جريدة التحرير
17-12-2011
تعتعة التحرير
نجيب محفوظ : متى تصلح حال البلد ؟ (من الأصداء!)
مئوية نجيب محفوظ !!!
ليكن، ولتكن مشاركتى فى تحيته، ما أتيحت الفرصة، بأن أحضره معنا هذه الأيام بما تيسر من آرائه المضيئة، فيطمئن علينا، ونحن ندعو له ولمصر، ونطلب منه أن يقسم على الله أن ينجيها ويبارك فى أهلها، وأنا واثق أن ربنا سبحانه سوف يبره ويستجيب له، فهو عبد مؤمن رضى الله عنه فرضى عنه، قد خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب.
وهذه زهرة من باقة أصدائه ، وكأنه معنا هنا والآن، مع قراءتى لها.
الفقرة: 20 من الأصداء “الأشباح”
عقب الفراغ من صلاة الفجر رحت أتجول فى الشوارع الخالية، جميل المشى فى الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف، ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام، وسرح بصرى فى متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرفيعة، وسرعان ما خيل إلى أن أشباحا تتحرك نحو المدينة، قلت لعلهم من رجال الأمن ولكن مر أمامى أولهم فتبينت منه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه، واجتاحنى الرعب فوق الصخرة، وتسلسلت الأشباح واحدا إثر الآخر
تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتى النائمة.
النقد:
عاد الموت يتجسد (فى الأصداء) ، لكنه هذه المرة ليس الموت الذى يبعث الحياة (قارن فقرة 2) وليس الموت الذى يواكب الحب (قارن فقرة 8) لكنه الموت الذى يهدد المدينة النائمة : هياكل عظمية يتطاير الشرر من محاجر عيونها، وهى تتحرك نحو المدينة، فهو القهر المنذر بالخراب، فمن يستطيع أن يواصل المشى بين الفجر وبين الشروق بصحبة نسائم الخريف، والمدينة نائمة، وأشباح الخراب والدمار تزحف نحوها: هكذا؟.
ثم خطر ببالى أن ثمة علاقة جائزة بين رجال الأمن وبين الإرهاب، هكذا ذهب فكر صاحبنا فى البداية: “لعلهم من رجال الأمن”، وهم ليسوا بعيدين عن أن يكونوا هم الموت الزاحف بالخراب مثلهم فى ذلك مثل الإرهابيين بشكل أو بآخر، ثم إن توقيت الرؤية عقب صلاة الفجر قد لا يبتعد كثيرا عن التعبير الشائع عن التصرفات التعسفية لمن عرفوا يوما بـ ”زوارالفجر” من رجال المباحث أو المخابرات، على أن هذا الاحتمال لا ينفى الاحتمال الأول، فتكون هذه الأشباح من الهياكل العظمية هم أهل الإرهاب الشعبى أو أهل الإرهاب الرسمي، وكلاهما يحمل الخراب إلى المدينة النائمة
الفقرة: 54 “التسبيح”
فى وضح النهار والحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والأطفال، والدكاكين على الصفين تستعد لاستقبال الزبائن. فى وضح النهار سقط رجل ضعيف ضحية لعملاق جبار وشاهد الناس الجريمة وتوارْوا فى برج الخوف. لم يشهد منهم أحد، ومضى القاتل آمنا. وشهد الدرويش الحادث ولكنه لم يُـسأل للاعتقاد الراسخ فى بلاهته
وغضب الأبله غضبا كمدا فعزم على الانتقام من الجميع. كلما واتته فرصة قضى على رجل أو امرأة وهو يسبح لله.
النقد:
ذكرنى هذا القهر القاتل، من قوى لضعيف أمام كل الناس، بالصفعة التى انطلقت من كف الضابط العمياء وهى تهوى على خد أبيها العليل” (فقرة 37)، وكيف استجابت الفتاة لهذا القهر بالانسحاب من العالم حتى عاشت وحدتها ترمقها ثقوب الكون، ثم أقارن كيف استجاب الناس للقهر هنا بأن تواروا فى برج الخوف. الفرق واضح عندى لكن ظاهر الصورة واحدة، إلا أن القصد هنا لم يكتف بإظهار العمى الذى اختاره الناس على الرغم من إيهامهم أنفسهم بأنهم أكبر من أن يكونوا مجرد “شاهد إثبات” لذلك جاء تعبير “برج الخوف” وليس “كهف الخوف” – أقول إن القصة لم تنته، فإن الحقيقة لا يتنازل عنها لا الأطفال ولا المجانين ولا المؤمنون (والدرويش هو كل هؤلاء)، ومن ثم وجب إلقاء الحقيقة هى ومن لا يتنازل عنها معا بعيدا عنا بضربة إثر ضربة، وهكذا تغافلوا (أنكروا) وجود “الدرويش” فلم يسألوه أصلا.
وبألفاظ أخرى: حين نعمى – عن رؤية الحقيقة، ونعجز عن قول الحق، لابد أن يهددنا من لم يفعلوا مثلنا، حتى لو كانوا أطفالا أو دراويش أو مؤمنين، فنسارع بأن نحمى أنفسنا بأن نسارع بإلغائهم هم -أيضا- بأن نستهين برؤيتهم، لا نشوفهم أصلا،
الحاجة إلى الشوفان تكاد تكون أسبق من الحاجة للجنس والحب والرعاية، فهى اعتراف واحترام معا، وهذا ما حـرمـوا منه “الدرويش” فى هذا التشكيل فإذا به يفرض عليهم رؤية أخرى تقول: مادمتم رضيتم عما كان، ولم تحترموا رؤيتى فتستشهدوننى غصبا عنكم فأنتم شركاء فى إلحاق الظلم، وإبادة الحياة، فهاكم ما أنكرتموه يتكرر، ويتكرر، ويتكرر رأى العين، فكيف ستتخلصون منه، ومني؟.
وحين عزم الدوريش – هكذا – أن ينتقم من الجميع بدأ بالانتقام من نفسه فتنازل عن براءته، وإيمانه، ليصبح من شهود الحقيقة على الجانب الآخر، فهو الجنون على الرغم من أنه مازال يسبح الله بطريقته، لعل كل هذا يرفع الظلم الذى قضى على الضعيف وينير البصيرة التى كان غيابها فيهم سببا فى إنكاره وإهماله، أى إعدامه قارن صنعان الجمالى فى نقد “ليالى ألف ليلة ” يحيى الرخاوى: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992 (9-48).
الفقرة: 137 “عندما”
سألت الشيخ عبد ربه التائه
- متى تصلح حال البلد؟
فأجاب
- عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
النقد:
حكمة سياسية تبدو مباشرة لكنها ليست كذلك تماما: فالسلامة ليست عكس الجبن، بل إن الجبن أحيانا يكون طريقا إلى سلامة ما، فالمعروف أن الجبن إنما يبرر نفسه طلبا للسلامة، فكيف تختلف عاقبة الجبن عن عاقبة السلامة ؟ وكيف يكون صلاح حال البلد فى رفض الجبن طلبا للسلامة؟ إليكم اجتهادى :
إن السلامة التى يؤدى إليها الجبن ليست سلامة أصلا، ولا ينبغى أن توصف بهذه الصفة مهما بدا الأمان ظاهرا، فعاقبة الجبن جبن أكثر، وإن تخفَّـى وراء قشرة من سكون خادع، فهى سلامة وخيمة وليست حقيقية، وأوخم منها الدافع إليها وهو الجبن، وهذا الموقف يضاعف الوخامة ولا يصلح حال البلد، وهذه الرؤية خليقة أن تحفزنا إلى رفض كل من الجبن والسلامة الزائفة، الأخيرة وخيمة والدافع إليها أوخم وأضل فلا مفر من البحث عن سلامة الإقدام، فهى أبقى وأرقى، هذا هو السبيل لإصلاح حال البلد،
يجوز.