نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 3-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2741
الثلاثاء الحرّ:
ثلاثة عصافير بحجر واحد (1)
رداً على سؤال عن من هم الذين ينضمون إلى داعش من المصريين بعد كل ذلك (وقبل كل ذلك).
الرد:
لا يوجد نوع معين من الأشخاص المصريين الذين يمكن أن ينضموا إلى داعش التى لم تعد لها معالم إلا الدم والظلم والعمى، أعتقد أن من يقدر أن ينضم إليهم، أو يقبل ذلك فإنه يعلن بذلك تنازله عن هذه الصفة الكريمة صفة أنه مصرى أساسا بل صفة أنه حى، وليس فقط بشر مكرم، ذلك لأنه لو تأمل قليلا بعقل متوسط، فسوف يعرف أن الذين ينضمون إلى هذه الحركة هم الذين يقبلون أن يصبحوا بعيدين عن أنفسهم وعن ربهم وعن ما أكرمهم به من عقل وكرامة ووجدان.
أنا لا أميل إلى وصفهم بصفات أمراض نفسية معينة كما يجتهد بعض الزملاء، حيث أننى أحب مرضاى وأعتقد أنهم أكثر رقة وأمانة وإيمانا من أى من هؤلاء، ثم إن وصفهم بالمرضى قد يسمح بأن نلتمس لهم العذر حتى يشفوا، أنا أميل إلى أن أعتبرهم من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأدعو لهم أن ينير الله بصائرهم، ليعودوا إليه، وإلى أنفسهم، وإلى وطنهم الغالى، هكذا بالترتيب، بعد أن يدفع المجرم منهم ثمن ما ارتكبه.
أما نوع تربيتيهم، فللأسف نحن قد افتقدنا فكرة التربية أصلا منذ أكثر من نصف قرن، وأى صغير أو شاب، أو حتى كبير، ينشأ فى ظروف التسطيح التعليمى الجارى، إن وجد تعليم أصلا، وتحت توجيه التسلط الفوقى الذى ينشا فيه أولادنا وبناتنا، سواء فى البيوت أو فى المدارس أيام أن كان هناك مدارس (إذ لم يعد فى مصر الآن شىء أسمه المدارس إلا للقادرين على التعليم الخوجاتى)، أقول إن أى فرد من كل الجيل الأصغر تقريبا قد حرمته نظم التعليم الصورى والبيوت الخالية من الأب ومن يُقيم، والتهميش السياسى كل ذلك قد حرمه من نعمة التفكير فى أبسط صوره، وحين ينقلب المخ البشرى الناقد حامل الأمانة إلى إناء فارغ، لا أكثر، يصبح عرضة لأن يملأ بأى شىء يلقى فيه مهما كان تافها أو سخيفا أو غيرمعقول، فالمسألة قديمة وغير قاصرة على فكر معين، بل على شلل التفكير أصلا، وفراغ الوجود كله، بما يجعله قابلا للتفجر والاشتعال إذا ما اقتربت منه أية شرارة من أى مصدر، ثم يأتى الإعلام فيزيد الطين بله حين لا يفعل إلى أن يزيد من عدد الكلمات المتبادلة ، ولا يهتم إلا بالإثارة والتحريض والإعلان ، دون تحريك النقد، أو تغذية الخيال أو تنمية الوعى القومى العام وليس فقط الرأى العام الصناديقى.
ثم إننى لا اوافق على اختزال أسباب الانضمام إلى داعش إلى الظروف المعيشية الصعبة، فقد تواترت ملاحظة انضمام رهط من القادرين، والمتعلمين، والمرفهين إليهم، وقد خطر لى أثناء حوار إعلامى أن الشاب المفرغ من المعنى أصلا أصبح إناءًا خاليا من نبض الحياة، بما يسمح أن يتحرك فيه نوع من الخصام مع الحياة، ودوره فيها ومسئوليته عنها، حتى لا يعود ينتمى إليها أصلا، وهنا تتحرك فى داخله – دون أن يدرى غالبا- قرارات الرغبة فى الانسحاب منها ، وهو إن فعلها إراديا إذا وصلت إلى وعيه الظاهر فهو الانتحار، وإذا لم يقدر على ذلك أو لم تصل هذه الرسالة أصلا إلى وعيه الظاهر فإن سماسرة داعش يعرضون عليه عرضا نادرا يحقق له صيد ثلاثة عصافير بحجر واحد، الأول: وعد بالبطولة مهما كانت مبنية على زيف وضلالات، فهو يعتبرها مبادئ سامية ليس لها مثيل، والثانى وعد بالجنة بما يشمل الغفران المطلق، والثالث تحقيق ذلك النزوع الغائر فى نفسه بالانسحاب من الحياة ، أى الانتحار الفردى الذى جَـبُنَ عنه غالبا، لكنه يلح غليه فيأتى هذا العرض يعفيه من عقوبته لو هو فعلها بنفسه، فتقدم له داعش الانتحار فى سياق البطولة والغفران معا بالاضافة إلى منزلته فى الجنة، فهل هناك عرض أشمل ولا أوضح من ذلك؟؟؟!!!
نحن فى حاجة إلى تصالح جذرى مع الحياة، وأن نتقى الله فى هذا النشء فنقدم له “معنى” يملؤ وجوده بما خلقه الله، غير التفريغ المتمادى من كل ما أكرمه الله به، ثم حشوه باللامعنى واللاشىء طول الوقت، هذه ثورة أخرى ممتدة يمكن بها استعادة حضارتنا وتنمية قيمة رعاية الله فى كل ما تنبض به فى السر والعلن، وأن هذه الحياة التى وهبنا الله إياها تستأهل أن نحافظ عليها فى أنفسنا وفى غيرنا.
وكل ذلك غائب عن المدارس وعن البيوت، بل وعن المساجد والكنائس فى كثير من الأحيان.
[1] – مجلة روزاليوسف