نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 24-8-2014
السنة السابعة
العدد: 2550
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الخامس:
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (15)
التطور والعواطف والعقل البيولوجى (1 من ؟..؟)
ليكن !!
مرة أخرى: خجلٌ موضوعىّ ، وجهلٌ مشروع
هذا هو ما أعيشه الآن، وهو بعض ما أشرت إليه فى الأسبوع الماضى
حين كتبت مسودة نظريتى، أو فروضى عن “تطور العواطف من التهيج البيلوجى العام إلى المعنى” سنة 1974 كنت مشغولا بعلم نفس النمو من ناحية، وفرحا بلغتى العربية القادرة على استيعاب مدى أوسع وأعمق لوصف الوجدان والانفعال والعواطف، أوسع وأعمق من اللغات الأخرى فى حدود ما أعرف ، وأيضا كنت حريصا على ربط اللغة بالمعنى ربطا يجعلنا – إذا وصلنا إلى قمة نمو العواطف عند البشر- لا نحتاج إلى التحدث عن ما يسمى عاطفة أصلا، إذ يصبح “المعنى” هو العاطفة حين يحتوى أى لفظ نبض ما يعنيه، فلا يكون فقط رمزا إلى ما يشير إليه:
لكننى لم أربط أصلا بين كل هذا وبين التطور، ولم تكن نظريتى “النظرية الإيقاعية التطورية قد تبلورت بعد” ما أننى لم أكن قد عثرت على هذا الكنز الإلكترونى المحيط، ولا كنت أعرف فك شفرته التى تفتح لنا كل هذه المعارف التى أشعرتنى بجهلى، بقدر ما هدتنى إلى محاولة التخفيف منه تدريجيا، أعنى الحاسوب والنت، وما يتيحان من آفاق ومعلومات ومعارف تفوق الحصر.
أيضا: حين كتبت باكرا (1980) أطروحتى عن “الباحث أداة البحث وحقله فى مجالى الطفولة والجنون” لم أشر فى هذا البحث إلى دراسات التطور، وأدواتها، فقد كانت بعيدة عن بؤرة اهتمامى، برغم بزوغ الخطوط العامة لنظريتى ” التطورية الإيقاعية”، وقد قمت بتحديث محدود لهذه الورقة مؤخرا وأنا أفتح ملف العواطف، وذلك فى نشرة الإنسان والتطور بتاريخ 20/7/2014 والمعنونة بعنوان يقول: “الباحث والمواجدة والنكوص الإبداعى” (1)
ثم إننى مؤخرا انتبهت بشدة, وربما مع المبالغة، إلى ضرورة تعرفى أكثر فأكثر على تشارلز داروين، وكان مدخلى إليه من دراسته عن تطور العواطف عند الإنسان والحيوان، أكثر من كتبه الأصل والأهم، (أصل الأنواع، ثم…أصل الإنسان) وقد غامرتُ فربطت بين اهتماماته بالعواطف – هكذا على كل المستويات – منهجا وحدسا، وبين نظريته فى أصل الأنواع، ثم فى أصل الإنسان، حتى افترضت أنه – شخصيا – كان وسيلة البحث الأساسية (وليست الوحيدة) فى نظريته، وذلك فى نشرة 3/8/2014 “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”)، وإنما أتى به من بؤرة وعيه الموضوعى الإبداعى”، وهو يبحث عن الحلقة الموجودة والمفقودة داخله فخارجه.
إذن ماذا؟
إذن لا يمكن فهم الطبيعة البشرية، طريقا إلى توحيد خالقها بحق، إلا من خلال جهاد الإبداع على مدى التطور طولا وعرضا.
بدا لى، بفضل ما تفتحت لى آفاق العقل الإلكترونى الموسوعى صاحب الفضل “جوجل” ، أننى أتعرف على التطور من جديد، والغريب أن يجيىء تعرفى الأحدث هذا وأنأ أقلـّب فى أصل وطبيعة العواطف والانفعالات، في حين كانت مصادرى الأساسية قبل ذلك ، بعد المعلومات الأساسية، تأتينى من خبرتى مع المرضى، من خلال ما أسميته “نقد النص البشرى”، وأيضا – والحق يقال- ومن محاولاتى فى النقد الأدبى، وبعض ممارسات إبداعى الشخصى.
حين علم إبنى “محمد” ما عرجتُ إليه مؤخرا، أهدانى كتابين مترجمين بفضل المركز القومى للترجمة، أحدهما بقلم أحد أبناء تشارلز دارون “فرانسس”، والآخر عن دارون، حياته وفكره، ودينه ، وتوحيده، وفلسفته ، والتطور عموما، وقد جذبنى الثانى أكثر حتى كدت افرغ منه، وإذا بى أكتشف جهلى أكثر فأكثر، وفى نفس الوقت أطمئن لفروضى أكثر فأكثر.
لمن شاء أن يتابعنا بجدّية أقدم الكتابين له، الأول هو كتاب:
داروين: تأليف فيلسوف أديب مؤرخ أمين هو “مايكل ريوس“، وهو كتاب حديث نسبيا، (2010) واسمه بالإنجليزية ، وتاريخ النشر والناشر، لمن شاء أن يرجع للأصل هو:
Charles Darwin By: Michael Ruse Copyright 2008 Blackwell Publishing Kimited ، وقد تمت ترجمته بواسطة د.فتح الله الشيخ، د. أحمد عبد الله السماحى، ونشرت الطبعة الأولى سنة 2010 عن المركز القومى للترجمة.
أما الكتاب الثانى: فهو من تأليف أحد أبناء تشارلز داروين شخصيا، “فرانسس، وهو بعنوان :
Life and Letters of Charles Darwin: Edited by Charles Darwin
وقد تمت ترجمة الأبواب الثلاثة الأولى دون الرسائل، بسبب الحجم وأولويات الأهمية – كما قال المترجم- مجدى محمود المليجى، وقد نشر أيضا بواسطة المركز القومى للترجمة الطبعة الأولى سنة 2011، وقد بدا لى شديد الأهمية، لكننى فضلت البدء بالكتاب الأول، لأسباب سوف نتبين بعضها لاحقا.
لن أتطرق فى المرحلة الحالية، وبالذات ليس اليوم، إلا لما يهمنى فى مسألة العواطف كبرامج بقائية أساسية فى تاريخ تطور الحياة، وكيف أن ذلك هو المدخل إلى احترام دورها، ربما الأهم (2)، فى معالجة (اعتمال المعلومات) قبل وبعد ظهور ما يسمى العقل أو التفكير، وكيف أنها شديدة الارتباط بما يسمى النيوروبيولوجى البينشخصى Interpersonal Neurobiologyالعامل الأساسى فى العلاقة العلاجية،
إن النقلة الحالية التى تتكلم عن أن العواطف “عقل ثان” وهو عنوان نشرة الأحد الماضى بتاريخ 17/8/2014 كمقدمة لكتاب روبرت لانج: “تطور العواطف العقل العاطفى لاعتمال (معالجة) المعلومات”، ليست جديدة إلا فى اللغة العلمية التى يقدمها هؤلاء الثقات ليصححوا بها مواقفنا، ومواقعنا، أما فاعليتها كعقل أول وليست عقل ثان، أو ثانوى، فهى أساسية وغاية فى الأهمية كما سوف نرى.
وبعد
أصبح عندنا الأن ثلاثة كتب من أهم ما يمكن، لا أظن أننا يمكن المضى فى تقديم موضوع العواطف من منظور تطورى كما ينبغى، دون مناقشة أهم ما جاء فيها بالنسبة لما يتعلق بموضوعنا الحالى، وهو تحديث رؤيتنا شهداء على الحياة من منطلق ثقافتنا، ومسئوليتنا الحقيقية عن من يثق فينا من مرضانا.
الناظر فيما يجرى فيما آل إليه الطب النفسى لابد أن يتسائل: إلى أين نحن ذاهبون بالله عليكم؟ هل نحن نساهم فى مسيرة التطور بالتعرف على الفطرة البشرية فى سوائها وإعاقتها، وتشويهها وانحرافها، أم أننا نقوم بالانسياق وراء قيم اختزالية لخدمة أغراض ليست فوق مستوى الشبهات؟
المفروض أننى أقدم هذه المعلومات الأساسية للنفسيين أساسا، وبالذات لأطباء النفس (والمعالجين) الذين يمارسون مهنتهم يوميا، لعلهم يساهمون فى محاولة معرفة المزيد مما ينبغى أن يعرفوه عن الإنسان، وبالذات عن تركيبه الوجدانى، تاريخه، ونشأته، وتطوره، وماذا أصابه، وما يمكن أن يصيبه؟ ومن ثم كيف نقف أمام هذا المخ البشرى العظيم (بكل تجلياته فى الجسد وما حوله) وهو يعيد تنظيم نفسه كما خلقه الله، وما نحن إلا وسائل مساعدة بكل ما أوتينا من علم وأمانة واجتهاد.
لم أعد أتصور أن نكتفى – خصوصا نحن الأطباء- بدراسة العواطف والتعامل معها بتعداد أسمائها، أو تصور أشكال اضطرابها، أو محاولة إصلاح نشازها، نحن نـُستدرج وراء مناهج اختزالية، ومواقف تسكينية، وتصحيحات سطحية، بشكل يتنافى ليس فقط مع قفزات العلم العملاقة عبر العالم، ولكنه يتنافى أيضا مع تاريخ الحياة نفسها، وأصل الطبيعة البشرية.
إذا كان قد ظهر لنا حتى الآن أنه لا يوجد شىء محدد اسمه العاطفة الفلانية منفصلة عن التفكير، وأحيانا مستقطبة إلى القطب الأبعد للتفكير، وكأنها الضد المقابل،
وإذا كنا نتعرف بالتدريج من منطلق تطورى على العواطف كبرامج بقائية ، كانت هى أصل، وأحيانا كل، أدوات التعامل مع الحياة والمحيط عبر تاريخ الحياة، وقبل ظهور الإنسان،
وإذا كنا قد وصلنا – حتى الآن- إلى أن هذه البرامج (العواطف) ما زالت تقوم باعتمال المعلومات مثلها مثل ما يسمى العقل والتفكير، بل وأعمق، وغالبا أصدق.
إذا كان كل ذلك كذلك، فكيف بالله عليكم يمكن أن يطمئن ممارس أمين إلى كفاءة ممارسته وواجبه مع مرضاه دون أن يحضره كل هذا، وغير هذا (من منطلق تطورى)، وهو يعيد تشكيل مخ بشرى له عدة عقول، من بينها العقل العاطفى الاعتمالى – وهى (العقول) – لم تعد تقوم بدورها بالكفاءة التى خلقت له، ونشأت من أجله؟
آن الأوان أن نتوقف – على الأقل نحن الأطباء فى الممارسة اليومية – عن اختزال التفكير إلى “حل المشاكل”، وعن اختزال الإنسان إلى “ماشاع عنه”، وعن اختزال العلاج إلى تصحيح خطإ كيميائى لم نتأكد إن كان هو السبب أم المظهر أم النتيجة”، مع أهمية هذه المساعدات الكيميائية من منظور تطورى أيضا (أنظر بعد).
أثناء بحثى عن ما يساعدنى فى العودة إلى شرح دور العواطف كعقل ثان، فوجئت أن هناك حقيقة أخرى منسية، أو مهملة، أو مزاحة، ليست من اختراعى طبعا، لأننى عثرت عليها فرحا وهى تكمل فروضى وتنظم أطروحاتى، ذلك أننى عثرت على ما أسموه “العقل البيولوجي”، Biological Mind، ويبدو أنه عقل شديد الصلة بالعقل العاطفى الاعتمالى للمعلومات THE EMOTION-PROCESSING MIND، وأيضا شديد الصلة بالتطور
فما هو هذا العقل البيولوجى، وما علاقته بالعواطف من جهة، وما علاقته بالتطور من جهة أخرى؟
هذا ما أتمنى تفصيله غدا قبل العودة إلى مناقشة ما جاء بالكتب السالفة الذكر.
[1] – أصل هذه المداخلة نشرت فى مجلة “الإنسان والتطور” عدد أكتوبر 1980 بعنوان الباحث: أداة البحث، وحقله… فى دراسة الطفولة، والجنون، وقد نوقش فيها دور الباحث بصفته أداة البحث التى تستوعب الملاحظات وتعيد إفرازها فى مجالى دراسة نمو الطفل ونظريات السيكوباثولوجيا، واقتصرت المناقشة على هذين المجالين باعتبارهما يتفقان فى ضعف وخداع المادة اللفظية المتاحة للملاحظة، ويتطلبان نوعا من النكوص الإبداعى، ومن ثم التقمص الواعى والإسقاط ثم التنظير، وقد طرحت من خلال ذلك قضية الذاتية والموضوعية، وكيف أن الذات يمكن أن تصبح موضوعية الوجود بقدر درجة نموها واتساع وعيها اللازمين فى البحث العلمى من هذا النوع، واقترح البحث لتنمية هذين البعدين أن تتاح الفرصة لمن يتصدى لهذا المجال من البحث أن يمر بخبرة الممارسة الاكلينيكية تحت إشراف خاصة ولمدة طويلة.
إلا أننى حين واجهت صعوبة تقييم الوجدان فى حدود ما قدمنا من صعوبة الاتفاق على مسمى بذاته، وصعوبة الترجمة، وصعوبة تطابق اللفظ مع الخبرة، وجدت أن صفات الباحث التى وردت فى هذه المداخلة الباكرة هى الأقرب إلى ما يمكن أن يعيننا أكثر فأكثر فى توصيف الوجدان، فضلا عن تنمية قدرات الباحثين الإكلينكيين عامة، فقمت بتحديث المداخلة حتى تكون أكثر عمومية وفائدة، على حساب بعض التفاصيل عن نمو الطفل وعواطفه إذ لا تقع فى بؤرة ما نتناول حاليا.
[2] – THE EVOLUTION OF THE EMOTION-PROCESSING MIND By: Robert Langs