نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 19-10-2015
السنة التاسعة
العدد: 2971
حالات وأحوال
استهلال:
هكذا نعود إلى تقديم باب “حالات وأحوال” تبادلا مع “التدريب عن بعد” كما وعدنا الأسبوع الماضى، فتغلب المادة الإكلينكية والعملية على معظم أيام النشرة بشكل لا أعرف مدى تقبله عند كافة الأصدقاء، وإن كنت قد لاحظت أن أفكارى، وفروضى، ورؤاى الطبِّية، يتقبلها ويدركها غير الأطباء، وغير النفسيين أكثر من المختصين، ما علينا دعونا نواصل تنفيذ الاقتراح، خاصة بعد أن أظهر بريد الجمعة الماضى مدى الترحيب الجاد بعودة باب التدريب عن بعد، ولا أعرف إن كانتعودة باب حالات وأحوال سوف تلقى نفس الترحيب أم لا، خاصة وقد واجهت صعوبات كثيرة جدا، وخطرت لى محاذير بلا حصر، أود أن أعرض أحدها اليوم، ثم أؤجل الباقى حين تظهر أولا بأول:
أول هذه المحاذير هى أننى سوف أقدم الحالات (كما فى فى باب التدريب عن بعد) باللغة المصرية العامية، الأمر الذى يشعرنى بالحرج لأننى أفضل التواصل مع ثقافتى العربية الأوسع، لكن ما باليد حيلة: هكذا يتكلم مرضاى، وهم يمرضون بلهجتهم، فيعالجون بها، لكن ما يبرر لى المضى قدما فى هذا الاضطرار هو أملى أن تكون الأفلام والمسلسات المصرية قد قامت وتقوم بالواجب فى كسر هذا الحاجز (المزعوم) إن شاء الله.
الحالة:
من محمد “طَرْبَقـْهـَا”، إلى محمد “فرْكِشْنِى”،
إلى محمد “دِلْوَقـْتِى”
مقدمة:
- تستعمل كلمة “طَرْبَقـْهـَا” بمعنى حطـّمها وكسرها وأتلفها، لكنها تستعمل عند “الصنايعة” المصريين المهرة بمعنى إيجابى يكاد يفيد عكس ذلك تماما، فهم يستعملونها تعبيرا عن سرعة الإنجاز ومهارة “تقفيل” مهمة معينة بسرعة فى وقتها أو حتى قبل موعدها، وقد كان مريضنا، واسمه محمد، يتصف بكل هذه الصفات الإيجابية حالة كونه يعمل نقـّاشا، فسمى كذلك “محمد طربقها”: اعترافا بقدراته على الإنجاز المتواصل وهو يصل النهار بالليل لينتهى من عمله، ويزيد بعض الشىء من أجره وهو فى أمس الحاجة إليه، وكان الأسطوات والمقاولون يتنافسون لتشغيله لهذ الأسباب حتى أُنْهـِك، وقد أطلقوا عليه هذاالاسم اعترافا بجلده وقدراته، وكان هو فخورا بهذا الاسم ممتنا حين نناديه به، حتى وهو فى مرضه، لهذا سوف نلاحظ أن المعالج الأساسى كان يناديه به مرارا أثناء اللقاءات والحوارات العلاجية
- أما “محمد فركشنى“، فهو الاسم الذى أطلقه المعالج أثناء حواره مع محمد، ربما بغرض أن يبين له كيف أنه لم يستطِعْ أن يواصل مثابرته وإنجازاته حتى أنهك، فاضطـُرّ داخله أن يختار هذا التفكك البادئ الذى يبدوا أنه لحقه بميكانزمات مرضية أخطر: بتكوين الهلاوس والضلالات التى سيأتى ذكرها فى عرض الحالة ومتابعتها، فاستعمَل المعالج ضمير المتكلم “فركشْنـِى” وليس ضمير الغائب (فركشْهَا قياسا على طرْبَقْها) ربما ليوصّل لمحمد أنه حين لاح له المرض، فرضىَ به كاستراحة لم يكن يعرف مدى خبثها (كل ذلك تم باختيار أعمق بلا وعى ظاهر) كان ذلك باختيار نسبى، أى أنه حين اختار أن يتفكـَّكَ ليلتقط أنفاسه، كان يتصور أنه تفكيك إلى رجعة يعاود فيها الكفاح بطريقة أكثر رحمة ورؤية، لكن الأمر خرج عن حدود اختياره بدرجة اضطرته إلى اللجوء إلى مزيد من الميكانزمات الخطيرة لتحقيق درجة من التماسك – مهما كانت مرضية – درجة قد تمكـِّنه – ولو مرحليا- أن يؤجل التدهور، وقد أجلت التدهور فعلا (المآل السلبي)، لكنها شكلت مرضا خطيرا جاثما فى نفس الوقت.
- ثم يأتى اسم “محمد دلوقتى” وهو مفاجأة هذه الحالة ، و كلمة “دلوقتى” فى العامية المصرية تعنى “حالا” و “فورا” و”الآن” معا،.
إن الذى صكّ هذا الاسم كان أحد أفراد المجموعة العلاجية التى التحق بها محمد فور خروجه من القسم الداخلى، وحكاية صك هذا الاسم جرت كالتالي:
كان محمد يصرّ من أول مقابلة مع المعالج أنه يريد أن “يرجع زى الأول“، أن يعود كما كان، وكان عنده حق طبعا، خصوصا مع تقدير زملائه ومعلميه له “كماكينة عمل” بالوصف السالف الذكر، وكان المعالج يصر أن الهدف الأولـَى أن نسعى إليه، والأضمن لتجنب النكسة، هو ان نستفيد من خبرة المرض لنخرج منها بموقف آخر من الحياة والعمل والعلاقات، موقف له عمر افتراضى أطول وبُعدٌ إنسانى أعمق، وكان محمد يوافق ويتمنى ذلك بداهة، لكنه سرعان ما يعود للإصرار على رغبته فى أن يعود “كما كان“، وحين ينبهه المعالج أن ما كان, هو ما يمثله “محمد طربقها” وهو الذى أدّى إلى ما نحن فيه من كسرة ومرض ومعاناة، كان محمد يقاوم مقاومة شديدة ويصر عادة – فى نهاية النقاش – على أن يرجع كما كان: “محمد طربقها”.
وانتقل هذا الخلاف والحوار من اللقاءات والحوارات الثنائية مع المعالج إلى المجموعة العلاجية، وكان التركيز على رفض التفكك والدفاعات المترتبة عليه، أى رفض محمد فركشنى، أى رفض المرض، لكن فى نفس الوقت كان تنبيه المعالج المستمر يشمل أيضا رفض العودة “كما كنت” مثلما يصل محمد، لأنه – كما يكرر المعالج- هو الذى أدى إلى اختياره “الفركشة “، وكأنها سوف تريحه:
تكررت العودة إلى هذه الحيرة فى المجموعة العلاجية وشارك فيها معظم الأعضاء، وبدا أن التوجه العام كان لمحاولة الوصول إلى حل يحقق الاحتفاظ بميزات “محمد طربقها” فى الإنجاز والالتزام والكسب والمثابرة، وفى نفس الوقت يحقق له حقه فى الرؤية، والتقاط الأنفاس، والاحترام والحب بديلا عن التصفيق الذى يصاحبه تكليف أشق وأشق، ولم يبد فى الأفق حل سهل، فرُحنا نبحث عن احتمال وجود بديل بعيدا عن هذا وذاك وليكن: “محمد الثالث”
هكذا بدا أن الوعى الجمعى، وليس المعالج فحسب، يحاول الإسهام فى تخليق “محمد الثالث” هذا، دون الاستسلام لما يبدو حلا وسطا بين محمد طربقها ومحمد فركشنى، وظهرت اقتراحات مثل: “محمد بس” (بدون طربقها ولا فركشنى)، وخفنا أن يكون هذا حل سلبى، مع أنه كان أقرب إلى ما هو طبيعى، فمحمد هو محمد، دون أن يضطر إلى أن”يطربقها”، ودون أن يفشل حتى “يفركش” نفسه هكذا.
ظهر أيضا من بين الاقتراحات التى لاحت لنا بعد ألعاب درامية (مينى دراما مع محمد، وغيره)، وأعتقد أنه هو شخصيا كان صاحب هذا الاقتراح(1) وهو أن نسمى محمد الثالث الذى نسعى إلى تخليقه فى المجموعة “محمد طربقها الجديد“، وكانت مبررات اختيار هذا الاسم هو أنه مع إصرار محمد على “أن يرجع زى ماكان”، فيسمح لنفسه – من خلال سماحنا له- أن يعود “يطربقها”، ولكن بطريقة جديدة، ومن ثَمَّ الاسم الذى يحبذ الرجوع إلى التمسك بكفاءته وإخلاصه فى العمل لكن دون إنهاك أو اغتراب حتى الكسر، وهذا هو “الجديد”، إذ يكون قد تعلم من خبرة المرض ما يجعله فعلا: “محمد طربقها الجديد”، لكننا وجدنا الاسم طويل، وغامض فى نفس الوقت، وبرغم المنطلق السليم وراءه، إلا أنه غير صالح للاستعمال.
وفجأة، ودون توقع، ونحن فى بؤرة الحيرة انطلق شاب ممن المجموعة، متوسط التعليم والذكاء، انطلق دون استئذان وأعلن أنه يسميه “محمد دلوقتى“، وفرحت بشكل شخصى فرحا غامرا إذْ لم أكن أتوقع من هذا الزميل الشاب بالذات أن يكون بهذا الوعى والإبداع، فهو قليل المشاركة، بل وكنت أحسبه باهت الانتباه، فرَِحت به وبالاسم ليس فقط لأنه حل لنا إشكال الحيرة، بل لاننى عرفت من خلال قيام هذا الشاب بصكّ هذا الاسم أن رسالة هذا العلاج تصل إلى الأبسط فالابسط من الناس بطريقة سَلسِلَة نكاد لا نتبينها، وعرفتُ، وتأكدت أن قيمة وفاعلية مبدأ “هنا والآن” الذى نلتزم به فى المجموعة تصل إلى أفراد الجماعة رويدا رويدا حتى تصبح صالحة لأن تصف ما يتخلق منا كجماعة، ثم كل على حدة، وأنها أرضية شديدة الخصوبة لإثمار تميز إبداعى (أعنى أبداع الشخص العادى على مسار نموه وهو يؤلف بين مستويات وعيه دون قصد ظاهر).
وعلى الرغم من غرابة هذا الاسم “محمد دلوقتى” (أكثر من سابقيْه) فإن أحدا فى المجموعة لم يعترض عليه، ولم يسأل عن أسباب صكّه، ولا مبررات أو كيفية استعماله، ولم يحاول المعالج القائد أن يطرح أى مناقشة حول ذلك برغم فرحته بدلالة ما حدث هكذا، وخاصة وأن مريضنا نفسه قد قـبـِل الاسم بقبول حسن، وفرحة بادية.
لكن ظلت معالم “محمد دلوقتي” غير محددة لأى منّا، ويبدو أن الوعى الجمعى قد اعتبر أن ما يقوم به هو المشاركة فى عملية “التخليق الدائم”، وهو التعبير المفروض أن توصف به العملية المحورية فى كل إبداعات التطور والنمو.(2)
وهكذا ظلت معالم “محمد دلوقتى” غامضة على الجميع بما فى ذلك صاحب الاسم، حتى قائد المجموعة، لكننا استعملناه فى جلسات المجموعة بعد ذلك بنجاح، وقد اعتبرت أن هذا الغموض فى حد ذاته هو دليل على سلامة ما نحن فيه ونحاوله، وأننا لم نستسهل الوصول إلى حل سهل نصائحى، لنوفق تلفيقيا بين المحمّدين “محمد طربقها” و”محمد فركشها”، وإنما يتخلق “محمد دلوقتى” بالتعتعة والمشاركة والمعية وتنشيط الوعى البينشخصى وتخليق الوعى الجمعى وتحفيز جدل بيولوجى إبداعى مستمر: فى جو من السماح المتواصل مع سائر دوائر الوعى الممتدة إلى المابعد.
محمد طربقها: هو المثل الواضح لمواصلة الكفاح اليومى المغترب جزئيا على الأقل، مع ضعف الاعتراف والرؤية والعلاقاتية والسماح، لكن يبدوا أنه إن آجلا أو عاجلا يمكن أن “يطربقها” (بالمعنى السلبى) على دماغ صاحبه إذا لم يضبط الجرعة.
محمد فركشنى: هو الحل المرضى بالكسر وفرط التفكك نتيجة للإنهاك والنسيان والتهميش والتصفيق الاستغلالى، وهو ليس حلا إلا إذا كان العجز والتدهور يعتبر حلا.
محمد دلوقتى: هو الكيان الذى يتخلق “هنا والآن” أثناء العلاج الجمعي (وطبعا أثناء رحلة النماء السليمة طول الوقت) وهو يتخلق من الجدل بين النقيضين نتيجة لتنشيط الوعى البينشخصى، واحتواء الوعى الجمعى لوعى المشاركين فى مسيرة الكدح وحمل الأمانة.
وبعد
أكتفى اليوم بهذه المقدمة، وأختمها بتقديم هذا اللعب التخطيطى فى الأشكال التالية، دون تعليق، لأننا غالبا سنعود إليها فى مواضع لاحقة مع تقديم الحالة بإذن الله، لكننى آمل الآن أن تعين هذه الأشكال فى قبول بعض ما حاولت أن أوصله بالكلمات.
ملحوظة: “تعمدتُ تركيب الشكل التوضيحى على مجموعة علاجية أخرى،
ليس من بينها المريض المعنى قصدا”. هل عرفت السبب؟؟
[1] – وأعتقد أننى سوف أرجع للتسجيلات عند عرض الحالة بالتفصيل
[2] – أول ما قابلت هذا التعبير كان فى مرجع بالإنجليزية ينبه إلى رفض ما يسمى الشخصية القوية لصالح تدعيم الشخصية الطبيعية التى هى: always in the making وحين حاولت ترجمة هذا التعبير افتقدت الـ ing التى تتميز بها اللغة الإنجليزية، فنحتُّ كلمة من فعل معرَّف بأداة التعريف التى لا تدخل على الأفعال، فتكون ترجمة always in the making هى: “الــْيَـتـَكوّن باستمرار”، وسخر منى الجميع حتى عدلت عن استعماله مؤقّتا.