نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء : 27-1-2015
السنة الثامنة
العدد: 2706
بين التطرف والتعصب (1)
1- ما الذى يلجأ شخصا ما لاتخاذ أقصى الطرفين، إفراطاً أو تفريطا، منصة لإطلاق أفكاره؟
د. يحيى:
فى مقال نشر لى فى صحيفة الأهرام منذ ثلث قرن (بتاريخ: 14-2-1980) كتبت مقالا عن “التطرف فى حياتنا الفكرية”، وقد بينت فيه خطورة الخلط بين “التطرف” و”التعصب”، بل إنى انتهزت سعة صدر الأهرام، ورحت أدافع عن التطرف، لو أنه كان موقفا لإعلان الوضوح انطلاقا لحركة مسئولة فى مواجهة آخر على الطرف الآخر، وفى نفس المقال هاجمت التعصب بشراسة باعتباره “جمودا وانفرادا وأحكاماً فوقية تدمغ المخالف لأنه مخالف”، وأثنى على هذا المقال صديق يسارى شريف، هو المرحوم: أ.د. إبراهيم صقر، الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتعجبت مندهشا كيف غابت عنه هذه الفكرة، كما تعجب هو كيف انبريت أدافع عن تطرف آخر بهذا المعنى السالف الذكر.
2- من الوجهة النفسية… فيمن يكمن التعصب.. وهو ما نسمية التطرف الآن؟، فى الشخص المتطرف أم فى البيئة الحاضنة؟ أظن أن العقل التقليدى هوالمحرض على بزوغ العقل الإرهابى؟
د. يحيى:
قلت فى نفس المقال إن التطرف عادة ما يكون بالنسبة للمواقف و الأهداف … أما التعصب فهو عادة ما يكون بالنسبة للوسائل والأشخاص … نبينا الكريم كان متطرفا حين قال معنى: والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما فعلت، ولكنه لم يكن متعصبا حين قال: ..ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمنًً .. اذن فمن الشرف والفخر ان أتطرف للحق، ومن الجبن والعار أن أتعصب مكابرا جامدا، من الشرف ان أتطرف فى توحّد اتجاهى إلى وجه الله أويقينى بحتم الايمان ضرورة بيولوجية، ومن العمى أن أتعصب لطقوس مذهب دينى بذاته أو تفسير بشرى تاريخى، باعتباره الصواب الأوحد فى كل زمان ومكان
3- كيف نعالج الأفكار المتطرفة؟
د. يحيى:
المصيبة ليست فى الأفكار المتطرفة القابلة للحركة، وإنما فى المواقف المتشنجة المتجمدة، وقد ورد فى نفس المقال- والفضل لشجاعة الأهرام- أنه من الشرف ان أتطرف فى تحيزى للحركة المتصاعدة ضد السكون الميت المستسلم، ولكن من العار أن أعتبرالحركة المادية كما وصفها ماركس وطبقها ستالين هى الطريق الوحيد الموصل، وعلى نفس القياس قد يكون من الكرامة أن أتطرف فى دفاعى عن الحرية ضد ماسواها، ولكن من الغباء والتعصب الأعمى أن أرى الحرية فى شكل ديمقراطى صورى كل مايفعله هو أن يتيح الفرصة لديكتاتورية مبرمجة بإعلام خبيث، ما دامت تمارس التمييز وغلبة عقل القطيع والتمادى فى استغلال انفعالات دينية بدائية.
4- المبدع.. أهو، بالضرورة، متطرف؟
د. يحيى:
سبق أن عبر أستاذنا العقاد عن روعة التطرف وجمال حركيْته الباعثة للحياة حتى ولو كان تطرفا فى التشاؤم، وذلك وهو يدافع عن سوداوية المعرى وشوبنهور بالمقارنة بالبلادة وعدم الأكتراث اللذين يسودان العصر الحاضر أيام العقاد (فما بالك الآن)!!!؟
المبدع المتميز مثل العقاد والمعرى وشوبنهاور هو علامة مضيئة تمثل التطرف الإيجابى الخالق، أما الذى يمسك العصا من الوسط فلا هو يبدع ولا هو يتحرك، فهو ليس متطرفا ولا متعصبا، وهو “ليس بشئ” “مسيخُّ مليخُّ كطعمِ الحوار، فلا أنت حلٌو ولا أنت مر”!!!، ينبغى أن نتعامل مع منطقة الوسط بحذر، نقبلها فقط حين تكون منطقة انطلاق، حتى فى لعب الكرة فإن قيمتها تتوقف على صناعة الألعاب التى تتجه الى المرمى حتما، أما الاحتفاظ بالكرة فى الوسط فلا يمكن أن يحقق أهدافا، وأى مرمى هو فى “طرف” الملعب هنا، أو هناك (أليس كذلك؟).
5- على ذكر الإبداع.. من من المبدعين ترى فيه المتطرف المثالى، إذا جاز التعبير. أعنى المتطرف النافع؟
د. يحيى:
ذكرت فى إجابة السؤال السابق أمثلة مثل العقاد وشوبنهار والمعرى، طبعا أضيف ديستويفسكى ونجيب محفوظ وفان جوخ، بصراحة أريد أن أضيف المتنبى أيضا برغم عتابى عليه فى نوع علاقته بسيف الدولة، بالرغم من أن شيخى نجيب محفوظ برر لى ذلك أنه كان بمثابة وزير إعلام ولى الأمر.
6 – الشخصية المصرية، بحكم الجغرافيا على الأقل، بنت التوسط والاعتدال.. أسألك عن مستقبل التطرف.. كيف ترى الغد؟
د. يحيى:
من الذى قال إن الشخصية المصرية بنت التوسط والاعتدال، كل هذه إشاعات يبطلها التاريخ الأعمق والرصد الأدق، هذه الشخصية التى عبدت الله ووحدته حتى قبل الأديان السماوية، هى التى بنت الأهرام رمزا للحضارة وتناسقا مع أفكار الكون، فالأهرامات ليست قبورا للطغاه كما يشاع، وإنما هى تناغم هندسى تشكيلى فى تناسق مع رنين أفكار الدنيا والتاريخ، هذه الشخصية المصرية المبدعة لا يمكن أن تكون شخصية وسطيه ماسخه، لا بحكم الجغرافيا ولا بحكم التاريخ.
الشخصية المصرية ليست ممثلة للتوسط والاعتدال ولا هى بنتُهما، أنا ضد ما يسمى الوسطية بالمعنى الشائع، حتى حين يصفون بها الاسلام، فالاسلام دين الاجتهاد واستلهام الوعى الكونى كدحا إلى وجه الله، وهذا الكدح ليس وسطيا، أما وصف الاسلام بالوسطىّ لأنه بين المسيحية واليهودية مثلا فهذا تفسير تلفيقى، المسلم الحقيقى مبدع أساسا، يستطيع أن يحتوى الاضداد، فهو يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله و لا يفرق بين أحد من رسله، وهذه ليست وسطية وإنما شجاعة الاحتواء وزخم الجدل، الله جعل المسلمين أمة وسطا حالة كونهم شهداء على الناس، والشهادة هى فى جوهرها عمق الإدراك والوعى المتبادل، وليست موقفا وسطا مائعا رخوا.
أما عن كيف أرى الغد، فإنى مصاب بمحنة التفاؤل المزمن المسئول، حالة كونى أساهم فى تحقيق رسائل تفاؤلى ووعوده.
7- احتكار الحقيقة …. أهو وقف على المتطرف؟
د. يحيى:
هو وقف على المتعصب المتجمد الأعمى، أما الذى يقف على طرف قضية، ليحدد مكانه ومعالمه ومسئوليته فهو مشروع مبدع لا أكثر ولا أقل، على شرط أن يكون على أهبة الاستعداد للتحرك بين أفكاره وبين ما يدور حوله وضده.
8- أظن أن المتطرف، دينياً، بحاجة دائمة إلى العصا. إنه لا يريد هدايتهم بقدر ما يريد السيطرة عليهم؟
د. يحيى:
لا أميل إلى إصدار أحكام تتصف بالتعميم، فالسيطرة واردة حين يقوم ما يسمى المتطرف المتدين وغير المتدين بحظر التفكير ورفض النقد ووأد الابداع ويفرض كل ذلك على كل أتباعه، لكن هناك أسباب أخرى مثل احتماء القائد نفسه بما يفرضه على الآخرين، احتمائه بهم ليهرب من نفسه كإنسان لا يريد أن يخوض مخاطر التفكير وروعة النقد وإعادة النظر.
9- ما فرصة الأنساق المغلقة فى العيش تحت ظل العولمة؟
د. يحيى:
العولمة كما تروجها أمريكا وكل القوى التابعة لها تبشر بأديان جديدة وإن كانت أخبث وأدنى وأقبح من أن نسميها أديانا، وقد كتبتُ كثيرا لتعرية ما يسمى العيش تحت ظل العولمة، أو النظام العالمى الجديد، الحادث الآن هو أن هناك ثقافات جديدة تغزو العالم كله وهى ليست إلا أديان زائفة مصنوعة، الدين المزيف الأشمل والأشهر هو “العوْلمة”، وله أنبياءه وحواريوه ومقدساته وترانيمه. كما أنه قد تفرع عن هذا الدين شيع وجماعات ومذاهب، منها ما يسمى “الديمقراطية” ومنها ما يسمى “حقوق الانسان المكتوبة، وهى تستعمِل أوراق وأبواق الإعلام و”مواثيق” الحقوق وقرارات المؤسسات العالمية لتليين الطريق إلى استعباد الناس فى سوق الرقيق المسمى بسياسة السوق” وهى فى النهاية : الدين الأخبث تخطيطا والأخطر انتشارا على حساب كل القيم الإنسانية وكل المستضعفين فى الأرض.
10- ما هو تحليلك للمتطرف الثورى؟
د. يحيى:
الثورة هى إبداع جماعى، والإبداع هو نوع إيجابى من التطرف كما ذكرنا، لكن إذا تكرر نفس النص (Script) ممن يسمون الثوريون فإن ذلك يقلب تشكيل الثورة إلى جمود التشنج المغلق الدائرة حول نفسه، وعلى هذا الأساس فإنه يمكن أن يوجد من يسمى “المتطرف الثورى”، وهو الذى ينتمى إلى الإبداع الجماعى، أما إذا انقلب الإبداع إلى تكرار وتصلب وعناد فإن هذا الثورى ينقلب إلى متعصب تشنجى كما أشرنا.
[1] – حوار: تم نشره فى جريدة الأهرام بتاريخ 28-8-2014 بعنوان: “التطرف فى الموقف شرف.. والتعصب جمود”