الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (56) “عن إبداع الحلم” ثلاث مستويات لنقد (قراءة / تفسير) الحلم محفوظ يكشف – غير قاصد- طبيعة الحلم (الابداع)

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (56) “عن إبداع الحلم” ثلاث مستويات لنقد (قراءة / تفسير) الحلم محفوظ يكشف – غير قاصد- طبيعة الحلم (الابداع)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد18-10-2015

السنة التاسعة

العدد:  2970

  الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:

 ملف اضطرابات الوعى (56) عن إبداع الحلم”

ثلاث مستويات لنقد (قراءة / تفسير) الحلم

محفوظ يكشف – غير قاصد- طبيعة الحلم (الابداع)

إبداع أحلام نجيب محفوظ ليست النموذج الأمثل لدراسة طبيعة الأحلام، فهى إبداع صرف حتى لو كان مصدرها أحلامه كما أقر هو وشرح كيف ذلك (نشرة الاسبوع الماضى) فهو قد شكل هذا العمل – مثل كثير من أعماله – فى حالة “وعى فائق” هو “وعى الإبداع”، وهو الذى يشمل بالضرورة وعى الحلم حتى فى الأعمال الأصيلة التى لا تحمل اسم الحلم(1) إن وعى الابداع الأصيل، وخاصة على هذا المستوى الشعرى، إنما يحتوى وعى الحلم فى حالة إفاقة حركية جدلية مشتملة.

كان قد صدر لى منذ أكثر من عام كتاب بعنوان “عن طبيعة الحلم والإبداع: دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ(2)، قمت فيها بالنقد لربع الأحلام (52 حلما الأُوَلْ) بالمنهج التقليدى، أما الباقى من (من 52 إلى 208) فقد اتبعت فيها ما اسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى”، وهو أن أترك النص يفعل بى ما يشاء، لأواصل منه ما تبينت فيما بعد أنه “حوار بينشخصى” على هذا المستوى من الوعى.

وحين أنهيت هذا العمل وتم نشرة: عدت أقرأه متلقيا وأنا أواصل الكتابة والبحث فى طبيعة الأحلام عموما (كما تابعتم)، ثم سمحت لى دار الشروق – متفضلة – بالإطلاع على المجموعة الجديدة لأحلام محفوظ قبل نشرها وهى تربو على مئتى حلم، ثم أخيرا رحت أقوم بدراسة هذه التجربة الفريدة “نعمل حلم” كما جرت – فى أحدى جلسات العلاج الجمعى – ونشرت بهذه النشرات فى الأسابيع الماضية، حين مررت بكل ذلك رحت أعيد صياغة موقفى الجديد على النحو التالى:

1- إن هذا العمل “أحلام فترة النقاهة” هو قصيده شعر ممتده.

2- إن نقد الجزء الثانى من حلم 53 حتى 208 كان تطبيقا للمبدأ الذى وصلنى من قصيدة “القوس العذراء” لأستاذى محمود محمد شاكر على قصيدة الشماخ فى قوس “إبن عامر الخضرى”، وقد كتبت فى مقدمة هذا الفصل الثالث تفسيرا لما وصلنى من أن “الشعر لا ينقد إلى شعرا”، وبالتالى يصبح النص الشعرى حتى وهو فى شكله الروائى ليس دعوة لفك الشفرة وإنما مصدر استلهام لطلاقه الابداع.

وهكذا عرفت لماذا كنت أتلقى هذه الأحلام باعتبارها  لوحات شعرية غير قابلة للنقد التقليدى والتفسير بقدر ما هى موحيه بما توحى به.

اخترت اليوم حلما واحدا كنت قد قرأته فيما سبق نشره بالطريقة التقليدية على مستويين أعيد نشرهما اليوم بالإضافة إلى القراءة الجديدة، حيث سوف أقوم بنقده بمنهج “شعر على شعر”: أى النقد باستثارة الوعى البينشخصى، لعلنى بذلك أشرح الفروق بين المستويات الثلاثة من واقع المحاولة لا التنظير.

ثلاث مستويات للنقد

أورد فيما يلى محاولاتى الثلاث مستويات لنقد (تفسير!!) الحلم رقم (11) من أحلام فترة النقاهة:

“نص: حلم 11”

“فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب علىّ أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى، وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم، التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.

المستوى الأول: بالإحالة إلى الرمز المباشر:

من السهل أن نقول إن هذه المرأة هى “مصر” (3) ثم نقرأ الحلم وكأنه رمز صريح مباشر لمصر وما يفعله بها بعض أبنائها.

هل هذا يكفى؟ هل هذه المرأة هى هى “البقرة السودا النطّاحة” التى ناح عليها الشيخ إمام منذ 1968 وهو يدندن كلمات أحمد فؤاد نجم: “ناح النواح والنواحة، عالبقرة السودا النطاحة، والبقرة حلوب….حاحا، تحلب قنطار….حاحا، لكن مسلوب……حاحا، من أهل الدار….حاحا ؟؟”…الخ.

وهكذا يبدو الرمز فى هذا الحلم أكثر وضوحا ومباشرة، فالنيل أكثر حضورا بنخيله  وطوله الفارع، وجسده الفيضان، (= الريّان!!) والناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل، ماذا يتبقى بعد ذلك لتكون هذه المرأة هى “هبة النيل”؟

هل هذا يكفى؟ هل يكون الإبداع إبداعا إذا اكتفى بوصف الحاضر رمزا، مهما بلغ إتقان التشكيل، وجمال التوليف؟ ليس عندى مانع! لكن نجيب محفوظ أبدع وأعمق من ذلك بكثير إن مثل هذه القراءة تبدو الأقرب لتفسير الأحلام بالرموز، وهذا هو ما تحفظت عليه – دون أن أرفضه – ولكنه مستوى لا يضيف إلى الإبداع، بل قد يقزّمه.

المستوى الثانى: التفسير النقدى الأعمق (النفسى جزئيا)

ثم إنى بعد تحفظى على هذا النقد، ألحقت به مستوى آخر، لكنه تقليدى كذلك، فرُحْتُ اقلب فى ثنايا النص: ألتقط تفاصيله لأخرج منه بما ينبغى أن يضيفه النقد، قلت:

أولا: المرأة هنا هى التى تنادى، وهى لم تنادِ أطفالها بالذات، هى تكشف عن صدرها وتنادى فقط، ربما هى إشارة إلى وفرة العطاء الذى فاض عنها فيضانا لا تريد بحكمتها أن ينتهى إلى البحر، فناسها أولى بعطائها، بل لعل النداء موجه لكل الناس. ينفتح العطاء ويغمر حين لا يتحدّدُ المُنَادَى (بفتح الدال) المرأة نادَت (فقط)، “كشفت عن صدرها ونادت” وهذا هو العطاء الأكرم.

 الأطفال – وليس الناس – هم الذين زحفوا نحوها وتزاحموا على ثدييها، بينما الناس كانوا “يغطون فى النوم على شاطئ النيل”، أطفال بلا حصر، مختلفو الهوية، ليسوا أطفالها بالضرورة، أما ناسها فهم نيام نيام!!. أطفال فى جماعات تتلاحق: هل هم الحكام المصريون جيلا بعد جيل؟ الحكام منذ الفراعنة وقبلهم؟ وبعدهم؟ على حساب الناس الغافلين!؟ هل هم الغزاة المستعمرون؟ حَمْلةْ بعد حَمْلةْ؟ فلماذا هؤلاء أو أولئك ظهروا  فى الصورة أطفالاً؟

ربما يتعلق ذلك بما سبق أن أشرتُ إليه عن أحد أوجه معالم الطفولة، أعنى  ضراوة الطفولة وقسوتها إذا هى انفصلت عن الفطرة المتكاملة فأصبحت البدائية لا الطفولة؟(4) هذا السعار المتتالى  جيلا بعد جيل، هو أقرب إلى سعار التكالب على السلطة، والاستغلال، والاستعمار جميعا، وفى حالتنا هذه: هى سلطة بلا قانونٍ يردعها، بلا عدلٍ يزن تصرفها: (الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم)، أن الأطفال هنا إذن يمثلون سعار “عدم الأمان البدائى”الذى قلت فيه يوماً:

من فرط الجوع التهم الطفلُ الطفلْ،……، فإذا أطلقتُ سُعارى بعد فواتِ الوقتْ، مَلَكِنَى الخوف عليكم:  فلقد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر، دون شبع” (5)

وحين يمتد الالتهام من الرضاعة إلى امتصاص وجود الأم المصدر، ثم نهش لحمها، حتى تصير هيكلاً عظمياً، إلى التقاتل بين القتلة المسعورين، فهو منظر ذو دلالتين: أولا: أنهم بدلا من أن يرعوها احتراما لكرم ندائها دون تمييز، لتظل تفيض عليهم من جسدها الريان، غلبهم الجشع والجوع الذى لا يُشبع، فذبحوا الدجاجة التى تبيض ذهبا،  ثم إن ذلك لم يَرْوهِمْ خاصة بعد أن أهلكوا المصدر الأصل عدما، فانقلبوا يتقاتلون مع بعضهم البعض حتى لاح لى أنهم انتهوا إلى أن يكونوا من أكلة لحوم البشر، لا أكثر.

هل كانوا كلهم كذلك؟ الإجابة بالنفى، لأن الذى استغاث بالراوى كان “بعض منهم ” أقبلوا نحوه لعمل المستحيل، دور الراوى هنا هكذا كشف لى عن دلالة مستقلة، فهو منذ البداية يشعر أنه ما هكذا تكون الرضاعة، وما هكذا تكون الاستجابة لكرم نداء المرأة المِعْطاء، وهو لايكتفى بهذا الحدس المتخوِّف، بل إنه يشعر بالحاجة إلى التكاتف لإجهاض هذه الجريمة المتمادية، وذلك حين خيل إليه – ومن البداية – “أن الحال تستدعى التنبيه أو الاستغاثة”،

ينتهى الحلم  -كما أشرنا- باستغاثة بعض الأطفال القتلة بالراوى نفسه “لعمل المستحيل”، لنتذكر أنه هو الذى همّ بالاستغاثة أول الحلم،

 لماذا كانت الاستغاثة بلا جدوى؟ لأنها جاءت بعد فوات الأوان: انتهت البقرة، ولم يشبع الأطفال بل ازدادوا سعاراً وتقتيلا فى بعضهم البعض. حين يصل الأمر إلى مثل ذلك، لا يكون أمامنا إلا المستحيل.

هذه الفروق الرهيفة، تقلب هذا الحلم شيئا آخر غير التفسير الرمزى السياسى الجاهز المتقدم وهو التفسير، الموازى لقصيدة “أحمد فؤاد نجم” عن “البقرة السودا النطاحة”.

أما المستوى الثالث: النقد الإبداعى باستثاره الوعى البينشخصى (شعر على شعر)، فقد قمت به الآن، وليس فى الكتاب السابق نشره حيث يقع الحلم الذى اخترته هنا (رقم 11) فى المجموعة الأولى التى تم نقدها بالطريقة التقليدية فحسب، حين رحت أترجم ما أستطيع إلى ما يَردُنى من رموز، وأحلل الأحداث والجمل والفقرات حسب ما تسمح به منظومتى المعرفية بصفة عامة، وليس بالضرورة بمرجعية نفسية خاصة.

 هكذا خطر لى أن أكمل التجربة حتى يمكن إجراء مقارنة مفيدة بين المستويات الثلاثة لقراءة نفس الحلم.

وحيث أن هذا المستوى الثالث لا يقرأ إلا متصلا بالنص الأصلى مباشرة (اللحن الأساسى)، فلا مفر من إعادة كتابة نص الحلم (القصيدة) مرة أخرى، تأكيدا لفكرة تنشيط الوعى البينشخصى وأن الشعر لا ينقد إلا شعرا (6) “التقاسيم على اللحن الأساسى”

(عذرا للتكرار، للضرورة أحكام)

حلم (11)

فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب على أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.

تقاسيم على اللحن الاساسى

…. ولم أعرف ما هو المطلوب منى بالضبط بعد أن أفرغوا المرأة من لبنها ثم من لحمها وشحمها، أى مستحيل يطلبونه وهم السبب فيما آل إليه حال المرأة التى لم تعد إلا بقايا لا تصلح لشىء، ومع يقينى بعجزى واستحالة المستحيل، تقدمت نحو الهيكل العظمى وأوسع لى الأطفال وهم مازالوا يتلمظون جوعا، ويتزاحمون، وتخيلت أن المستحيل الذى طلبوه هو أن أحيى هذه العظام وأكسوها لحما ولبنا، لتصبح جاهزه لامتصاصها ثم التهامها من جديد، وطلبت منهم مهلة فلم يسمعوا، وتمليت فى وجوهم فوصلنى جوعهم المتجدد ونهمهم المسعور، وملكنى خوف على نفسى واستدرت، وبداخلى صوت يردد “نفسى” “نفسى”، وحاولت اختراقهم عدْوا فى الاتجاه الآخر فحالوا دون ذلك، فعدت أنظر إلى الهيكل العظمى فإذا بصوت واضح يخرج من ناحيته، فأسمعه وحدى وهو يقول:

الجوع كافر،

 فقلت لها: وأنا مالى،

 قالت: أنت مَالَك!! هل هذا كلام؟!!

[1] – مثلا ليالى ألف ليلة، وكثير من قصص خمارة القط الأسود، ومعظم إبداعه الشعرى الروائى المكثف، وعند غيره مثل: أفيال فتحى غانم ، ويقين العطش، لإدوار الخراط، وكثير مما يسمى “قصيدة النثر”.

[2] – يحيى الرخاوى “عن طبيعة الحلم والإبداع، دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة نجيب محفوظ” دار الشروق 2011

[3] – حتى حميدة فى زقاق المدق قالوا – تعسفا- إنها مصر!! فما بالك بهذه المباشرة هنا؟

[4] – النشرة اليومية “الإنسان والتطور” 6-11-2007 “عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ” www.rakahwy.org

[5] –  يحيى الرخاوى “الوجود المثقوب” ديوان سر اللعبة، 1978، القاهرة، دار الغد للثقافة والنشر. (وشرح على المتن “الفصل السابع” فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979)

[6] – وليست بالضرورة بنفس آليات المعارضات الشعرية الشهيرة، مثل “البردة” وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *