نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 23-4-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3887
من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” (1)
بداية حكاية: “الشعلة والحريق”
قال الحكيم:
= حكاية ذلك الفتى الثائر هى حكاية هذا العصر، بل وكل عصر، وقد شغلنا الاستطراد فى حديث “القفص والسجن” عن صديقنا هذا الذى آمن حتى كفر، وعاش الكلمات التى قرأها بكل عمق وإحساس نقى، وحين أراد تحقيقها وجد كل شىء مختلفاً…، أراد أن يضيء فاحترق… أو كاد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
= هو فتى من أرض هذا البلد الطيب، حمل فى نفسه تراث حضارة قديمة أصيلة، وفى جوفه طمى نيلها القوى الجبار، وانصهرت كل خلية من خلاياه بشمسها المشرقة الدافئة، وكان يؤلمه أشد الألم أن ينبض وجدانه بكل هذا الصدق والأمل، ثم هو لا يجد حوله إلا هذا التراخى والشلل، واتجه إلى الكتاب فعشق الكلمات من صغره، فمنذ العاشرة وهو يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، آسف… لم يكن يقرأ الكلمات بل كان يعيشها، لم تكن الصفحات أمام عينيه مسطحة ملساء بل كانت دنيا زاخرة بالأشخاص، تنبض بالحياة، لم يفرق أبدا بين اللفظ والمعنى، كان اللفظ هو معناه فى نفس الوقت… بل هو حقيقته.. كانت الألفاظ حقائق قائمة تسير فى الحياة. بل هى الحياة. وكان من أول ما عرف من ألفاظ هو كلام الله سبحانه وتعالى، ومثل أهل هذه الأرض الطيبة المنبسطة كان الإيمان عنده أمرا بديهياً لا يحتاج إلى منطق أو تفكير، فلأمر ما يدخل الإيمان هنا- إلى القلوب مباشرة دون تفسير ودون جهد ودون مراجعة، أهى دعة الطبيعة تثير هذا الشىء بداخل أنفسنا؟ الشىء النابض بالجوع إلى الاتصال بأصل الوجود؟ لماذا ظهرت الديانات السماوية كلها فى هذه الأرض أو قريبا من هذه الأرض؟ وكيف لا؟ كيف يمكن وسط هذه الطبيعة السهلة ألا يتحرر الانسان من قشرته الزائفة فإذا به جزء من كل ما حوله، يحس بالأمن والخير، يحس بالقوة والحق، يحس بالصدق والأمل، إذن هو الدين فى صورته الأصيلة، وقد كان نبض الدين فى عروق صاحبنا أصيل وعميق، ولكنه حين دخل حظيرة الدين دخلها فى صدر شبابه من باب جانبى، وإذا به فى متاهات وسراديب… وابتدأت تجربته.
جاء إلىّ شبه مختار… وجلس..
وقال:
- لقد كفرتُ بكل شئ.
قلت:
= بماذا؟
قال:
– كفرت بكل ما يقال.. وكل ما كان.. وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون، بكل ما كتبوه، وما لم يكتبوه، بكل شئ وكل أحد.
قلت:
= ونفسكَ…؟
قال:
– كفرت بنفسى أولا وقبل كل شىء.. كفرت بالأصل والفرع، بالسبب والنتيجة، بالحق والباطل، كفرت بالشىء وضده.
قلت:
= والانسان.. والغد؟
فقال:
– وبالذات كفرت بالإنسان… وبالذات كفرت بالغد.. لقد خـُـدعت بما فيه الكفاية، وما بقى منى هو العفن الطافى فوق الجسد المتآكل، اشتعلتُ حتى احترقت، وحتى الحريق لم يكمل مهمته فيتركنى ترابا مقدسا، بل تركنى جسداً مشوها منتفخا سرعان ما فاحت رائحته… لست رمادا بعد.. لم أمت.. بل جننت. أو هكذا تسمون أمثالى، الموت ينتهى إلى رماد نقى جاف، أما الجنون فهو موت عفن كريه، لم أستطع حتى الموت.. لأنى كفرت بكل شىء حتى الموت.
قلت:
= ولكنك مازلت.. هنا.
قال:
– أنا هنا لأتفرج عليك، كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين والمشعوذين والفلاسفة وعلماء النفس وأطبائها ما شغلنى وبهرنى لفترة من الزمان، ولكن مثل كل ما قرأت كان يُشعل فىّ شمعة لها ضوء نورانى بديع، وما إن أقترب منه وأحاول أن أرى من خلاله الطريق حتى أحترق، يحترق إصبعى ثم تلفح النار وجهى، ثم تحترق نفسى ثم مبادئى ومُثُلى وفكرى، وياليتهم تركونى حتى النهاية… إذن لأصبحت رمادا نقيا، ولكن مَنْ حولى أطفأونى فلم يبق إلا جسد ممزق لا حياة فيه، ألا تعرف يا سيادة الطبيب تلك الرائحة المميزة فى من تسمونهم المجانين، نحن، أنتم تقولون إنها رائحة العرق لأنهم لا يستحمّون، هذا وهمٌ سخيف، إنها رائحة عالمية تجدها تفوح من كل من تودِعونه مصحاتكم، إنها رائحة الحى الميت، ما علينا لا أريد أن أجهّلك قبل أن أعرفك..، أقول كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين وأطباء النفس ما بهرنى وأضاء فىَّ شمعة من الشمعات التى أحرقتنى، ثم طـُفْـت جولتى بين الكلمات والأشخاص، بين النظرية والتطبيق، بين المبادئ والواقع، وانتهيت إلى ما ترى، وجاء ذكرك شخصيا فى نهاية المطاف، قلت أتمم الجولة بك.
قلت:
= قل ما شئت.، ولكن تذكر دائما أن هناك احتمالا آخر.
قال:
- أى احتمال آخر.. لقد جربت كل الاحتمالات.. هل أحكى لك من الأول.. أم تختار أنت.. لقد جربت كل الاحتمالات.
قلت:
= قل ما تشاء.
(وربما نكمل الأسبوع القادم!)
[1] – يحيى الرخاوى: كتاب “عندما يتعرى الإنسان” الطبعة الرابعة 2017 (الطبعة الأولى 1969) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.