الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة الثانية والأربعون السبت‏: 4/3/1995

الحلقة الثانية والأربعون السبت‏: 4/3/1995

نشرة “الإنسان والتطور”

23-9-2010

السنة الرابعة

العدد: 1119

Photo_Mafouz

الحلقة الثانية والأربعون

السبت‏: 4/3/1995

الاسكندرية، ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الأستاذ‏ ‏أجمع‏ ‏نفسى ‏لأرى ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏أكتبه، ‏فرصة أن أكتب بضعة سطور كمقدمة لهذا العمل، ولكن: هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكتب‏ ‏مقدمة‏ ‏بعد‏ ‏ثلاثمائة‏ ‏صفحة‏ ‏من‏ ‏كتابة‏ ‏الكتاب؟!‏ مقدمة‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى؟! طبعا ممكن، كل المقدمات تكتب بعد الانتهاء من الكتاب، لكن هذه الخواطر كلها ليست إلا مقدمة لكتاب ما، كتاب لن يصدر أبدا، ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخواطر التى أسجلها ‏ ‏هى ‏مقدمة‏ ‏لا أكثر ولا أقل!

منذ‏ ‏أسبوع‏ ‏اشتريت‏ ‏كتاب‏ “‏كانت‏ ‏لنا‏ ‏أيام‏ ‏فى ‏صالون‏ ‏العقاد‏” لأنيس منصور، ‏وأظن‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏عمل قريب من هذا الذى أكتبه الآن، ‏وحين‏ ‏تصفحت كتاب أنيس منصور ‏ ‏تذكرت‏ ‏أننى ‏قرأت‏ ‏بعض‏ ‏فصوله‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏أكتوبر‏، أو لعلى اشتريت نسخة قبلا ولم أكمل قراءتها، وقد أشرت فى يومية سابقة‏ ‏إلى ‏موقع‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏عند‏ ‏الاستاذ‏ وتناقشنا حوله، ‏‏قرأت‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الطبعة‏ ‏الثانية‏ (1984) ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏من‏ ‏ناس‏ ‏مهمين‏ ‏بينهم‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏وعبد‏ ‏العظيم‏ ‏رمضان، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏وأصدقة‏ ‏مقال‏ ‏ثروت‏ ‏أباظة، يبدو أننى ‏بدأت‏ ‏أصالحه ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حب‏ ‏الاستاذ‏ ‏له، لا يمكن أن يحب الأستاذ شخصا سيئا، ‏كم‏ ‏نحن‏ ‏قساة‏ ‏ونحن‏ ‏نحكم‏ ‏على ‏الناس‏ ‏عن بعد، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏قراءة مقدمة هذا الكتاب‏ ‏جعلتنى – ‏أو‏ ‏قل‏: ‏كادت‏ ‏تجعلنى – ‏أتوقف‏ ‏عن‏ ‏الاسترسال‏ ‏فيما‏ ‏أفعل‏ ‏الآن‏ ‏هنا، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏أنيس‏ ‏منصور‏ ‏قد‏ ‏فعل‏ ‏مثلما‏ ‏أفعل‏ ‏هكذا‏ يوما بيوم ‏إذن‏ ‏لصدر‏ ‏كتابه‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏آلاف الصفحات، ‏لكن‏ ‏المسألة‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏تعود‏ ‏إلى ‏ماذا‏ ‏ندع‏ ‏وليس‏ ‏إلى ماذا‏ ‏نثبت، ‏أول‏ ‏مرة‏ ‏سمعت‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏كان‏ ‏فى ‏كلية دار‏ ‏العلوم‏ ‏والاستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏ابراهيم‏ ‏مدكور‏ ‏يناقش‏ ‏الطالب‏ ‏محمد‏ ‏عمارة‏ (‏الذى ‏أصبح ‏دكتورا‏ ‏إسلاميا‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏المناقشة‏) ‏فى ‏رسالته‏ ‏عن‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏حين‏ ‏قال‏ له جملة رائعة وهو يؤاخذه على تفاصيل لا لزوم لها قال: ” ‏الباحث‏ ‏بما‏ ‏ترك‏ ‏لا‏ ‏بما‏ ‏أثبت‏”، ‏ومن‏ ‏يومها‏ ‏وأنا‏ ‏أحاسب‏ ‏طلبتى ‏الذين‏ ‏أشرف‏ ‏عليهم‏ ‏فى ‏تحضير‏ ‏رسائل‏ ‏الدكتوراة‏ ‏بهذا‏ ‏المقياس، ‏وما‏ ‏أصعبه، ‏”الترك‏” ‏الذكى ‏هو‏ ‏الذى ‏يصلك دون أن يُثبت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏بعد تركه، ‏والإثبات‏ ‏الحقيقى ‏هو‏ ‏القادر أن يحتوى ما ترك، أنيس منصور ترك آلاف الصفحات فى ذاكرته (الذكية المستسهلة) حتى يخرج هذا الكتاب، لو أنه أثبت كل خواطره

 يا ترى، متى أتوقف بالله علىّ؟ ولماذا أتوقف؟ ولماذا لا أتوقف؟ ‏الشاهد‏ ‏أننى ‏أستفيد‏ شخصيا مما أفعل، ولست وصيا علىّ، وما لم أضطرنى إلى التوقف خجلا أو شعورا بالنقص، فسوف أتمسك بحقى فى كتابتها، أنا أتعلم مما أكتب كما أتعلم مما أقرأ، وليكن ما أكتبه أقل رشاقة مما فعل أنيس بصالون العقاد، ولكنه غالبا أكثر أمانة، لست متأكدا، ليست حرفتى، لست إلا شخصا عاديا أتيحت له فرصة أن يقابل هذا الإنسان الرائع، هذا الهرم المبدع، لا لا لا، ليس هكذا، هذا الشخص الذى عرفته ليس إلا شخصا عاديا، وهذا هو أروع ما عرفته فيه، علمتنى مهنتى أن الشخص‏ ‏العادى ‏جدا ‏يفكر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أمور‏ ‏الحياة، ‏ويتخذ‏ ‏موقفا‏ ‏ويتفلسف‏ ‏ويضيف‏ ‏وينقد، ‏وأحيانا‏ ‏أتصور‏ ‏أنه‏ ‏أكثر‏ ‏حرية‏ ‏من‏ ‏الذى ‏أحاط‏ ‏نفسه‏ ‏منذ‏ ‏البدية‏ ‏وإلى ‏النهاية‏ ‏بهذه‏ ‏الغابة‏ ‏من‏ ‏الأسلاك‏ ‏الفكرية‏ ‏الشائكة، ‏فلم‏ ‏تتبق‏ ‏له‏ ‏إلا‏ ‏مساحة‏ ‏محدودة‏ ‏للحركة، ‏وفرصة‏ ‏غير‏ ‏محسوبة‏ ‏للقفز‏ ‏فوق‏ ‏الأسلاك، ‏وأظن‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أثبت ما بلغنى من ‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏قرأ‏ ‏كثيرا‏ ‏جدا، ‏وعرف‏ ‏كثيراً‏ ‏جدا‏، ‏وفكر‏ ‏كثيرا‏ ‏جدا جدا‏، حتى سمعت أنه كان يكثر من العودة إلى الموسوعة البريطانية حتى يكاد يقرأ فيها بانتظام، ‏لكن‏ ‏عظمته‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى وصلتنى بعد أن عرفته هى ‏أنه‏ ‏هضم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هضما‏ ‏كاملا، ‏خلطه بلحمه ودمه، ‏ليس‏ ‏للتنظير‏ ‏فيه‏ ‏نصيب، ‏وانما‏ ‏هو‏ ‏يفرز نتاج‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏الصيغة‏ ‏الإبداعية ‏ ‏التى ‏يمسك بأداتها، ‏أحيانا تصلنى نظرية كاملة من‏ ‏سطر‏ ‏واحد كتبه‏ ‏مثل ‏الفقرة‏ 45‏ من ملحمة‏ ‏الحرافيش‏ ” ‏لو‏ ‏أن‏ ‏شيئا‏ ‏يدوم‏ ‏فلم‏ ‏تتعاقب‏ ‏الفصول‏” ‏أو‏ ‏فى ‏بضعة‏ ‏سطور‏ ‏مثلما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏فقرات‏ ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذتية، ‏أو‏ ‏فى ‏قصة‏ ‏قصيرة‏ ‏مثل‏ “‏الزعبلاوى‏” ‏أو‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏كاملة‏ ‏مثل‏ ‏‏الحرافيش‏، ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ ‏مبدع‏ ‏نسى، ‏اذا‏ ‏ذُكّر‏ ‏ذكر‏، ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏معك‏ ‏بما‏ ‏يحفظ‏، ‏ولا‏ ‏بما‏ ‏يعتقد‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يحضر‏ ‏معك‏ ‏بما‏ ‏هو، ‏فإذا‏ ‏سألته‏ ‏أجاب‏، ‏وإذا‏ ‏ذكّرته‏ ‏أو‏ ‏استذكرته‏ ‏ذكر، ‏واذا‏ ‏تركته‏ ‏انساب ‏سلسلا‏ ‏حاضرا‏ ‏محيطا،

 ‏هكذا‏ ‏‏انتهيت‏ ‏الآن‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الاستاذ‏ ‏لمدة‏ ‏يوم، ‏ثم‏ ‏يوم‏ ‏وربما‏ ‏يومين‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏استمر‏ ‏فى تدوين ما يصلنى، دون‏ ‏تفكير، ‏ودون وصاية منى علىّ، كما أنه علىّ ‏ألا‏ ‏أتحرج‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏عن‏ ‏نفسي، ‏متصنعا التواضع أو التراجع، حتى لو اكتشفت أننى لا أكتب شيئا إلا ‏ ‏سيرتى ‏الذاتية‏ ‏أنا‏ .‏

والسلام‏.‏

الثلاثاء: 8/3/1995

“فرح‏ ‏بوت”، لم‏ ‏أتصالح‏ ‏بعد‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الجلسة، برغم أنها تبدو للأغلب أنها الأصل، ليس فيها ما أرفضه، لكننى لا أحن إليها حين أبتعد عنها، أحب كل أفرادها تقريبا، حتى أولئك الذى لا أستظرفهم فرادى أجدهم أقرب وأطيب كجزء من المجموع، وجدت جلسة اليوم‏ ‏هادئة‏ ‏تماما، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏موجود غير‏ ‏حسن‏ ‏ناصر‏ ‏ومحمد‏ يحيى و‏حافظ عزيز‏، ‏دار‏ ‏حديث‏ ‏حول‏ ‏مضاربة‏ ‏أقدم‏ ‏بنك‏ ‏انجليزى ‏التى ‏عرضته ‏لخسارة‏ ‏مليار‏ ‏دولار‏ ‏نتيجة‏ ‏إقدام‏ ‏موظف‏ ‏شاب‏ ‏عنده‏ 28 ‏سنة‏ ‏على ‏المغامرة‏ ‏بثمانية‏ ‏وعشرين‏ ‏مليارا‏ ‏أو‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل‏ – ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏كان‏ ‏يستمع‏ ‏لهذه‏ ‏الأخبار‏ ‏بشوق‏ ‏طفل،‏ ‏أو حب‏ ‏استطلاع شاب يتعلم، استرسل فى مناقشة معنى ودلالة، ما حدث وهو يحاول فهم ما لم يكن فى مقدورى أن ألمّ به، سأل أحدهم عن مغزى مجموعة‏ ‏البنوك‏ ‏الهولندية‏ ‏حين ‏عرضت‏ ‏شراء‏ ‏البنك‏ ‏بجنية‏ ‏استرلينى ‏واحد، ‏وكذا‏ ‏وكيت، ‏قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏لحفظ‏ ‏تماسك‏ ‏حركة‏ ‏السوق‏ ‏البنكية، ‏لأن‏ ‏إفلاس‏ ‏بنك‏ ‏واحد‏ ‏يهز‏ ‏السوق‏ ‏بأكمله‏ ‏ويعرض‏ ‏الثقة‏ ‏بالبنوك‏ ‏مجتمعة‏ ‏للاهتزاز مما قد يدفع‏ ‏الناس‏ إلى سحب ‏مدخراتهم‏ ‏وبالتالى ‏ينهار‏ ‏الاقتصاد‏ ‏ليس‏ ‏على ‏مستوى ‏بنك‏ ‏واحد، ‏يجرى ‏وإنما‏ ‏على ‏مستوى ‏العالم‏ – ‏(لم تكن الأزمات العالمية 2006، 2008 اللاحقة قد حدثت)، الذى ‏أدهشنى ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏تنوع‏ ‏اهتمامات‏ ‏الأستاذ، ‏وحبه‏ ‏للمعرفة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجال‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏اهتماماته‏ ‏الخاصة، ‏أو‏ ‏المتخصصة، ‏وتدرج‏ ‏الحديث‏ ‏عن فوائد‏ ‏البنوك، ‏وكيف‏ ‏أنها‏ ‏حلال‏ ‏زلال، فما دامت‏ ‏البنوك‏ -‏ هكذا‏ – ‏معرضة‏ ‏للخسارة‏، فالمودعون شركاء لأن المكسب ليس ثابتا ولا هو مضمون بصفة دائمة تحت كل الظروف، تساءل حسن ناصر عن متى نقدم بشجاعة على تحديث‏ ‏الفقة‏؟ قلت له أنه لا فائدة من هذه المحاولة إلا إذا تنازل الفقهاء عن احتكار الفقه.

كنت‏ ‏فى ‏الصباح‏ ‏قد‏ ‏مررت‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏محمود‏ ‏شاكر، ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏أصيب‏ ‏بجلطة‏ ‏خفيفة‏ ‏فى ‏المخ‏ ‏وهو‏ ‏يتماثل‏ ‏للشفاء‏ ‏ويستعيد‏ ‏قدرته‏ ‏الكلامية، ‏وأبلغته‏ ‏ضمنا‏ ‏تحيات‏ ‏الأستاذ‏ ‏وذكرياته‏ ‏معه‏ ‏فى ‏مكتب‏ ‏أحمد‏ ‏حسن‏ ‏الزيات‏ ‏فى “‏مجلة‏ ‏الرسالة‏” ‏بعابدين‏ ‏إلخ، ‏وكلفنى أن أسلم عليه، وأبلغت الأستاذ سلامه، وفرح، مشاعرى نحو الأستاذ الآن وقد تجاوزتُ الستين تكاد تكون مثل مشاعرى نحو الأستاذ محمود شاكر وأنا لم أتعد الخامسة عشر، الاختلاف شديد بينهما، فكرا، وطباعا، وسِمَاتٍ، حتى يمكن أن يقال أنهما عكس بعضهما البعض، لكن ما وصلنى أن كلا منهما يحب الآخر، كما أننى أشعر أن مشاعرى هى هى، وهى أقرب إلى مشاعرى الباكرة، وكأن السن لم يتقدم بى طوال نصف قرن، الطيبة، الأبوة، الجدية، خفة الظل، السماح، حب الناس، فعل الخير، هى هى، أما الصوت الجهورى الذا اعتدته من الأستاذ شاكر، والاستعداد للانقضاض، والحسم المنهجى، وكره الشيعة والمستشرقين، لم أجد أيا من ذلك عند شيخى الجديد نجيب محفوظ.

فتح الحديث مرة أخرى عن رواية فتحى امبابى “مراعى القتل”، وعلق أحدهم على طولها، بعد الثناء عليها كما حدث سالفا (وذكرت ذلك)، سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏عجز‏ ‏القاريء‏ ‏اليوم‏ ‏عن‏ ‏قراءة‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏المطول، ‏وذكرته ‏بأعمال‏ ‏ديستويفسكى، ‏فذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏اسم‏ ‏رواية‏ له ‏كانت‏ ‏من‏ ‏سبع‏ ‏أجزاء، أنا لا أعرفها، ‏كما‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏السير ‏الشعبية‏ ‏والتى ‏كان‏ ‏الراوى ‏يرويها على ‏الربابة‏ ‏أوبدونها‏، ويضيف إليها كل راو ليلة بعد ليلة، بالأصول أو بلا أصول، وقال أحدهم إنهم يحاولون أن يسجلوا هذا التراث الشعبى حتى لا يحرف، أعترض وأقول ربما كان تحريفه هو جزء من حيويته، فليكن التسجيل لمعرفة الخط الأساسى، دون الحجر على الإضافة أو التحوير، واختلفت الآراء فى القضية الأصلية حول حجم القص أو الرواية، ويقول الأستاذ أن ‏هذا‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏نوع‏ ‏الإبداع‏ ‏وهدف‏ ‏المبدع، ‏ ‏فإن‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏ما‏ ‏يريد‏ ‏فى ‏حيز‏ ‏صغير‏ ‏فبها ونعمت، ‏ ‏وإلا‏ ‏فلا‏ ‏يصح أن يلزم نفسه بأن‏ ‏يوجز‏ ‏على ‏حساب‏ ‏تدفق‏ ‏ابداعه، ‏وأضاف الأستاذ ردا على السؤال الأول، إن تراجع الصبر على القراءة قد يرجع جزئيا إلى ظهور ‏ ‏قنوات‏ ‏بديلة، ‏وهى ‏ليست‏ ‏بديلة‏ ‏فقط‏ ‏لكنها‏‏ ‏منافسة ضمنا، ‏التليفزيون‏ ‏الآن‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعطيك‏ ‏نفس‏ ‏الروح‏ ‏الدرامي، ‏ونفس‏ ‏التسلسل‏ ‏ونفس‏ ‏الوظيفة‏ ‏التى ‏تعطيكَهَا‏ قراءة‏ ‏الرواية، ‏فيكون‏ ‏التحدى ‏مضاعفا‏، قلت رأيى فى ‏أن‏ ‏مساحة‏ ‏الخيال‏ ‏والقدرة‏ ‏على ‏التقمص‏ ‏هى ‏أرحب‏ ‏وأكثر‏ ‏جاهزية حين يتم التلقى من الكتاب، لأن ذلك يسمح بتنقل التقمص أكثر سهولة ومرونة ‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏من شخوص الرواية أثناء‏ ‏القراءة، ‏ثم‏ ‏أضفت أن مسألة‏ تغير ‏المسافة‏ بينك وبين العمل وأنت تقرأ تساعدك أن تتحرك داخل أماكن الرواية وبين ثناياها بتلقائية أكثر من أن تجلس مصلوبا فى مكانك طول الوقت، محكوما عليك بمسافة تكاد لا تتغير، حتى ‏فى ‏المسرح‏ ‏وبعد الزعم بسقوط الحاجز الرابع، فإن المسافة تظل فاصلا محددا بشكل أو بآخر، ولم يوافق أغلب الحضور على رأيى هذا، أما الأستاذ فقد أحنى رأسه نصف نصف (راجع شفرة زاوية الانحناءة فيما سبق)، علق محمد يحيى أنهم قد انتبهوا إلى أهمية المسافة فى بعض الأعمال الخاصة بالأطفال، و‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏أفلاما‏ ‏من‏ ‏الكارتون‏ ‏بدأت‏ ‏تسمح للأطفال‏ ‏بالمشاركة على مسافات مختلفة، بما يتيح حركة ‏أكثر ثراء ‏من‏ ‏الخيال والنشاط والمشاركة، ولم أفهم، ولم أعلق، وكان على أن أنصرف، موعد العيادة.

الأربعاء: 9/3/1995

عدت من أسيوط بعد رحلة ممثلا للجنة الثقافة العلمية فى المجلس الأعلى للثقافة، لا أعرف كيف يتم ننشر الثقافة العلمية فى لقاء لمدة ساعتين بعد سفر ما يقرب من 6 ساعات، وكان بصحبتى فى سيارتى أ.د. أحمد مستجير، وأ.د. أبو شادى الروبى، ولا أعرف كيف قبلوا المخاطرة والسفر معى فى السيارة طول هذه المدة، كنا قد تصورنا فى اللجنة أن علينا أن ننقل نشاطنا ما أمكن ذلك إلى أصحاب المصلحة فى عقر دورهم، ولم تحقق الرحلة الغرض منها، لكن الصحبة والطبيعة والطريق والرحلة خففت من الإحباط تماما، حتى حلت محله فرحة جميلة.

اليوم هو يوم سوفيتيل المعادى، توجهت مباشرة إلى هناك حتى أطمئن على الأستاذ قبل ذهابى إلى العيادة، دهش بشكل مبالغ فيه من أن أقطع هذه المسافات وأن أرجع أزاول نشاطى المعتاد فى نفس اليوم، وقال: “كأنك قادم من مصر الجديدة”، تحدثت معه من جديد عن علاقتى بالسفر، وكيف أنى أعتبر أن الرحلة تمت بمجرد بدايتها، وليس بالوصول إلى غايتها، لأن الطريق هو الغاية عندى، وأضفت أننى أتمتع بالقيادة أكثر من الجلوس ساكنا)

لم يكن معه إلا المهندس ‏نعيم‏ ‏صبرى‏، ‏فقررت‏ ‏أن‏ ‏أبقى ‏بعض‏ ‏الوقت‏، فكاد يمنعنى حرصا على أن أذهب لعيادتى فورا بعد هذه الرحلة، فطمأنته أن “أم الاعمى أدرى برقاد الاعمى”، فضحك برغم علاقته المتواضعة جدا بالأمثال الشعبية، كان‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى ‏يقرأ‏ ‏له‏ ‏كتابا‏ ‏مترجما‏ ‏عن‏ ‏شاعر‏ ‏إسرائيلى (‏لا أذكر اسمه)، قال إنه يمثل‏ ‏موجة‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏الشعر‏ ‏الأسرائيلى، وراح نعيم يحكى‏ ‏عن‏ ‏مرحلتين‏ ‏للشعر‏ ‏الإسرئيلى: ‏الأولى ‏أيام‏ ‏الحرب‏ ‏والحماس‏ ‏والعودة‏ ‏وتكوين‏ ‏الدولة‏ ‏وكان‏ ‏شعر‏اً ‏مليئا‏ ‏بالتهييج‏ ‏والإثارة‏، ‏ذكرنى ‏‏بشعر‏ ‏كمال‏ ‏عبد‏ ‏الحليم‏ ‏شعر التحريض، وذكرت للأستاذ رأى أدونيس فى التفرقة بين “شعر الثورة” (مثل الشعر الذى قيل أثناء ثورة 1919 مثلا) والشعر الثورة، حين يكون الشعر نفسه ثورة مغيّرة للغة والوعى، بغض النظر عن علاقته بالدعوة إلى أية ثورة سياسية أو شعبية أو وطنية، رجعنا “م. نعيم” ليكلمنا عن المرحلة الثانية فى الشعر الإسرائيلى (ونعيم شاعر له دواوين، وروائى له رويات) فلخص‏ ‏لنا‏ ‏قصيدة‏ ‏مترجمة‏ ‏إلى ‏العربية‏ ‏عن‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الاتفاق، ‏وعن‏ ‏نساء‏ ‏قتلى، ‏وأن‏ ‏عددهم‏ ‏كان‏ ‏كذا، ‏ثم‏‏ ‏ياترى هل ‏كن‏ ‏مذبوحات‏ ‏أم‏ ‏مغتصبات‏ ..، وعن الأطفال المقتولين فى مهودهم تحت الأنقاض أو بالشظايا المتطايرة. ‏الخ‏، قلت له رأيى إننى أحيانا أعتبر الشعر إجهاضا للفعل، ثم ‏سألته‏ ‏عن رأيه فى مقولة أدونيس للتفرقة بين “‏الشعر‏ ‏الثورة‏” “‏وشعر الثورة‏”، ‏وأيضا سألته عن‏ ‏إشكاله‏ ‏ترجمة‏ ‏الشعر، وأقر نعيم رأى أدونيس بشكل ما دون أن يبلغنى أنه التقط الفرق فعلا، وأضاف أنه مع الرأى الذى يقول إن غموض الشعر ليس مزية، وأن للشعر وظيفة بمحتواه أيضا، وليس فقط بتشكيله، ‏وتطرق الحديث إلى اعتراض أدونيس على رأى توفيق الحكيم أن رجل القدم (كرة القدم) أصبح هو المثل الأعلى للشباب الآن مقارنة برجل القلم، وأن أدونيس كان من رأيه أن الكلمة هى فعل، بشكل ما، وخصوصا فى الشعر، ولم يعقب نعيم، ثم عدنا‏ ‏إلى ‏مسألة‏ ‏ترجمة‏ ‏الشعر‏ ‏وأقر‏ ‏الاستاذ‏ ‏ ‏صعوبته، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يوافق على‏ ‏استحالته، ‏قلت‏ ‏أنا‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏ترجمة‏ ‏الشعر‏ ‏مستحيلة فيمكن أن نلجأ إلى شىء أقرب إلى ما هو “إعادة الصياغة”، خاصة إذا ترجم الشعر شعرا، وأضفت تحفظى على نقد الشعر، إلا شعراً أيضا: شعر على شعر، وفى الحالتين: الترجمة شعرا، أو النقد شعرا، يعامل النص المتَرجَمْ على أنه إبداع جديد، ‏ووافق‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏وتذكرنا‏ ‏ترجمة‏ ‏سامى ‏الدروب‏ ‏لديستويفسكى‏ ‏للمرة‏ ‏الكذا، وكررت رأيى أن الدروبى كتب‏ ‏ديستويفسكى أكثر منه ترجَمَهُ، ثم ذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أننى ‏اكتشفت‏ ‏وأنا‏ ‏أقول‏ ‏كلمتى بالفصحى ‏فى ‏أسيوط‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يتكلم‏ ‏العربية‏ ‏الفصحى يبدو غريبا عن ناسه بشكل أو بآخر، وأنه لا بد من حل غير وصاية مجمع اللغة العربية، وتعجبت من المسلمين غير العرب الذين حرموا من أن تصلهم هذه الكلمات المقدسة بلغتها البديعة المبدعة، ثم أضفت ‏ ‏أننى ‏سمعت‏ ‏فى ‏إذاعة‏ ‏لندن‏ “‏برهان‏ ‏الدين‏ ‏رباني‏” ‏رئيس‏ ‏أفغانستان‏ ‏وهو‏ ‏يتكلم‏ ‏العربية‏ الفصحى ‏بلغة‏ ‏سليمة‏ جدا، ‏واحترمته جدا، ‏وقال‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏إن‏ ‏لغة‏ ‏الأم‏ ‏هى ‏اللغة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏للإنسان‏‏ ‏أن‏ ‏يعبر‏ بها ‏وأن‏ ‏يتلقى بها دينه لأنها أقرب ما تكون إلى وجدانه، وأ‏عدت‏ ‏تحفظى ‏على ‏استعمال‏ ‏تعبير‏ “‏لغة‏ ‏الأم‏ “‏وفضلت‏ ‏عليه‏ “‏اللغة‏ ‏الأم‏” ‏لأن‏ ‏لغة‏ ‏أمى ‏هى ‏اللغة‏ ‏العامية‏ ‏لا‏ ‏العربية، ‏وقال‏‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏انه‏ ‏متحفظ‏ ‏على ما ذكرته عن علاقة النص المقدس باللغة، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏ما يقصد‏ ‏تحديدا‏، ونظرت فى الساعة ولم أستوضحه، ثم انتقل‏ ‏النقاش‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الشكل‏ ‏والمضمون‏ ‏وأسأل‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏التى ‏كدت‏ ‏أفهمها‏ ‏بالكاد‏ ‏مؤخرا، ‏وهى ‏استحالة‏ ‏فصل‏ ‏الشكل‏ ‏عن‏ ‏المضمون، ‏فيقول‏ ‏لى: ‏طبعا‏ ‏هو‏ ‏مستحيل‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏المضمون‏ ‏لا‏ ‏يخرج‏ ‏إلا‏ ‏وهو‏ ‏متشكل‏ ‏فعلا، ‏لكن‏ ‏فصلهما‏ ‏جائزمن‏ ‏الناحية‏ ‏النظرية، ‏فأنت‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏شكل‏ ‏رواية‏ ‏ما‏ ‏وأنها‏ ‏كلا‏سيكية‏ ‏أو‏ ‏حديثة‏ ‏أو‏ ‏أنها‏ ‏كذا‏ ‏وكذا‏. ‏ثم‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏مضمونها‏ ‏وما‏ حوت ‏من‏ ‏مواقف‏ ‏وأفكار، ‏وهذا‏ ‏مثلما‏ ‏أنك‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تفصل‏ ‏الروح‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏المعرفة‏ ‏العادية‏ ‏فمتى ‏وُجدت‏ ‏الروح‏ ‏وجد‏ ‏الجسد‏ ومع ذلك، فأنت‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏منفصلا‏ ‏وعن‏ ‏الروح‏ ‏كذلك‏.‏ ولا‏ ‏أفهم، ‏أوقل‏ ‏لا‏ ‏اقتنع‏ ‏تماما‏ ‏بهذا‏ ‏الفصل‏ ‏النظري، ‏فهو‏ ‏فصل‏ ‏للشرح‏ ‏فقط‏ ‏لاغير‏.‏

كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏ذكر‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يقرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏كله‏ ‏بالانجليزية‏ ‏وأنه‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏فى ‏يده‏ ‏كان‏ ‏أيام‏ ‏قراءته‏ ‏للروايات‏ ‏البوليسية‏ ‏وهو‏ ‏صبى، ‏وحين‏ ‏بدأ‏ ‏يقرأ‏ ‏”الجريمة‏ ‏والعقاب”‏ ‏فوجيء‏ ‏بالكشف‏ ‏الذاتى ‏والإسهاب، ‏وأنها‏ ‏ليست‏ ‏بوليسية‏ ‏مشوقة‏ ‏مثل‏ ‏الروايات‏ ‏الأخرى، ‏فتركها‏ ‏جانبا‏ ‏حتى ‏عاد‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏آخر‏ ‏لغرض‏ ‏آخر‏ .‏

ويسألنى ‏زكى ‏سالم‏ ‏عن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏ترجمة‏ ‏ديستويفسكى ‏إلى ‏الإنجليزية‏ ‏وبين‏ ‏ترجمته‏ ‏إلى ‏العربية، ‏فأقول‏ ‏له‏ ‏إننى ‏لم‏ ‏أقرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏بالانجليزية‏ ‏أصلا، ‏بل‏ ‏اننى ‏لم‏ ‏أقرأ‏ ‏أى ‏أدب‏ ‏بالانجليزية، ‏فأنا‏ ‏أعجز‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أفعل، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أحاول‏ ‏جادا، ‏وحين‏ ‏حاولت‏ ‏لم‏ ‏أكمل، ‏ويقول‏ ‏الأستاذ، ‏ومن‏ ‏منا‏ ‏يتقن‏ ‏الإنجليزية، ‏أو‏ ‏أية ‏لغة‏ ‏أخرى ‏مثل‏ ‏أهلها، ثم يضيف: “‏إننى ‏كنت‏ ‏أقرأ‏ ‏وأستنتج، ‏وربما‏ ‏كنت‏ ‏أؤلف‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏أعرفه‏ ‏تحديدا”، ‏وأطمئن‏ ‏قليلا، ‏وأقول‏ ‏له‏ ‏إننى ‏قرأت‏ ‏لــ‏ “‏برناردشو‏” ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏إذا‏ ‏أتقن‏ ‏لغة‏ ‏واحدة‏ ‏هى ‏لغة‏ ‏الأم‏ ‏عادة، ‏لا‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يتقن‏ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏فيقول‏ ‏الأستاذ‏ ‏ولكن‏ ‏هناك‏ ‏من‏ ‏يتقن‏ ‏خمس‏ ‏وست‏ ‏لغات‏ ‏مثل‏ ‏أهلها، ‏فأوافق‏ ‏لكننى ‏أوضح‏ ‏تفسيرى ‏لكلام‏ ‏برناردشو‏ ‏على ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏الأم‏ (‏وليست‏ ‏لغة‏ ‏الأم‏)، ‏إذا‏ ‏تغلغلت‏ ‏فى ‏الكيان‏ ‏البيولوجى ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏معها‏ ‏أن‏ ‏تتغلغل‏ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏على ‏نفس‏ ‏المستوى ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تضاف إلى السطح فحسب، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏الممكن‏ ‏بالنسبة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يزاد‏ ‏من‏ ‏لغات‏ ‏تالية‏ ‏للغة‏ ‏الأصلية‏.‏

ثم عاد‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏يفتح‏ ‏مسألة‏‏ ‏اللغة العربية والنص الإلهى، ولكن قبل أن يكمل تساؤله ‏دخل‏ ‏علينا‏ ‏الحارس‏ ‏يعلن‏ ‏قدوم‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب، ‏فأقوم‏ ‏للقاء‏ ‏هذا‏ ‏الأستاذ‏ ‏العظيم‏ (أستاذ الطفيليات) وأنا أعلم أنه ‏صديق‏ ‏الأستاذ‏ ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ستين‏ ‏عاما،‏ ‏فيعرفنى ‏للتو، وهو أستاذى ثم زميلى، ‏ويقول‏ ‏لى دون تردد: أين‏ ‏أنت؟ ‏ ‏نحن‏ ‏لم‏ ‏نلتق‏ ‏منذ‏ ‏بيان‏ 30 ‏مارس‏ (1968) ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏نسيت‏ ‏هذه‏ ‏الحادثة‏ ‏تماما، ‏لكن‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏الذى ‏تخطى ‏الثمانين‏ ‏راح‏ ‏يحكى ‏تفاصيل‏ ‏ذلك‏ ‏اليوم، ‏كان‏ ‏يوم‏ 4 ‏إبريل‏ 1968، ‏وكان‏ ‏بيان‏ 30 ‏مارس‏ ‏طازجا، ‏وراح‏ ‏د‏. ‏أدهم‏ ‏يحكى‏ ‏كيف‏ ‏بدأ‏ ‏اللقاء الجماعى‏ ‏بكلمة‏ ‏فى كلية الطب جامعة القاهرة، والدنيا تضرب تقلب، وكيف بدأت الكلمات والخطب تحكى عن‏ ‏فصل الأساتذة الدكاترة:‏ ‏رشوان‏ ‏فهمى ‏وعثمان‏ ‏وهبة‏ ‏بعد‏ ‏حكاية‏ ‏مقارنة‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏بقنال‏ ‏السويس، كان أ.د. عثمان وهبه اعترض فى اجتماع مع زملاء له على كلمة عبد الناصر “نجحنا فى تأميم قنال السويس، لكننا فشلنا فى إدارة قصر العينى”، وكان أى اعتراض على الزعيم يعتبر تجاوزا لا يغتفر.

‏وقال‏ ‏أ.د. أدهم ‏إن‏ ‏اسمى (‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أعرفه‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏) ‏كان‏ ‏بين‏ ‏إثنى ‏عشر‏ ‏اسم‏ ‏أستاذ‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب‏ ‏صدر‏ ‏أمر‏ ‏باعتقالهم، ‏وأن‏ ‏زوج‏ ‏شقيقة‏ ‏عبد‏ ‏الحكيم‏ ‏عامر‏ (‏حسن‏ ‏حسين على ما أذكر) ‏كان‏ ‏فى ‏المعتقل، ‏وجاءهم‏ ‏خبر‏ ‏اعتقالنا‏ ‏نحن‏ ‏الاثنا‏ ‏عشر، ‏لكننا‏ هذا لم يحدث‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تحركت‏ ‏قوى ‏عاقلة‏ ‏تحذر‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة، ‏أو‏ ‏ربما ‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏بيننا‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏اعتقاله‏ ‏بمقاييس‏ ‏هذا‏ ‏الزمان‏ (‏قريب‏ ‏مسئول، ‏أو‏ ‏واصل‏)، ‏فرحت‏ ‏بذكريات أ.د. أدهم، وتصورت‏ ‏أن الصورة التى أوصلها للأستاذ رسمتنى ثوريا وكلام من هذا، وهى صورة لا يعلمها الأستاذ عنى، ولا أنا أعلمها عن نفسى إلا بطريقتى، وإن كنت أذكر التصفيق التى علت القاعة بعد كلمتى واستمرت مدة طويلة فى اجتماع 4 إبريل هذا، ثم إننى أذكر اجتماعنا بعد ذلك ‏ ‏فى ‏منزل‏ أ.د‏. ‏على ‏عرفان‏ أستاذ الباطنة مع‏ ‏د‏. ‏محمد‏ ‏عبد‏ ‏القادر‏ ‏استاذ‏ ‏الكيمياء‏ ‏الحيوية‏ ‏واستعدادنا‏ ‏للخطوة‏ ‏التالية‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تأت‏ ‏أبدا، ‏ولم‏ ‏نتخذها‏ ‏أبدا، لم أكن ثوريا بالمعنى الذى يمكن أن يُفهم من كلام د. أدهم رجب، ويذكرنى الأستاذ من جديد بعودتى من أسيوط، وبمرضاى الذين ينتظرونى فى العيادة، فأضحك وأنا أقول له إن أغلب مرضاى من الصعيد، وربما كان من الأفضل أن أبقى هناك وأكشف عليهم بالمرة حتى لا أكبدهم مشقة المشوار، فيقول لى ضاحكا، أسرع فقد سبقوك إلى عيادتك فهم لا يضيعون وقتهم فى مثل هذه اللقاءات، ويضحك، وأفرح، وأنصرف، وأنا مرتاح أننى لم أضطر للبقاء للرد على تساؤل زكى ‏ ‏عن‏ ‏النص‏ ‏الإلهى ‏وتميز‏ ‏العربية‏.، لأننى لم أفهم ما يقصد تماما.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *