نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 27-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2826
مقالات قديمة!! (ثقافة وثقافة أخرى!! 7 من 7)(1)
حضارة بديلة! كيف؟
التدريب على الانتقاء وطوفان المعلومات [5 من 5]
من قدر الإنسان المعاصر أن ينمى قدراته حتى تواكب ما صنعت يداه.
كانت المشكلة فيما مضى هى التوفيق بين ضعف الموارد الطبيعية وحاجات الإنسان الأساسية، ثم بعد أن اكتشف الإنسان الزراعة والتخزين، انتقلت معركته وجهوده فى مواجهة الطبيعة لتأخذ صورة الصراع وهو يحاول أن يروض غضب الطبيعة ويتقى صروفها، ثم وهو يحاول أن يكتشف باطنها ليعينه ما فى جوفها على ما يلزمه من طاقة وخامات يستعملها على مسار تقدمه ورقيه.
اختلف الأمر الآن. وجد الإنسان نفسه فى ورطة جديدة. لم تعد المسألة أننا نواجه الطبيعة فحسب، بل إننا أصبحنا عاملا مهما فى إفسادها تحت عنوان ما يعرف الآن بـ “تلوث البيئة”.
ثم وجد الإنسان نفسه فى تحد من نوع وجديد، وجد إنجازاته الرائعة هى التى تتدخل فى تشكيل طبيعته ليوائمها هو، مع أنه إنما اخترعها لتوائمه كما خلقه الله. فما العمل؟ ننظر أولا فى مسار الحكاية:
على مدار التاريخ، كان الإنسان كلما اخترع أداة جديدة، ثارت التحفظات والمخاوف، ثم الرفض، وأحيانا التحريم، ثم يتحرك الأمل وتعاد الحسابات، ثم يتشجع الإنسان فيغامر ويجرب، فيجد أن المكسب واضح وأن المغامرة باستعمال الجديد تستأهل، وأن المخاوف كانت مبالغا فيها، فيقدم أكثر، ويستعمل أفضل، ويتقدم أسرع، وهكذا. حدث هذا مع اختراع القاطرة البخارية، ثم الطائرة ذات الأجنحة، ثم الطائرة النفاثة، ثم آلات التصوير، ثم الات الطباعة إلى اخر هذه القصة الرائعة من المحاولة فالخطأ، فالصواب فالأصوب، فالأقدر، وهكذا.
هل يكفى هذا التاريخ الناجح (نسبيا على الأقل) أن يعطى اختراعاتنا وأدواتنا شهادات “حسن السير والسلوك” مهما بدت فى البداية غير ذلك؟
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى وقفة، ومراجعة، وحسابات جديدة، ثم لا مفر من قبول التحدى، ثم الأمل فى الانتصار، إن المسألة الآن لم تعد توصية للعلماء والمدرسين والمسئولين أن يحسنوا استعمال ما بيدهم من أدوات لصالح الناس، إن المسألة انتقلت غالبها، إن لم يكن كلها إلى الناس، كل الناس، أصحاب المصلحة، لم يعد الأمر مقصورا على الرؤساء والصفوة ممن يدبرون أمور الناس نصرخ فيهم مستغيثين محذرين فيسارعون بالتوقى وتوجيه المخترعات إلى ما يفيد، حتى الذرة المرعبة أصبحت طاقة واعدة بفضل سلطات رشيدة، لكن الحال الآن غير الحال، إن الشخص العادى أصبح يملك قراره أكثر فأكثر، فأصبحت المسئولية أخطر وأكبر. إن الخطر الجديد يتهدد كل واحد منا حسب وعيه بما يستعمل. السلطات والمخترعون والأسواق أصبحت لا تتدخل فى تفاصيل الاختيار ومجالات الاستعمال، وبالتالى فالخطر مسئولية كل واحد بلا استثناء، لذا وجب التنبيه.
نحن لا نملك أن نرفض هذا الفيضان الغامر من الأدوات والأوراق والكتب والإذاعات والفضائيات، لا توجد سلطة فى الدنيا تستطيع أن تحول بين أى مواطن فى بنجلاديش أو جزر القمر أو القطب الشمالى وبين أن يدير زرا ما فتأتيه الدنيا داخل غرفة نومه.
إذن ماذا؟
إن الإغارة على العقول وتشكيل الوعى يحتاج منا أن ندبر أمورنا بطريقة أخرى، وأن نستعد للخطر المحتمل بما يناسبه، أنا لا أقصد هنا تناول الموضوع المعاد حول مسألة خطر فقد الهوية أمام ما يسمى بالعولمة، إن المسألة أشمل من ذلك وأعم: ذلك لأن نفس الخطر هو هو الزاحف على أهل “المَعْلَمَة” بكل حذقهم وتحايلهم. إنه خطر لا يصيب الذين ظلموا منا واستكبروا خاصة. إن الحل الذى نسعى إليه لنصلح به أحوالنا ونتقى به شرور أنفسنا وشرور غيرنا، إنما يكتسب قيمته الحقيقية فى أن يكون حلا فيه صلاح لكل الناس، دون استثناء.
السؤال الآن: كيف نستعد، فردا فردا، وأسرة أسرة، وجماعة جماعة، لتنظيم مداخل عقولنا بطريقة تسمح لها أن تنتقى ما تريد، ولا أقول ما ينبغى، أو ما يصلح؟
ما دام الوعى البشرى يتسع، وما دام العقل البشرى يضيف بلا توقف، فنحن فى أشدالحاجة أن نواكب هذا وذاك بالعمل على تدريب مهارات جديدة تناسب مساحة الوعى الجديد، وقدرة الأدوات الجديدة، التحدى الآن لا يتطلب منا أن نقلل من إنجازاتنا، بل هو يحفزنا أن نتعلم كيف ننتقى منها فى كل آن، ما نحن فعلا فى حاجة إليه تحديدا فى هذه اللحظة بالذات، إننا نحتاج أن نتعلم كيف نراجع ما نتصور أننا نريده، ثم كيف نحدد ما نريده فعلا، ثم كيف نختبر نتائح هذا التحديد، وهل صحيح أننا كنا نريده، وأننا ما زلنا نريده / أم لا؟
إن المسألة لم تعد ببساطة أيام زمان حين كان يكفينا أن ندرس دوافع الإنسان كما خلقه الله سبحانه، فنعرف احتياجاته، ونحاول أن نوفى بهذا وذاك. الإنسان الآن يتفنن فى تخليق غرائز جديدة، وتشكيل لذائذ جديدة، وتنمية قدرات استهلاك جديدة، الإغارة الجديد ليست على مصادر الرزق، واحتكار السلطة فحسب، الإغارة تزحف إلى داخل نفوسنا، لتغير من طبيعتنا، بوعى أو بغير وعى. تعالوا نتأمل بعض الأمثلة:
هل أى فرد منا يريد فعلا أن يركب عربة 4 x 4 وهو لم ولن يقودها فى الطرق الوعرة التى صنعت من أجلها؟
هل أى فرد منا يحتاج فعلا أن يكون عنده طبق له إمكانية أن يجلب أكثر من مائتى محطة لا يعرف لغاتها، ولا شكل أهل بلادها، ولا هو فكر يوما فى رؤية واحد منهم؟
هل الجالس خلف الحاسوب (الكمبيوتر- مثلى الآن) يحتاج مائة وخمسين نوعا من الخطوط بصفة دائمة أم أنه يمكن – بعد التجربة والاختيار – أن يكتفى بخمسة أو عشرة خطوط هى التى اكتشف أنها أصلح له، ويستعملها فعلا؟
إن الزعم بأن هذا الفيض الغامر من الاختيارات، والإمكانيات، والإذاعات، والأقمار ليس ملزما بالاستعمال، باعتبار أن الممارسة فى النهاية سوف تقتصر على ما يصلح منها دون غيره هو زعم يبدو وجيها منطقيا لكن واقع الحال يقول إن هذا لا يطبق عادة، اطلب من واحد اختبر كل ما عنده من إمكانات واختيارات وأدوات ووسائل، أن يستغنى عما لم يعد فى حاجة إليه، أو عما ثبت له أنه لم يستعمله، مثلا: خلال عام كامل منصرم، ولاحظ مدى المقاومة التى سوف تلقاها منه.
إن التشتت بين الصحف والمحطات والإذاعات ولا أقول الكتب والأوراق أصبح أكثر من قدرة العقل البشرى على التحديد والتركيز والانتقاء.
عندنا فى الطب النفسى يقولون إن السبب الأساسى فى تفسخ المريض الفصامى هو أنه لا يستطيع أن يشغل دماغه تشغيلا صحيحا فى عملية ‘فعلنة المعلومات’، فبدلا من أن ينتقى هذا المريض من العالم المحيط به، ومن الخطابات الموجهة إليه، ما يحتاجه تحديدا فيضعه فى بؤرة الاهتمام فى لحظة بذاتها، يجد نفسه مشتتا أمام فيض المعلومات، فيشل اختياره، وبالتالى يتجمد، ثم يتفسخ ثم ينهار.
إن العيب فى حالة الفصام ليس فى كثرة المعلومات الواصلة إليه، وإنما فى ضعف القدرة على الانتقاء، إن عدم التناسب هو سبب التشتت فالتوقف فالتفسخ.
يعيش الفرد العادى هذه الأيام – دون أن يكون فصاميا- نفس مشكلة “عدم التناسب”، لكن ليس بسبب عدم القدرة، وإنما بسبب طوفان الغمر بالمعلومات والأدوات والاختيارات. والنتيجة واحدة. هى “عدم التناسب”، أعنى أننا جميعا مهددين بالتشتت فالشلل، أوالتسليم السلبى لما لا نعرف.
ما هوالحل إذن؟
أكتفى فى نهاية هذاالمقال بأن أحدد رؤوس مواضيع يمكن أن توضع فى الاعتبار أملا فى تنمية الوعى بالإشكال من ناحية، ثم سعيا إلى عرض دعوة إلى النظر فى إمكانية إعدة النظر فى نوعية تربيتنا، وبرامج تعليمنا، وتدريب قدراتنا. ومن ذلك:
أولا: ينبغى أن يعرف أطفالنا، ومن البداية أن هناك ما يسمى الأسرة التى تلتف حول عائلها، وأن هذه الفكرة البسيطة، فكرة “المركز والمحيط” هى بداية تعلم ضرورة أن يكون لكل دائرة مركز، ولكل لحظة فكرة أساسية، و أنه لن ينال أحد من أى طوفان مهما بلغ غمره إلا ما يحتاجه فعلا من جرعة منتقاه تكون هى المركز وغيرها هامشى.
ثانيا: إن التأكيد على أساس التوحيد فى ديننا الحنيف ‘أنه لا إله إلا الله’ إذا ما دخل كل صيغة من صيغة وجودنا، لا يكسبنا الحرية فحسب، وإنما أيضا يعلمنا التمحور حول جوهر يقاس به كل شئ آخر. ومن ثم نتعلم كيف نرجح الأهم فالمهم. (وهو مبدأ موجود فى أغلب الديانات بلغات أخرى ومصطلحات شتى).
ثالثا: إن التدريب فى المدارس والحياة العامة ينبغى أن يركز على شحذ مهارات الانتقاء، والتنظيم، فالجدولة، وتقسيم الأهداف إلى أهداف صغيرة متعاقب، واستبعاد كل ما عدا ذلك. بهذا يمكن أن نحدد فى كل لحظة الأولى فالأولى.
رابعا: ثم نتعلم كيف نحذق الانتقال من جزئية إلى جزئية، ولا نكون تحت رحمة ما يصل إلينا، بل ما نفضله، بعد أن نقرر ذلك من واقع تجربته إذا شئنا.
خامسا: كذلك نتعلم كيف نستغنى عما ثبت لنا أننا لا نحتاجه، أو لم نعد نحتاجه، أو لن نحتاجه بعد ذلك، سواء كنا قد جربناه، أم كنا قد علمنا ما يكفى أن يقنعنا بالاستعغناء عنه.
سادسا: أيضا: نتعلم كيف نستعمل فعلا ما حصلنا عليه من معلومات، أو أدوات، أو ممتلكات، حتى نطمئن إلى أنه يؤدى الوظيفة التى تصورناها ونحن نسعى إلى الحصول عليه. إن هذه التدريبات ليست نصائح، وهى تحتاج إلى ثورة هائلة فى التربية والتعليم والعلاقات.
إن المخ البشرى قد استغنى عن وظيفة أن يكون مخزن معلومات، وعلينا أن نعوضه بملئه بقدرات جديدة تساعدة على أن يظل سيد معلوماته وأدواته يعيد بها بناء نفسه فى نبضٍ دائم.
[1]- نشرت فى جريدة الوطن السعودية بتاريخ: 27/12/2000