نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 2-2- 2014
السنة السابعة
العدد: 2347
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث
ملف التفكير (1)
فروض: حول ماهية عملية التفكير وتنظيمات الأفكار
مقدمة:
أما وقد انتهى المؤتمر العالمى المصرى للعلاج الجمعى الأسبوع قبل الماضى (من 14 إلى 17 يناير 2014)، فقد خفَّ إلحاح ابنتى “مُنَى” علىّ لمواصلة الكتابة فى كتاب العلاج الجمعى الذى أغار بغير وجه حق على استكمال الاستمرار فى الكتاب الأصلى “الأساس فى الطب النفسى” فقررت ابتداء من هذا الأسبوع أن أعيد الحق لأصحابه كالتالى:
كنا قد توقفنا فى كتاب “الأساس” عند تنويعات الهلاوس من زوايا مختلفة، وحين عدت لأكمل وجدت أنه يستحيل مواصلة الكلام عن الوظائف المعرفية بنفس التفصيل والتداعى الذى قدمنا به الإدراك، حيث وصل ملف الإدراك وحده إلى أكثر من ثمانمائة صفحة فاستحق أن يصدر فى كتاب مستقل.
كما كنت وقد وعدت أن أقدم نماذج إكلينيكية من واقع الحالات المسجلة لأعرض أنواع الهلاوس من واقع الممارسة إلا أننى فضلت تأجيل ذلك لحين نشر سلسلة “كتب حالات وأحوال” – أغلبها جاهز تحت النشر فعلا والله العظيم-، ثم نقتطف منها ما يستأهل لمزيد من عرض خبرتنا من واقع ثقافتنا.
هذا الاستطراد يحتاج الإشارة إلى مأزق منهجى قابلناه ونحن نتناول مقتطفات من “مجموعة المواجهة” فى كتاب “العلاج الجمعى” وهو تكرار بعض النصوص من كتاب “فقه العلاقات البشرية” مع تحوير طفيف، لكننى – بعد حيرة طويلة – فضلت أن أسمح ببعض التكرار ما دام لازما ومفيدا، بدلا من الإحالة إلى العمل الآخر، حيث أننى رجحت ضيق وقت القارىء فضلا عن ما اكتسبه كثير منا من عادات الكسل والاسترخاء وأحيانا الاستغناء، فعذرا، آملاً أن تكون فى الإعادة إفادة.
من كل ذلك سوف يتواصل السعى (التسجيلى والكتابى) مع احتمال تخصيص نشرة يوم الأثنين لاستكمال ما تيسر من كتاب “العلاج الجمعى” دون انهائه، على أن تخصص نشرة يوم الأحد لكتاب “الأساس” أو نكمل كتاب الأساس اولا وهو أمر قد يستغرق سنين عددا.
ربنا يسهل
*****
الفصل الثالث
اضطرابات التفكير
أولأ: تشكيلات الأفكار وطبيعة التفكير
استهلال:
على الرغم من أن عملية التفكير فى ذاتها هى -أيضا- ليست فى متناول الدراسة بشكل مباشر، إلا أن المشكلة أقل صعوبة من إشكالة المنهج فى دراسة عملية الإدراك، ذلك أن ناتج االتفكير أجهز وأوضح، كما أن الوحدة الزمنية لعملية التفكير أطول وبالتالى أقرب تناولا. وأهم مظهر سلوكى يحضر فيه التفكير هو االكلام والكتابة، وهما من أهم صور حضور اللغة باعتبارها المظهر الرمزى الشائع للتعبير والتواصل. والعلاقة بين التفكير واللغة علاقة معقدة، وهى أكثر تعقيدا من العلاقة بين التفكير والكلام. (أنظر بعد- الفصل الرابع).
من المألوف أن يعّرف التفكير بأنه عملية “حل المشاكل”. هذا تعريف صحيح لكنه اختزالى بشكل أو بآخر، وخاصة لو أخذ بالمعنى الضيق لألفاظه، فأحيانا ما يظهر التفكير السليم فى طريقة طرح المشاكل، وليس بالضرورة حلها، وأحيانا ما يكون السؤال الذكى أكثر دلالة على التفكير السليم من الإجابة عليه، كذلك فإن التفكير الإبداعى ليس بالضرورة حلا للمشاكل بقدر ما هو أداة إعادة ترتيب وإبداع تشكيل المعلومات، والتوليف بينها بشكل مختلف جديد.
وفى محاولة لوضع تعريف يتجاوز مسألة “حل المشاكل” هذه، نقول:
“إن التفكير هو عملية تنظيمية تغـلب عليها صفة”المعرفة”، تجرى عادة على درجة ما من الوعى، تهدف لتحقيق هدف ما،سواء كان هذا الهدف معـلـنا أو مضمرا، هدف يُستنتج من مجرى العملية والتحقق من إتمامها. وصفة ”المعرفية” هذه هى الصفة التى تظهر فى أى شكل من أشكال السلوك حين يتصف: بالتربيط، والتنسيق، وإعادة التنظيم سعيا نحو هدف واع نسبيا، وهى تتضمن ” التجريد” عادة.
تشمل عملية التفكير العادى ما يلى:
موقف عقلى (نفسى)، يتسم بما يلى:
1- إنه يتوجه لحل مشكلة ما وهو يتجاوز الاستجابة الحسية.
2- يغلب فيه مستوى واحد من الوعى .
3- ثم إن هذه المحاولة (التفكير) تقبل أن تختبر بمتطلبات الواقع، ومدى تحقيقها هدفها.
4- وترتبط وحدات التفكير (الأفكار) مع بعضها البعض لتحقيق الهدف المرجو.
وتتم “ترابطية” التفكير بفضل افتراض جاذبية الهدف التى تضم إليها سائر الأفكار فى تنسيق متصل نحو الهدف. إن هذا الهدف ليس معلنا غالبا -كما أشرنا- ولا هو حاضر فى ظاهر الوعى بالضرورة. إن ثمة فكرة محورية تتواجد فى لحظة بذاتها لتربط بين وحدات التفكير فى اتجاه الهدف، وهى تعمل مثل مغناطيس يجذب كل ما عداه وحوله. فتصبح كل الأفكار النشطة الأخرى مرتبة - فى حالة السواء - لتخدم هدف الفكرة المحورية أو لتسهلها على الأقل.
تظل الفكرة الغالبة محورية فى لحظة بذاتها. حتى تحقق هدفها، وهى تتنحى بمجرد تحقيقه، ثم تفسح المجال إلى فكرة محورية أخري. هذا شيء أشبه بفكرة تبادل الشكل مع الأرضية فى الإدراك.
من الضرورى أن تتضح مضامين الألفاظ التى تستعمل هنا استعمالا خاصا نسبيا:
المقصود بالهدف هنا ليس غاية مقصودة واعية يراد تحقيقها، وإنما نقصد به غاية العملية التفكيرية، وقد لا يظهر الهدف إلا مع تحقيق ناتج الترابط سواء كان هذا الهدف هو:
(أ) حمل المعنى
(ب) أو التواصل مع الآخر
(جـ) أو حل مشكلة
(د) إعادة تنظيم تركيبة عقلية أو عملية أو سلوكية أو تشكيلية، أو كل ذلك.
كذلك لا نعنى بالفكرة هنا أية معلومة محددة المعالم حاضرة فى الوعى الظاهر، وإنما هى “وحدة”التفكير” على أى مستوى من مستويات السلوك أو الوجود. وهى يمكن أن تكون معلنة شعوريا كما يمكن أن تكون ضمنية قابلة للاستنتاج كوحدة فى سلسلة من الترابطات الهادفة.
ترتيب وتنوع وحدات التفكير (الأفكار)
(أساسا: من واقع معايشة اضطراب الوسواس الاجترارى القهرى، والوجه الآخر للفصام وإبداع الشعر والنقد).
تترتب وحدات التفكير فى لحظة بذاتها فى منظومة هادفة مترابطة، وهذا يتحقق-كما ذكرنا- بالالتفاف حول، والانجذاب إلى، ”فكرة محورية” لها قوة ضامة هادفة.
ويمكن تقسيم الأفكار فى علاقتها بالفكرة المحورية على الوجه التالى:
1- الفكرة المحورية: هى الفكرة الغالبة والرائدة التى تخلق حولها نوعا من الجذب التنظيمى الذى يرتب الأفكار الأخرى بشكل يحقق هدفها، وهى ليست معلنة مسبقا قبل كل عملية تفكير، فهى أشبه بعامود صلب ممغنط موضوع تحت سطح مسطح بحيث لا يظهر ولكنه يخلق مجاله الممغنط، فتنتظم كل قطعة من نشارة الحديد فوق هذا السطح بشكل محدد بقوانين المغنطة.
2- الفكرة الكامنة (المتنحية): وهى الفكرة (أو الأفكار)التى تكمن وراء الفكرة المحورية، والتى تستعد لأخذ دورها كأفكار بديلة بمجرد ما تحقق الفكرة المحورية، والظاهرة فى لحظة بذاتها، غايتها السالف الإشارة إليها.
3- الأفكار الخلفية: هى مشاريع أفكار محورية بديلة حسب ترتيب تنشيطها. وعلاقتها بالفكرة المحورية أشبه بعلاقة “الشكل والأرضية” فى نظرية الجشتالت، فحين تصبح الفكرة الخلـفية محورية فى لحظة تالية، تتراجع الفكرة المحورية الأولى لتصبح فكرة خلفية وهكذا
4- الفكرة التابعة: وهى التى تـواكب الفكرة المحورية، وترتبط بها، وتنجذب إليها، وتكملها أحيانا، فتكون مساعدة لها أو فى خدمتها فى وقت بذاته، وقد تكون هذه الفكرة التابعة هى نفسها فكرة محورية لمجموعة من الأفكار الأصغر التابعة لها بدورها، وهكذا، بمعنى أن ترتيب الأفكار يمكن أن يأخذ شكلا هرميا متصاعدا من كل ناحية، حتى يصب فى الفكرة المحورية الأكبر(فى لحظة بذاتها) على الجانبين.
5- الفكرة المضادة: وهى فكرة تبدو متنحية فى الأحوال العادية، وهى تجذب التوجه، أو هى جاهزة لتجذبه، فى عكس الفكرة المحورية تحديدا، وهى لا تخرج إلى الواقع إلا إذا حلت محل الفكرة المحورية بالتبادل. هذه الفكرة لها مسميات أخرى عند بعض المدارس النفسية الخاصة، مثلا عند كارل يونج نجد ما يسمى النماذج المضادة، مثل الأنيما فى مقابل الأنيماس عند الرجل والأنثي. وأيضا يمكن فهم الفكرة المضادة (الكامنة) من خلال تذكر ميكانزم “تكوين رد الفعل” حيث يكون الفعل الظاهرهو تغطية لموقف عكسى تماما.
وعلى أية حال، فإن حدة الفكرة المضادة ليست بالضرورة عائقا لجذب وفاعلية الفكرة المحورية، بل قد يكون العكس صحيحا بمعنى أن وجود هذه الفكرة المضادة قد يكون حافزا نقيضيا لمزيد من تماسك الأفكار حول الفكرة المحورية الغالبة (كإجراء وقائى ضد ظهور نقيضتها)، ويمكن مقارنة هذا التكاتف النقيضى بالمقارنة بالفكرة الطفيلية أو الفكرة المقتحمة اللتان تعتبران معيقتان حتما، لفاعلية وكفاءة قيام الفكرة المحورية بوظيفتها على أن الفكرة المضادة تصبح معيقة إذا ما اقتربت من نفس الوعى الظاهر فى مجال الدراية (ظاهر الشعور والسلوك) وأصبحت منافسة ومزاحمة، وهذا هو ما يسمى فى حالات المرض (تناقض التفكير، المرتبط عادة بتناقض الوجدان). وفى حالات الإبداع يتم التوليف بين التناقض فى كل جدلى جديد يحتوى النقيضين فى إبداع أصيل جديد التركيب.
6- الفكرة الطفيلية: وتشغل هذه الفكرة حيزا من الوعى فى نفس الوقت، ولكنها ليست متسقة مع الفكرة المحورية ولاتابعة لها، وإنما هى لاصقة بها، وهى تعطلها وتبطئ من مسارها، ويظهر هذا أحيانا فى صورة “العجز عن التركيز” وأحيانا أخرى فى صورة فرط الانشغال بلا جدوى، وقد تتصادم الفكرة الطفيلية مع الفكرة المحورية وتعوقها صراحة وفى هذه الحالة الأخيرة (التصادم والدخول القهرى) تعتبر مقتحمة (رقم 6)
7- الفكرة الـمُقحمة (المقتحمة): عادة ما تكون هذه الفكرة طفيلية أو مضادة، من الداخل أو من الخارج، وهى تظهر فى نفس وساد الوعى الظاهر بالرغم من وجود الفكرة المحورية وتوابعها وعلى حسابها. وقد تُكَرِّرُ نفسها بإلحاح لا يقاوم مثلما يحدث فى بعض حالات الوسواس القهرى (الاجترارى).فى بعض حالات الذهان يمكن أن تسقـط هذه الفكرة إلى العالم الخارجى، ثم يستقبلها المريض باعتبارها “أفكارا مقحمة “، كعرض من أعراض شنايدر فى الفصام خاصة حيث يشكو المريض مما يسمى “إقحام الأفكار”.
والفكرة المحورية الضامة ليست صحيحة أو موضوعية أو واقعية بالضرورة، فقد تكون معتقدا سليما، وقد تكون ضلالا متماسكا، (يخلق حوله ويجذب إليه أفكارا تابعة تدعمه) فمثلا تمثل فكرة التوحيد فى الإسلام فكرة محورية شاملة كاملة رائعة تنتظم بها وحولها كل مظاهر السلوك ومعنى الوجود وتوجه العبادات، وعلى النقيض من ذلك فإن مريضا يعتقد أنه المهدى المنتظر منذ سنوات قد يكون سلوكه، وحلمه ويقظته وعلاقاته كلها دائرة حول هذا الضلال بكفاءة جاذبة متماسكة طول الوقت، وبالتالى، وعلى الرغم من كون ذلك ضلالا إلا أنه يمثل فكرة محورية شديدة التماسك قادرة على الجذب والاتساق رغم خطئها. (شكل)
فى التفكير الإبداعى، لا تنتظم الأفكار ببسساطة حول فكرة محورية واحدة بهذه الصورة المحكمة الخطية من البداية إلى النهاية، وإنما تتفرع الأفكار وتنفرج بعيدا عن بعضها، وكأنها أفكار مفككة، ثم تعود إلى بعضها البعض فى حركة توليفية ضامة. لا تتبع الفكرة المحورية الأساسية وإنما هى تخلق فكرة محورية أصيلة ترتبط بالتنظيم الإبداعى الجديد. والفرق بين هذا التباعد إلى التضفر الذى يحدث فى الإبداع وبين التباعد الذى يتمادى ولا يعود يتضفـر ثانية، حتى يصل إلى التفسخ هو الذى يميز المبدع من الفصامى بوجه خاص (أنظر بعد فى المقارنة بين الاضطراب الجوهرى لتفكير الفصامى والتفكير الإبداعى).
وقد تستمر فكرة محورية أساسية لعدد طويل من السنين حتى تصبغ كل الشخصية وكل الوجود بصبغتها، وفى هذه الحال قد تكتسب مسميات أخرى، مثل أى مسمى لأى “أيديولوجي” أو قد تظهر فى سلوك متسق ثابت يحدد نمط الشخصية المستمر، ويتجلى فى موقف أو “نص معاد” (سكريبت)، أما فى حالة المرض فهذا الاتساق مسئول عن تكوين ما يسمى ”المنظومة الضلالية”.