نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 18-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2817
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (6)
متاهة الوعى، والتطور
قبل أن أستطرد فى فحص ما يمكن فحصه من هذا المسمى “الوعى”، كنت قد وقفت مع نفسى وقفة ليست قصيرة أتساءل:
هل أبدأ بما سبق لى أن أشرت إليه من واقع خبرتى وتسلسلها كما ورد فى نشرات الإنسان والتطور على الأقل، ثم أدعمها بما تيسر لى من فحص الكتاب الذى بين أيدينا وهو يدعمها بالمناسب من علم حديث، إذ يقتحم تلك الوصلة بينالمعرفة المباشرة(1) فى خبرات التصوف وبين الطبيعة الحديثة؟ أم أبدأ بما جاء فى هذا الكتاب، ثم أذكر كيف اتفق مع ما وصلنى فى خبرتى (وكيف اختلفَ أيضا معها)؟
بصراحة قلت أرجع إلى عمنا جوجل لعله يزودنى بما يساعدنا من رأى ونقد لهذا الكتاب بوجه خاص، وللفكر التطورى عامة (بما فى ذلك الطب النفسى التطورى، وعلم النفس التطورى، ..إلخ)،
بكل أسف، وبكل ألم أيضا، وبأقصى ما عندى من صبر واستطلاع، رحت أحتمل ما وصلنى عبر هذا المصدر الهام من سخرية و نقد و رفض و شجب لكل ما خطر لى ، ليس فقط فى مسألة الوعى، وإنما فى كل ما يمثل ما أنتمى إليه من فكر تطورى، وخبرة فى الإدراك، وتنظير فى الوظائف النفسية وخاصة الوجدان، وما ترتب على كل ذلك من فروض وتطبيقات عملية إكلينكية أساسا.
برغم أننى كنت أعرف بعض ما ينتظرنى من هذه المحاولة نظرا لسابق متابعتى لرفض الفكر التطورى برمته من أغلب من يصرون أنهم هم العلماء دون غيرهم، وخاصة رفضهم لــ..”تشارلز داروين” وبدرجة أقسى وأعتى لـ.. “إرنست هيكل”، إلا أننى كنت أتصور(أو أتمنى) أن يكون هذا الهجوم قد خف ولو قليلا، بعد أن جرت هذه المحاولات لربط بعض هذا الفكر التطورى، والمعرفة المباشرة، بالنظريات الأحدث فى الطبيعة والميكانيكا والرياضة الحديثة (الكوانتية)، إلا أن ما وجدته كان عكس ما تصورت، فالهجوم يتزايد، والتسخيف والتهوين والإبعاد يتضاعف.
إن فكرى، بما فى ذلك النظرية الإيقاعحيوية التطورية Evolutionary Rhythmic Theory ، قد تشكل من وعى الممارسة استهداء بنظرية داروين بدرجة محدودة، ولامارك بمساحة أوسع، ولكنها تدعمت بدرجة أدق وأشمل وأوسع من إبداع وكشوف إرنست هيكل ونظرية الاستعادة Recapitulation Theory (القانون الحيوىBiolgenic Law ) بالذات، وقد سمحت لنفسى، من واقع خبرتى بما فى ذلك الاستعمال الانتقائى للعقاقير العظيمة (النيورولبتات) وأيضا توقيت استعمال علاج “إعادة تشغيل المخ” بما أسميته “تنظيم الإيقاع”(2)، كل ذلك سمح لى بتوسيع القياس على نظرية الاستعادة حتى شمل النبص الحيوى فى كل المجالات، والكيانات، والأزمنة، من أول ما تحت الذرة حتى دورات الكون المجهولة.
الآن، وبمجرد زيارة عابرة لموقع واحد بحثا عن نقد كتاب مهم، أكتشفُ مجددا ما كنت أعرفه جيدا، وهو أن هذه النشرة (الإنسان والتطور) قد أتاحت لى أن أسجل خبرتى دون وصاية ملاحِقة ممن يقلبون الصفحات والأنابيب أكثر مما يقلبون وعى البشر ويواكبون أزماتهم وآلامهم.
اليوم أعترف أننى حين رحت أبحث عن بعض ما يؤيدنى للدخول فى شرح مستويات الوعى، بدءًا من دانيال دينيت (الفيلسوف الداروينى البيولوجيى الراسخ) انطلاقا من كتابه “أنواع العقول”(3): وجدت الرفض والشجب والشطب والسخرية لفكرة الاستعادة أساسا (التى هى أساس فكرى التطورى، ومن ثم علاقتى بمستويات الوعى، مع الرفض لفكرة التطور أصلا، ثم لأى ربط بين قنوات المعرفة وبعضها، وكانت العناوين والأبجدية التى استعملوها للقيام بواجب الشجب والرفض جديدة علىّ بالنسبة لبعضها على ألاقل، مثل: Debunking وتعنى “فضح” و”رفض” حتى refuted وتعنى “ضحد“، مرورا بـ discredited وتعنى “فقدت مصداقيتها” ..إلخ
طيب!! بالله عليكم كيف أمضى بعد ذلك وقد شجبوا أول خطوة وأشهر خطوة وأجسم (من الجسامة) خطوة، تلك الخطوة التى تقول “إن الأنتوجينا تعيد الفيلوجينا“، فهم يرفضون من حيث المبدأ أن النمو الفردى يعيد مراحل تطور الحياة (الأحياء) كلها، فماذا بالله عليكم أتوقع أن يكون رفضهم لكل مستويات “الاستعادة” التى بنيت عليها فكرى التطورى من واقع الممارسة، التى أوصلتنى إلى أن كل المستويات، من أول ما تحت الذرة حتى تاريخ تطور الحياة والأحياء، وهى فى نبض مستمر متواصل متناغم فى حالة السواء والإيمان؟ وفى تصادم وتمزق وتضارب فى حالة نشاز المرض.
أنا أكتب الآن فى “متاهة الوعى”، وحسب ما وصلنى من الخبرة وتسلسل الجهاد المعرفى الذى ورد فى نشرة أمس، والتى أكررها الآن دون حرج، مضيفا أهمية ارتباط هذا المنهج بثقافتى التى هى إيمانى التى هى دينى التى هى لغتى التى هى إنسانيتى، أكررها – مرة أخرى– بعد تعديل طفيف جدا توضيحا لموقعى، ولزوم المتابعة:
مرحليا: استطيع أن أقدم الطريق الذى سلكته، وأسلكه، حتى الآن كالتالى:
من الخبرة ← إلى ← الرؤية،
ومن الرؤية ← إلى ← المعرفة،
ومن المعرفة ← إلى ← الممارسة،
ومن الممارسة ← إلى ← الفروض،
ومن الفروض ← إلى ← العلم،
ومن العلم ← إلى ← النقد،
ومن النقد ← إلى ← الوقفة،
ومن الوقفة ← إلى ← واحدية المعرفة،
ومن واحدية المعرفة ← إلى ….. >>
خبرة جديدة،
وهكذا…..
والآن: ما علاقة ذلك بالوعى، وهل ما وصلنى من خلال هذا المنهج يمكن أن يساعد فى الخروج من متاهة الوعى بفهم يساعد فى سبر غور الطبيعة البشرية وفى نفس الوقت فى الممارسة العملية؟
نبدأ بانبهارى بالعنوان الفرعى لكتاب دانيال دينيت “أنواع العقول” العنوان الفرعى يقول: نحو فهم للوعى،consciousness Towards understanding وفى نقدى لهذا الكتاب فى الندوة التى أشرت لها فى نشرة أنواع العقول (نشرة 2/1/2008 أنواع العقول “وإلغاء عقول الآخرين” الطريق إلى فهم الوعى) (حول نفس الكتاب) (نشرة 25/12/2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)، رحت أرادف ما أسماه دينيت العقل، وأتلقاه على أنه “مستوى منظومة الوعى”، وبالتالى كدت اصف كل مستوى يعتمل بداخلنا من الأحياء (وهو ما زال داخلنا حسب إرنست هيكل) ويسميه دينيت “عقلأ” أصفه على أنه “مستوى منظومة وعى”، وتتصاعد منظومات الوعى حسب مراحل النمو، ونحن – البشر- بصفتنا نقف أعلى الصف مازلنا نحتويها جميعا.
قبل ذلك، وفى أوائل السبعينات، حين انبهرت بحالات الذات التى وصفها إريك بيرن فى نظريته التحليلية التفاعلية Transactional Analysis ، كنت أعامل ما أسماه بيرن “حالة الذات” Ego Shate على أنها “مستوى منظومة وعى هادف”، لكنه ليس بالضرورة هادفا على مستوى الشعور، وحين وصلت إلى ما وصفه إريك بيرن على أنه من صنع “دقات” النموStrokes التى تخلِّق “وحدات ذات” Ego Units فرجت بالتعدد الذى لم يعد يقصر نظريته على حالات: “الطفل” و”الراشد” و”الأب” كحالات الذات ثم إنى قنعت بترادف وحدات الوعى هذه، هى حالات الذات، تحت مسمى “حالات العقل Mental States” بأبجدية العلم المعرفى العصبى.
وحين رحت أراجع عصور الإنسان الثمانية(4) لإريك إريكسون، وصلنى أن كل أزمة نمو وصفها إريكسون هى استعادة لكل المراحل السابقة، ثم انطلاقا لما يليها، لكننى أضفت أن هذه الأزمات ليست قاصرة على فترات العمر التى ذكرها إريكسون، بل هى – غالبا- مصاحبة لكل إعادة ولادة فى أزمات النمو عامة، سواء فى النمو الزمنى بالسنين أو النمو الإبداعى حسب نوع الإبداع، كما أنها موجودة أيضا فى أزمات الولادة المجهضة والفاشلة ، أعنى محنة أزمة إعادة الولادة مع الإجهاض فى خبرة المرض النفسى حتى الجنون.
وحين رحبت بمراحل النمو من مدارس “العلاقة بالموضوع” ( الموقف الشيزيدى فالبارنوي فالاكتئابى)، رفضت أن أرُجع كل هذا التثبيت لموقف الأم فى الشهور الأولى – كما تزعم تلك المدرسة – لكننى قبلت الفكرة الأساسية لترتيب تطور المواقف، ذلك أننى – من واقع الممارسة استبعدتُ أن يكون لتأثير موقف وسلوك الأم كل هذا الأثر الممتد، واعتبرت أن الأم ما هى إلا بلغة التطور وفكرة الطبع(5) إلا “مّطلق” releaserلما هو بداخلنا، وما ولدنا به هو مرتب بهذا الترتيب التطورى:
(1) مرحلة أحادية التواجد بلا حاجة إلى آخر ربما مرحلة الخلية الواحدة،
ثم
(2) مرحلة الكر والفر فى الغابة،
إلى
(3) فترة تناقض الوجدان فتحمل الغموض عند الإنسان.
واعتبرت أن لكل موضع position موقف من هذه المواقف(6)، مستوى وعى كامن، أطلقته الأم (فالأسرة والمحيطين) الواحد تلو الآخر، ودَعّمته بما هى جاهزة لتدعيمه (من تاريخها الحيوى أيضا الذى هو تركيبها النفسى فى نفس الوقت)، حتى مرحلة النضج المفتوح النهاية بهذا التتالى، وهذه الخطوات موجودة دائمة وجاهزة للإعادة والاستعادة طول الوقت طول العمر، علما بأن كل موقف من هذه المواقف هو أيضا مستوى منظومة الوعى له:
(1) غائيته ولغته ودوره التبادلى فى الحياة العادية، و:
(2) دوره الجدلى فى النمو، و:
(3) دوره النشاز فى المرض.
أتوقف هنا مضطرا لأننى كدت أعرج إلى نظريتى بأكملها ، ويبدو أن الأوان لم يحن بعد، لكننى أكتفى بعرض الأشكال القياسية التى سوف أرجع إلى شرحها عند تقديم النظرية، والتى قد أستعين بها لاحقا ونحن نحاول التعرف على الوعى.
الأصل والقياس المتدرج
القياس الذى وصفته من واقع الممارسة يقول:
كما أن النمو الفردى ( الأنتوجينى) يعيد تاريخ تطور الحياة والأحياء (الأنتوجينى)، فإنه يمكن اعتبار، وملاحظة، كيف أن كل مرحلة نمو (وهى التى تبدأ بما يسمى أزمة نمو) تعيد نفس الأطوار، وعلى ذلك – كمثال- فإن أزمات النمو (وقد أسميتها الماكروجينيا macrogeny) التى تميز وتحدد العصور الثمانى للإنسان Eight ages of man لإريكسون إنما تستعيد تاريخ الفرد ومن ثم تاريخ الحياة وهكذا باستمرار ولكن – طبعا- على مقياس أقصر وأخفى.
القياس المتصاعد
ثم تنتقل مغامرة القياس إلى أن نبضات الإبداع والنمو الأقصر فالأقصر، وهى ترجع فى قصرها حتى تصف مجرد “ولادة فكرة” ما، وقد استعرت لها اسم الميكروجينيا(7) microgeny، فهى إنما تشير ليس فقط إلى ولادة الفكرة، بل إلى مراحل التغير النوعى الشديدة القصر البالغة الدقة فى الاختلاف النوعى فى العلاج الجمعى مثلا،
وبقياس أصعب وأكثر مغامرة لكنه يساير نفس المبدأ رحت افسر إمراضية الأمراض النفسية وخاصة الذهان بأنها ليست إلا إجهاض لنبضان النمو، وأسميت نبضة النمو المجهضة “السيكوباثوجينيا Psychpathogeny
إصرار برغم ضعف الدفاع
وأنا أسترشد بعطاء عمنا جوجل كما بدأت هذه النشرة وحين وصلنى هذا الكم الهائل من الرفض والشجب بل والضحد (!!!) حتى “التجريس”(8)،طبعا بأدلة علمية قوية “جدا”، (!!!) بذل فيها المهاجمون جهدا لا بد أن يشكرُ بعضُهُم بعضاً عليه (!!!) كما يفعل أصحاب أى دين مغلق، تصورتُ أيا منهم وهو يتصدى لهذه الفروض والقياسات التى أقدمها، ولم أجد به حاجة إلى كل تلك الأدلة التى أتى بها ليرفض إرنست هيكل Ernst Haeckel ونظريته فى الاستعادة ، ولا أنا واجد عندى ما أدافع به عنها إلا ما ذكرت أمس وكررته فى بداية هذه النشرة، وتزيدنى الخبرة والنتائج ونفع المرضى إصرارا على المضى قدما.
وبعد
أخلص من هذه الاستطرادة الواجبة إلى أن محاولة فهم الوعى، هى محاولة فهم الإنسان بالطول وبالعرض، فى الصحة والمرض، فى الإبداع والنمو طول الوقت، وهذا ما نتمنى أن ندعمه من سابق (ولاحق) عرض خبرتنا جنبا إلى جنب مع ما يتسير من دعم مباشر وغير مباشر من المعلومات الأحدث فالأحدث من العلوم والمعارف، ومحاولة التكافل بينها.
[1] كنت قد أسميت هذه النوع من المعرفة: “المعرفة الكلية”، تجنبا – ما أمكن – لاستعمال كلمة “التصوف”، إلا أننى عثرت على تعبير يعتبر أدق وربما أقرب وهو ما أسماه ” بول ديفيز” مؤلف كتاب الطريق إلى الرب (الاقتراب من الله” بحث فى أصل الكون) “المعرفة المباشرة”، والعهدة على المترجم المتمكن منير شريف، مراجعة: عبد الرحمن الشيخ – المركز القومى للترجمة – العدد: 1482- سنة 2010، واسم الكتاب بالإنجليزية1992 The Mind of God .
[2] – Rhythm Restoring Therapy ويشاع عنه اسم خاطئ سىء السمعة “الصدمة الكهربية”
[3] – Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness Daniel C. Dennet 1996 الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” ترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، نشر بعنوان “تطور العقول!!” القاهرة 2003.
[4] – Eight ages of man
– د. يحيى الرخاوى “أزمات النمو من منظور الطب النفسى التطورى مع إشارة خاصة للعلاج الجمعى” الندوة العلمية دار المقطم للصحة النفسية – بتاريخ 3 مايو 2013
[5] – imprinting
[6] – أفضل اليوم أن أسميها موقف attitude or dispositionوليس موضع Position لتساير فكرة النبض الحيوى المستمر
[7] – وهو الاسم الذى بتدعه فرنر Werner واستعاره سيلفانو أريتى فى كتابه الذات داخل النفس Intra-psychic self
[8] – هذه الكلمة من عندى جمّاع ما وصلنى من هجوم عشوائى