نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 9-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2719
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (66)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (29)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (26)
الخاتمة:
هوامش وملاحظات:
أولا: بعد وصف الوجدانات المتاحة فى الصحة والمرض واحدة واحدة بالصفات المميزة ما أمكن ذلك، لاحظنا أننا أرجعنا كل وجدان إلى أصله التطورى ما أمكن ذلك، كما كررنا أن السواء والمرض لا يقاسان بوجود هذه العاطفة أو اختفاء تلك، وإنما بوظيفة كل وجدان فى موقعه، ووقت ظهوره، وتناسبه مع ما أثاره ومع ما يمكن أن يحققه، ولن نكرر التفاصيل ثانية لكن خطر لى أن أنبه فى النهاية على مدى ارتباط الوجدان عموما بالبعد الأعمق للإدراك كما قدمناه فى هذا الكتاب الأساس، وأيضا مدى ارتباطه بالوعى عموما، وتواصله مع مستويات الوعى الشخصية وأيضا امتداده فى محيط الوعى البينشخصى، فالجمعى إلى الوعى الجماعى، وكل هذه التداخلات بين الوظائف إن دلت على شىء فإنها تنبه إلى صعوبة (وأحيانا خطأ) الفصل التعسفى بين الوظائف وبعضها وخصوصا بعد الاتساع فى فهم وظيفة الوجدان المعرفية (العقل الوجدانى لاعتمال المعلومات، مثلا) .
إنه من الممكن من خلال كل ما سبق أن نتبين أنه ليس ضروريا أن نحدد عاطفة بذاتها تفيد فى التواصل بين البشر، ومع الموضوع عموما، وأخرى تفسد ذلك، وإنما الأهم هو أن نحيط بعموم توظيف النشاط الوجدانى فى الصحة أو فى المرض على حد سواء.
ثانيا: أود أن أنبه هنا إلا صفة لم تأخذ حقها فى وصف الوجدان السليم عموما، وهى صفة “الاستمرارية”، وهى صفة متعلقة بمدة تنشيط وجدان معين، لأداء وظيفته، فلكى تكون العواطف سليمة فإنها لا بد أن تمتد لمدة كافية تتناسب مع المثير الذى أثارها أو الموقف المتعلقة به، وأيضا تتناسب مع ما يتوقع منها كوظيفة تواصلية أو دافعية أو معرفية، وإذا لم تتوفّر هذه الاستمرارية بالدرجة الكافية فإن مجرد ظهور العاطفة كرد فعل سطحى وسريع بلا أثر باق يمكن أن يرصد فى الأشخاص العاديين وفى بعض المرضى طبعا، وهذه السطحية وقصر العمر لا يبرران وحدهما أن يدرج مثل ذلك مع اللاسواء، اللهم إلا إذا وصل إلى ما سبق أن أشرنا إليه مثلا فى تذبذب الوجدان فى مقابل تناقض الوجدان (نشرة: 18-1-2015)وقد يكون افتقاد الاستمرارية سمة من سمات الشخصية أكثر منه وصفا لاضطراب الوجدان فى شكل عَرضَ بالذات، ويصف العامة مثل هذا الشخص بأنه “هوائى”، وأحيانا عاطفى!!.
ثالثا: أنا لست متأكدا إلى متى سوف نظل نصف التصرفات الأقل مسئولية، والأكثر حرارة، والأسرع تلقائية بانها تصرفات عاطفية، وأحيانا بدائية، يحدث ذلك فى مجالات كثيرة من بينها السياسة والإعلام والتربية والدين أحيانا، فهل يا ترى سوف يظل موقفنا من الوجدان بنفس الوضع بعد أن رأينا دوره فى التواصل البشرى، والإسهام المعرفى، والإبداع، والإيمان؟
ثم ما هو الحد الفاصل بين الشطح الانفعالى، وبين استعمال الوجدان وهو يساهم فى الحدس الإدراكى، والإبداع بأنواعه، والكدح الإيمانى؟
رابعا: يعتبر “البعد الوجدانى <==> اللاوجدانى” الذى سبق الحديث عنه فيما يتعلق بفرض تعدد الأبعاد التشخيصية، بالإضافة للتشخيص التقليدى والمحاور المألوفة، من أهم الأبعاد الإكلينيكية المقترحة (1)، ونعنى بذلك استشعار الرنين الوجدانى، والدفء التواصلى، بين الفاحص والمفحوص بغض النظر عن محتوى الحوار، وعن وجود أعراض اضطرابات وجدانية بذاتها، وحين نشخص مريضا أنه “لاوجدانى” فإننا نشير إلى درجة جفاف التواصل، التى قد يصاحبها أحيانا درجة من فرط العقلانية، وهذا الذى يسمّى الرنين الوجدانى أو الصبغة الوجدانية لا تشير إلى عاطفة بذاتها بقدر ما تصف الحالة الوجدانية لأرضية الوظائف النفسية كافة، وإلى نوعية الوعى السائد والمشترك والمتصاعد ومدى كلٍّ، ويوصف المريض بوفرة هذا الرنين أو انعدامه بشكل عام دون تسمية عرض بذاته.
وقد قدمت جدولا تفصيليا فى نشرة سابقة (بالعربية والإنجليزية) “نشرة: 13-7-2014” وكانت فرصة لأدخل هذه الكلمة الولود متعددة الأبعاد “الوجدان” إلى الإنجليزية بالحروف اللاتينية Wigdanic-Non Wijdanic Dimension كما سبق أن أشرت، وقد قمت بتطبيق هذا البعد فى الممارسة اليومية، وكان أسهل وأكثر فائدة وخاصة عند الزملاء الاصغر، وكانت نسبة الخطأ فيه أقل بكثير من الاختلاف حول التشخيص التقليدى المحكَّاتى الميكنى حتى المتعدد المحاور، وقد نجح أغلب المتدربين والزملاء فى التمييز بين من هو “وجدانى” ومن هو “لاوجدانى” حتى فى المريض الفصامى المشهور عنه أنه يعانى من تبلد الشعور واللامبالاة، فقد استطاع هذا البعد أن يقربنا من عدد كبير ممن يعانون من الفصام بما فى ذلك بعض الحالات التى تظهر لا مبالاة دفاعية ظاهرة، لكن الممارس الإكلينيكى الذى يستعمل وعيه ووجدانه فى التواصل حتى مع المريض الفصامى يمكنه التمييز بما يفيده فى العلاج من البداية وأيضا أثناء التأهيل والتنشيط والمواكبة،
ومن المهم أن نذكر أيضا أننا نستطيع فى حالات كثيرة من حالات الاكتئاب أن نصنفها بأنها “لاوجدانية”، برغم وجود عرض الاكتئاب، وذلك إذا اتصفت بالمبالغة فى الانغلاق على الذات، والحديث عن الشعور بالذنب بعقلنة مفرطة، وقد سبق أن اشرنا إلى نوع من الاكتئاب أسميناه “الاكتئاب الطفيلى اللزج النعّاب” نشرة: 23-11-2014 وهو لا وجدانى كما يدل عليه اسمه السالف الذكر.
وأخيرا فإنه لا يخفى أن رصد هذا البعد يحكم على الفاحص كما يحكم على المفحوص، فكثيرا ما تكون الصعوبة فى عجز الفاحص عن التجاوب مع ما يصدر من مستويات وعى المريض بحرارة، لأن استقبال الفاحص نفسه ليس بالطزاجة أو الحضور اللازمين لأسباب مؤقتة أو دائمة.
كما أنه من المناسب أن نشير من واقع خبرتنا أننا وجدنا أن كثيرا من أنواع “اضطراب الشخصية” تتصف باللاوجدانية برغم أنها اضطرابات فقيرة فى الأعراض عموما، وإنما يتركز الاضطراب فيها فى انحراف السمات ومظاهر السلوك شبه العادية، لكن السمات الغالبة على كثير من أنواع هذه الاضطرابات: تميل إلى الافتقار إلى هذا الرنين العاطفى الذى يسمح باعتبارها وجدانية،
وأخيرا، وليس آخرا، اخشى أن أضيف أن الحياة المسماة بالعادية، فى قطاعات ليست قليلة من المجتمع قد ساد فيها الاغتراب والانغلاق على الذات حتى يمكن أن نجد تواترا لما يسمى الافتقار إلى الرنين الوجدانى، دون أن يصل إلى حد المرض، مما لا مجال لتفصيله الآن هنا.
وبعد
فقد انتهى ملف الوجدان دون أن ينتهى طبعا،
ولا أعرف أية وظيفة أساسية سوف نتناولها بدءا من الأسبوع القادم!
[1]- Yehia Rakawy: “Nosology & Diagnosis” A Special Challenge in Developing Countries. Egypt. J.Psychiat. (1998) 21:137-142. “نشرة: 13-7-2014”