نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 19-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1937
تعتعة التحرير
نجيب محفوظ: يحمّلنا الأمانة فى عيد ميلاده
كان عيد ميلاده منذ أربعة أيام، فحمدت الله أنه ليس معنا هذه الأيام حتى لا يتألم لمصر ألما أنا أعرفه، وكل من يعرفه يعرفه، لكننى تذكرت صبره وتفاؤله الرائع فى مواجهة أى ألم صادق، كما تذكرت كيف أنهيت قصيدة رثائى له وهو يحملنا الآمانة حيث قلت له وأنا أصفه بأنه كان رائد حمل الأمانة، وأشفق عليه منها، قلت:
………..
كيف السبيل، وكلُّ هذا حولها ؟
لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:
لمّا عرفتَ سبيل دربـِك نحوه، كدحاً إليه :
ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، …”
(انتهى المقتطف من القصيدة)
ففضلت احتفالا بعيد ميلاده أن أنقل بعض ما سجلت منذ أكثر من سبع عشرة سنة عن لقائنا مساء الاثنين 9/1/1995
“اتصلت بكل الناس ولم أستطع أن أوفّق فى دعوتهم للحضور معنا هذه الليلة،…، قال ردا على عجزى عن العثور على “زبائن” لهذه الليلة: “ليكن، فلنمض الليلة رأسا لرأس” (قالها ضاحكا بالفرنسيةTete á tete ) وفرحت، لكن خوفى من امتحان الانفراد به ليلة بأكملها ظل يلازمنى.
كنت ما زلت مشغولا بحديث أمس عن رسالة الأستاذ لندوة الأهرام،……، رجعت لاستفسارى الملُح مستوضحا معنى قوله أن مستقبلنا هو ”الاسلام فى حوار مع العلم” فراح يعيد شرح وجهة نظره قائلا: “لكى تكلم الناس لابد أن يكون هناك ما يجعلهم يسمعونك، والإسلام الآن هو ما يشغل الوعى العام، عندك ستون مليون بنى آدم تريد أن تجعلهم يعملون، وينتجون، وقد رقدوا فى الخط، ولا شيء يحركهم، وهم يرددون فرحتهم بأنهم مسلمون ويريدون أن يتمسكوا بدينهم، إذن فلتكن هذه هى البداية، ولتقل لهم إن المسلم يعمل ويتدرب ويتعلم ويعلـَم، المهم أن نحافظ على استمرار عطاء وحركة العلم، وليحكمنا من يقدر أن يسيـّرنا، لابد أن نخاطب الناس من خلال ما يتمسكون به”.
………… قلت له: أن العالِم لا يكون عالما بحق إلا فى جو من الحرية التى لا تضع حدودا لحركية وعيه وتفكيره، وأن العلم الأحدث بمعنى الأحدث فعلا صار يَعِدُ، وينذر، ويوصى، ويشترط السماح بإعادة النظر فى كل المعطيات حتى المسماة “علمية” دون استثناء، فكيف نطمئن إلى درجة السماح اللازمة لمثل هذه الحركية إذا كان الحكام مسلمين، لهم مرجعية من خارج هذه الحركية الطليقة؟ إن العالِم العالِم لا يحتمل أية وصاية على طلاقة سعيه إلى المعرفة المتغيرة أبدا، ولا ربنا يرضى له بذلك.
…………
أبنتُ له أن ما يصلنى من أن العلماء الأقدر على الإضافة الآن، يأملون فى توسيع دائرة حركتهم المعرفية بالنهل من مناهج وروافد الفن والأدب والإيمان، ……. يتجلى ذلك خاصة بالنسبة للعلوم الكموية الأحدث، والعلم المعرفى الجديد أيضا،……، وأن الأرجح عندى أن الحاكم الخائف من التغيير الجذرى سوف يحتمى بتفسير النصوص دون إيحاءاتها، وأنه سوف ينتقى التفسير الذى يدعم موقفه وموقعه اللاعلمى، ثم يفرضه على العلماء وغير العلماء ليصنع لنفسه وكرسيه حدودا آمنة.
لاحظ الأستاذ حماسى، وربما أشفق علىّ، فأطرق صامتا مدة أطول فأطول، ثم رفع رأسه وهو يقول ”إن الحرية الحقيقية قد تـُظهر كل هذه الاحتمالات أمام الناس، وفى هذه الحالة لن يختاروا من يحقق مخاوفك هذه، أما إذا اختاروه دون أن يعرفوا عنه ذلك، ثم تبين لهم أنه سجن فكرهم فلن يعيدوا اختياره فعلينا أن نتحمل، ولنضع جانبا المناطق الإشكالية والمختلف حولها بعض الوقت حتى نقف على أقدامنا، ما داموا سيتركون العلم يترعرع”.
قلت: كيف يترعرع العلم فى جو محكوم بحدودٍٍ من خارجه.
قال: سيترعرع
أعجبت إعجابا لا مثيل له بصبره وعناده، هذا المفكر المبدع الذى يحتاج إلى كل جزء من الوعى ليضيف به ويتحرك معه، يرضى بكل هذه القيود احتراما للواقع، وأملا فى المستقبل.
كل هذا الحوار دار بصوت عال وبجوارنا شاب وفتاة يتناجيان، ربما يشاركانا أحيانا، لكنهما سرعان ما يستغرقان فيما هم فيه، ألمحت له بذلك، قال باسما: ولا يهمك، سليمة إن شاء الله.
سرعان ما رجعت إلى الموضوع المتحدى الأصلى لأسأله عن الإبداع فى الفن والأدب فى ظل الحكم الذى يحاول أن يقنعنى أن أرضى به، أجابنى أن الإبداع قد يتوقف قليلا، لكن الناس لا تستطيع أن تعيش بدونه وسوف يجدون لهم مخرجا مثلما وجدوا من قبل، ألم يكن الطرب والفن والشعر بل والشرب والرقص موجودون كلهم فى العصر العباسى وعبر العصور الإسلامية كلها؟ وأضاف: بعد فترة التشدد المبدئية سوف يرتخى الحكام ويتصرف المحكومون كل بطريقته، الإنسان لابد أن يجد لنفسه متنفسا تحت كل حكم مهما كان، لأن طبيعته غالبة، ووسائله لا تنتهي.
….. برغم رفضى وتحفظى ظللت، مندهشا من مفاجأة هذا الحوار، إن هذا الشخص بالذات الذى يقول هذا الكلام بالذات هو الذى خططوا لقتله باستعمال شاب ساذج أعمى لا يعرفه، ومن أين له أن يعرفه؟ أنا الذى كنت أحسب أننى أعرفه، وأننى درست كثيرا من أعماله ناقدا، وأننى قادر على الإحاطة بما هو وما أنجز، بدأت أكتشف أننى لا أعرفه فعلا، وخاصة بالنسبة لهذا العناد الشديد التفاؤل بمسيرة البشر، الشديد الصبر على الاختلاف، الشديد الثقة بمستقبل الإنسان.
بدا وكأنى مقتنع بما قال مع أننى لم أكن كذلك تماما
أثناء ذهابنا إلى السيارة ألتفت نحوى فجأة ونحن نسير، وسألنى وكأنه يوقفنى:
- ولكن ماذا ترى أنت فى مستقبلنا؟
دهشت للسؤال هكذا، “أنا؟”، قلت لنفسى: هل بعد كل هذا الوضوح والصبر والتخطيط والردود يسألنى أنا؟ نظرت إلى وجهه وقد أمال رأسه نحوى وشعرت أنه يريد ردا منى فعلا، يريد أن يعرف رأيى تحديدا، وأن يستمع إليه، فهو لايمتحننى ولايتفرج على.
قلت له: مرعوب والله لو لم يحدث شيء كبير آخر
صمت وهز رأسه، ولم أعرف هل كانت علامة موافقة، أم تأمل، أم انتظار.
ومضينا إلى السيارة
فى السيارة – كان جالسا بجوارى إلى يمينى فى الكرسى الأمامى مال على قليلا، وسألنى فجأة:
هل ما زالت السياحة مضروبة؟
قلت: نعم إلا قليلا.
(مرة أخرى: كان ذلك 9/ يناير/95)
لا تعليق.