نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد : 29-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2766
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (13)
المزيد عن علاقة الإرادة بالتطور (1)
إرادة البشر فى مقابل إرادة الحياة
المفروض أننا وصلنا إلى تعدادا اضطرابات الإرادة كما تظهر فى الأعراض المرضية، وأن هذا – كما تعودنا– هو ما نختم به التعرض لكل وظيفة نفسية أساسية فى هذا العمل، لكن بما أننا عرُجنا إلى طبيعة الإرادة وتعددها على مستويات مختلفة، ونظرا لأن هذا العمل قد أصبح من قواعد استكماله أن نوفى كل وظيفة حقها فى السواء والمرض، وأن يشمل ذلك طرح ما هو معروف من أعراض الإعاقة حتى لو لم تُسَمَّ مرضا، رأيت أن افصّل أكثر ما وجدته بالمسودة الأولى منذ ثلاثين عاما، بإضافة ما جدّ لى – فى سعيى وكشفى وموقفى – من جديد، فيما يتعلق بهذه الوظيفة الصعبة، التى يزيد من صعوبة تناولها، علاقتها بالوعى والحرية.
وفيما يلى بعض عناوين ما سوف نطرحه تباعا:
أولا: إرادة البشر فى مقابل إرادة الحياة
ثانيا: الإرادة والنمو الشخصى (مع إشارة إلى “اضطراب الشخصية”)
ثالثا: دورات الإرادة والحرية وعلاقتها بالإيقاع الحيوى ((1))
أولا: إرادة البشر فى مقابل إرادة الحياة
يبدو العنوان غريبا، مع أنه حل لى إشكالا مهما، ذلك أننى أستلهِمُ محاولة تعرفى على الطبيعة البشرية من مسيرة الحياة التى أتعرف عليها من برامج التطور التى وضعها خالق الحياة سبحانه وتعالى، لكل الأحياء، وغير الأحياء، وذلك باعتبار أن من نجح من الأحياء في استيعابها والتعامل بها مع المحيط، ومع سائر أفراد نوعه، والأنواع الأخرى، هو الذى اجتاز اختبار البقاء ليستمر حتى الآن، أما من حاد عنها، جهلا أو سوء تكيف، فقد انقرض، يسرى هذا على الإنسان كما يسرى على سائر الأحياء.
ثم إنى أمارس مهنتى من هذا المنطلق باعتبارها من المهن المكلفة بالإسهام فى تصحيح مسار انحراف الطبيعة بعد صفائها((2))، بأن تسهم فى العودة بمن انحرف عن هذه المسيرة إلى ما خلقه الله عليه، وهذا لا يتأتى إلا بأن نتعرف على ذلك طولا وعرضا.
منذ تصدى الإنسان لحمل الأمانة، دخل امتحان المشاركة فى استعمال إرادته فى صياغة مساره، فمصيره، باتخاذ قرارات جسيمة لنفسه ولنوعه على مسار الحياة، قرارات قد تتفق أو لا تتفق بالضرورة مع برامج التطور، وقد تأكد لى أن سلامة إتقان اتباع هذه البرامج هو ما يحقق غاية ما أسميته “إرادة الحياة” بفضل الله، وقد نبّه “دانيال دينيت” فى كتابه “أنواع العقول” إلى أن الإنسان قد تمادى ليس فقط فى الفصل بين إرادة الحياة وإرادته الشخصية، وإنما أيضا فى الحكم على أسلافه من الأحياء بأنهم بلا عقول، وتبعا لرأى “دينيت”، فإن هذا الموقف الاستعلائى من البشر، وهو ما نقده نقدا شديدا، قد بيّن – ضمن شواهد أخرى- مدى ما وصل إليه الإنسان من إهمال أو تهميش لإرادة الحياة مقابل النفخ فيما يسمى إرادة الإنسان دون أن يتحمل مسئولية ذلك بما يضمن انتصاره فى المسيرة بالتقدم إلى ما يعد به تاريخه.
لا أريد أن أعيد ما سبق ذكره من آراء دينيت فقد سبق أن أشرت إليه بقدر مناسب فى نشراتنا هنا((3))، وقد قدمت لكتابِهِ هذا نقدا مطولا فى ندوة علمية من ندوات جميعة الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى، وسوف أكتفى هنا بتقديم موجز محدود لبعض الشرائح التى أنهيت بها الندوة ((4)) مع ما استجد من هوامش وخاصة فيما يتعلق بالإرادة:
(1) تحفظت فى الندوة على استعمال المؤلف الرحب للفظ “العقل” مرادفا للوعى فى كثير من الأحيان.
(2) مشاركة الإنسان فى “قرار التطور” برغم أنها مشاركة واعية إلى أن الجارى عبر العالم، وخاصة مؤخرا أو تحديدا فى ما يخص العلاقات بين أفراد نفس النوع (البشر) يضع علامات استفهام خطيرة حول إيجابية مشاركته هذه، وقد زادت الخطورة، بعد أن أمتلك أدوات تقنية عملاقة، وأيضا وسائل إهلاك ساحقة، فأصبحت مشاركته تهديدا حقيقيا للنوع كله إن لم يتحمل كل فرد من النوع بلا استثناء مسئولية هذه المشاركة فى مجال لا يعرف من قوانينه وبرامجه إلا أقلها.
(3) برغم اتفاقى مع دينيت فى أن العقل البشرى هو نتاج الانتقاء الطبيعى بالإضافة إلى إعادة تصميمه ثقافيا إلا أننى عجبت لتركيزه على استعمال لفظ “العقل” بما يوحى بأنه يشير إلى أرقى ما وصل إليه الإنسان من قدرة على التفكير والإبداع وتطويع الطبيعة لأغراض حياته دون الالتفات بالقدر الكافى إلى بقية “عقوله” إلا من منطلق تاريخى، فهذه العقول الأخرى للأحياء الأدنى مازالت ماثلة فينا، ليست كأثر تشريحى خامل، وإنما ككيانات فاعلة متبادلة ومتكافلة (فى حالة السواء) مع بعضها البعض، وهى مازالت قائمة جاهزة للتنشيط، بل هى تُنَشَّطُ دوريا بانتظام من خلال الإيقاع الحيوى طول الوقت.
(4) قدّرت تراجع “دينيت” عن الاحتفاء بالتفكير كما وصلنى فى البداية، أو لعلى انتبهت لما لم أكن منتبها له، وقد وجدت اعتباره لقنوات معرفية أخرى أمر طيب، والأطيب منه مالاح من إشارته للتنافس بين مستويات وعى أخرى من أجل السيادة على التحكم للوصول إلى تأثيرات أبقى، وهذا هو ما يهمنا هنا على مستوى “الإرادة والاختيار”((5)).
(5) بعد غوصى فى محيط الإدراك مؤخرا، رجعت إلى دينيت أتعجب كيف لم يشر إلى الإدراك كقناة معرفية وجدانية معا: أرحب وأقدر وأقدم وأشمل حتى خطر لى أنها تستحق لقب العقل أكثر من التفكير.
ثم إنى اختلفت معه – لعله اختلاف لغوى أكثر منه اختلافا فكريا – فى التعامل مع مرحلة ما اسماه “عقول لا ترتقى إلى مرتبة عقول” والأهم مرحلة اللاعقول، حيث توقعت منه وهو الفيلسوف التطورى (البيولوجى) الرائع أن يدخل إلى المادة فيرى فيها ما يسمح له (ولنا) أن يدرجها ضمن ما سمح به كرمه، ولعل اختلافى الشكلى معه يرجع إلى ما وصلنى من ثقافتى وكدحى مع مولانا النفرى ومرضاى، ومن رحلة نقدى لأعمال إبداعية لها ارتباط وثيق بثقافتنا التى تسمح بامتداد مفهومىْ النبضى والهارمونى إلى ما ليس له عقل، وأيضا مما لاح لى من ثراء الإدراك المتجاوز الذى تسمح لنا ثقافتنا أن نواصل به رحلات تعارفنا كدحا إلى الغيب وما بعده، ومن بعده.
(6) بالنسبة لهذه المعلومات الأساسية فى هذه الشريحة بالذات فأنا متفق معها كلها تقريبا مع أننى افتقدت شرحا كافيا لهذا التداخل بين الوعى و”الاهتمام”، وخاصة وأنا أتعامل مع الوعى بكل مستويات ما قبل “الوعى بالوعى”، ثم أننى لم أستعمل مصطلح “الاهتمام” بالقدر الكافى، ولا للغرض المناسب أصلا.
أما ما انتهت به هذه الشريحة فأنا أوافق عليه تماما مع التحفظ بأن هذه الأنشطة التلقائية لابد من الإشارة إلى علاقتها بالبرامج التطورية وأن عدم احتياجها للوعى هو مقصود به عدم احتياجها للتخطيط والوعى الظاهر، وليس للقصدية والوعى الفاعل. (وربما ينطبق عليها نفس التحفظ الذى جاء فى الهامش رقم “5”).
(7) هذا التحذير من قياس كل ما هو عقل بما نعرفه عن عقولنا، أو ما نشيعه عنها، وخاصة مع التركيز على التفكير (المنطقى وحل المشاكل) على حساب الإدراك والعقل الوجدانى الاعتمالى، هو تحذير جيد لكنه يتناقص قليلا مع سابق احتفاء “دينيت” بالتفكير والوعى.
ثم إن الربط بين العقول واللغة هنا هو ربط جيد، يعيد للغة مكانها مهما بدت معطلة أو سببا فى الاغتراب فى كثير من الأحيان.
ثم إن هذا الربط بين أن يكون عندك عقل وأن تستطيع أن تبذل اهتماما قد وصلنى أنه ربط جيد مع غموض المقصود بـ”أن تبذل اهتماما” لكن ربما له علاقة بغائية التوجه بصفة عامة.
وبعد
أتوقف اليوم هنا لننتقل غدًا معا إلى علاقة كل ذلك بالنمو الشخصى وإلى أى مدى هو مرتبط بإرادة الفرد أم بإرادة المحيط أم ببرامج التطور؟
وما هى مظاهر تعثر فتوقف النمو الفردى وبالذات فى صورة اضطرابات الشخصية؟
[1] – أنا آسف، لكن هذا هو ما فرضته طبيعة هذا العمل، وما أتاحته لى الكتابة الأسبوعية بهذا الانتظام الذى آمل أن يعاد النظر فيه عند النشر الورقى، علما بأن العمل اسمه “الأساس فى الطب النفسى” إن كان أحد يذكر!!!
[2] – وهو التعريف المعجمى لكلمة “المرض”.
[3] – وأكتفى هنا بالإشارة إلى بعض النشرات التى وردت فيها إشارة إلى هذا الكتاب،
[4] – ويمكن لمن شاء أن يرجع إلى الندوة مجتمعة فهى بالموقع.
[5] – بصراحة، أنا آسف، فأنا لا أذكر – إن كانت هذه الشريحة – كما عرضت فى الندوة هى من نص الكتاب أم أنها كانت ضمن نقدى له، ولم يكن عندى الوقت الآن للرجوع إلى ذلك وسوف أفعل، وأصحح ما يلزم تصحيحه.