نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2724
حوار مع مولانا النفّرى (119)
مزيد من الحث على احتواء الوسوسة
يقول النفرى فى: موقف وراء المواقف
وقال لى:
الوسوسة فىّ علم من أعلام التحريض علىّ
فأقول لمولانا:
مازلتَ يا مولانا تشجعنا على قبول ما خلقنا الله به قبولا حسنا، وقد تناولت موضوع مقولة اليوم استكمالا لنشرة الأسبوع الماضى (7-2-2015 “دعوة لاحتواء الخير من الوسوسة”) لتعود بى مرة أخرى إلى نعمة التفكير بلا قيود مسبقة، حتى لو سمِّىَ وسوسة وهذا من أفضل ما أكرم الله به البشر.
نحن لا نستطيع أن نمنع المخ عن التفكير، وكثيرون ممن يطلبون مشورتى يشكون من فرط التفكير، هكذا دون إضافة، صحيح أن هناك ما هو أعمق مما دأب العلماء المحدثون على تسميته بالتفكير مثل الإدراك والوجدان المعرفى، لكننا اختزلنا المعرفة غالبا إلى ما يسمى التفكير، ليكن، فهو وسيلة مهمة على شرط ألا تكون على حساب كل قنوات المعرفة الأخرى، ثم يبدو يا مولانا أن الطبيعة البشرية، بفضل خالقها، أبت أن يحل ما يسمى التفكير محل كل قنوات التواصل وكشافات المعرفة، هذا فضلا عن ما أضَفْتَهُ لنا مما قاله لك عن علو مكانة الكشف والمعرفة من خلال الوقفة، وعن محيط المعلومات المتاحة من خلال الجهل، كوسائل عظمى لمعارف ورؤى أخرى مكملة ومتكاملة مع الكل.
حين أؤكد لمن يستشيرنى فى مهنتى أن الوسوسة ذكرٌ لله، لا يصدقنى فى البداية، لكنه غالبا يُعجب فى اطمئنان، ثم يسمح فيستعيذ فى شر الوسواس دون محاولة التخلص من الوسوسة جميعا، بل من التفكير بالمرة، وحين كتبت فى نشرة الأسبوع الماضى (7-2-2015 “دعوة لاحتواء الخير من الوسوسة”) وأنه أمرنا أن نستعيذ به من شر الوسواس، وليس من كل الوسواس، لم يصل ما أعنيه كثيرين ممن يحتاجونه.
ثم أفاجأ اليوم بدعوتك لنا لمزيد من احترام الوسوسة من منطلق جديد حين تقول ما ورد فى صدر النشرة فى هذا الموقف:
الناس يا مولانا، أغلب الناس يقصرون كلمة “التحريض” على معنى “إثارة العنف والهجيان داخل الجماعة”، وهذا المعنى لا يسمح بأن يكون للتحريض علوما فتكون الوسوسة من علومه بالمعنى السالف الذكر فيما قاله لك حالا، لكى تكون الوسوسة علما من علوم التحريض لابد أن يكون للتحريض معنى آخر، وقد وجدته حين انتبهت إلى حرف الجر “علىّ” وما بعده، هذا المعنى الآخر وجدته فى قولهم: “حرضه على الأمر: حضّه وشدد الرغبة فيه”، فالوسوسة التى تحضنا عليه تعالى هى بهذا المعنى، أقصد أنها “تحضنا وتشدد رغبتنا فيه” فنواصل السعى إليه بلا كلل، بلا جبن ولا وصاية، فيتواكب التفكير مع الإدراك مع الوجدان فى محيط مستويات الوعى المتصاعدة فنتأكد كيف هى الوسوسة أن سبيل لذكره، تقربنا نحوه، مهما صاحبها من مخاطر وآلام.
لا أحد يا مولانا يستطيع أن يكون وصيا على تفكيره، إلا أن يكبته أو ينكره، أو يمحوه أولا بأول وهو يتنكر له، وهو يتصور بذلك أنه اختفى فى ظلام ذاكرته، مع أننا نتعلم مما هو أحدث فأحدث أن الذاكرة ليست لها مخازن مظلمة داخل الدماغ، فهى ممتدة إلى كل الدماغ وكل الجسد بل إلى ما حولنا أيضا، وكل خدع النسيان ما هى الا محاولات لتخليق حجرات ظلامية، تنقص من وجودنا وتعلن عجزنا عن حمل الأمانة، حين نخبئ فيها ما نزعم نسيانه.
حين أنصح من يستشيرنى ألا يقاوم التفكير، يتعجب ويحتج بأنه لم يحضِر إلىّ إلا لأساعده على مقاومة التفكير الذى هو أحد صور الوسوسة بشكل أو بآخر، لكننى أواصل حثه ومساعدته أن يجرب، فينفعل أكثر، لكنه – غالبا – حين يحاول، يفاجأ أنه بالسماح للتفكير أن ينطلق دون مقاومة أو وصاية يتراجع كَمُّ ضغط التفكير، وأحيانا تنساب الأفكار اللحوح فى قنواتها الطبيعية تكاملا مع قنوات وأدوات المعرفة الأخرى.
حين تستعمل يا مولانا كلمة العلم استعمالات تختلف عن ما اعتدناه منك غالبا يتلقاها البعض من خلال سابق ما عودتنا وانت تحذرنا أن يحتكر العلم حق المعرفة والكشف والحدس، لكن ما وصلنى هنا عن “علوم” التحريض طمأننى ونبهنى ألا تؤخذ كلمة العلم بالذات إلا فى سياقها، والسياق هنا مختلف.
وأخيرا أنبه إلى حروف الجر ذات القدرة الرائعة على توجيه المتلقى إلى مقاصد متنوعة وأحيانا متعارضة، فما قاله لك اليوم هو “وسوسة فيه” وبنص المتن: الوسوسة “فىّ” (لاحظ الشدّة!) وهذا غير الوسوسة المطلقة العشوائية فأطمئن إلى أن للوسوسة “به” مقام آخر.
وأيضا استعمل الحرف “علىّ” فى الإشارة إلى “التحريض علىّ ” (لاحظ الشدّة أيضا!) وهذا غير التحريض على إثباته، ومرة أخرى نتذكر أن التحريض هنا هو “شدة الرغبة فيه والحرص عليه”.
وبعد
أنا آسف يا مولانا أن استطردت اليوم للاستشهاد باجتهاد معجمى، فأنا لا أحب ذلك، ولا أفضله، ولا أوصى به بالذات فى محاولة استلهام مواقفك أو مخاطباتك، لكننى اضطررت آملا فى أن أصل لمن أخاطب،
سامحنى.