نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 16-1-2013
السنة السادسة
العدد: 1965
تعتعة التحرير
.. متى يدخل الإيمان فى قلوبنا؟
أتعجب كثيرا لمن يبعد الدين فالإيمان عن السياسة وعن الحياة بالمرة، الإيمان هو أصل الوجود البشرى (وغير البشرى: ألا تسبح الجبال والطير بحمده؟)، الإيمان ليس نشاطا اختياريا تماما، قد يكون “الاعتقاد” كذلك، أما الإيمان فهو الذى يحافظ على استمرار الحياة، قد يخفيه العقل المتحذلق المغترب تحت غطاء من الغرور والاختزال بغطاء الفكر الساذج، لكنه لا يستطيع أن يزيحه تماما أو يلغيه إلا إذا أزاح الحياة نفسها، ما يسمى العلمانية (التى أرفض اسمها نتيجة لسوء الفهم وأعَرّبها إلى “السكْلَريَّة” Secularism ) اختزلتْ الإيمان إلى الدين ثم اختزلت الدين إلى السلطة الكنسية، ثم إلى الدولة الثيوقراطية التى ما أنزل الله بها من سلطان، ووضعت كل هذا فى سلة واحدة وتصورت أنها لابد أن تزيحها عن طريقها حتى يكمل الإنسان غروره، ثم راحت تهزل حين تؤكد أن الدين (فالإيمان) مسألة شخصية بحته، وأنه ممارسة اختيارية بعض الوقت، أو لتطييب الخواطر أو حين تجعله ممارسة سرية فردية لا يصح أن يطلع عليها الناس وتعتبر أنها بذلك أخلت يدها، ومهدت الطريق للأفراد منهم لربهم، أما الوطن فهو للجميع، وكأنه يمكن فصل الله عن الوطن أو عن الجميع.
ثم يأتى على الجانب الأخر من اختزلوا الإيمان إلى الدين، وبدلا من أن يَفْهموا ويُفَهِّموا الناس خوف السكلريين من الإيمان، وخطأ ربطهم إياه بسلطة سياسية دينية ظالمة أبعد ما تكون عن الإيمان، لم يتوقفوا عند مرحلة اختزال الإيمان إلى الإسلام بل تمادوا إلى اختزال الإسلام إلى الشريعة مع أن ربنا قد علّمنا وهو يعلم الأعراب أن هذا لايجوز، وأن على كل مسلم أن يكمل الكدح إليه سبحانه وتعالى حتى يَدْخُل الإيمان فى قلبه، فيدرك حقائق الحياة وأنه لا إله إلا الله “قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”، توقفت طويلا عند “َلَمَّا” هذه، لأنها ليست “لمْ”، فاستلهمت كيف يكون الإسلام مرحلة إلى الإيمان لمن يواصل السعى، تماما كما يكون الإيمان مرحلة إلى معرفة الله مع استمرار السعى، حيث السعى هو فى ذاته المعرفة الممكنة.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يجرؤ مسلم يعرف هذه البديهيات الطيبة بفضل الله أن يختزل معرفة الله إلى الإيمان، ثم يختزل الإيمان إلى الإسلام، ثم يختزل الإسلام إلى الإخوان، استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
لعبة التقسيم الجارية فى العالم تعلن تنازل الناس المعاصرين عن التمحور حول “لا إله إلا الله” من كل صوب وحدب، الذين قسموا العالم إلى محور الشر ومحور الخير لم ينتبهوا أنهم بذلك صنفوا أنفسهم فى محور الشر، ثم ننتقل إلى الذين قسموا الناس إلى متدينين وملحدين ولم يعلموا أن الإلحاد استحالة بيولوجية، وكل ما يستطيعه الملحد – كما أشرنا- هو أن ينكر بعقله الأحدث الحجج الواهية التى حَشَرتْ فى ظاهر عقله حشراً مُعْتَقَدًا لا ينبع من الإيمان ولا يصب فى الطريق إلى الله، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الذين ركزوا على ما يسمى الأديان السماوية، وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، ثم قسموا الأديان السماوية إلى إسلام ومسيحية ويهودية بتعسف مطلق لا يضع اعتباراً لحركية الزمن ورحمة الله، ثم امتد التقسيم إلى الإسلام فشقوه إلى سنة وشيعة، وتجلى الفصم أكثر فى مصر فقسموها إلى “إخوان”، و”لا/إخوان”، وأضافوا للأولى كلمة المسلمين، ولم ينتبه اللاإخوانيون إلى إيمانهم الحقيقى من كل دين، وراحوا ينهجون نهج السكلرين الأوليين، فكادوا يحرمون أنفسهم من نعمة الإيمان وأنه لا إله إلا الله.
ما هذا بالضبط؟ ما الذى يجرى، هل هى إرهاصات انقراض البشر: هذا النوع الحيوى الذى كرّمه رب العالمين؟ هل نحن نوع حيوى نوع واحد أم عدة أنواع؟ من المعروف أنه لا يوجد عدوان بين أفراد النوع الواحد من الأحياء إلا فى ظروف تطورية استثنائية، مثل قتال الذكور لضمان تحسين النسل نحو الأقوى، وحتى هذا القتال لا ينتهى بقتل الذكر الأقوى للأضعف، وإنما يتوقف القتال بمجرد أن يشير المهزوم بما يسمى “علامة الإذعان” وينسحب آمنا، أما هذا التقسيم الذى تلاحق بهذه السرعة حتى تشرذم البشر فقد جعل كل قسم بما لديهم سفاحون، يقتلون بعضهم البعض – وهم من نفس النوع – استباقا، وعن بعد، وتطهيرا عرقيا، واسترقاقا للأضعف.
الصراع القائم هنا فى مصر ليس إلا جزءٌ من صراع البقاء بالمعنى الأوسع، وقد أشرت عدة مرات إلى الوحدات الزمنية العملاقة التى علينا أن نقيس بها – ولو بشكل تقريبى– خطواتنا، وأيضا أشرت إلى قوة العوامل المؤدية لانقراض الأنواع ومنها الجنس البشرى، الصراع الظاهر فى مصر يبدو على السطح صراع بين الإخوان واللا إخوان، فى حين أنه ينبغى أن يكون – مثل كل مكان فى العالم – بين البقاء متمحورين حول “لا إله إلا الله”، وبين المتكاثرين اغترابا متحورين حول الدولار واليورو.
أنا آسف، لكن الرؤية الطولية للتطور، والرؤية العرضية للأحياء والرؤية الإيمانية للأديان تلزمنى أن أعلن ما أعرف! كلما تكلمت هذه اللغة شعرت أننى أنفصل عن اللحظة الراهنة، وعن المشاكل العاجلة، وعن فهم الصراعات السياسية وغير السياسية الجارية، وهذا غير صحيح فأنا أقر وأعترف أنه لا فائدة من هذه النظرة المتسعة إلا إذا بدأت مسئولية حمل الأمانة من الأقرب إلى الأبعد، ومن “هنا والآن” إلى أن نلقى رب العالمين، وفى نفس الوقت لا معنى – أمام الله – لاختزال الحياة إلى من ينجح فى انتخابات الرئاسة أو مجلس الشعب، أو إلى الحصول على قرض البنك الدولى، فى نفس الوقت لا ينبغى أن ننسى التاريخ، والوحدة الزمنية العملاقة التى يحسب بها انتصار الخير، وتحقيق ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض.
نرجع مرجوعنا للجارى حالا لأبدأ بيقين وصلنى من الممارسة، والسن، والجهد، والاجتهاد، والمرضى، ودينى، ورب العالمين من قبل ومن بعد، لأقول إن الحياة هى حركية تعميرية إبداعية ممتدة إلى كل ما نعرف ومن نعرف من نوعنا (وغيره) وإلى كل ما لا نعرف (الغيب) وأن علينا أن نوصل من لم تصله رسالة هذا الدين العظيم طريقا إلى الإيمان إلى وجه الله ربما لمّا يدخل الإيمان فى قلبه، وما زالت الفرصة أمامه مثلما هى أمامنا.
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر.