نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 29-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1917
فى النشرة منذ أسبوعين بتاريخ 15-11-2012 ورد ما يلى:
“… العمود الثانى جاء على رأسه ما يلى: “الأغانى للأصفهانى“، وأذكر أن ذكر هذا العمل الضخم قد ورد مرة أو مرتين فى أحاديثى معه، ولكننى لا أذكر إلا إشارة شيخى إلى إعجابه بهذا العمل، وبمنهج البدء بالأغنية فاللحن فالمغنى ثم التداعى للإبداع أو التاريخ أو التأليف أو الدعابة، ولا أعرف إن كان قد قرأه أو قرأ أكثره أم لا، لكننى أذكر إعجابه به، كما أذكر أننى سألته عن تصوره كيف كان الأصفهانى يصنف الأصوات (والألحان) التى يبدأ بها السرد، ولم يكن أيامها “نوته” أو ما شابه، لكننى لا أذكر أننى نجحت أن أوصل له تساؤلى نظرا لجهلى بأية قواعد لتصنيف الألحان أو تشكيل الموسيقى، وأعتقد أن الحديث توقف عند تحفظ الأستاذ على العنعنة (عن فلان عن فلان) التى تتصدر كثيرا من حكايات الكتاب وأخباره.
سوف أعرج لاحقا إلى الكتاب بعد ذلك، شاكرا له هذه الفرصة الجديدة يعلمنى فيها من خلال تداعياتى على تدريباته ما عجزت أن أتعلمه منه حين كنا معا”.
ثم أنهيت النشرة التالية بتاريخ 22-11-2012 (الأسبوع الماضى) بتساؤلات محددة بعد تعداد 26 أغنية جديدة فى صفحة واحدة غير ما سبق وروده، ثم واعدًا بكتابة نبذة عن كتاب “الأغانى للأصفهانى”، علماً بأن كل المادة هى منتقاه من فضل كرم مولانا جوجل، وهأنذا أعيد نشر نفس الصفحتين السابقتين معا،فقد بدتا لى هكذا على عمودين فعمودين أشبه بنوته موسيقية يمكن للقارىء أن يتأملها دون قراءة، ودون نقلها إلى حروف الطباعة باعتبارها “لوحة موسيقية” فى ذاتها.
الوفاء بالوعد:
كتاب الأغاني لأبى الفرج الأصفهانى ظهر من ألف عام، أنفق فيه مؤلفه نصف قرن من الزمان، حتى خرج على الصورة التي هو عليها الآن، .. وهو كتاب -كما وصفه الفقيه ابن العربي-: جليل القدر، كثير العلم، لم يؤلف مثله قط، وقد عقب المؤرخون بما لاحظوه وكأنّ الهدف من تأليف هذا الكتاب لم يكن الأدب ولا الشعر إنما كان هدفه ذكر الغناء والمغنين، وأخبار اللهو والطرب والسخرية.
وقد ألف أبو الفرج الأصفهاني أكثر من 30 كتابا، أشهرها كتاب الأغانى، وكان المؤلف غريبا مثل بعض من نعرف أو نسمع عن غرابة مظهرهم من العباقرة، والفلاسفة والشعراء (ولعل ما يحضرنى هو عبد الحميد الديب)
فهو لا يعتني بمظهره، يبدو دائما متسخ الثياب، قذرا في شكله وفعله، بعيدا عن مظاهر السلوك الحميد والتصرف الأنيق الذي يتصف به دائما من ينادم الملوك والأمراء.
هناك إجماع من المؤرخين على سعة علمه، وكثرة محفوظه، وجودة شعره، وكثرة تأليفه، وقد أضافوا إلى ذلك أنه كانت له رحمة وألفة بصنوف الحيوان، يأنس بصحبتها، ويعالجها إذا أصابتها العلة، ويأسى لموتها،
ووصفه ابن خلدون بأنه “ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن…”.
الكتاب
أما الكتاب فموضوعه الظاهر هو الغناء، ألفه ليكون بديلا عن الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلي،
وكان أبو الفرج يبدأ بذكر الصوت الذي اختاره والشعر المتعلق به، ثم يستطرد إلى ذكر أشعار أخرى قيلت في المعنى نفسه، وتغني بها، ثم يتناول المناسبة التي قيلت فيها هذه الأشعار، وقد تكون المناسبة اجتماعية أو سياسية فيبين ذلك، فيقف القارئ على ألوان مختلفة من الحياة، وعادات متفرقة في بيئات مختلفة، وطرائق الحياة في البادية والقصور من لهو وتسلية فراغ.
وقد حوى كتاب الأغاني تراجم لزهاء 300 شاعر وقرابة 60 من المغنيين والمغنيات.
وقد اتبع طريقة المحدّثين في إسناد كل خبر إلى رواته (وقد ذكرت أن الأستاذ علّق على ذلك).
وقد أنفق أبو الفرج في تأليف كتابه هذا 50 سنة، وهو يصور جانبا من حياة بعض الناس لا حياة الأمة كلها، وعليه مآخذ كثيرة، ومن تلك المآخذ أنه ركز على تصوير الحياة اللاهية في المجتمع البغدادي، فبالغ في ذكرالمجون، حتى أهمل الجوانب المشرقة والجدية من حياة شخصياته بدرجة ما.
اهتم الكاتب بسرد الجوانب الإنسانية الضعيفة في حياة الشعراء، ربما متأثراً بأخلاقه الشخصية – مما جعل القارئ يتوهم أن بغداد -مدينة العلم وكعبة الثقافة- كانت مركزا للمجَّان والخلعاء لا مركزا للثقافة الجادة وحلقات العلم التي كانت تمتلئ بها مساجدها، (ولن أكرر هنا موقفى من التاريخ، واعتبار الآدب، والشعر، بل ومسودات الإبداع مصدرا أكثر موضوعية من “علم التاريخ”).
ويمكن أن يستقبل هذا الكتاب كعلامة هامة على مستويات متعددة من القيم فله:
قيمة حضارية: حيث يفيد سجلا هاما للحضارة العربية الإسلامية في كثير من مظاهرها.
وقيمة تاريخية: حتى أن ابن خلدون اعتبره من أكثر ما استوعب من أخبار العرب وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وقال جورجي زيدان (1961 – 1914م): “ولولاه لضاع كثير من أخبار الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية”. أما المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1956م)، فقال على لسان المستشرقين: “ونحن نَدينُ له بمعرفة أهم أحبارهم”.
وقيمة أدبية: فهو “من أغنى الموسوعات الأدبية القديمة التي تعتز بها المكتبة العربية”.
ثم قيمة في مجال التراجم: فالكتاب موسوعة في مجال الشعراء والمغنين.
وأيضا قيمة موسيقية: فمن أول عنوانه يعلن مؤلفه ذلك، ثم يروح يُدوِّن أشهر أغاني عصره بكلماتها وألحانها.
كما أن له قيمة لغوية ونقدية: ففيه شرح الألفاظ الغريبة وأوضحها، وخلَّف مادة معجمية لم تحظ بعناية الدارسين حتى اليوم.
وأخيرا: فإن الكتاب يعتبر خزانة نوادر وطرائف ومُلَح: حيث عُنيَ بغرائب القصص والأسمار.
ومن أهم الدراسات التى عثرت عليها وأعجبت بها جاءت دراسة للدكتور/أحمد أبو الحسن عن حوار الثقافات فى هذا الكتاب، وهى التى قامت على فرضية تقول: إن الثقافة العربية والإسلامية ليست ثقافة منغلقة على نفسها، وليست متحجرة، وإنما هي ثقافة منفتحة ومتسامحة وقادرة على التعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية، أخذا وعطاءا وقد راح الباحث يعدد استعراض الأصفهاني لأنساب المؤلفين والمؤلفات ولصفاتهم الخُلقية والخَلقية ولإنتاجاتهم، دونما اعتبار لأصولهم العرقية أو اللون أو المكان أو الزمان أو الدين، أو ما دام الإنتاج الفني يتوفر على قدر من الفنية والجمالية التي اعترف له بها أصحاب الصنعة الغنائية والشعرية.
وقد أظهر من خلال هذه الأمثلة التى أوردها عن الشعراء النصارى واليهود والفرس أن العلاقة بين الثقافة العربية والفارسية والرومية كانت علاقة تحاور والأخذ بما هو أحسن في كل ثقافة، كما أشار الباحث كيف أن الأصفهاني اهتم كذلك باللهجات التي كانت تتواجد في الثقافة العربية الإسلامية، فكان يشير إلى بعضها من حين لآخر.
وبعد
هل صدقت يا شيخى العزيز أنك مازلت تعلمنا، وتعلمنا، وتقرص آذاننا برفق وحب لكسلنا وتواكلنا،
لا يا شيخنا الغالى نحن فى أشد الحاجة إليك هذه الأيام خاصة، فقد ضاع حتى المنطق السليم من خطاب كل الناس، بما فى ذلك الرؤساء
لا تتركنا يا شيخنا
أطال الله عمرك.