نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 20-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2819
مقالات قديمة!! (ثقافة وثقافة أخرى!! 6 من 7)(1)
حضارة بديلة! كيف؟ [4 من 5]
ثلاث قيم وثلاثة محكات
استدرجنى القلم حتى حسبت أننى يمكن أن أرسم به تحديدا معالم ما يمكن أن نضيفه، وأن أضع المقاييس التى نهتدى بها ونحن نجتهد، ….. اليوم أحاول أن أضع المعالم الأساسية للقيم والمحكات الجوهرية التى تصورت أنها تميزنا، أعنى :ينبغى أن تميزنا بفضل الله وحمل المسئولية. أفعل ذلك وأنا أنظر حولى متألما من تمادى الظلم والتحدى حول أولى القبلتين وثانى الحرمين، سرا وعلانية، حامدا الله على كل حال، لعلها تكون صيحة نذير نحن فى أشد الحاجة إليها.
ثلاث قيم هى أساس ما أتصور أنه الحضارة البديلة هى (1) قيمة الإتقان، و(2) قيمة الإحسان، و(3) قيمة الحرية. و ثلاثة محكات يمكن أن نقيس بها ناتج التزامنا بهذه القيم: (1) متانة العقد غير المكتوب، (2) اتساع مناهج النهل من المعرفة، (3) وعمران الأرض بالجديد اجتهادا وتجديدا (الإبداع).
نبدأ بالقيم الثلاث:
أولا: الإتقان أصل فى ثقافتنا: منذ حوالى خمس عشرة قرنا نظم الشماخ بن ضرار الغطفانى فى قوس عامر أخى الخضر قصيدته يصف قوسا صنعه على عينه ثم اضطر لبيعه، كان الإتقان فى صنع القوس ثم الإتقان فى وصف اضطراره لبيعه، وألم الفراق الذى صاحب ذلك،هو قمة ما يمكن أن يوصف بالإتقان، ثم نظم المرحوم “محمود محمد شاكر” قصيدته “القوس العذراء” يشرح بها وينقد قصيدة الشماخ، كان ذلك – كما حدثنى الأستاذ شاكر شخصيا – ردا على تساؤل “صروف” صاحب المقتطف عما آلت إليه حال هذه القيمة بيننا.
قيمة الإتقان ليست جديدة علينا. ينبهنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن “الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”. فما ذا حدث فى هذه القيمة؟
أنظر فى الأحاديث والمعاملات مثلا، فإذا وجدت أن النصف مثل الثلاثة أرباع، وأن أحمد مثل الحاج احمد فحدث ولا حرج.
لماذا أصبحت الساعة بعيدة عن بؤرة وعينا وكأنها استعمال اختيارى غير ملزم؟ لماذا أصبح الربع ساعة مثل النصف ساعة، والنصف ساعة مثل الساعة ونصف؟ لأننا نسينا جذور هذه القيمة التى بنت حضاراتنا، وهى هى القادرة على استعادتها.
ثانيا: الإحسان. الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الإحسان قد يفهمه العامة على أنه الصدقة، لكن الإحسان بهذا التعريف الخطير الذى حدده أيضا رسولنا صلى الله عليه وسلم هو قيمة حضارية تقع فى المرتبة الأعلى من الوجود، وحين كانت كذلك حقيقة وفعلا بنت أمتنا فى عصورها الإيجابية، وحين نسيناها صرنا إلى ما ليس نحن، وما لا نستحق.
أن يكون الله سبحانه معك طول الوقت، هو الذى يحاسب قبل وبعد الحساب، وهو الذى يلزمك بالصدق والعمق والإيثار والإتقان، أن يحدث هذا عند الأطفال والكبار، أن تظهر آثاره فى المعاملات والإنتاج، هو السبيل الأول أن نسترد مقود الريادة، لا أنكر أنه مازال بيننا من يضع قيمة الإحسان فى بؤرة وعيه بشكل أو بآخر، لكن الخطر كل الخطر أن نرى الخط البيانى وهو يتراجع باستمرار. إن الأكبر سنا من بيننا يعلم، ويمارس أن “من أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل”، وفى قول آخر “حاسب الله على العمل”. هذا المعنى يؤكد أن علاقة الأجر، وتناسبه مع الجهد المبذول هو أمر يرجع فى مجتمعنا بشكل أو بآخر إلى أننا أمرنا أن نعبد الله كأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا، فيكون الإحسان، وتكون الحضارة.
ثالثا: الحرية، والحرية عندنا هى عدم الشرك بالله سبحانه، وعدم الشرك يأتى من التوحيد الخالص. حين تختلط لا إله إلا الله بلحمك ودمك، فلا يكون للنار فيك نصيب، فإنك قد حققت أعلى قدر من الحرية، بأكرم اختيار لعبودية إله واحد. لا إله غيره، لا القرش ولا الدش، لا مجتمع الرفاهية ولا مجتمع الإنترنت، لا اتفاقية الجات ولا شفافية العولمة، كل هذه وسائل حريتك إليه، وليست أبدا بديلا عنه، أو شريكة له، سبحانه وتعالى عما يشركون. هذه القيمة المحورية فى وجودنا ينبغى أن تزرع فينا منذ اللحظة الأولى لولادتنا، بل إنها فينا وليس علينا إلا أن نحافظ عليها. نحن نولد أحرارا لأننا نولد على الفطرة، وحفاظنا على هذه الحرية ليست بالانتخابات ومواثيق حقوق الإنسان، التى إن وجدت فهى عامل مساعد أو عامل مضلل حسب سياق استعمالها ومستعمليها، لكن الحرية الحقيقية هى أساسا موقف داخلى يأتى من رفض الشرك بكل صوره، لا أستطيع أن أسهب فى هذه القيمة فالأمر صعب، والطريق طويل، لكنها حقيقة يعلمها الطفل، ويمارسها المؤمن، ويحافظ عليها المتحضر.
المحكات الثلاثة:
ننتقل الآن إلى المحكات الثلاثة لقياس كيفية التأكد من تحقيق هذه القيم. منذ بدأت سلسلة هذه المقالات وأنا أحذر من رفع الشعارات، ومن الاكتفاء بالفخر بالماضى، وقد كررت كثيرا كيف أن المقاييس ينبغى أن تظهر بوضوح فى الفعل اليومى، لا فى الشعارات وأحلام اليقظة، وفى الختام أجدنى مكتفيا بالتذكرة بمقاييس ثلاته يمكن أن نختبر بها مدى انتماءنا لقيمنا الثلاثة السالفة الذكر.
المحك الأول: متانة العقد غير المكتوب.
منذ دافعت فى مقال سابق عن الحضارة الشفاهية وأنا أحذر من خطأ الفهم الذى قد يتصور أننى أدعو إلى رفض الإنجازات والتنظيمات الأحدث. الالتزام بالقانون واجب فى كل حضارة، لكن المسألة أن كلمة القانون أصبحت قاصرة على القوانين المكتوبة، وبالتالى،حلت ألفاظ القانون، محل فلسفة القانون ومعناه، إذ حل القانون المكتوب محل كافة القوانين الأصل. الكتابة على الورق وحدها لا تصنع حضارة.
لا مفر من الاعتراف بأن قوانينا غير المكتوبة (عرفا ودينا) مازالت أرقى وأكثر إلزاما نحن نخشى العيب ونحترم الكبير، (المفروض يعنى!) ونحاسب أنفسنا فى كثير من الأحيان، القانون الداخلى عندنا كثيرا ما يقوم بالواجب، وإن كان ذلك أصبح يقل رويدا رويدا،لكنه موجود، ويمكن تنشيطه وتحديثه وتطويره. صدقونى
إن الالتزام بالعرف النافع للمجتمع ثم حضور القانون فى الوعى الفردى هما من أهم مقاييس الحضارة، إن القانون يصبح عرفا حين يصدر تلقائيا من الداخل، والعرف يصبح قانونا لا يحتاج إلى كتابة حين يلتزم به أغلب الناس دون خوف عقاب أو رقيب.
إن حقوق الإنسان لا تتحقق بالنداءات والشعارات وإنما بالموقف الحضارى المنتشر والمتمادى فى وعى أغلب الناس. إن الدستور الإنجليزى وهو غير مكتوب أكثر إلزاما من دستور مكتوب لا يطبق فى بلد نام.
المحك الثانى: اتساع منهج النهل من المعرفة.
معرفتنا بالطبيعة وعن الكون لا تخرج فقط من معامل الأبحاث ومراصد الفلك، إن المناهج حين تتسع لتشمل كلا من تطبيق تجربة فى معمل جنبا إلى جنب مع الانتماء المباشر إلى الفطرة واعتبار كلا من الايمان والفن منافذ موازية للمعرفة الأشمل، هذا وذاك يجعل الإنسان أكثرعمقا وأقدر تحضرا. إن تحديد هدف الوجود على أنه التناغم الحر بالتوحيد الأعمق (وليس مجرد تحقيق مجتمع يسمونه مجتمع الرفاهية) إنما يفتح الآفاق لكل مناهل المعرفة عبادة وعلما وفنا وكشفا وتشكيلا. إن السماح لحدس الناس البسطاء أن يساهم فى سبرغور المجهول من حولنا دون الاستسلام للخرافة هو الذى سوف يمنع احتكار الخاصة من العلماء والمبدعين أن يتميزوا بحقهم فى الكشف دون سائر البشر، وهكذا يمكن للإنسان العادى أن يجدد وعيه مباشرة بهذا الجانب الأعمق لحرية الحركة والقدرة على الدهشة والصبر على ما لا يعرف، فتتضاعف المعارف بلا نهاية.
إن الذى أضاع العالم المادى القح، أو كاد، هو قـَصـْر منهج المعرفة على طرائق محددة المعالم. تلك المناهج التى يمكن قياسها كميا لا أكثر ولا أقل، مع أن المعرفة ليست فقط فى كم ما نعرف، وإنما أساسا فى كيفية وطعم وفائدة ما نعرف. إن رحابة مناهج ومسالك التعرف على الكون وعلى الذات هى سبيلنا إلى هذه الحضارة التى أتصور أن الإنسان كما خلقه الله، هو أهل لها.
المحك الثالث: حمل الأمانة والعلاقة بالآخر
إذا كان الأمر كذلك فكيف يؤثر هذا كله على علاقاتنا بالأشياء والمال من ناحية،وببعضنا البعض من ناحية أخرى، الملكية حق مرتبط بالطبيعة البشرية،هى أمان وتأمين من حيث المبدأ، لكنها – بالتراكم – قد تصبح أداة للقوة السيطرة، حين تصبح الملكية وسيلة (سبب) وأمانة ومسئولية، لا يتصرف فيها الواحد منا إلا كأمين عليها ومستخلف فيها يسود العدل وتنشأ الحضارة.
وأيضا حين تصبح العلاقات بين البشر ليست مجرد صفقات مستقلة عن أصلها وإنما تتم تحت مظلة قاسم مشترك أعظم يجمع البشر إلى بعضهم، يجتمعون عليه، ويفترقون عليه سعيا إلى تعمير الأرض، وإطلاق القدرات.تتولد حضارة جديدة فعلا. نحن أهل لها. دعونا نتحمل مسئوليتها، لنرد على إجرامهم المتمادى فى السر والعلن.
[1] – نشرت فى جريدة الوطن بتاريخ: 20/12/2000