الافتتاحية (1)
[1] إعادة تحديد “ما ليس كذلك”
على الرغم من كل هذا التذبذب فى الصدور (حتى أصبحنا أشبه بكتاب غير دوري) ما زلنا نتصور أن ما صدرت بسببه هذه المجلة، وما صدرت من أجله، ما زال قائما ويزداد ضرورة.
كم آنسنا حتى الطمأنينة المشروطة بصدور دوريات جديدة (نسبيا) مثل مجلة “سطور” تحاول بكل إتقان وجدية، وأيضا بكل جمال وأناقة وتكاليف، أن تقول شيئا جديدا فعلا، شيئا مختلفا، شيئا له معنى وله هدف، حتى أننا تصورنا، ونحن نراجع تواضع إمكانياتنا، أنها يمكن أن تقوم عنا ببعض أو كل ما أملنا فيه، ولم تقتصر دلالة صدور مجلة سطور على تأكيد حاجة ناسنا إلى موقف مبدع متميز، وإنما تخطتها إلى دلالة أخرى تطمئن وتـعد: ألا وهى استقبال المهتمين والمجتهدين لها (ولا أقصر القول على المثقفين). وأيضا استقبال مجتمع النشر والكتابة لها (ممثلا فى معرض الكتاب 2000).
هذه كلها علامات إيجابية حقيقية لا بد أن نستقبلها بحجمها ومسئوليتها. فإذا أضفنا إلى ذلك إنجازات وتميز مجلة أخرى مثل “الكتب: وجهات نظر”، والتى نالت نفس التقدير من نفس الجهة تأكدنا من حقنا فى الاطمئنان الذى وصلنا، والذى قد يكون سببا أن نحافظ على ما زعـمـنـا ونزعمه من أننا مجلة “ما ليس كذلك”. فكثير مما تنشره هاتين المجلتين هو مما “ليس كذلك” أيضا مما نحتاجه أشد الحاجة.
فهل نكتفى بهذا التعويض فنتوقف أم أنه ما زال لنا دور مختلف؟
لعل إصرارنا على أن نتميز (جدا) بما هو “ليس كذلك” هو السبب فى عزوف بعض العقول الفاضلة التى حاولت أن تساهم معنا فى النقلة الأخيرة ثم عدلت أو عـدلنا، ذلك أن كثيرا مما وصلنا كان عطاء رائعا، ومفيدا، لكنه كان أقرب إلى ما هو “كذلك” منه إلى “ما ليس كذلك”،
ونحن لا نعتبر ما ليس كذلك تميزا فى ذاته، فقد يكون شطحا، وقد يكون جنونا، وقد يكون تعجلا، وقد يكون غريبا، وقد يكون شديد الخصوصية، وقد يكون فجا، وقد يكون طفليا، ومع كل هذا فنحن نحتاج أن نحسن الإنصات لكل هذا، وخاصة حين يعجز “ما هو كذلك” أن يفى باحتياجاتنا فى فترة تاريخية بذاتها.
لكل ذلك عاودنا الصدور فى هذه المرحلة بخطى أبطأ (كل عدددين معا) حتى نتبين دورنا الجديد /القديم فيما هو “ما ليس كذلك فعلا”
ورغبة منا فى تجنب التكرار الذى لا ننكر أنه أصبح مملا بدرجة واضحة نعرض على القارئ بكل حرص أن يسهم معنا فى تحديد المعالم القادمة فيما يؤيد تصورنا لـلفجوة التى يمكن أن تملأها هذه المجلة المتواضعة التى تعترف أنها ما زالت فردية، وفى نفس الوقت نشعر أنها ما زالت ضرورية. ومن ذلك:
1- إفساح مساحة ما لأفكار لم تكتمل بعد، ليست مدعمة بما يكفى من موضوعية أو توثيق (يشمل ذلك أفكار المرضى الفجة، وأفكار المحاولات البادئة (من الشباب خاصة) كما يشمل كثيرا من الفروض التى تحتاج مزيدا من الاختبار والتحقق.
2- زيادة جرعة النقد (على كل المستويات)، ولن نكرر تفاصيل ما نعنيه بالنقد الدينى (مثل: كتابات أحمد صبحى منصور، والقراءة الموازية لأصداء النفري) والنقد الأدبى (مثل: قراءة أصداء السيرة) والقراءات النقدية (مقتطف وموقف) والنقد العلمى (إعادة قراءة فى مصطح قديم) والنقد الحياتى (والذى قد يكون أحد مظاهره لغة المريض النفسى وغائيته، ناقدا،لما هو نفسه، وما هو نحن، على الرغم من فشله).
وباعتبار أنه لا ينبغى لنا أن نركز على السياسة أو نتصف بها (بنص القانون) فإننا نعتبر ما ينشر فى هذه المجلة مما يشبه السياسة، نعتبره أقرب إلى ما أسميناه “النقد الحياتي”، باعتبار أن السياسة، فى النهاية، هى من أهم هموم الشخص العادى فى الفعل اليومي، كما أنها من أكثر المتغيرات تأثيرا فى حياته، وصحته، وتوازنه، ونوعية وجوده، سواء أسماها بهذا الاسم (السياسة)، أم لا (أنظر بعد).
3ـ الدعوة إلى مزيد من نشر مقالات وأبحاث متخصصة فى مجالات الطب النفسى خاصة، والعلوم النفسية عامة، وخاصة من النوع الذى لا يقبل للنشر عادة فى المجلات العلمية التقليدية، ومن أمثلة ذلك (ا) وصف حالة،(ب) قراءة عرض منفرد لمريض بذاته، (ج) تعقيب على إبداع (مجهض) لمريض ما، (ء) نتائج مختلفة للتداوى تتميز بها ثقافتنا الخاصة، ومرضانا بالذات. (هـ) نشر محاولات وتجارب ونتائج العلاج النفسى الجارى فى مجتمعنا بوجه خاص.
والدعوة عامة، فنحن مازلنا نصدر.
[2] ماذا يميز الطب النفسى المصرى؟
إن الطب عامة، والطب النفسى خاصة لا يمكن أن يتم تطوره أو تدهوره بعيدا عن ما يجرى فى كل أنحاء العالم، وعلى كل المستويات بلغة الحياة المعاصرة.
لا أحد يستطيع أن يستقل، وفى نفس الوقت: الويل لمن يتبع مغمض العينين.
لا مفر من الاحتكاك المباشر، ولا بديل عن محاولة التميز بما ينفع.
ولن نكرر فى هذا الصدد ما حذرنا منه طول الوقت من احتمال الخلط بين ما هو تسوية مائعة تحت زعم “قبول الآخر”، وما يحق لنا أن ندافع عنه تحت اسم “التنوع الخلاق”، قبول الآخر قد يكون نوعا من السكون التسوياتي، بمعنى أن يترك كل واحد للآخر مساحة ما يتحرك فيها (على عماه!) مقابل أن يترك له هذا الآخر نفس المساحة (بعيدا عنه)، هذا ليس قبولا، وليس آخرا. إن المسألة أن العالم، كما الفرد، يحتاج إلى أن يكمل بعضه بعضا، فالحاجة إلى الآخر هى حاجة أساسية لسبب بسيط هو أن الحقيقة الوحيدة أو الحقيقة المطلقة لا يمكن أن يلم بها عقل واحد، إلا العقل الكونى الأعظم (الله سبحانه وتعالي)، وطالما نحن بشر فنحن نحتاج إلى بعضنا البعض لنتكامل، لا لنتكاذب، إن حكاية أن حدود حريتى تنتهى عند حدود بداية حرية الآخر هى أميع الكذب الشائع، ذلك أن حريتى تبدأ بالاحتكاك مع حرية “الآخر” الذى يحتك بدوره مع حريتى لا يقف عند حدودها. المسألة ليست “سيب وانا اسيب”، وإنما هى “قل وأنا أستمع”، “نختلف ونحترم “، فما أصعبها مسألة.
إن الطب النفسى فى مصر -كمثال ـ يمر بنفس الأزمة التى يمر بها الطب بكل فروعه، بل والتى يمر بها العالم فى كل المجالات تقريبا،(الاقتصاد والسياسية والثقافة.. إلخ) وهى أزمة البحث عن هوية دون الانفصال عن منجزات العالم. وفى هذا المأزق، علينا أن نلم بوضوح بحركة هذه المنجزات العالمية، من وراءها؟ ما مدى موضوعيتها وإيجابيتها ؟
فى محاولة الإجابة على هذين السؤالين تكفى متابعة ظاهرتين ترتبطان بالطب عامة، والطب النفسى خاصة، لنعلم إلى أين نسير.
أولهما: اندماج شركات الأدوية العملاقة (إحدى الشركات اشترت أخرى مؤخرا بمبلغ 91 (واحد وتسعين) مليار(ألف مليون) دولار [أى ما يوازى أكثر من ثلاثمائة ألف مليون ج مصرى = 000،000، 300،000جنيه مصرى= 300.000.000.000L.E هذه الشركة نفسها تكسب فى العام الواحد: واحد وثلاثون وجزء من عشرة مليار دولار، ماذا ننتظر من هذا الاندماج، وماذا يعنى هذا المكسب؟
المسألة ليست مسألة حقد أو استكثار، لكن إذا كنا نقبل أن نفهم سياسة السوق فى سوق المال، والأسهم، والسيارات، والملابس، وحتى المساكن، فنحن لا نفهم هذا التعملق فى المكسب، واختفاء التنافس لحساب مزيد من المكاسب، لا فى سوق “صحة الناس”، ولا فى سوق حياتهم (شركات السلاح)، علما بأن هاتين المجموعتين من الشركات تمثلان اللوبى الثانى والثالث بالترتيب فى الولايات المتحدة الأمريكية،
أليس من حق أى مهتم بما هو “إنسان”، وما هو “عدل” أن يقف طويلا أمام معنى هذه الأرقام، ومعنى هذا الاندماج (الاحتكار) ومعنى هذه المكاسب ؟ أليس من حقه أن يتساءل عن مدى تأثير هذا وذاك على الممارسة الطبية بدءا بغسيل عقول الأطباء إلى طريقة مداواة المرضى مارين بتحيز الأبحاث العلمية؟
أليس ضروريا أن نفهم من خلال ذلك معنى فيضان المؤتمرات فى الفنادق ذات الخمس نجوم دون قاعات الدرس، أو حتى دون قاعات “الاحتفالات” فى الجامعات؟
هذا موضوع طرقناه فى هذه المجلة أكثر من مرة، وهو يحتاج إلى عودة، وإلى وقفة، وإلى تحذير، فليس بالموتمرات وحدها، أو ليس بالمؤتمرات أصلا يشفى المريض أو يتقدم الطب. ونود أن نشير إلى أن عدد المؤتمرات والندوات الإعلاناتية التى تمت فى خلال العام الماضى وحده يكاد يبلغ عدة أضعاف ما تم خلال الخمس سنوات المنصرمة ولنا أن نتسائل: لحساب من، وما ذا تحقق من وراء ذلك ؟
كم من الكلام البراق الذى يقال فى المؤتمرات، أمكن أن يترجم إلى فعل متحضر متطور مبدع مفيد للمعرفة، وللمرضي، وللمستقبل حقيقة وفعلا؟
وهل مثل هذه المؤتمرات قادرة على أن تحفز المسئولين وغير المسئولين لنهضة لازمة لما هو طب نفسى وما يمثله؟
وماذا يحدث تحديدا بعد الانتهاء من المؤتمرات، وإصدار التوصيات، وتوديع الضيوف، وتوزيع الشهادات؟
ومن الذى يدفع -فى النهاية-تكاليف هذه المؤتمرات؟
إن الذى يدفع-ظاهرا- هم شركات الدواء العملاقة، لكن الواقع أن الذى يدفع هم المرضي: سواء كان ذلك بطريق مباشر أو باعتبارهم من دافعى الضرائب حيث كل قرش تصرفه الحكومة خطأ أو تزيدا نتيجة لهذا النشاط المؤتمراتى المشبوه، هو من المرضى وأهليهم بشكل أو بآخر.
حين تنازلت هذه المجلة وقررت أن تقبل إعلانات الدواء باعتبار أن ثمة فصل حتمى بين موقفنا العلمى والأخلاقي، وبين توظيف الإعلان، شأننا فى ذلك شأن الصحافة العلمية وغير العلمية، كنا نحسب أننا حذقنا اللعبة، وأنها مجلة دورية لها اهتمامات طبية فى المقام الأول، مثلنا مثل غيرنا، وبالتالى فما يهم شركات الدواء أن تعرف نفسها لمن يهمها من خلال هذه المجلة “أيضا”، وخاصة أنها لا توزع فى محيط الأطباء فحسب، بل هى فى متناول عامة الناس أيضا. لكن يبدو أن شركات الدواء ـ مثل كل المعـلنيين ـ لها شروط خفية لم ننجح فى فهمها ناهيك عن الوفاء بها، فتوقفت هذه الشركات مجتمعة عن الإعلان لدينا تأديبا لنا بسبب نشر مثل هذا الكلام.
نحن لا نعلم، ولا نحذق، لغة الصفقات الخفية، ولا نستطيع أن نقف فى وجه شركات بلغت ميزانية بعضها الأرقام التى ذكرناها منذ قليل، ومع ذلك سنظل نقول ونعيد، وننبه ونؤدى الرسالة بما يمكن أن تتميز به ثقافتنا، وتحديدا فى مجال الطب النفسي.
إن ما يميز الطب النفسى المصرى (أو أى طب نفسى وطني، وخاصة فى البلاد الفقيرة والنامية) أو ما ينبغى أن يميزه لابد وأن يكون واضحا للكافة،كما يلي:
(ا) اللغة (الوطنية) العربية، فالمرضى إذ يمرضون “بالعربي” ينبغى أن يعالجوا “بالعربي”
(ب) التميز الثقافي، للشعب ككل، وللثقافات الفرعية أيضا حيث مريض”قنا” غير مريض “رشيد” ومريض “دهب” غير مريض “الضبعة” ناهيك عن مريض “صنعاء” مقارنة بمريض “المظاطـلي” مركز طامية. أو أم جمص مركز ملوي.
(جـ) الأدوية الرخيصة: (لم تكتف العولمة وسياسة السوق بترويج أدوية -قد تكون أقل أعراضا جانبية- لكن ثمنها يبلغ عدة آلاف أضعاف ثمن أدوية رائعة ظلت تعالج الناس بنجاح نصف قرن من الزمان، بل صـاحـب هذا الترويج لهذه الأدوية الجديدة الباهظة الثمن سحب الأدوية الرخيصة أصلا من السوق ـ المصرى على الأقل)
(ء) العلاج النفسى العملى والموجز:الذى يركز على فاعلية العلاقة الإنسانية، ويقاس بإعادة التوجه إلى “العمل” فى “رحاب الناس” بكل ما تعنيه كلمتا “العمل” والناس”، وذلك بديلا عما يشاع من أن العلاج النفسى هو بحث عن الأسباب لإزالتها،
(هـ) وأخيرا (الذى هو أولا)، بالتدريب الفعلى المحلي: من معلم إلى صبي، يرضع الصنعة ليحذق المداواة والمواكبة والقياس العملى والامتداد الوعيي!!!
وقد يكون مناسبا أن ننبه إلى ما آل إليه حال الطب التقليدى (النفسى غير النفسي) نتيجة لميكنة عقول الأطباء واختزال التطبيب إلى ما هو كيمياء واستقصاءات (بحوث معملية ومناظيرية وغيرها). ونكتفى فى هذا الصدد بالحديث عن مثال واحد صارخ يعلن ـ ضمنا ـ تراجع الطب التقليدى عن أداء دوره الأشمل، ولكنه فى نفس الوقت يعرض بديلا أفشل، ألا وهو ما يسمى “الطب البديل”،
[3] عن الطب البديل
إن موجة ما يسمى “بالطب البديل” بكل إيجابيات ما يعـلن، وسلبيات ما ينتهى إليه، هى موجة تشير إلى ما آل إليه حال الطب عامة والطب النفسى ضمنا، إذ يبدو أن الناس على مختلف درجات وعيهم وتحضرهم وعلمهم قد ضاقوا بمحدودية الطب التقليدى الحديث. يظهر ذلك فى بلاد الغرب تحت عناوين مختلفة مثل “المعالجة المثلية” (وداونى بالتى كانت هى الداء) والعلاج بالطاقة، والعلاج بالتنويم، والعلاج بالمغناطيس، كما يظهر فى بلاد تختلف درجات تحضرها فى الممارسات التقليدية (السلبية والإيجابية) مثل العلاج بالإبر الصينية، وبالرقي، وبالقرآن، وبالجان، وبفض الجان، وبالأعشاب،
كل هذا ينبه بشكل أو بآخر أن على الطب النفسي-أكثرمن أى فرع آخر- أن يستوعب ماهية العامل المشترك الأعظم فى كل هذه الممارسات البديلة، وألا يفرح بعودته إلى حظيرة العلوم العصبية التشريحية الكيميائية وكأنه ناشز مطلوب فى بيت الطاعة، مهما بدا أن ذلك يمنحه لافتة علمية ألمع، أو يسمح له بالانضمام إلى نادى أطباء التداوى المميكن.
إن ثمة أساسيات قد تغافلها الطب المعاصر،ومن ثم الاختزال، فظهر الطب البديل.
أولا: إن فهم الطبيعة عامة، والطبيعة البشرية خاصة، هو المدخل إلى فهم الصحة والمرض، وهذا ما بدا أنه يتراجع بعيدا عن بؤرة اهتمام كليات الطب، وتدريب الأطباء،
ثانيا: إنه لا يمكن فهم الطبيعة البشرية بعيدا عن الطبيعة المحيطة بما فى ذلك الطبيعة الكونية.
ثالثا: إن استعادة توازن الطبيعة كما خلقها الله لا يتم بمجرد إدخال جسم غريب (الدواء) إلى تركيبها بقدر ما يتم باستعمال هذه الإضافة الكيميائية فى منظومة أشمل:
(ا) إما لإبطال سبب شاذ أقحم على الطبيعة (ميكروب أو تسمم أو أذى من إصابة)
(ب) وإما لضبط نشاط زائد جامح لأحد جوانب الوجود (مثل النشاط المستقل غير المنضبط لانقسام خلية أو عدد من الخلايا بعيدا عن سياق باقى الخلايا = السرطان، أو مثل نشاط المخ الأقدم بعيدا عن سيطرة المخ الأحدث فى حالة اليقظة = اضطربات الذهان المختلفة= الجنون).
رابعا: إن استعادة توازن الطبيعة، كما خلقها الله، يكون-أساسا- باستعادة التصالح بين مستوياتها المختلفة. وقد تخطت مسألة “التوازن الحيوى بمعنى استمرار الحال على ما هو عليه (الهوميوستازس Homeostasis)، إلى التوازن المتذبذب النابض الجدلى لتخليق تركيبات دائمة الترقى على مدارج التوازن الخلاق بما يشمل الدوائرية، والتوليدية التركيبية. .Cyclicity &Morphogenesis وبهذا المفهوم للتوازن نتذكر مستويات التوازن التى تحقق الدرجة المناسبة من الصحة على الوجه التالي:
(ا) مستوى التوازن بين الجسد وأجزائه بعضها مع بعض بما فى ذلك الحفاظ على درجة ما من “الاستقرار المتوازن النابض المتخلق فى آن”.
(ب) مستوى التوازن بين الجسد والفكر (والنفس عامة).
(جـ) مستوى التوازن بين الإنسان (الفرد) والآخر (الفرد).
(ء) مستوى التوازن بين الفرد والمجتمع (الجماعة / المجموع: أمراض التكيف الاجتماعية والنفسية).
(هـ) مستوى التوازن بين الإنسان والطبيعة الحية المحيطة (الهواء والشمس والزهور والثمار والشجر والبحر)
(و) مستوى التوازن بين الإنسان والكون (الوعى الكوني- الغيب الإيجابى -الإيمان- الله.. إلخ)
وطالما تنازل الطب الحديث عن هذا الفهم الأشمل والأعمق فسوف يتمادى ظهور ما يسمى “الطب البديل”.
ولكن: هل عوض هذا الطب البديل هذا القصور الذى تورط فيه الطب التقليدى ؟
إن هذا الطب البديل لم يواصل أية مسيرة إيجابية ليساهم فى سد نقص الطب التقليدي، أو فى التنبيه على ضرورة العودة إلى “فن اللأم” The Art of Healing بإضافة الجزء الفنى الحرفى إلى الجزء المعلوماتى الميكني، بل إنه أصبح بديلا ينتهج نفس أسلوب التجزيء والاختزال الذى نأخذه على الطب التقليدي، فأغلب الممارسات ـ مثلا ـ لما يقال له:المعالجة المثلية (الهوميوباثي) لا تحقق “إعادة التصالح مع الطبيعة” وإنما لجأت إلي، أو قل انتهت إلي:
ا) استبدال دواء بدواء (المعالجة المثلية أصبح لها أكثرمن خمسين ألف مادة تستعمل فى التداوى بتخصص تفصيلي) أو: [ملحوظة: الباء تدخل على المتروك]
ب) استبدال شيخ (أو قسيس) بطبيب، أو:
جـ) استبدال طبيب باطنى أو أعصاب أو طبيب نفسى مميكن بطبيب نفسى شامل حكيم قديم.
وبالنسبة لهذه النقطة الأخيرة فإن أغلب الطب النفسى الأحدث راح يتنازل عن كل ما يميزه ليقبل ما انتهى إليه اختزال الطب عامة إلى الطب الآلاتى الكيميائي، وليس أبدا النموذج الطبى كما عرفه التاريخ.
لقد كان المأمول- عندما استقل الطب النفسى عن طب الأعصاب أن يقوم هو بكل إيجابيات ما ينادى به الطب البديل حاليا، لكننا فجأة ـ ربما ليس فجأة تماما، وإنما بتدبير منظم من نشاط شركات الدواء الدعائى شاملا النشاط المؤتمراتى والتسفيرى ـ وجدنا أنفسنا نسخة مشوهة من زملائنا الأفاضل أطباء الأعصاب الذين لم يدعوا أبدا أنهم مختلفون عن سائر فروع الطب البدنى التخصصى المحدد المهمة مثلما زعم ويزعم أطباء النفس.
[4] عن الألفية الثالثة والخطر القادم
إن أهم ما نبهت إليه هذه الموجة المسماة العولمة (أوالكوكبية) هى أن المصيبة القادمة، نتيجة لغباء ما يجري، لن تقتصر على الفقراء، أو المتخلفين، أو المهزومين، أو الضعفاء، فلن يستطيع أحد أن يوقف آثار خطأ تاريخى محتمل، مادامت الأمور تنتشر بهذه السرعة، والحوار يزيف إلى هذه الدرجة، والتسطيح يتمادى بهذه البجاحة، إن العالم فى خطر حقيقي، وهى مسئولية كل فرد على حدة، ولن ينجينا أن نتهم أمريكا أو الشركات عابرة القارات أو سوق المال أو سوء استعمال ثورة التوصيل والمواصلات، إن المسألة أخطر وألزم بثورة شاملة ومختلفة تماما، وأول خطوات هذه الثورة هو الانتباه إلى الخداع الجارى تحت أسماء براقة وجميلة، وثانيها هو الحرص على توصيل رسالة إلى الواقعين فى خطأ تدمير غيرهم أنهم أول الهالكين. لننتبه أنه:
1- إن الديمقراطية الغربية ليست هى النظام الأمثل، لكنها النظام المتاح مرحليا.
2 ـ إن الديمقراطية الغربية ليست مرادفة للحرية، وإنما هى تحت رحمة من يملك وسائل الدعاية وغسيل المخ أسرع، وأكثر استسلاما (لا أكثر بياضا، ولا أكثر نقاء)
3 ـ إن ثورة التكنولوجيا أصبحت بديلا عن العلاقة المباشرة بين الناس بعضهم وبعض، فبدلا من أن تسهلها وتنميها باعدت بين الناس واختزلتهم.
4 ـ إن زعم “قبول الآخر” أصبح نوعا من التسكين التسوياتي، أكثر منه دعوة إلى تقمص الآخر للاستفادة من الاختلاف إبداعا وتكاملا (التنوع الخلاق).
5- إن اختزال مناهل المعرفة إلى مستوى العقل الظاهر بواسطة البرامج الأكثر اختزالا ووضوحا يتم على حساب تاريخ المعرفة وثبوت نفعها من مناهل أخرى متكامل مع، وليست بديلة عن، العقل الظاهر. ومن ذلك بعض ما تمارسه الأحياء جميعا من أساليب المعرفة التطورية (التى حافظت على بقائها قبل ظهور العقل بصورته الحالية)، والمعرفة الإيمانية والمعرفة الفنية.
6 ـ إن تولى الذى يملك أكثر (يملك السلاح، والمال والدواء ووسائل الدعاية وحق الفيتو) توليه الوصاية على تعريف ما أسماه “حقوق الإنسان”، ثم الوصاية على تنفيذها بمقاييسه هى صياغة للعالم بمفهوم مواثيقى مكتوب بديلا عن البحث فى ماهية الإنسان واحتياجاته على كل المستويات، حتى نعرف أى حقوق هو يحتاجها أصلا.
7 ـ تسرى نفس المخاوف بشأن تعيين مجلس حسبى مشبوه للوصاية عى تصرفات الدول والناس فى مسألة اضطهاد الأقليات وممارسة التعصب.
[5] حاشية عن مصر وقانون الجمعيات والسياسة
إن كل القضايا التى عرضت فى هذه الافتتاحية ـ مثلا ـ وهى من أهم ما تحمل همه هذه المجلة، فما العمل وكلها تحتاج إلى العروج إلى بعض السياسة ولو بلغة تطور الإنسان وصحته النفسية وحتمية تطوره، وهل يتطور إنسان فى فراغ؟ فالجمعية التى تصدر هذه المجلة اسمها للتذكرة (جمعية الطب النفسى التطوري، والعمل الجماعي). ربنا يستر.
[6] هذا العدد (المزدوج)
من الطبيعى أن يتوقع القاريء أن يشمل هذا العدد (/العددين) تعويضا لافتقاده العدد السابق. وقد حرصنا على ذلك بشكل أو بآخر:
فتمتد الافتتاحية عبر مختلف المحاور التى يدور حولها صدور هذه المجلة منذ عشرين عاما، وكأنه العدد الأول!! ونعتبر ذلك جيدا (فى الأغلب).
ويمثل موضوع الأخلاق محورا أساسيا فى المقال الافتتاحى الذى فضلنا أن يكون كذلك بدلا من جعله افتتاحية ثانية، فهو بداية دراسة ممتدة، موثقة، مثيرة، وعميقة، وهى تحتاج من القاريء، وكل من يهمه الأمر، أن يبذل جهدا جادا فى استقبالها، وأن يبذل جهدا أكبر فى الحوار معها، ولعل هذا ما ينتظره كاتبها زميلنا فريد زهران، لنشجعه على مواصلة رسائله المقلبـة والهامة، (كما وعد فى نهاية المقال).
ولعل مقال سامح عبود عن “الأساس الأخلاقي” للاشتراكية العلمية هو استجابة مواكـبة لهذه الدعوة التى تؤكد تصدينا لفتح ملف الأخلاق باعتباره من أكبر إشكالاته وخاصة فى المواجهة مع المحور الموازى الأكثر تحديا وعرضة للتشويه، وهو “الدين والتدين والإيمان” (ليسوا واحدا)،ليـشملوا معا منظومة القيم الشعورية واللاشعورية التى تحدد كلا من غائية وجود وماهية هذا النوع من الأحياء المسمى “الإنسان”
ويواصل د.أحمد صبحى منصور إنارتنا بطريقته الهادئة الموثقـة، المفيقة المثيرة للجدل طبعا، وهو يكمل المقارنة بين مراتب ومراحل الاستنارة الحديثة فى الإسلام.
ولا نعلم أين يقع ما أسميناه “استلهام النص” (من النفري) بين الأخلاق والاستنارة والتدين والإيمان، لكنه على أى حال ليس بعيدا عن أى من ذلك ، وليس مرادفا، وليس سهلا، لكن واقع استمراره من مشاركين مختلفى الديانة هو فى ذاته رسالة تستأهل النظر فى كيفية النهل مباشرة من النصوص الخالدة، أو بسبب النصوص الخالدة.
وفى مجال النقد يشرفنا أن نبدأ – ربما بعد أن افتقدنا إسهامات الصديق عصمت داوستاشى – قراءة فى فن الصدفة الذى قدمه جميل شفيق، وذلك بقلم الناقد محمد حمزة.
ونعتذر مؤقتا عن مواصلة القراءة المشتملة لأصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) واعدين بالعودة قريبا، فنقرأ فى هذا العدد مجموعة قصصية متميزة لأديبة شابة هى منال القاضى (يحدث أحيانا).
ثم يحضرنا من الشعراء الشباب خاصة، كذلك بعض الزملاء القدامى والجدد الذين تتميز بحضورهم هذه المجلة.
وفى مجال التخصص يقدم هذا العدد جمعا من الموضوعات الجديرة بإعادة النظر:
فيواصل د. عادل مصطفى تعريفنا بمزيد عن علم النفس الوجودي.
ثم يقدم باب حالات وأحوال مدخلا جديدا للتعرف على دور الحزن الإيجابى فى العلاج النفسى الجمعي.
كذلك نستلهم من موال شعبى (باب مثل وموال) بعض جوانب ماهو “العلاقة بالموضوع” والموقف من الانفصال عنه (الفراق).
ونقرأ معا، ناقدين، مصطلح “النموذج الطبي” الذى اختزل وأسيء استعماله لصالح السوق وليس لصالح المرضي، وأخيرا يقدم د. أحمد حسين بعض ما استـحدث من الإضافات العلمية حول العلاج النفسى القصير، وكذلك ينقد أبحاث “التحصيل حاصل” مثل البحث المقدم عن أهمية التاريخ العائلى فى التنبؤ بمآل سير المرض النفسي، (الاكتئاب خاصة).