نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 9-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2596
ص 171 من الكراسة الأولى (تكلمه)
……………..
………………
الهواء الطيب والماء الطيب والحب الطيب
*******
الكنز الحقيقى هو العثور على إنسان حقيقى
يقوم فى أكبر صراع فى الوجود
لا دواء مثل الطرب
ولا انتصار مثل الايمان
نجيب محفوظ
31/7/1995
القراءة:
تركت قاصدا الأسطر الأربعة الأخيرة من صفحة الأسبوع الماضى رقم (171) لطول ما أوحت به إلىّ، نبدا بالسطر الأول مما تركناه لنعود إليه وهو يقول:
“الكنز الحقيقى هو العثور على إنسان حقيقى”
فقد حرك عندى قضايا ومسائل كم خطرت لى وحدى، ثم وأنا معه، ولم أفاتحه فيها تفصيلا، فقد كنت أعجب دائما من قبوله كل الناس، كأنهم حقيقيون جميعا، كل الناس بلا استثناء، كان قبوله قبولا حقيقيا ليس فيه مجاملة أو “تفويت”، مثل الذى اعتدت أن اضطر اليه، مثلى مثل غيرى، وكان دائما يرفض إصدار الأحكام على الآخرين، وهو يلتمس العذر لكل من هب ودب، بل ويتحمل محاولات إبداع، أو ما هو كنظام الإبداع، من كل من يظن أنه كذلك، أو يهم بذلك أو حتى ينوى ذلك، كل هذا أوصل لى أنه يعتبر الإنسان الحقيقى هو كل من خلقه الله مهما لحق به بعد ذلك من تشويه وإفساد، سواء كان هذا الذى لحق به من نفسه أو ممن حوله، لكل هذا فوجئت اليوم أنه يبحث عن “الإنسان الحقيقى”، كأنه كنز مخفىّ نادر، هذا علما بأن التعبير الذى استعمله لا ينفى أنه عثر عليه، ولا هو يجزم أنه عثر عليه، وهكذا خيل إلىّ أن البحث مازال جاريا.
هل يا ترى كانت لدى شيخنا مواصفات لهذا “الإنسان الحقيقى” النموذجى النادر الذى حافظ على نفسه كما خلقه الله، فلم يضف إليها إلا ما عمّق من فطرة الله التى فطر الناس عليها؟، أعرف تقديره (كدت أقول تقديسه) لسعد زغلول، وحبه لمصطفى النحاس، واحترامه لسلامة موسى وعرفانه بفضله، وتوقيره لطه حسين، وحبه لطاغور واحترامه وتقييمه للشيخ مصطفى عبد الرازق وغير هؤلاء عشرات أو هم مئات، فهل يا ترى هل كل هؤلاء وغيرهم ينطبق عليهم تعبير “الإنسان حقيقى”، وبالتالى فهم الكنوز الحقيقيون، مثلهم مثل كنوز خلق الله فى بلاد الله؟!.
إذا عدنا مثلا إلى نشرتىْ رقمْى “2043″، “2106” بتاريخ 4/4/2013، 6/6/2013 عن صفحتى التدريب رقم “110” و“111”) فسوف نجد أنه ذكر فيهما أسماء مبدعين وعظماء من كل أنحاء الدنيا حتى تعجبت من قدرته على جمع كل هؤلاء فى نفس واحد، لكن يا ترى هل كان ذلك مجرد ذكر اسم أى منهم، أم أنه كان إعلانا عن من عثر عليه من كل هذه الكنوز ليمثلوا من هم بشر حقيقيون؟
لقد بدت لى لأول وهلة أنها دعوة لأن يبحث كل أنسان منا دون استثناء عن حقيقته، أو ما انتبهت فى نقد رواية “ساحر الصحراء” (السيمائى- لكويلهو) عن “أسطورته الذاتية”؟ لكننى تراجعت وقلت لا أظن، وقد أثبتّ تحفظى على الإعلاء من أهمية هذه الفكرة فى نقدى لهذه الرواية مقارنة بابن فطومة، حيث قمت فى هذا النقد بالتهوين من فكرة البحث عن “الأسطورة الذاتية” كغاية قصوى للإنسان مقارنة بما فعله محفوظ فى رحلة ابن فطومة إذ جعل قنديل (ابن فطومة) يبحث عن دار الجبل وليس عن ذاته المتفردة كما هو الحال عند سانتياجو شاب الكيميائى، راح ابن فطومه يسعى نحو دار الجبل إلى ما بعدها، ولا ننسى أنه آنهى آخر فضل فى الرواية بعنوان يقول: “البداية (وليس النهاية)” مقارنة بعنوان كويلهو النهائى “الخاتمة”، فكان ابن فطومة يكتشف ذاته أولا بأول وهو يكتشف الكون، فى حين أن الشاب “سانتياجو” كان يبحث عن ذاته بما يتفق مع ثقافة الكاتب ومرجعيته، لم أسمع شيخى أبدا يتحدث عن فكرة “البحث عن الذات”، أو “تأكيد الذات” أو مثل هذا الكلام الأنسب للثقافة الشمالية أو الغربية، كان سعيه دائما وهو معنا، وهو يكتب، وهو يبدع، ثم وهو هنا يتدرب، كان سعيه ثم إيحاءاته هى أن يكتشف الإنسان ذاته من خلال إطلاق إبداعها بحثا عن الحق والحقيقة، إلى الوعى المطلق المفتوح النهاية دون إصرار على حتم الوصول، قرأت ما كتبه اليوم على أن البحث عن الكنز مع اليقين بالعثور عليه دون إلزام بذلك هو الكنز الحقيقى.
فإذا انتقلنا إلى السطر التالى مباشرة قرأنا ما يلى:
“يقوم فى أكبر صراع فى الوجود”
إن صحّت قراءتى للكلمة الأولى فى هذا السطر وأنها “يقوم” فلى أن أتساءل: يا ترى من هو الذى “يقوم” هل يكون البحث عن الكنز نفسه هو هذا القيام بما يثيره من محاولات وعناء وصراع مع ما يحول بينه وبين ذلك؟ ثم بصراحة فإن تقديرى أنه ليس كنزا واحدا بل إنه كنز كل واحد وواحدة فى كل واحد وواحدة، وهذا ينفى أنه صراع بين الآحاد، فالأرجح أنه صراع بين الفرد الساعى وبين ما يحول دونه والوصول إلى كنزه الحقيقى الذى هو (فى تصورى هذا) الاهتداء إلى الطريق الأكبر الذى يعطى للبشر معنى كونهم بشرا إلى وجه الله.
هكذا يشتعل أكبر صراع فى الوجود: وهو أن أصارع للعثور على الكنز بيقين حقيقى دون الوصول إليه لأواصل الصراع مع كل “ما” و”من” يحول دون ذاك.
كان شيخنا قد قدم لنا ترياقا وقائيا بالسطر الذى جاء قبل هذين السطرين مباشرة حين قال: “الهواء الطيب والماء الطيب والحب الطيب”، ربما ليخفف عنا ما استدرجَنَا إليه، وهو يعلم كم هو جاد ومحيّر ومؤلم، ثم عاد برقته ليخفف عنا مرة أخرى وهو يقدم الدواء لبعض ما لحقنا من عناء، فكان الدواء هو الطرب، هذا هو شيخى يستطيع أن يدندن، ويطرب وسط كل بحور الطرب كما لاحظنا طوال المائة وسبعين صفحة السابقة، لكننا لم نتنبه إلى أنه ليس مجرد فرح وشجن وجذل وإنما هو دواء أيضا، والدواء لا يسكِّن فقط بل هو يشفينا لننطلق إلى مواصلة البحث إلى ما هو أكثر توازنا وتناسقا وتناغما بين مستويات الوعى الممتدة!:
“لا دواء مثل الطرب”.
ولا حتى الطرب هو نهاية المطاف، فالانتصار فى هذا الصراع الوجودى الجوهرى هو أن يوصلنا كل ذلك إلا الإيمان، لأنه يختم قائلا:
“ولا انتصار مثل الإيمان”
يا خبر يا شيخنا!! هكذا تعود بنا إلى أصل الأصل ليصبح الكنز هو الإيمان والإنسان الحقيقى لا يكون حقيقيا إلا بالإيمان، كما أن الصراع لا يشرُفُ ولا يصدُقَ إلا أن يكون الانتصار هو الإيمان.
هو الإيمان: السعى الوعى المنطلق إلى الوعى الكونى إلى وجه الحق تعالى دون كلل أو توقف أو تشويه أو اختزال كما بيّنا وغالبا سنبين، فى كل إشراقات إيمانه، وفى كل تداعيات وعيه فى هذا الإبداع التلقائى الفريد، وغيره.