“نشرة” الإنسان والتطور
الأربعاء: 17-12-2014
السنة الثامنة
العدد: 2665
(منذ ثلث قرن!!!) ماذا تغير؟
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (1)
“وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىٌ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”، كان ذلك فى الجاهلية، وجاهلية عصرنا الحديث أخطر لأنها اخفى وموءودة هذه الأيام هى الفكرة الجديدة، حديثة الولادة.. حين تدفن حية فور ظهورها تحت اكوام الافكار الجاهزة القاهرة، والكيمياء النشطة المتحفزة.
نحن نعيش فى عصر الملابس الجاهزة، والوجبات الجاهزة، والعقائد الجاهزة، والأفكار الجاهزة، ويبدو أنه أصبح مفروضا على إنسان العصر (وخاصة من الشباب) إذ يطرق باب الحرية الفكرية لأول مرة) أن يتكلم اللغة السائدة بلا بديل، إذ عليه أن يتوجه إلى “سوق الأفكار الحرة ويطلب الفكرة أو العقيدة التى على مقاس عقله كما شكلوه له، وأن يحبسها لو تحركت بعيدا عن قوانين جمرك السائد المحسوب مسبقا، أما إذا تجرأ – لا سمح الله - وفكر بنفسه لنفسه فكرة “كذا.. أو كذا”، أو تشجع والف بين مذهب كذا وعقيدة كيت، فهذا هو الشر المستطير وبئس المصير، وقد أصبح تصنيف الفكر إلى فكر حر وفكر غير حر تصنيفا مضحكا، لأن اصحاب الأفكار الحرة قد علقوا لافتات التقدمية والثورية ونسوا فى غمرة حماسهم وتصنيفهم للآخرين أن الفكر لا يصبح حرا بمجرد ان يتقولب او يحمل لافتة خاصة، بل إن الفكر لا يصبح فكرا إذا لم يكن حرا، وعلى الجانب الآخر نجد التقليديين الذين لم يدعوا الحرية بشكل خاص فكانوا اكثر تواضعا إلا أنهم قالوها صريحة بلا إلتواء أنه “ليس فى الأفكار ابدع مما صار”، وكان لزاما أذن على من يهمه الامر ان يسرع بحفر القبور للأفكار الجديدة الوليدة التى لاتنتمى إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء لندفنها حية ناسين العار الذى سيحملنا إياه التاريخ “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىٌ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”.
ولاضرب لذلك مثلا من مهنتى حيث يوجد عرض مرضى نسميه “الأفكار شبه الفلسفية”، وفى تدريسى لطلبتى أقول إن الواحد منا لكى يعرف ما هى الأفكار شبه الفلسفية – حتى يحق له أن يحكم على “عادل” أنه مريض، وعلى “سعاد” أنها ليست كذلك، لابد وأن يعرف ماهى الأفكار الفلسفية، ويرفض الطلبة والزملاء، أو يعجزون عن الخوض فى هذا الموضوع، ولكنهم لا يرفضون الحكم على أفكار الناس بمقياس أسهل يقول: “إن من يختلف فكره عن فكرى لدرجة لا أفهمها.. ويكون أصغر منى سلطة أو قدرة.. ولم يحظ بعد بحق النشر.. فهو يخرف.. إلى أن يثبت العكس”.. يصدر هذا الحكم ولا تترك الفرصة ليثبت العكس.. لأن أكوام الكيماويات والأفكار الجاهزة معدة لوأد الفكر الجديد أولا بأول، وإكرام موءودة دفنها.
وأتأمل هذه القاعدة فلا أجدها مقصورة على الطبيب النفسى الصغير، ولكنى أرى فرق مجتمعنا المعاصر – على الجانبين – يقف فى وضع إستعداد فائق وهو يحمل قوالب التصنيف لكل فكرة جديدة، وتتساوى فى فاعليتها قوالب الفكر السلفى الجامد، مع الثوريين المتشنجين مع الفكر الرسمى الوصى (بسلطة الدولة) وأخيرا الفكر العلمى المهيب بباروكته البيضاء فوق منصة المجلس الحسبى الرقمى التجريبى. وقد تساوى فى ذلك المجاهدون حاملى مدافع.
وإذا كان هؤلاء الأوصياء الجدد من كل جانب قد أصبحوا هم رؤساء قبائل الجاهلية الجديدة، فعلينا أن نعيد النظر فى سلطاتهم غير المحدودة بما يملكون من وسائل النشر، والقرش، والكيمياء، والسلطة والعقائد.
ولكن..
أخشى ما أخشاه أن يُظن بحديثى هذا أنى أفتح الباب على مصراعيه لأى تخريف أو “أى كلام”، بل لعل العكس تماما هو الصيح، فان أدعياء الحرية، هم أقسى حفارى القبور لمن يخالفهم، ويكفى أن ينظر الواحد منهم – فى لحظة صدق خاصة مع نفسه – الى حكمه الداخلى على من يخالف موسوعته وعدميته و.. حريته! تدينا أو إلتزاما أو أملا أو أسلوبا عاديا متواضعا فى الحياة، أقول تكفى لحظة صدق يرى من خلالها كم هو أشد قسوة (وعبودية) من المتدينين الذين يدخلون مخالفيهم النار، لأن المتدين الحقيقى يترك الامر لربه فى النهاية واثقا من رحمته وعدله معا، أما صاحبنا “الحر” فهو يصدر حكمه مشمولا بالنفاذ: بالاحتقار والاستعلاء والنبذ والاهمال بلا رحمة ولا تأجيل.
وهكذا نرى أن الوقوف أمام أزمة تعريف الحرية لم يعد مشكلة مكتبية نظرية. أو مشكلة اقتصادية معاصرة، وإنما أصبحت المسألة مشكلة يومية معاصرة للفرد العادي، وقد أصبح القهر الداخلى الذى يسجن داخله العقل البشرى نتيجة للخوف الشامل وغسيل المخ المنتظم بالإعلام الزاحف والكيمياء النشطة، أصبح أكبر من الاحتمال وأخطر من السكوت عليه، ولابد أن ندرك بداهة أنه أشد وطأة وأخطر من القهر الخارجي، إذن فيستحيل أن يستمر ذلك لأن إنسان العصر، وإنسان مصر خاصة فى هذه المرحلة، هو أحوج ما يكون إلى الأفكار الجديدة والمواقف الابداعية الخلاقة، ولا يمكن أن يثرى أى مجال من مجالات الثقافة والتعليم إلا بدرجة حقيقية من السماح لمثل هذه الافكار الوليدة، دون الاسراع بوادها أولا بأول بالكيمياء والاعلام معا.
وبعد..
لعلنا فى حاجة الى ممارسة الفلسفة أكثر من الحديث عنها أو تعليمها أو الكتابة فيها، كما أننا فى حاجة الى معايشة الفلسفة أكثر من التشدق بها أو البحث فيها أو نشرها، كما أننا فى حاجة الى معايشة الحرية أكثر من إدعائها والتغنى بها وإستغلال بعضنا البعض تحت لو انها، وكل ذلك يحتاج الى شجاعة فكرية وفنانين وموجهين وساسة، ثم تتسع الدوائر الحضارية فى تلاحق حتى تغمر وجه الحياة بما هى أهل له.
[1] – نشرت هذه المقالة فى جريدة الاهرام، بتاريخ: 5/12/1979 بعنوان: “الأفكار وأزمة الحرية”