نشرة “الإنسان والتطور”
18-7-2012
السنة الخامسة
العدد: 1783
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (94)
الإدراك (55)
اضطرابات الإدراك (2)
المتن القديم (6):
الهلوسة:
الهلوسة هى خبرة إدراك “حقيقى” بوجود موضوع ”حقيقى” فى البيئة المحيطة تستقبله الحواس، بالرغم من أنه ليس له وجود فى ”الواقع”.
- ياه! منذ حوالىٍ عقدين من الزمان، وأنا أنطلق من نفس الفرض الذى تصورت مؤخرا أنه جديد تماما، وأنه سوف ينسخ كل ما كتبته عن الهلوسة (من الكتب والمراجع المؤسسية) نسفا. نلاحظ هنا أن استعمال كلمة “حقيقي” كانت بشكل فيه تأكيد ما، وهو يكاد يتناقض مع تعبير” بالرغم من أنه ليس له وجود فى ”الواقع”، هل هناك فرق بين الحقيقة والواقع أم كان علىّ أن أضيف إلى كلمة الواقع صفته التى أعنى فأقول : بالرغم من أنه ليس له وجود فى ”الواقع” “الخارجى”، مثلا؟
- أعتقد أن كل ما قدمته مؤخرا من فروض نابعة من حالة “رشاد” على مدى مئات الصفحات، بما فى ذلك رصده لخلل “عملية معالجة المعلومات”، كان شرحا لهذه الجملة القديمة، ماذا عندى يمكن أن أضيفه الآن؟ لا أستطيع أن أكرر فى كل مرة “أنظر حالة رشاد“، وفى نفس الوقت أتساءل :إذن ماذا؟ ألا يكفى تحديث عرض الحالات من واقع الممارسة الإكلينكية، ثم تكون المرحلة التالية هى انتقاء ما يدعم التنظير المناسب؟
- أول كتاب قرأته فى الطب النفسى كان كتاب هندرسون وجلبسى، وكان به من موجز لحالات إكلينيكية ما أضاف لى ما أضاف (1978/1979) وكثيرا ما كنت أقارن الحالات التى أشاهدها فى العيادة بالحالات التى أقرأها فى هذا الكتاب الجميل، فأتعلم، فوجئت بعد عدة سنوات (1961 حيث كانت توصية أستاذى عبد العزيز عسكر، هى أن أحصل على دبلوم الباطنة العامة أولا، فالطبيب النفسى ينبغى أن يكون طبيبا ثم نفسيا!!) أقول فوجئت وأنا أدرس لتحصيل درجة الدبلوم فى الأمراض العصبية والنفسية بالطبعة الجديدة لكتاب هندرسن، أن أغلب الحالات التى صاحبتها اختفت، أو اختصرت، والأهم أن الكاتب كتب فى مقدمة هذه الطبعة ما يلى:
- “يؤسفنى فى هذه الطبعة أن أودع بعض أصدقائى ممن كانوا ضيوفا كراما على الطبعة الأولى استجابة للتوجه الجديد فى النشر والكتابة!!، ولم أجد فى الطبعة الجديدة جديدا إلا أننى، مثله، افتقدت هؤلاء الأصدقاء فعلا، وكدت ألومه على ذلك
- حين استشرت تلاميذى الآن (2012) فى ورطتى هذه أول أمس (اجتماع جديد مع الأصغر فالأصغر صباح كل اثنين) وعدونى بالرد بعد نشرتى الثلاثاء وهذه النشرة الأربعاء، وحين أخبرت ابنى د. محمد يحيى أمس، أننى أكتب وأنا أكره ما أكتب الآن، قال لى: هذا ليس أنت، أكتب لنا الحالات، لنا أو لغيرنا، مثل حالة رشاد، دون حتى أن تربط كل حالة بظاهرة بذاتها (مثلما ربطت حالة رشاد بأنه “فصامى يعلمنا الفصام دون أن ينفصم”، ثم بالعين الداخلية، ثم بعملية فهم عملية معالجة المعلومات)، وأضاف إن هذا الربط يجعلنا نبحث عن القضايا والفروض فى الحالة المقدمة أكثر من تعرفنا على “رشاد” أولا مما نحن فى أشد الحاجة إليه، وحين سمعت ذلك فرحت، لأنه أرجعنى إلى أهم إسهام هذه النشرة (ومن قبل مجلة الإنسان والتطور) فى المجال الإكلينيكى، وهو عرض حالات من ثقافتنا أولا، ومباشرة (أبواب: حالات وأحوال، والعلاج الجمعى الفهم واللافهم: مدخل إلى الادراك من العلاج الجمعى، بما يشمل الألعاب النفسية، “ثم التدريب عن بعد” “نصوص” و”ألعاب” من العلاج الجمعى، فرحت لكننى رفضت العدول عن المحاولة الحالية قبل أن نجربها ولو أسبوعين.
المتن القديم (7):
الشائع عن كلمة “هلوسة”
كلمة “هلوسة” يساء استعمالها عند العامة وأحيانا عند المختصين. حين يقول الناس عندنا أن فلانا “يهلوس” فإنهم يعنون أنه يخلط فى الكلام والتصرفات (يلخبط).
وعند المختص: حين يعتقد شخص أن هناك من يقف بجواره طول الوقت دون أن يراه أو يكلمه (أى أنه لا توجد إثارة لأى من الحواس) فإن ذلك يسمى خطأ عرض “هلوسة خارج الساحةExtra-campine hallucination (يقول المريض مثلا: حاسس إن فيه واحد ورايا طول الوقت، مع إنى لما بابص ما بالاقيش حد)، هذه ليست هلوسة بل هى نوع من الدراية المتعينة ذهنيا Concretized awareness فقط (المتجسدة فى الوعى وليس أمام الحواس)
- هذا بالنسبة لاستعمال كلمة “هلوسة” بعد قبولها كلمة علمية أصيلة، والتنبيه على عدم استعمالها بمعنى “خلط” أو اللخبطةْ مثل العامة، أما عن أصل كلمة “هلوسة فى اللغة الفصحى فإنه ليس له علاقة بكل هذا، ومع ذلك فأنا قبلت هذه الترجمة لعلاقتها بالعامية، وقبلت دخولها من العربية للفصحى، فقليل من يعلم أنه “هَلَسَ:: تعنى ضحك فى السرا ” نظرت إلىّ نظرة إهلاسا “سرا ولم تعلم علىّ باسا إلا كلالا خالط النعاسا” ، ولا شك أن عندها حق إذا كان قد غلبه نوم ما وهو معها، فضحت منه إشفاقا أو تعجبا ، ولكنها ضحكت بنظرتها “نظرة إهلاسا” ، انتهزت هذه الفرصة لأؤكد أننا لسنا ملزمون بأصل الفصحى بقدر ما نحن مدعوون للأخذ من العامية والشائع أيضاً لنثرى به الفصحى واللغة العلمية جميعا.
المتن القديم (8):
الهلوسة فى الشخص العادى
تحدث الهلوسة عند الشخص العادى فى أحوال كثيرة منها:
(1) حين الدخول فى النوم (هلوسة الوسن)
(ب) قبيل اليقظة الكاملة (هلوسة قبيل اليقظة)
(ج) أثناء الأحلام
(ء) عند إثارة عضو الإحساس بمثير ميكانيكى (مثل رؤية نقط الضوء بعد دعك العينين)
- نلاحظ أن كل هذه الأنواع الأربعة تحدث فى حالة من الوعى بعيدة عن وعى الصحو النشط بشكل أو بآخر، فأثناء الدخول فى النوم أو الخروج منه يختلف الوعى عن حالة الوعى خلال النوم الكامل (وهو ما أسميه اليوم “وعى النوم” كما يختلف أيضا عن حالة اليقظة، وفى نظريتى عن الأحلام ضمن أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” جعلت هذا النوع من اختلاف الوعى قبيل اليقظة، هو المجال الذى يتخلق فيه ما نسميه الحلم القابل للحكى جزئيا، والذى قد يضطرد فى وعى تخيلى، وليس هلوسى (لاحظ الفرق: أنظر بعد) مع التمادى فى اليقظة، وكل ذلك فى جزء بسير جدا من الوقت، قدرته أحيانا ببضع ثانية ، لكن الشخص قد يحكى ما تشكل فى هذا الجزء من الزمن على اته استغرق شهورا أو دهورا (أنظر –الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع) أو (أحلام محفوظ “عن طبيعة الحلم والإبداع” الفصل الأول).
- ثم إنه توجد هناك تقارير محكية وسير ذاتية، تحكى عن بعض المبدعين معالم المرور بخبرات هلوسية صريحة ، مثل كارل يونج أو سقراط ، وسوف نعود لذلك ونحن نفصل فى موضوع نشاط العين الداخلية فى حالة السواء الفائق أى الإبداع، وهذه الهلوسات تقترب جدا مما سوف نسميه الهلوسات البصيرية.
المتن القديم (9):
الهلوسات الزائفة
أحيانا ما توصف خبرة قريبة من خبرة الهلوسة على أنها هلوسة زائفة، وقد أطلق هذا الاسم (هلوسة زائفة) ـ للأسف ـ على ظاهرتين رغم أن إحداهما تكاد تكون عكس الأخرى. تماما
الظاهرة الأولى هى نوع من الخيال المجسد، أى أنها بعيدة عن الإدراك بشكل ما. يحكى المريض عن ما يرى أو يسمع (و يعايش) بشكل واضح فيه التأليف، وحكـيه عادة ما يتصف بأنه:
1) صورة خيالية وليس إدراكا بديلا
2) ذات بعدين أو ثلاثة بشكل مرسوم أكثر منه حاضرا ماثلا،
3) يشعر به الحاكى (ليس مريضا بالضرورة) أنه من صنع خياله إذ يقع فى الساحة الداخلية للذات (مع أنه قد لا يقر بذلك للوهلة الأولى)
4) كما أنه يحور هذه الصورة أثناء الحكى ويضيف إليها تفاصيل تتناسب مع التخيل، كل ذلك رغم أن المريض يجزم أنها مجسدة يراها رأى العين.
5) كما أن هذا النوع يمكن أن يستدعيه المريض بإرادة جزئية، مثلما يفعل الشخص المخاوى (المتصور أن له زوجة من الجان مثلا) حين يرجع إلى منزله ، ثم يُخفت الأنوار ويستدعى رفيقته من الجان.
أما الظاهرة الثانية التى يطلق عليها نفس اللفظ (“هلوسات زائفة” أيضا) فهى خبرة إدراك حقيقية، حيث يدرك المريض (أو المبدع) ببصيرة واعية – بدرجة ما – أن ما يحكى عنه ليس واقعا خارجيا منفصلا عنه، لكنه واقع ماثل هو جزء منه، وأنه ليس الحقيقة التى يراها أى خر، لكنها موجودة ومعيشة له فعلا. حقيقة الأمر أن هذه البصيرة تزيد من حقيقية وأصالة خبرة اضطراب الإدراك، وبالتالى لا يصح أن تسمى زائفة وكأنها تنـفى خبرة الإدراك الداخلى التى تبدوا أكثر مصداقية من استقبال العالم الخارجى بما يسمى إدراك الشخص العادى.
كلا الظاهرتين ليستا من الزيف فى شئ، الأولى (الصورة التخيلية)، ليس لها علاقة مباشرة بالإدراك إذ أنها تنتمى إلى التخيل والصور الخيالية فى حين أن الثانية هى ”وعى فائق” بالعالم الداخلى من خلال ما يسمى “العين الداخلية” ولكن هذا الوعى الفائق، لا يصح أن يسمى ناتجه هلوسة، إلا إذا استقبله المريض باعتباره شذوذا غير مرغوب فيه، بعكس المبدع والحدسىّ المتصوف مثلا، كلاهما يأخذ هذا الداخل مأخذ الجد ويعتبره حقائق ومفردات، تصلح لتشكيل إبداعه.
ثَمَّ تناقض أكيد بين تسمية هذا النوع “هلوسة”، وبين وصفه هذا الوصف الذى يبدو إيجابيا بمعنى حدة البصيرة وفرط الدراية، لكن هناك مبررات يمكن أن تجعل التسمية مشروعة حتى الآن:
نقترح لفض هذا الخلط أن يقتصر وصف الهلوسة بالزائفة على النوع الأول وتسميته الصورة التخيلية فى حين يسمى النوع الثانى: الهلوسة البصيرية.
أعلم أن هذه التسمية فيها تناقض أيضا لا يخفى، لكن لها فوائد لا يمكن إنكارها ومن ذلك:
أولا: أنها تعطى شرعية لاجتماع الهلوسة مع البصيرة الفائقة (ربما مثل حال سقراط وكارل يونج.
وثانيا: أنها تنبه أن هذا النوع، الذى يحمل نفس الاسم المرضى (هلوسة) هو إعلان لحدة الوعى وفرط الدراية)، وبالتالى هو خطوة إما إلى إسقاط فاغتراب (المرض)، وإما إلى استيعاب وتشكيل (فإبداع).
وثالثا: هى تنبيه أنه طالما أن الإدراك مازال – فى أغلب الآراء – قاصرا على ما هو خارج الذات، ومن معبر الحواس، فإن هذه الخبرة مهما اكتسبت بصيرة هى هلوسة حقيقية (وليست زائفة) إلى أن يعاد النظر فى الاتفاق على توسيع مجال الإدراك فعلا، وحين ذلك قد تسقط عنها صفة الهلوسة بمعنى المرض، لتأخذ موقعها فى حركية تشكيلات الوعى بما يعد بإبداع ما.
لتوضيح الفروق أكثر نذكر أن الهلوسة التقليدية، هى إدراك تال، عبر الحواس، لموضوعات أسقطت إلى العالم الخارجى، من داخل الذات. ثم عادت تدرك إحساسا ماثلا. وفى هذه الحالة يصر المريض أنها من الخارج تماما.
فى حالة الهلوسة “البصيرية” يتحدث المريض (أو الشخص) عما يرى أو يسمع باعتباره قادم من خارجه فعلا، وفى نفس الوقت لا يمانع أن يسميها “هلوسة”، مع يقينه بوجودها، وأن غيره لا يراها، وأنها يمكن أن تكون صادرة من داخله (الذى هو فى هذه الحالة خارجه فى نفس الوقت).
إن هذا المدخل للاعتراف بموضوعية العالم الداخلى هو الجدير باحترام المريض النفسى من جهة، ثم هو بفتح آفاق المعرفة للواقع الداخلى بلا حدود
أثناء العلاج النفسى المكثف يمكن أن تعامل الهلوسة مع نمو البصيرة بطريقة تجعلها تنقلب من موضوع مُسقط إلى موضوع داخلى مدرك، مستقل، ثم إلى موضوع داخلى حقيقى، قادرعلى الالتحام بعملية التكامل الجارية، من خلال العلاج النفسى، وأثناء نقلة الموضوع من المسقط الخارجى إلى الموضوع الداخلى “المستقل” إلى الموضوع الداخلى القابل للتكامل يجرى الحديث فى العلاج عن الهلوسة باسم “الهلوسة” (بعد أن أصبحت فى متناول البصـيرة رغم أنها لم تختف)، ويستمر تحملها واستيعابها حتى يتم التكامل فى ظروف ملائمة.
لم أجد عندى وأنا أقرأ هذا المتن أى رغبة فى المزيد، ولم أكن أذكر أنى كتبت كل ذلك بهذا التفصيل، وفضلت أن أؤجل التعليق تفصيلا لعلى أتمكن من تقديم عينات إكلينيكية(1) من واقع العلاج الجمعى أو مما يتسر من مقتطفات من حالات إكلينيكية.
هذا إذا كنا سوف نتفق أن نكمل هذه التجربة ولو بالنسبة لموضوع الهلوسة على الأقل.
[1]- مثلا حالة: هو شاب فى كلية الزراعة، من عائلة بها تاريخ إيجابى للمرض العقلى، أكثر من فرد، أكثر من مرض، كان يكتب شعرا عموديا جميلا، وله ذائفة أدبية عالية، بعد عدة نسوات من علاقة علاجية مستمرة ، لكنها غير منتظمة بمعنى العلاج النفسى التقليدى، بدا يتكلم عن هلوسته البصرية والسمعية باسمها، مثلا : ” – إيه أخبار الهلاوس؟ لا لسّه شوية، أو : الهلاوس شدت على اليومين دول قلت آجى أشوف حضرتك”، وهكذا، وقد تخرج، وعاد يكتب شعرا أجمل، وتراجعت الهلاوس تدريجيا بهدوء، وإن كانت تظهر هى أو بدائلها وما إليها فى أحلامه التى لم يكن يطلب لها تفسيرا، وإن كان يحكى بعضها فى بعض المقابلات ، دون أن يطلب حتى تعقيبا.