظى ‏مع‏ ‏تفسخ‏ ‏وتناثر‏ ‏القديم‏ ‏والجديد‏.‏

أما‏ ‏فى ‏الإبداع‏، ‏فإن‏ ‏البصيرة‏ ‏ترتبط‏ ‏بجزئية‏ ‏الرؤية‏ ‏وقدرة‏ ‏الأداة‏ ‏معا‏.  ‏هى  ‏حادة‏ ‏ومخترقة‏ ‏وقادرة‏، ‏سواء‏ ‏التحمت‏ ‏النتيجة‏ ‏بالكيان‏ ‏النامى، ‏أم‏ ‏اقتصرت‏ ‏على ‏النتاج‏ ‏الرمزي‏.‏

الشاعر‏(‏الحاكي‏) ‏هنا‏ ‏يعلن‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏التى ‏يختلط‏ ‏فيها‏ ‏الفرح‏ ‏بالحزن‏ (‏أنا‏ ‏الليلة‏ ‏أنتصر‏ ‏لجرحى، ‏أقتصرعلى ‏فرحى، ‏أختصر‏ ‏هموم‏ ‏الدنيا‏ ‏فى ‏أحزاني‏). ‏ثم‏ ‏تتعمق‏ ‏بصيرته‏ ‏حتى ‏تغوص‏ ‏فى ‏الماضى ‏فتحضره‏ (‏تجعله‏ ‏حاضرا‏)، ‏فيتجلى  ‏بكل‏ ‏دقة‏. ‏يحكى  ‏ماذا‏ ‏كان‏، ‏لـم‏ ‏كان‏، ‏كيف‏ ‏كان‏، ‏ثم‏ ‏ماذا‏، ‏لا‏ ‏يحكيه‏ ‏كذكرى ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إعادة‏ ‏معايشة‏،‏فهو‏ ‏الشعر‏.(‏أو‏ ‏ما‏ ‏يعادله‏).‏

يحكى ‏الشاعر‏ ‏كيف‏ ‏فرض‏ ‏هذا‏ ‏الثاني‏’ ‏عليه‏ ‏كل‏ ‏تلك‏ ‏الأدوار‏ ‏دون‏ ‏استئذان‏. ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يطيع‏ ‏ويتسلم‏ ‏ليستمر‏، ‏مجرد‏ ‏استمرار‏، ‏حتى ‏يرضى ‏عنه‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ (‏الثاني‏)، ‏حتى ‏يمنحه‏ ‏بطاقة‏ (‏كارنيه‏) ‏دخول‏ ‏النادى ‏الاجتماعى ‏البشرى، ‏بشروط‏ ‏النادى ‏المتعسفة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبالغة‏ ‏فى ‏التشكل‏ ‏الضارب‏ ‘‏تعظيم‏ ‏سلام‏’ ‏لكل‏ ‏المؤسسات‏ ‏والقيم‏ ‏الراسخة‏.  (‏كان‏ ‏الثانى ‏يستأجرنى، ‏ويبيع‏ ‏على ‏حسى، ‏كل‏ ‏أحاسيس‏ ‏الشخصيات‏ ‏القزحية‏، ‏من‏ ‏أول‏ ‏حد‏ ‏الأبيض‏ ‏حتى ‏آخر‏ ‏حد‏ ‏الأسود‏، ‏ويحاسبكم‏ ‏يا‏ ‏سادتى ‏على ‏ما‏ ‏بينهما‏، ‏من‏ ‏درجات‏ ‏الألوان‏) [‏لفتة‏ ‏نقدية‏ :  ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏يتوقف‏ ‏الشاعر‏ ‏عند‏ ‘‏القزحية‏’‏؟‏]‏

هذا‏ ‏القصيد‏ ‏يعلن‏ ‏خطورة‏ (‏وربما‏ ‏ضرورة‏)، ‏لا‏ ‏مانع‏ ‏فى ‏النمو‏ ‏النفسى ‏من‏ ‏لعب‏ ‏الأدوار‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏لعب‏ ‏الأدوار‏، ‏لكن‏ ‏الخطر‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏المسألة‏ ‏هكذا‏ ‏فحسب‏، ‏نلبس‏ ‏من‏ ‏ليس‏ ‏نحن‏، ‏ونخلعه‏ ‏لنلبس‏ ‏غيره‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يتبقى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏ ‏ما‏ ‏نصنع‏ ‏به‏ ‏أنفسنا‏، ‏ما‏ ‏نتزود‏ ‏به‏ ‏لنكون‏ (‏لا‏ ‏لنكونه‏). ‏

‏[‏لفتة‏ ‏نقدية‏: ‏الشاعر‏ ‏هنا‏ ‏منزعج‏ ‏من‏ ‏طول‏ ‏ما‏ ‏استعمل‏. ‏ربما‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يفسر‏ ‏هذا‏ ‏الإطناب‏ ‏فى ‏الأمثلة‏ ‏التى ‏أوردها‏ ‏شعرا‏* ‏كان‏ ‏يكفى ‏مثل‏ ‏أو‏ ‏اثنين‏، ‏أما‏ ‏وأن‏ ‏الشعر‏ ‘‏حالة‏’، ‏وليس‏ ‏إخطارا‏ ‏على ‏يد‏ ‏محضر‏، ‏فخذ‏ ‏عندك‏  ‏لكن‏ ‏ليس‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة‏: ‏من‏ ‏أول‏ ‏عنترة‏ ‏العبسى ‏حتى ‏روميو‏ ‏مرورا‏ ‏بأبى ‏سفيان‏، ‏و‏ ‏قيس‏، ‏وكسرى، ‏وعطيل‏، ‏وماكبث‏ ..‏لماذا‏ ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏ينقص‏ ‏القصيد‏ ‏لو‏ ‏اختزلت‏ ‏نصف‏ ‏الأسماء‏، ‏ونصف‏ ‏الأحداث‏ ‏ونصف‏ ‏الاستشهادات‏ ‏؟‏].‏

تساؤل‏: ‏

هل‏ ‏أنا‏ ‏الذى ‏أتقمص‏ ‏الآخر‏ (‏السلطة‏، ‏الوالد‏، ‏الكلام‏، ‏الحكمة‏)، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الآخر‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏على ‏وجودى ‏ليحل‏ ‏محله؟‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏التقمص‏ ‏ضرورة‏ ‏مفيدة‏، ‏وفرض‏ ‏التقمص‏ ‏وارد‏ ‏كمرحلة‏ ‏نمو‏، ‏لكن‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يصعب‏ ‏تحديد‏ ‏الجرعة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏. ‏يؤكد‏ ‏الشاعر‏ ‏موقف‏ ‏الضحية‏ ‏باعتباره‏، ‏المجنى ‏عليه‏ ‏فحسب‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يشير‏ ‏لا‏ ‏هنا‏، ‏ولا‏ ‏فى ‏أى ‏موقع‏ ‏لاحق‏ ‏إلى ‏دوره‏ ‏وهو‏ ‏يطلب‏ -‏سرا‏ ‏و‏ ‏تحايلا‏ – ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏، ‏هذه‏ ‏المبالغة‏ ‏فى ‏تصوير‏ ‏ذات‏ ‏قاهرة‏ ‏قادر‏ ‏ة‏ ‏تمارس‏ ‏ضغط‏ ‏الاغتراب‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏دون‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏دور‏ ‘‏المفعول‏ ‏فيه‏’ ‏أو‏ ‘‏المفعول‏ ‏به‏’ ‏فى ‏تحقيق‏ ‏صفقة‏ ‏القهر‏، ‏هو‏ ‏سمات‏ ‏تزييف‏ ‏المعركة‏ ‏تحت‏ ‏عنوان‏ ‏التحرر‏ ‏الزائف‏ (‏فى ‏كل‏ ‏المجالات‏ ‏تقريبا‏) . ‏إن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏هكذا‏ ‏تماما‏، ‏إن‏ ‏كان‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏ننظر‏ ‏فى ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏يعد‏ ‏بحل‏ ‏ما‏، ‏حل‏ ‏نمائى ‏وليس‏ ‏تسوية‏.‏

هذه‏ ‏الصورة‏ ‏المكررة‏ ‏التى ‏تقسم‏ ‏الناس‏ (‏مثلما‏ ‏تقسم‏ ‏الذوات‏) ‏إلى ‏قاهر‏ ‏ومقهور‏ ، ‏وتتوقف‏ ‏عند‏ ‏هذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏هى ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏القيم‏ ‏الصراعية‏ ‏دون‏ ‏الجدلية‏، ‏تلك‏ ‏القيم‏ ‏التى ‏سادت‏، ‏وتمادت‏، ‏تبرر‏ ‏صراع‏ ‏الأجيال‏ (‏داخل‏ ‏وخارج‏ ‏النفس‏) ‏الذى ‏لا‏ ‏ينتهى ‏إلا‏  ‏بالتخلص‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏شقى ‏الصراع‏، ‏أو‏ ‏بالتسوية‏ ‏الباهتة‏ ‏المسخ‏. ‏هو‏ -‏بهذا‏ ‏الاختزال‏ ‏الصراعى –  ‏لا‏ ‏ينتهى، ‏بل‏ ‏يختفى، ‏ويؤجل‏ ‏لجيل‏ ‏لاحق‏.  ( ‏قال‏ : ‏أنا‏ ‏شخصتك‏ ‏فتشخص‏، ‏شيئتك‏ ‏فتشيأ‏ .. ‏جسدتك‏ ‏فتجسد‏، ‏حولتك‏ ‏فتحول‏ .. ‏حورتك‏ ‏فتحور‏، ‏دورتك‏ ‏فتدور‏.. ‏كورتك‏ ‏فتكور‏ )‏

‏ [‏لفتة‏ ‏نقدية‏ : ‏هنا‏ ‏أيضا‏  ‏استدرج‏ ‏الاستطراد‏ ‏الشاعر‏ ‏دون‏ ‏داع‏، ‏لكنه‏ ‏عاد‏ ‏يرسم‏ ‏صورة‏ ‏جميلة‏ ‏تقول‏: ‏ورميتك‏ ‏حين‏ ‏رميتك‏ ‏حيث‏ ‏رميتك‏، ‏وتمطى ‏كالقطة‏ .. ‏ورماني‏.]‏

يؤكد‏ ‏الجزء‏ ‏التالى ‏من‏ ‏القصيدة‏ ‏مدى ‏استسلام‏ ‏الشاعر‏ ‏لإله‏ ‏جبار‏  ‏مزعوم‏، ‏يصف‏ ‏بشاعته‏ ‏مرة‏ ‏بأنه‏ ‏دراكيولا‏، ‏ويصفه‏ ‏نحاتا‏ ‏مبدعا‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏حين‏ ‏يشير‏ ‏كيف‏ ‏صيره‏ ‏إذ‏ ‏شكل‏ ‏وجوده‏ ‏الزائف‏ ‏من‏ ‏صلصال‏، ‏أو‏ ‏نحاتا‏ ‏لعب‏ ‏بألوانه‏، ‏حتى ‏غطت‏ ‏الألوان‏ ‏الأصل‏ ‏فأخفـته‏.‏

هذا‏ ‏المقطع‏ ‏الطويل‏ ‏الذى ‏يهاجم‏ ‏فيه‏ ‏الوالد‏ ‏الداخلي‏/‏الخارجى ‏المتأله‏ ‏المكلف‏ ‏بتصنيع‏ ‏العالم‏ ‏نمطيا‏، ‏بما‏ ‏يريد‏ ‏كيف‏ ‏يريد‏. ‏هو‏ ‏من‏ ‏الحدة‏ ‏والوضوح‏ ‏والتحديد‏ ‏بحيث‏ ‏يعلن‏ ‏التمادى ‏الذى ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏القهر‏ ‏المسئول‏ ‏فى ‏النهاية‏، ‏عن‏  ‏تفجر‏ ‏أحداث‏ ‏تلك‏ ‏الليلة‏، ‏ليلة‏ ‏الثورة‏ (‏المجهضة‏ : ‏انظربعد‏) ‏على ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان‏. (‏قال‏ ‏أنا‏ ‏كف‏. ‏أصابع‏ ‏وبنان‏، ‏وعجينة‏ ‏صلصال‏ ‏أنت‏ ‏أشكل‏ ‏منها‏ ‏العالم‏، ‏فالعالم‏ ‏كل‏ ‏العالم‏ -‏إن‏ ‏لم‏ ‏تدر‏ – ‏على ‏أطراف‏ ‏بنانى، ……..‏ومصائر‏ ‏مخلوقاتى ‏الصلصالية‏ ‏لا‏ ‏تتبع‏ ‏إلا‏ ‏سلطاني‏)‏

ويبلغ‏ ‏الوضوح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏والدا‏، ‏بل‏ ‏إله‏ ‏حين‏ ‏يعلن‏ ‏أنه‏ ‏الذى ‏يدخل‏ ‏الجنة‏ ‏أو‏ ‏يلقى ‏فى ‏النار‏ (‏أدخلك‏ ‏نعيمى ‏الفردوسى، ‏فتنعم‏ ‏بالفردوسيات‏،  ‏وأدخلك‏ ‏جحيمى ‏مجرورا‏ ‏من‏ ‏قدميك‏ ‏فتصلى ‏نيراني‏).‏

‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ (‏الداخلية‏ ‏أو‏ ‏الخارجية‏ ‏أوكليهما‏)، ‏التى ‏تألهت‏ ‏حتى ‏طغت‏ ‏واستعبدت‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الطغيان‏ ‏وذاك‏ ‏الاستعباد‏، ‏يبدو‏ ‏مستحيلا‏ ‏التخلص‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏بالقتل‏، ‏هكذا‏ ‏يصبح‏ ‏التقمص‏ ‏معيقا‏ ‏للنمو‏ ‏لا‏ ‏حافزا‏ ‏له‏ ‏ولا‏ ‏مرحلة‏ ‏فيه‏. ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الاقتحام‏ ‏الأقصى ‏سوى ‏الاحتجاج‏ ‏الأقصى، ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏وراء‏ ‏الموقف‏ ‏الأوديبى ‏الذى ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يحتاج‏ ‏لقصص‏  ‏فرويد‏ ‏وتخريجاته‏، ‏لأنه‏ ‏صرخة‏ ‏مواجهة‏ ‏مباشرة‏. ‏إن‏ ‏فرويد‏ ‏حين‏ ‏لم‏ ‏تخطر‏ ‏على ‏باله‏ ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏، ‏وما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏انفصال‏، ‏وحوار‏ ،‏وصراع‏، ‏واحتمال‏ ‏ولاف‏، ‏هكذا‏ ‏بطبيعة‏ ‏النمو‏، ‏اضطر‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏ملفات‏ ‏جانبية‏، ‏وأن‏ ‏يستخرج‏ ‏تفسيرات‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏خاطئة‏، ‏لكنها‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏ثانوية‏.‏

‏ ‏يعلن‏ ‏الشاعر‏ ‏هنا‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏قرر‏ ‏أنها‏ ‘‏ليلته‏’، ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يكفى، ‏أنه‏ ‏إلى ‏هنا‏ ‏ولا‏ ‏ينفع‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏كما‏ ‏كان‏، ‏ثم‏ ‏تنقلب‏ ‏رغبته‏ ‏أن‏ ‘‏يتكلم‏ ‏بلسانه‏’ ‏تلك‏ ‏الليلة‏، ‏إلى ‏قرار‏ ‏بالانتقام‏ ‏بالقتل‏: (‏فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏قررت‏ ‏بأن‏ ‏أقتله‏، ‏أن‏ ‏أنتقم‏ ‏لصمتى ‏المرغم‏، ‏لسكوتى ‏المكره‏، ‏لوجودى ‏السرى .. ‏لعدمى ‏العلنى، ‏الليلة‏ ‏قررت‏ ‏بأن‏ ‏أنتقم‏ ‏لعمرى …‏لكل‏ ‏كـياني‏).‏

الانتقام‏ ‏هنا‏ ‏طفلى ‏بحت‏، ‏والمعركة‏ ‏المنتصر‏ ‏فيها‏ ‏مهزوم‏. ‏واضح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الثائر‏ ‏طفل‏ (‏ذات‏ ‏طفلية‏)  ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏طريقه‏، ‏كاد‏ ‏يختنق‏ ‏حين‏ ‏أنكر‏ ‏أصلا‏، ‏وحين‏ ‏لاحت‏ ‏له‏ ‏الثورة‏ ‏راح‏ ‏يتنسم‏ ‏أى ‏ريح‏ ‏اعتراف‏ ‏تـثبت‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يحتج‏، ‏أن‏ ‏يرفص‏، ‏أن‏ ‏يرفض‏. ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏انطلاقة‏ ‏الطفل‏، ‏مهما‏ ‏لبست‏ ‏ثوب‏ ‏الحرية‏، ‏هى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏تكسير‏ ‏الحدود‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏عرض‏ ‏البديل‏ (‏أصرخ‏ ‏صرخاتى، ‏أنطق‏ ‏نطقي‏..‏أهذى ‏أو‏ ‏لا‏ ‏أهذى، ‏فأنا‏ ‏حر‏ ‏فى ‏هذيانى ‏أو‏ ‏لا‏ ‏هذياني‏).‏

وعلى ‏الرغم‏ ‏مما‏ ‏تبع‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏زعم‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سيأتيه‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏البهجة‏ ‏الطفليلة‏ (‏لم‏ ‏تعد‏ ‏تستحق‏ ‏كلمة‏ ‏ثورة‏) ‏هو‏ ‏لحسابه‏ (‏لحسابى ‏يسوف‏ ‏يكون‏ ‏هجائى ‏ومديحى، ‏لشراعى ‏سوف‏ ‏أوجه‏ ‏ريحي‏…‏وأناشيدى ‏ومواجيدى ‏وتباريحي‏).‏

مرة‏ ‏أخرى ‏يتجلى ‏وعى ‏الشاعر‏، ‏إذ‏ ‏تعود‏  ‏بصيرته‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏موقع‏ ‏اللغة‏ ‏منفصلة‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أشرنا‏ ‏كيف‏ ‏نبه‏ ‏إلى ‏كم‏ ‏تكون‏ ‏اللغة‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏. ‏هنا‏ ‏يعود‏ ‏للكلمات‏(‏التى ‏هى ‏ليست‏ ‏مرادفة‏ ‏دائما‏ ‏للغة‏)، ‏ليعلن‏ ‏أنها‏ ‏مجرد‏ ‏أدوات‏ ‏يستعملها‏ ‏من‏ ‏يسود‏ ‏المسيرة‏ (‏والكلمات‏ ‏أوانى، ‏فلماذا‏ ‏صار‏ ‏هو‏ ‏الخزاف‏، ‏وصرت‏ ‏أنا‏ ‏الخزف‏ ‏المجبول‏) ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏الطفل‏ ‏الذى ‏استيقظ‏ ‏فى ‏غير‏ ‏أوانه‏، ‏يجتر‏ ‏آلام‏ ‏صياغته‏ ‏ليكون‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏هو‏، ‏وبلغ‏ ‏من‏ ‏الاجترار‏ ‏المكرور‏، ‏أنه‏ ‏يذكرنا‏ ‏بنقد‏ ‏آخر‏ ‏طالما‏ ‏نبهنا‏ ‏إليه‏، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏البصيرة‏ ‏المعقلنة‏ ، ‏حتى ‏لو‏ ‏امتدت‏ ‏إلى ‏تفاصيل‏ ‏تفاصيل‏ ‏الماضى، ‏حتى ‏لو‏ ‏وضعت‏ ‏إصبعها‏ ‏على ‏أصل‏ ‏أصل‏ ‏السبب‏ ،‏فإنها‏ ‏مجرد‏ ‏مرحلة‏ ‏وليست‏ ‏حلا‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏يشاع‏ ‏على ‏أن‏ ‏تذكر‏ ‏آلام‏ ‏الماضى، ‏وتفريغ‏ ‏مكنون‏ ‏الداخل‏ ، ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏مطلوب‏، ‏وعلاجى، ‏لا‏ ‏أساس‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏إلا‏ ‏نادرا‏.‏

هو‏ ‏هنا‏ -‏مثلا‏- ‏يجتر‏ ‏ما‏ ‏قهره‏ ‏حتى ‏محاه‏ ‏بشكلى ‏تفصيلى، ‏سوف‏ ‏نكتشف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يجد‏ ‏عنه‏ ‏شيئآ‏ ‏فى ‏النهاية‏’..‏وهو‏ ‏يزخرف‏ ‏خصرى ‏بالسكين‏، ‏ويعجننى ‏ويمعجننى ‏بالحمأ‏ ‏المسنون‏’‏

الطفل‏ ‏حين‏ ‏يثور‏، ‏لا‏ ‏يتفاهم‏، ‏لا‏ ‏يحاور‏، ‏لا‏ ‏يجادل‏ ، ‏هو‏ ‏يتخلص‏ (‏يقتل‏ ، ‏ينفى، ‏ينكر‏) ‏ثم‏ ‏تفرج‏!!! (‏أو‏ ‏لا‏ ‏تفرج‏، ‏بلا‏ ‏مسئولية‏)، ‘‏ولذلك‏ ‏قررت‏ ‏الليلة‏ ‏أن‏ ‏أخلص‏ ‏منه‏’‏

والطفل‏ -‏ثائرا‏ ‏رافضا‏ ‏هكذا‏- ‏لا‏ ‏يتعلم‏ ‏من‏ ‏خيبته‏ ‏السابقة‏، ‏ولا‏ ‏يتذكر‏  ‏ضعفه‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏أسلحته‏ ‏كانت‏ ‘‏لعب‏ ‏أطفال‏'(‏فشنك‏، ‏مسدس‏ ‏ألعاب‏)، ‏إن‏ ‏قتـل‏ ‏الوالد‏ ‏الذى ‏نسج‏ ‏له‏ ‏فرويد‏ ‏القصص‏ ‏ليفسره‏، ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏المباشرة‏، ‏أساسا‏ ‏لفهم‏ ‏عمق‏ ‏المغالاة‏ ‏فى ‏الصراع‏ ‏للبقاء‏ ‏ضد‏ ‏السحق‏. ‏لكن‏ ‏بما‏ ‏أنه‏ ‏قتل‏ ‏طفلى، ‏فهو‏ ‏قتل‏ ‏مزعوم‏ ‏لأن‏ ‏القاتل‏ ‏لا‏ ‏يملك‏ ‏أدواته‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يعيش‏ ‏دوافعه‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏كما‏ ‏يحققه‏ ‏فى ‏أحلامه‏ ‏بشكل‏ ‏متواتر‏.‏

ينتقل‏ ‏الحاكى ‏من‏ ‏إعلان‏ ‏خيبة‏ ‏الفشل‏ ‏إلى ‏التمنى، ‏وكأنه‏ ‏يتراجع‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يملك‏  ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏التمنى ‏الخائب‏، (‏آه‏ .. ‏لو‏ ‏أطويه‏ ‏بحلقى …… ‏لو‏ ‏أكويه‏ ‏بنارى،  ‏لكم‏ ‏بحروف‏ ‏جهنمه‏ ‏الحمراء‏ ‏كواني‏)’ ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يكتشف‏، ‏وهو‏ ‏يتراجع‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏قاتلا‏ . ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏طفل‏ ‏يبكى ‏حظه‏، ‏ولا‏  ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏دوره‏ ‏فيما‏ ‏أصابه‏(‘‏ما‏ ‏أحلى ‏أن‏ ‏أقتله‏ ‏قتلا‏ ‏رومانسيا‏’) ‏يقتله‏ ‏بكلمات‏ ‏جميلة‏  ‏عقيمة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏وكأنها‏ ‏زخارف‏ ‏نعش‏ ‏التسليم‏ ‏النعاب‏،(‘‏سوف‏ ‏أريه‏ ‏بأن‏ ‏الكلمات‏ ‏ملائكة‏، ‏أبرأ‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تحدث‏ ‏فيها‏ ‏أثرا‏ ‏هرمونيا‏’) [‏لفتة‏ ‏نقدية‏ : ‏لماذا‏ ‘‏هرمونيا‏’،  ‏كلمة‏ ‏لا‏ ‏شعرية‏، ‏ولا‏ ‏علمية‏ ‏كذلك‏ ‏؟؟‏!!]‏

حين‏ ‏يهم‏ ‏الطفل‏ ‏المحتج‏ ‏أن‏ ‏يكشر‏ ‏عن‏ ‏أنيابه‏ ‏يستلهم‏ ‏شيطان‏ ‏الشعر‏، ‏ويرتقى ‏المسرح‏، ‏ليكون‏ ‏ممثلا‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏، ‏وكأنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏أمامه‏ ‏إلا‏ ‘‏ألا‏ ‏يكون‏’، ‏هو‏ ‏ممثل‏ ‏سواء‏ ‏بأوامر‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏الطاغى ‏الذى ‏رسم‏ ‏له‏ ‏الأدوار‏ ‏وفرضها‏ ‏عليه‏ ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏وعى ‏النطق‏، ‏أم‏ ‏كان‏ ‏التمثيل‏ ‏بمحاولة‏ ‏استبدال‏ ‏الأدوار‏، ‏ليصير‏ ‏ممثلا‏ ‏متطوعا‏ ‏بلا‏ ‏نص‏ ‏مسبق‏.‏

يبدأ‏ ‏الوعى ‏الذى ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏عنه‏ ‏الحاكى ‏مباشرة‏ ‏أبدا‏، ‏بأن‏ ‏قرض‏ ‏الشعر‏ ‏هو‏ ‏تمثيل‏ ‏أيضا‏، ‏وهو‏ ‏تمثيل‏ ‏مفروض‏، ‏وهو‏ ‏إحلال‏ ‏محل‏ ‏الوجود‏، ‏وهو‏ ‏بديل‏ ‏عن‏ ‏تخليق‏ ‏الذات‏’ ‏وسيعلم‏ ‏هذا‏ ‏الثانى ‏أنى ‏الأول‏، ‏وسيعلم‏ ‏أن‏ ‏التمثيل‏ ‏حقيقي‏’ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏سوف‏ ‏ننتهى ‏إليه‏ ‏تتضح‏ ‏معالمه‏ ‏رويدا‏ ‏رويدا‏. ‏

حين‏ ‏فرض‏  ‏التمثيل‏ ‏على ‏صاحبنا‏، ‏مثل‏، ‏وحين‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يتخلص‏ ‏من‏ ‏التمثيل‏ ‏اكتشف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ممثلا‏، ‏وكأنه‏ – ‏من‏ ‏بعيد‏ ‏جدا‏ – ‏يعترف‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏برضاه‏ ‏حسب‏ ‏طاعته‏، ‏وحين‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يثور‏ * ‏لم‏ ‏تخرج‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏صرخات‏ ‏الاحتجاج‏، ‏ثم‏ ‏كلمات‏ ‏الشعر‏. ‏هنا‏ ‏يظهر‏ ‏الشعر‏  ‏كوجود‏ ‏بديل‏، (‏فنتذكر‏ ‏موقف‏ ‏أفلاطون‏ ‏والسرير‏)، ‏الشعر‏  ‏وجود‏ ‏زائف‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏استعمل‏ ‏كلمات‏ ‏الثورة‏. ‏حين‏ ‏يقرض‏ ‏الشاعر‏ ‏شعره‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏نموه‏ ‏فهو‏ ‏يحله‏ ‏محله‏. (‏الليلة‏ ‏سأمثل‏ ‏نفسي‏) . ‏

إن‏ ‏الذى ‏يرفع‏ ‏القناع‏ ‏رافضا‏ ‏أن‏ ‏يمثل‏ ‏ما‏ ‏يـملى ‏عليه‏، ‏يمضى ‏هو‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏المسرح‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏ذاته‏ ‏الحقيقية‏، ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يبحث‏ ‏عنها‏ ‏ليعثر‏ ‏عليها‏ ‏جاهزة‏ ‏مصنوعة‏، ‏إنه‏ ‏يبحث‏ ‏ليخلقها‏، ‏لكنه‏ ‏حين‏ ‏اختار‏ ‏التمثيل‏ ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏كاتب‏ ‏النص‏، ‏والمخرج‏، ‏والممثل‏ ‏معا‏، ‏فإنه‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏ممثلا‏.  ‏كان‏ ‏كمن‏ ‏تورط‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏التمثيل‏ ‏فما‏ ‏عاد‏ ‏أمامه‏ ‏إلا‏ ‏التمثيل‏. ‏دور‏ ‏السيد‏ ‏فى ‏الفرافير‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏السيد‏، ‏إنه‏ ‘‏دور‏ ‏السيد‏’. ‏هو‏ ‏تمثيل‏ ‏أيضا‏ !!. ‏وحتى ‏استشهاده‏ ‏بانتصار‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏للفرفور‏، ‏هو‏ ‏استشهاد‏ ‏يحتاج‏ ‏لمراجعة‏، ‏ترك‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏النهاية‏ ‏مفتوحة‏ (‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏). ‏

ثم‏ ‏يروح‏ ‏القصيد‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏القرن‏(‏العشرين‏) ‏الماحى ‏للهوية‏، ‏والمجهض‏ ‏لمحاولة‏ ‏التخلق‏، ‏هو‏ ‏قدر‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏، ‏إذن‏ ‏فهى ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏فردية‏، ‏ليست‏ ‏مأساته‏ ‏وحده‏، ‏بل‏ ‏مأساة‏ ‏القرن‏ ‏العشرين‏ (‏قرن‏ ‏الأماني‏)، ‏وربما‏ ‏هى ‏مأساة‏ ‏كل‏ ‏القرون‏، ‏مأساة‏ ‏العالم‏ ‏أجمع‏ ‘‏العالم‏ ‏أضحى ‏الآن‏، ‏كمثل‏ ‏شريط‏ ‏الرسم‏ ‏المتحرك‏’،‏

‏ ‏لا‏ ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏الشاعر‏ ‏قد‏ ‏غاب‏ ‏عنه‏  ‏قدم‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‘‏قبل‏ ‏الآن‏’، ‏فهو‏ ‏يمدها‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‘‏بعد‏ ‏الآن‏ ‘(… ‏وسوف‏ ‏يصير‏ ‏البشر‏، ‏قطيعا‏ ‏تتشابك‏ ‏فيه‏ ‏الأعراق‏. ‏كما‏ ‏الشركات‏ ‏المتعددة‏ ‏الجنسية‏’) ‏ثم‏ ‏يروح‏ ‏يرسم‏ ‏الإنسان‏ ‏المعولم‏ ‏تعسفا‏ : ‏قدمان‏ ‏من‏ ‏أفريقيا‏، ‏وحوض‏ ‏من‏ ‏المتوسط‏، ‏وصدر‏ ‏من‏ ‏أوربا‏،  ‏ودماغ‏ ‏مجمع‏ ‏فى ‏أمريكا‏ ‏بعد‏ ‏شرائها‏ – ‏استيرادها‏- ‏أدمغة‏ ‏أذكياء‏ ‏العالم‏،  ‏أوخطفها‏ (‏تستورده‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏بقاع‏ ‏الدنيا‏ ‏أمريكا‏).‏

هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏المستقبلية‏ ‏للعالم‏ ‏هى ‏رؤية‏ ‏تسليمية‏، ‏سببها‏ ‏فرط‏ ‏القهر‏  ‏الذى ‏لحقه‏ ‏فردا‏، ‏وهو‏ ‏يسارع‏ ‏بإعلانها‏ ‏تبريرا‏، ‏يتنبأ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المسخ‏ ‏المعولم‏ ‏هو‏ ‏منته‏ ‏بطبيعته‏، ‏عمره‏ ‏الافتراضى ‏شديد‏ ‏القصر‏.  ‏إن‏ ‏نصا‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏هو‏ ‏ميت‏ ‏بالضرورة‏ (‘‏سوف‏ ‏يموت‏ ‏مؤلف‏ ‏نص‏ ‏العولمة‏، ‏وسوف‏ ‏يموت‏ ‏المخرج‏’). ‏

لم‏ ‏يعد‏ – ‏إذن‏ – ‏ثم‏ ‏مجال‏ ‏للقتل‏، ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏لو‏ ‏مات‏ ‏القاهر‏،  ‏لو‏ ‏تم‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مصادر‏ ‏القهر‏ ‏بالقتل‏، ‏هل‏ ‏أى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏سوف‏ ‏يعطى ‏الطفل‏ ‏القاتل‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏مستقلا‏، ‏تلقائيا‏ ‏مرتجلا‏ ‏كما‏ ‏يلوح؟‏  ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الأوان‏ ‏قد‏ ‏فات؟

‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الثائر‏ ‏الصغير‏  ‏يكتشف‏ ‏بكل‏ ‏بلاهة‏، ‏أن‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏له‏ ‏بعد‏ ‏كتابة‏ ‏هذا‏ ‏النعى ‏المطول‏ ‏هو‏ ‏دور‏ ‏المتفرج‏، ‏ليس‏ ‏ثم‏ ‏وجود‏ ‏ساع‏ ‏إلى ‏تحقيق‏ ‏الذات‏ ‏النامية‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏تخليقها‏. ‏أين‏ ‏الحركة‏ ‏المفتوحة‏ ‏النهاية‏ ‏المغامرة‏ ‏بالاكتشاف؟‏ ‏

‏ ‏إن‏ ‏تعرية‏ ‏الاغتراب‏، ‏وقتل‏ ‏القاهر‏ ‏أو‏ ‏موته‏ ‏أو‏ ‏التخلص‏ ‏منه‏ ‏بكل‏، ‏وبأى ‏وسيلة‏، ‏ثم‏ ‏التحذير‏ ‏من‏ ‏المصير‏ ‏العولمى ‏المسخى ‏الجديد‏، ‏فموت‏ ‏كاتب‏ ‏النص‏ ‏ومخرجه‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يحل‏ ‏الإشكال‏، ‏لم‏ ‏يوقف‏ ‏القهر‏، ‏لم‏ ‏يحتو‏ ‏الاغتراب‏،  ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏فرض‏ ‏على ‏كاشف‏ ‏الغطاء‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏فرت‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏يده‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏خبطات‏ ‏المعركة‏ ‏العشوائية‏، ‏فرض‏ ‏عليه‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‘‏الوحدة‏ ‏والفرجة‏'(‘‏سوف‏ ‏أظل‏ ‏أنا‏ ‏وحدي‏…  ‏والمتفرج‏’) ‏هو‏ ‏الممثل‏ ‏والمتفرج‏ ‏جميعا‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏أوهام‏ ‏أنه‏ ‏أصبح‏ ‏كاتب‏ ‏النص‏ ‏والمخرج‏ ‏أيضا‏ ‏

وهو‏ ‏إذ‏ ‏يؤكد‏ ‏الوحدة‏، ‏يعود‏ ‏إلى ‏المتمثيل‏ ‏منتشيا‏ ‏بتصفيق‏ ‏النظارة‏، ‏الذى ‏يمتلئ‏ ‏به‏ ‏نشوة‏ ‏شهوانية‏ (‏بدائية‏)، ‏فهو‏ ‏الممثل‏ ‏أخيرا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏الممثل‏ ‏أولا‏، ‏وهو‏ ‏المتفرج‏ ‏الوحيد‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏زال‏ ‏القاهر‏ ‏أو‏ ‏أعدم‏ ‏الجانى، ‏فأين‏ ‘‏هو‏’، ‏هل‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يؤكد‏ ‏نرجسية‏ ‏منغلقة‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏تبعية‏ ‏مفضوحة‏.‏

ثم‏ ‏إنه‏ ‏ينتبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المسألة‏ (‏قرض‏ ‏الشعر‏ ‏فى ‏الأغلب‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أعنيه‏ ‏بالتمثيل‏ ‏الجديد‏)  ‏ليست‏ ‏تطهيرا‏ ‏بالتفريغ‏ ‏كما‏ ‏زعم‏ ‏أرسطو‏، ‏وينتبه‏ ‏أيضا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏وحدته‏ ‏التى ‏فرضتها‏ ‏عليه‏ ‏نقلة‏ ‏التحرر‏ ‏الطفلى ‏هى ‏مقولة‏ ‏بالتشكيك‏، ‏وأنه‏ ‏بدون‏ ‏ناس‏ ‏شركاء‏، ‏لا‏ ‏وجود‏ ‏ولا‏ ‏تخليق‏(‘…..‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أتطهر‏ ‏دون‏ ‏الناس‏،….. ‏أنا‏ ‏أرفض‏ ‏هذا‏ ‏التطهير‏ ‏الصابونى ‏العلني‏)، ‏وهو‏ ‏يرفض‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‘‏التنظير‏ ‏هو‏ ‏الحل‏’ !!! ‏ويفضل‏ ‏المقدونى ‏الذى ‏تحرر‏ ‏من‏ ‏أسر‏ ‏كلمات‏ ‏أستاذه‏ ‏أرسطو‏، ‏ليختبرها‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏.‏

تلوح‏ ‏له‏ ‏علامات‏  ‏الخلاص‏ ‏فى ‏فطرته‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تتشوه‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏كان‏، ‏فطرته‏ ‏الكامنة‏ ‏وراء‏ ‏الممثل‏ ‏المصنوع‏ ‏من‏ ‏خارج‏، ‏وأيضا‏ ‏وراء‏ ‏الممثل‏ ‏الذى ‏حل‏ ‏محله‏ ‏من‏ ‏الداخل‏، ‏تتحرك‏ ‏فيه‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏  ‏ضعيفة‏، ‏نشاطات‏ ‏متسحبة‏، ‏أغلب‏ ‏الظن‏ ‏أنها‏ ‏التلقائية‏ ‏الطفلية‏ ‏البكر‏، ‏فهو‏ ‏الجنون‏ ‏أو‏ ‏الارتجال‏ ‘ ‏الليلة‏ ‏نرتجل‏’ ‏لكن‏ ‏من‏ ‏أين‏ ‏له‏ ‏هذا‏ ‏الـ‏’‏نحن‏’‏؟‏(‏نرتجل‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أرتجل‏) ، ‏فيتراجع‏ :’‏الليلة‏ ‏أرتجل‏ ‏وحيدا‏..’ ‏ويشطح‏ ‏به‏ ‏خياله‏ ‏فى ‏اللازمان‏، ‏واللامكان‏ ، ‏أى ‏فى ‘‏زمكان‏ ‏أينشتاين‏، ‏حيث‏ ‏يسافر‏ ‏كشعاع‏، ‏وكأنه‏ ‏يطير‏ ‏كيفما‏ ‏اتفق‏، ‏ولادة‏ ‏خيالية‏ ‏شاطحة‏  ‏يبررها‏ ‏قهر‏ ‏لا‏ ‏حل‏ ‏له‏، ‏يتعرى، ‏ويتقمص‏ ‏الطبيعة‏. ‏يصبح‏ ‏زبدا‏ ‏طافيا‏ ‏فوق‏ ‏ماء‏ ‏شفاف‏، ‏يتحسس‏ ‏شعاب‏ ‏المرجان‏ ‏ويخشى ‏عليها‏ ‏اللمس‏. ‏‏ ‏لكنه‏ – ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ – ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏نفسه‏، ‏ولا‏ ‏مشروع‏ ‏نفسه‏، ‏أدمن‏ ‏التمثيل‏ ‏حين‏ ‏فـرض‏ ‏عليه‏، ‏وحين‏ ‏تصور‏ ‏أنه‏ ‏تخلص‏ ‏منه‏، ‏واسترد‏ ‏تلقائيته‏، ‏وارتجل‏ ‏مساره‏، ‏وجد‏ ‏نفسه‏، ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏، ‏بل‏ ‏شبيهه‏ ‘‏الليلة‏ ‏سوف‏ ‏أمثل‏ ‏نفسي‏’ ‏

كيف‏ ‏يمثل‏ ‏الإنسان‏ ‏نفسه‏، ‏هل‏ ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‘‏مـثـــل‏'(‏كما‏ ‏ذكرنا‏) ، ‏وبالتالى ‏نحن‏ ‏لسنا‏ ‏إلا‏ ‏ممثليها‏ ‏دونها‏ ‏؟‏ ‏

إن‏ ‏تقديمى ‏لهذه‏ ‏القراءة‏ ‏من‏ ‏الأول‏ ‏للأخر‏ ‏ليس‏ ‏بغرض‏ ‏تقييمها‏ ‏شعرا‏، ‏أو‏ ‏نقدها‏ ‏أسلوبا‏، ‏أو‏ ‏مناقشتها‏ ‏بلاغة‏. ‏لقد‏ ‏وجدت‏ ‏فيها‏  ‏ما‏ ‏يؤيد‏ ‏فرضا‏   ‏شغلنى ‏قديما‏ ‏وما‏ ‏زال‏ ‏يشغلنى، ‏انظر‏: (‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ونبض‏ ‏الإبداع‏، ‏مجلة‏ ‏فصول‏، ‏المجلد‏ ‏الخامس‏، ‏العدد‏(2)، ‏لسنة‏ 1985)، ‏موجزه‏  ‏يقول‏ :‏

‘‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏المنتج‏ (‏فى ‏رمز‏ ‏مهما‏ ‏بدا‏ ‏جماله‏ ‏وصقله‏) ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏عن‏  ‘‏إبداع‏ ‏الذات‏ ‏والحياة‏’ ‏فى ‏مسار‏ ‏جدلى ‏متخلق‏’. ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏مررت‏ ‏بمرحلة‏ ‏شجب‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ (‏الشعر‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏تحقيق‏ ‏مضمونه‏)، ‏تراجعت‏ ‏راضيا‏ ‏بتفسير‏ ‏لحقنى ‏يقول‏ :‏

‏’‏إن‏ ‏لم‏ ‏نستطع‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏ما‏ ‏رأينا‏، ‏فلنسجله‏ ‏رمزا‏ ‏لمن‏ ‏يستطيع‏ ‏بعدنا‏، ‏حتى ‏على ‏حسابنا‏’،‏

هدانى ‏هذا‏ ‏التفسير‏، ‏وهدانى ‏إلى ‏دور‏ ‏الشعر‏ ‏الذى ‏يعلنه‏ ‏شاعرنا‏ ‏هنا‏ ‏هكذا‏ ‏مباشرة‏ ‏بعد‏ ‘‏سوف‏ ‏أمثل‏ ‏نفسي‏’، ‏وكأنه‏ ‏يقول‏ : ‏أنا‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‘‏أكون‏’ ‏نفسى، ‏لكنى ‏رأيتها‏، ‏فهاكم‏ ‏إياها‏، ‏لعلكم‏ ‏تحققون‏ ‏ما‏ ‏عجزت‏ ‏عنه‏، ‏هاكم‏ ‏أنا‏ ‏شعرا‏ ( ‏حتى ‏لو‏ ‏تم‏ ‏قرضه‏ ‏على ‏حساب‏ ‏كيانى ‏الذى ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أحققه‏) ‏يقولها‏ ‏مباشرة‏ ‏بعد‏ ‏إعلان‏ ‏أنه‏ ‏إنما‏ ‏يمثل‏ ‏نفسه‏….’ ‏سوف‏ ‏أقدم‏ ‏للنظارة‏ ‏فوق‏ ‏الخشبة‏ ‏رأسى،‏تقطر‏ ‏منها‏ ‏ذاكرتى .. ‏أفكارى، ‏يقطر‏ ‏منها‏ ‏وجدانى،’.‏

‏ ‏حين‏ ‏يتضح‏ ‏العجز‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏، ‏رغم‏ ‏تمثيل‏ ‏الذات‏ ‏كأنها‏ ‏هى، ‏تقفز‏ ‏حلول‏ ‏شاطحة‏ ‏أخرى ، ‏حلول‏ ‏تعويضية‏ ‏توهم‏ ‏صاحبها‏ ‏العاجز‏ – ‏إلاعن‏ ‏قرض‏ ‏الشعر‏، ‏ورسم‏ ‏صورة‏ ‏لنفسه‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏تحقيقها‏ – ‏بأنه‏ ‏قادر‏ ‏على ‏إصلاح‏ ‏الكون‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏مبعوث‏ ‏العناية‏ ‏وقد‏ ‏حمل‏ ‏هذه‏ ‏الرسالة‏، ‏فهى ‏النبوة‏، ‏أوالتأله‏ .‏يظهر‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏الجنون‏ ‏صراحة‏ ‏فى ‏صور‏ ‏متعددة‏ ‏أهمها‏ ‏ضلالات‏ ‏التنبى (‏ادعاء‏ ‏النبوة‏)، ‏وضلالات‏ ‏المهدى ‏المنتظر‏، ‏وضلالات‏ ‏الرؤية‏ ‏المقتحمة‏، ‏والقدرة‏ ‏غير‏ ‏المحدودة‏..‏إلخ‏.، ‏أما‏ ‏تجليات‏ ‏تعويض‏ ‏هذا‏ ‏العجز‏ ‏إبداعا‏ ‏شعريا‏، ‏فيعلنها‏ ‏الشاعر‏ ‏صراحة‏’… ‏فأنا‏ ‏الليلة‏ ‏تتملكنى، ‏شهوة‏ ‏أن‏ ‏أصلح‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏’ ‏

هذا‏ ‏العاجز‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نفسه‏، ‏وجد‏ ‏الحل‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إلها‏ ‏يصنع‏ ‏عالما‏  ‏على ‏مقاسه‏ ‏تحت‏ ‏عنوان‏ ‘‏إصلاح‏ ‏الكون‏’، ‏انسلخ‏ ‏عن‏ ‏العالم‏ ‏الذى ‏قهره‏ ‏فانقهر‏، ‏وحين‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يواجهه‏ ‏روع‏ ‏من‏ ‏حجم‏ ‏عجزه‏، ‏فتمادى ‏فى ‏دور‏ ‏الممثل‏ ‏وإن‏ ‏أوهم‏ ‏نفسه‏ ‏أنه‏ ‏الآن‏ ‏يمثل‏ ‏لحسابه‏، ‏ويتفرج‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏وكأنه‏ ‏هو‏.‏

‏.. ‏إنه‏ ‏حين‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏العالم‏ ‏بما‏ ‏هو‏، ‏ليكـون‏ ‏مشروعه‏ ‏الخاص‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تخلق‏ ‏واعد‏ ‏متجدد‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏غادر‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏ ‏إلها‏، ‏يديره‏ ‏بعيدا‏ ‏عنه‏ (‘… ‏حسنا‏، ‏سوف‏ ‏أغادر‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏ ‏لأحركه‏ ‏من‏ ‏خارجه‏’).‏

هل‏ ‏هذه‏ ‏هزيمة‏ ‏أم‏ ‏نصر؟

‏ ‏هلى ‏كف‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كما‏ ‏صنعوه‏ ‏وقهروه‏ ‘‏ممثلا‏’ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏خيارا‏ ‏حتى ‏فى ‏انتقاء‏ ‏أدواره؟

هل‏ ‏هذا‏ ‏حقا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أراده‏ ‏برؤيته‏، ‏فثورته‏ ‘‏تلك‏ ‏الليلة‏’، ‏أن‏ ‏ينتهى ‏به‏ ‏المطاف‏ ‏ممثلا‏، ‏ثم‏ ‏إلها‏ ‏زائفا‏، ‏ثم‏ ‏مفارقا‏ ‏للعالم‏، ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏أنه‏ ‏يصلحه‏ ‏من‏ ‏خارج؟‏ ‏

تبين‏ ‏الشاعر‏، ‏ربما‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏لحظه‏، ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏ينتصر‏ ‏بثورته‏ ‏الطفلية‏ ‏هذه‏، ‏ولا‏ ‏بنزوعه‏ ‏القاتل‏، ‏ولا‏ ‏بهربه‏ ‏المتخلص‏، ‏ولا‏ ‏بموقفه‏ ‏المتفرج‏، ‏ولا‏ ‏بشعره‏ ‏الواصف‏ ‏المتجمل‏.‏

تبين‏ ‏الحاكى ‏أن‏ ‏الشاعر‏ ‏ثائر‏ ‏مهزم‏، ‏لقد‏ ‏حل‏ ‏الشاعر‏ ‏ممثلا‏ ‏متطوعا‏ ‏باختياره‏،  ‏محل‏ ‏الضائع‏ ‏المهجور‏  ‏الذى ‏كان‏ ‏ممثلا‏ ‏مقهورا‏ ‏بطاعته‏. ‏

يكتشف‏ ‏الحاكى ‏بخبطة‏ ‏خاتمة‏، ‏هى ‏مفتاح‏ ‏هذه‏ ‏القراءة‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏ليس‏ ‏هو‏، ‏وإنما‏ ‏شخص‏ ‏آخر‏ ‏يشبهه‏، ‏شخص‏ ‏سرق‏ ‏منه‏ ‏حقه‏ ‏أن‏ ‘‏يكون‏’، ‏وراح‏ ‏يتكلم‏ ‏بدلا‏ ‏عنه‏ ‏وكأنه‏ ‏هو‏، ‏كما‏ ‏وكان‏ ‏القاهر‏ ‏الأول‏ (‏الثاني‏!!) ‏متكلما‏ ‏بلسانه‏ ‏منذ‏ ‏عرف‏ ‏النطق‏’. (.‏منذ‏ ‏عرفت‏ ‏النطق‏، ‏عرفت‏ ‏بأن‏ ‏لهاتى ‏كرباج‏ ‏فى ‏يمناه‏)’، ‏جاء‏ ‏هذا‏ ‘‏الآخر‏'(‏الشاعر‏)  ‏يسرق‏ ‏منه‏ ‏ثورته‏ ، ‏يصور‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏تخلص‏ ‏من‏ ‏القاهر‏ ‏الأول‏، ‏لكن‏ ‏يحل‏ ‏محله‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏يعطيه‏ ‏الفرصة‏ ‏أن‏ ‏يخلق‏ ‏ذاته‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏يكتب‏ ‏ذاته‏ ‏شعرا‏. ‏فى ‏آخر‏ ‏لحظة‏ ‏يكتشف‏ ‏الحاكى ‏أنه‏ ‏خدع‏ ‏للمرة‏ ‏الثانية‏ ، ‏وليست‏ ‏الأخيرة‏ ‏على ‏ما‏ ‏يبدو‏ . ‏ها‏ ‏هو‏ ‏يعلنها‏ ‏صريحة‏ ‏أنه‏ (‘…‏ثمة‏ ‏شخص‏ ‏آخر‏ ‏قال‏ ‏كلاما‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏هذا‏، ‏ثمة‏ ‏ثانى، ‏يتربص‏ ‏بى،  ‏يقف‏ ‏بحلقي‏………..،  ‏ويدس‏ ‏الكلمات‏ ‏ويلغى ‏إحساسى ‏الجوانى، ‏يضع‏ ‏بحنجرتى ‏آلة‏ ‏تسجيل‏ ‏وشريطا‏ ‏مكرورا‏، ‏يضع‏ ‏بكفى ‏سيفا‏ ‏خشبيا‏)‏

إذا‏ ‏كان‏ ‏الوصى ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏جعل‏ ‏لهاته‏ ‏كرباجا‏ ‏فى ‏يمناه‏،  ‏ثم‏ ‏اكتشف‏ ‏أخيرا‏ ‏أن‏  ‏الطفل‏ ‏البازغ‏ ‏يحتج‏ ‏قد‏ ‏سرق‏ ‏أيضا‏، ‏سرقه‏ ‏الشاعر‏ ‏غالبا‏، ‏فأين‏ ‏الخلاص؟

‏ ‏فهى ‏المبارزة‏ .‏لكن‏:  ‏يبارز‏ ‏من؟‏ ‏من‏ ‏ضد‏ ‏من‏ ‏وقد‏ ‏أصبحا‏: ‏القاهر‏ ‏القديم‏، ‏والقادم‏ ‏المزيف‏  ‏وجهان‏ ‏لعملة‏ ‏واحد‏. ‏ليس‏ ‏مهما‏، ‏المهم‏ ‏المبارزة

هذا‏ ‏ما‏ ‏يفعله‏ ‏كل‏، ‏أو‏ ‏أغلب‏، ‏المنظـرين‏ ‏المعمقين‏  ‏لما‏ ‏يسمى ‏صراع‏ ‏الأجيال‏، ‏أو‏ ‏صراع‏ ‏الطبقات‏، ‏أو‏ ‏صراع‏ ‏الاستعمار‏.  ‏إن‏ ‏المنتصرين‏ ‏للأصغر‏ ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏التحرير‏ ‏والحرية‏ ‏تفوتهم‏ ‏لعبة‏ ‏التقمص‏ ‏بالمعتدى ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏كما‏ ‏تفوتهم‏ ‏أن‏  ‏الهدف‏ ‏من‏  ‏المبارزة‏ ‏ليست‏ ‏المبارزة‏، ‏ولا‏ ‏حتى ‏الانتصار‏، ‏وإنما‏ ‏التكامل‏ (‏لا‏ ‏التسوية‏).‏

‏ ‏نتيجة‏ ‏هذه‏ ‏المعارك‏ ‏المغتربة‏ ‏المفروضة‏ ‏علينا‏ ‏جيلا‏ ‏بعد‏ ‏جيل‏، ‏أن‏ ‏ينتهى ‏القاتل‏ ‏والمقتول‏ ‏إلى ‏العدم‏، ‏ينتبه‏ ‏الشاعر‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ( ‏يقول‏: ‏وأنا‏ ‏تواق‏ ‏لمبارزة‏، ‏أقتل‏ ‏فيها‏ ‏أو‏ ‏أقتل‏، ‏حتى ‏يحترم‏ ‏فروسيتى ‏حصاني‏’) ‏هذه‏ ‏فروسية‏ ‏دون‏ ‏كيشوتية‏ ‏لا‏ ‏تقنع‏ ‏حتى ‏حصان‏ ‏الفارس‏، ‏ولا‏ ‏يغنى ‏فى ‏تبريرها‏ ‏صيحة‏ ‏التعميم‏ ‏الذى ‏يدعيها‏ ‏الصارخ‏ ‏منذرا‏، ‏وهو‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏يستغيث‏ ، (‘‏فبعدى ‏الطوفان‏ ‏سيأتيكم‏..’).‏

شاعرنا‏ ‏يدرك‏، ‏مرة‏ ‏أخرى، ‏ليست‏ ‏أخيرة‏، ‏اغتراب‏ ‏الشعر‏ ‏ولاجدواه‏. ‏وهو‏ ‏يحب‏ ‏ويحترم‏ ‏شعر‏ ‏نزار‏ ‏ويتناص‏ ‏معه‏، ‏لكنه‏ ‏يوهم‏ ‏نفسه‏ ‏أنه‏ ‏يتجاوز‏ ‏كلمات‏ ‏الشعر‏ ‏إلى ‏الفعل‏ 🙁 ‏فقلت‏ ‏لها‏:  ‏للأفعال‏ ‏نصبت‏ ‏أنا‏ ‏يا‏ ‏سيدتى ‏ميزاني‏’). ‏أين‏ ‏هذه‏ ‏الأفعال؟‏  ‏إنها‏ ‏شطح‏ ‏إلى ‏الناحية‏ ‏الأخرى، ‏إلى ‏التأله‏، ‏إلى ‏المطلق‏’‏كفاى ‏كـكـفتى ‏الميزان‏ ‏تقيمان‏ ‏العدل‏ ‏المطلق‏، ‏ولسانى ‏كلسان‏ ‏الميزان‏ ‏يقول‏ ‏الصدق‏ ‘‏هذه‏ ‏صفات‏ ‏الطفل‏ ‏العاجز‏ ‏حين‏ ‏يعوض‏ ‏عجزه‏ ‏بالتأله‏، ‏وهو‏ ‏مصلوب‏ ‏كإله‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏كشهيد‏ ‏للمطلق‏، ‏

‏[‏لفتة‏ ‏نقدية‏ : ‏خدعت‏ ‏القافية‏ ‏الشاعر‏ ‏فجرجرته‏ ‏إلى ‏تشبيه‏ ‏باهت‏ ‏حين‏ ‏أضاف‏ ‏بعد‏ : ‘‏أنا‏  ‏مصلوب‏ ‏يا‏ ‏سيدتي‏’ ‏أضاف‏ ‘‏فوق‏ ‏صليب‏ ‏من‏ ‏خشب‏ ‏الزان‏’].‏

ثم‏ ‏يعود‏ ‏الشاعر‏ ‏ليشكك‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏مسار‏ ‏نموه‏ ‏شخصيا‏، ‏وإنما‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏اختياراته‏، ‏وعلاقاته‏ ‏حتى ‏التى ‏تبدو‏ ‏حميمية‏، ‏أو‏ ‏المفروض‏ ‏أنها‏ ‏كذلك‏، (‘‏إن‏ ‏الثانى ‏زوجنى ‏غيرك‏’) ‏أى ‏العلاقات‏ ‏الأولى ‏باعتبارها‏ ‏زنا‏، ‏زواج‏ ‏فرضته‏ ‏النظم‏ ‏والقهر‏ ‏والتورط‏ ‏والصفقات؟‏ ‏أم‏ ‏علاقة‏ ‏مختارة‏ ‏متجددة‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏، ‏هى ‏زواج‏ ‏أيضا‏ ‏عند‏ ‏الله؟‏ ‏سماها‏ ‏الشاعر‏ ‏العشق‏ ‏البرى، ‏لنتذكر‏ ‏معه‏ ‏موقعه‏ ‏الفطرى، ‏وابتعاث‏ ‏طلاقته‏ ‏ومبادأته‏، ‏رغم‏ ‏الطفولة‏ ‏والإجهاض‏. (‘‏تهمتى ‏العشق‏ ‏البرى، ‏جريمتى ‏مطاردة‏ ‏غزال‏، ‏ليس‏ ‏له‏ ‏شبه‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏الغزلان‏’).‏

الحاكى  ‏فى ‏ارتداده‏ ‏إلى ‏ذاته‏ ‏يعلن‏ ‏فشلا‏ ‏جديدة‏، ‏ونرجسية‏ ‏تتخفى ‏تحت‏ ‏مطلق‏ ‏جديد‏ ، ‏وفناء‏ ‏مزعوم‏ ‏من‏ ‏عاشق‏ ‏فى ‏معشوق‏، ‏وهما‏ ‏ليسا‏ ‏إلا‏ ‏وجهان‏ ‏لنفس‏ ‏العملة‏، ‏وهو‏ ‏يخلط‏ ‏عامدا‏، ‏أو‏ ‏غافلا‏ ‏بين‏ ‏الثانى ‏الوصى (‏أول‏ ‏القصيد‏)، ‏وبين‏ ‏الثانى ‏المزيف‏ (‏الشاعر‏ ‏العاجز‏ ‏عن‏ ‏الفعل‏، ‏آخر‏ ‏القصيد‏). ‏يخلط‏ ‏بين‏ ‏النصف‏ ‏الثاني‏. ‏النصف‏ ‏الجانى، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏المجنى ‏عليه‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏هو‏ ‏الجاني‏. (‏نرجسيا‏ ‏وتركيبيا‏).‏

وهو‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏النهاية‏ ‏يعلن‏، ‏وكأنه‏ ‏محضر‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏محكمة‏ ‏الاغتراب‏ ‏الكلية‏، ‏عددا‏ ‏من‏ ‏المنظرين‏، ‏والحكائين‏، ‏والممسرحين‏، ‏والشعراء‏ ، ‏والسيناريست‏ !! ‏من‏ ‏أول‏ ‏سارتر‏ ‏حتى ‏أسامة‏ ‏أنور‏  ‏عكاشة‏، ‏مرورا‏  ‏بسفوكليس‏ ‏وونوس‏ ‏والشرقاوى ‏وغيرهم‏، ‏يعلن‏ ‏أنه‏’‏الثاني‏’. ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏أصرح‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏رفض‏ ‘‏الحل‏ ‏الشعري‏’، ‘‏الحل‏ ‏الرمزي‏’ ‘‏الصراع‏ ‏الصوري‏’‏؟

‏’‏الثاني‏’ ‏هم‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏، ‏بل‏ ‏هم‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‘ ‏قلت‏ : ‏جميعكم‏ ‏الثاني‏’ ‏

فمن‏ ‏الأول؟

يزعم‏ ‏الحاكى ‏وهو‏ ‏ينهى ‏القصيدة‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‘‏الأول‏’، ‏وأنه‏ ‏قادر‏ ‏على ‏المبادأة‏ ‏بعد‏ ‏نصر‏ (‏مزعوم‏) ‏حققه‏ ‏هذه‏ ‏الليلة‏.’‏وأنا‏ ‏يا‏ ‏سادتى ‏الأول‏،  ‏الليلة‏ ‏أرتجل‏’. ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏الأول‏ ‏وليس‏ ‏ثم‏ ‏أول‏ ‏فى ‏الحكاية‏ ‏أصلا‏، ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القراءة‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏من‏ ‏خلالها‏، ‏أن‏ ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏الآخر‏ ‏طالما‏ ‏أن‏ ‏المسيرة‏ ‏متضفرة‏ ‏متجادلة‏ ‏مستمرة‏. ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏اكتشفه‏ ‏الحاكى ‏لكن‏ ‏فى ‏النهاية‏.‏

بسرعة‏ ‏فائقة‏،  ‏يكتشف‏، ‏ويعترف‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏تلقائيا‏، ‏وأن‏ ‏شعره‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏وأنه‏ ‏يمثل‏.‏

لولا‏ ‏هذا‏ ‏البيت‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏القصيدة‏ ، ‏لما‏ ‏خطرت‏ ‏ببالى ‏كل‏ ‏فروض‏ ‏هذه‏ ‏القراءة‏.‏

إن‏ ‏الذى ‏قتل‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏هو‏ ‏الشاعر‏’‏أحمد‏ ‏تيمور‏’، ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏،’‏والليلة‏ ‏لابد‏ ‏سأقتل‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏’ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏القتيل‏ ‏هو‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ، ‏فمن‏ ‏هو‏ ‏القاتل؟‏ ‏ولحساب‏ ‏من؟‏ ‏ومن‏ ‏الذى ‏كتب‏ ‏هذه‏ ‏القصيدة‏ ‏؟‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‘‏المشروع‏ ‏الذى ‏ضاع‏ ‏فى ‏صراعات‏ ‏لم‏ ‏يخترها؟‏  ‏أم‏  ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏الشاعر‏ ‏الذى ‏حل‏ ‏شعرا‏ ‏محل‏ ‏وجود‏ ‏صاحبه؟

‏ ‏فإذا‏ ‏قتل‏ ‘‏المشروع‏’ ‏الشاعر‏ ‏ليتحقق‏، ‏فهل‏ ‏نصدق‏ ‏أنه‏ ‏سيمتلك‏ ‏شعر‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏دون‏ ‏الشاعر‏،  ‏يملك‏ ‏حتى ‏يصيره‏  ‏فعلا‏ ‏مختلفا‏ ‏ممتدا‏ ‏إلى ‏غاية‏  ‏بلا‏ ‏نهاية؟

‏ ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نصدق‏ ‏أنه‏ ‏بقتل‏ ‏الشاعرسوف‏ ‘..‏ليصبح‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ ‏المرسل‏ ‏ملكى ‏وحدي‏’ ‏الأول‏، ‏المشروع‏، ‏الأمل‏، ‏المتخلق؟

النهاية‏ ‏مفتوحة‏ ‏رغم‏ ‏جمود‏ ‏المواجهة‏. ‘‏فالرجل‏ – ‏كما‏ ‏تدرون‏ ‏أنانى ‏وأنا‏ – ‏وكما‏ ‏تدرون‏ – ‏أناني‏.‏

‏ ‏هذه‏ ‏الأنانية‏ ‏المعلنة‏ ‏فى ‏النهاية‏ ، ‏هى ‏البداية‏ ‏الحقيقية‏ ‏للقصيدة‏. ‏

لا‏ ‏حل‏ ‏فى ‏صراع‏ ‏ينتصر‏ ‏فيه‏ ‏الأول‏ ‏على ‏الثانى، ‏فلا‏ ‏يتبقى ‏إلا‏ ‏نصف‏ ‏باهت‏ ‏مزيف‏ ‏يزعم‏ ‏أنه‏ ‏الأصل‏.‏

الطفل‏ ‏الأبكم‏ ‏الذى ‏يرفس‏ ‏اللغة‏، ‏ويشك‏ ‏فى ‏الشعر‏، ‏ويهيم‏ ‏فى ‏المطلق‏، ‏ويقتل‏ ‏الأب‏، ‏ويتغنى ‏فى ‏حرية‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏عنها‏ ‏شيئا‏، ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏المشروع‏ ‏البشرى ‏القابل‏ ‏للتحقق‏، ‏المستحيل‏ ‏التحقق‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏.‏

الطريق‏ ‏إلى ‏التحقق‏ ‏يبدأ‏ ‏بما‏ ‏حدث‏ ‏هذه‏  ‏الليلة‏، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏ينتهى ‏أبدا‏.‏

لا‏ ‏حل‏ ‏فى ‏صراع‏ ‏ينتصر‏ ‏فيه‏ ‏الثانى ‏على ‏الأول‏ ‏بأن‏ ‏يخدعه‏، ‏ويختزله‏ ‏فى ‏كلمات‏ ‏الشعر‏، ‏أو‏ ‏أى ‏رمز‏ ‏من‏ ‏رموز‏ ‏الإبداع‏.‏

الشاعر‏ ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏شيئا‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يحل‏  ‏القصيدة‏ ‏محل‏ ‏مشروعه‏ ‏التكاملى ‏للتخليق‏، ‏إما‏ ‏بصفة‏ ‏مستمرة‏، ‏وإما‏ ‏لوقفة‏ ‏مرحلية‏ ‏يلتقط‏ ‏فيها‏ ‏أنفاسه‏. ‏

البداية‏ ‏التى ‏هى ‏النهاية‏ ، ‏أى ‏البداية‏، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ينجح‏ ‏الجدل‏ ، ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏مؤلما‏، ‏ليظل‏ ‏الشاعر‏ ، ‏هو‏ ‏المخطط‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏مسيرة‏ ‏التحقق

خاتمة:

مرة‏ ‏أخرى : ‏كيف‏ ‏ننقد‏ ‏الشعر‏، ‏و‏ ‏كيف‏ ‏نقرأ‏ ‏الشعر‏، ‏بل‏ ‏كيف‏ ‏نقرأ‏ ‏الإبداع‏ ‏عامة‏.‏

الإبداع‏ ‏ليس‏ ‏فيضا‏ ‏مضطردا‏ ‏من‏ ‏حلو‏ ‏الكلام‏، ‏إنه‏ ‏إشراقات‏ ‏نبية‏، ‏تطالعنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏متن‏ ‏يطول‏ ‏أم‏ ‏يقصر‏، ‏يكفى ‏المبدع‏ ‏شرفا‏ ‏أن‏ ‏يصدق‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏، ‏وأن‏ ‏يجمع‏ ‏خبرته‏، ‏وأن‏ ‏يصقل‏ ‏أداته‏، ‏ثم‏ ‏يواصل‏ ‏ويثابر‏ ‏حتى ‏تحل‏ ‏بنا‏ ‏وبه‏ ‏ما‏ ‏تيسر‏ ‏من‏ ‏إضاءة‏،  ‏بيت‏ ‏واحد‏  ‏من‏ ‏قصيدة‏ ‏يكشف‏ ‏للشاعر‏، ‏فالمتلقى ‏عن‏ ‏حقيقية‏ ‏بشرية‏ ‏أو‏ ‏كونية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏معاناة‏ ‏ذاتية‏/‏موضوعية‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إضافة‏ ‏ليس‏ ‏كمثلها‏ ‏شيء‏.‏

النقد‏ ‏ليس‏ ‏تصيدا‏ ‏متربصا‏ ، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏حكم‏ ‏فوقى  ‏يصدر‏ ‏من‏ ‏هيئة‏ ‏محلفين‏ ، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏ليست‏ ‏نقدا‏ ‏بالمعنى ‏المعتاد‏. ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نسميها‏ ‏استلهاما‏، ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نسميها‏  ‏معرفة‏ ‏موازية‏.‏

‏ ‏نحن‏ ‏أحوج‏ ‏ما‏ ‏نكون‏ ‏إلى ‏الإنصات‏ ‏لكل‏ ‏الأصوات‏، ‏ننتقى ‏منها‏ ‏ما‏ ‏نستطيع‏، ‏وندع‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يصلنا‏ ‏إلى ‏أصحابه‏، ‏فله‏ ‏أصحابه‏.‏

المطلوب‏ ‏هو‏ ‏التقاط‏ ‏اللؤلؤ‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عنما‏ ‏حوله‏، ‏أو‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دونه‏.‏

نحن‏  ‏نتعلم‏ ‏من‏ ‏رطان‏ ‏المجنون‏ ‏كما‏ ‏نتعلم‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏الشاعر‏، ‏ونتحمل‏ ‏فى ‏سبيل‏ ‏ذلك‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏فيتحملنا‏ ‏كلاهما‏ ‏لنلتقى ‏ونستمر‏.‏

نحن‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏وقت‏ ‏طويل‏ ، ‏وجهد‏ ‏كبير‏، ‏وذهن‏ ‏مفتوح‏ ، ‏ومثابرة‏، ‏وأن‏ ‏يرى ‏بعضنا‏ ‏بعضا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏زاوية‏، ‏نخطئ‏ ‏ونصيب‏، ‏نحسن‏ ‏ونتخبط‏، ‏ونستمر‏.‏

لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏نشكر‏ ‏مبدعا‏ ‏على ‏إبداعه‏.‏

‏ ‏لكن‏ ‏قد‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏ندعو‏ ‏لنا‏ ‏وله‏، ‏بأن‏ ‏نواصل‏ ‏حتى ‏نتواصل‏، ‏لعل‏ ‏فى ‏وجودنا‏ ‏معا‏ ‏ما‏ ‏ينفعنا‏، ‏فننفع‏ ‏الناس‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *