نشرة “الإنسان والتطور”
10-6-2010
السنة الثالثة
العدد: 1014
الحلقة السابعة والعشرون
الجمعة: 3/2/1995
سبق أن اقتطفتُ من هذا النص جزءا ليس قصيرا نشر فى تعتعة الدستور بتاريخ 2/9/2009، إلا أن هذا النص اليوم هو الأصل كما كتب فى حينه، وقد يجد القارئ المتابع تكرارا، لكن هذه النشرة الحالية تقدم الأصل كما كتبته حرفيا فى 3/2/1995، فلزم التنويه
…. ثالث أيام رمضان، اليوم الجمعة، يوم تشريفِهِ بيتى، أحسست أن الاستاذ اطمأن إلى هذا الموقع الجديد بسرعة لم أتوقعها، الأستاذ إلف مألوف، لكن هل يتوافد الأصدقاء بما يملأ الوقت والوعى فى هذا المكان الجديد (المقطم) الشائع أنه بعيد غريب؟ قلت لنفسى إن الأستاذ هو الذى يخلّق بحضوره المتميز أى مكان يحل فيه بروحه وطبعه وإشعاعاته، واطمأننت أنه حين يعرف الأصدقاء الطريق، سوف يهلون حيثما هو، ثم يعتادون عليه وربما ينسون أين هم أصلا،المهم أنهم ، أننا ، حوله فى أى مكان.
حضر أحد مريديه من الذين كانوا يواظبون على جلساته فى قصر النيل أو ريش أو لست أدرى أين (لم أكن أبدا من رواد هذه المجالس للأسف)، هذا الضيف، قد كان، ثم أصبح صديقا قريبا لى، فى ظروف أخرى، وأحوال أخرى، قبل وبعد صحبتى للأستاذ هذه، هو الصديق “يوسف عزب”، وكنت قد أخبرته ودعوته لمشاركتنا لسابق علمى بعلاقته بالأستاذ، دخل يوسف مقبلا وحيَّا الأستاذ بحميمية متبادلة وذكره بنفسه، وبالصحبة التى كانت تحضر جلساته منذ سنوات، وكنت قد اتفقت مع زكى سالم على دعوة بعض الأصدقاء الندماء القدامى لربط الأيام ببعضها ما أمكن ذلك، ووافقنى زكى، فحضر يوسف (وغيره فيما بعد).
تذكرت فجأة أن صديقى “يوسف” قد قال لى يوما أن الأستاذ لا يحب جمال عبد الناصر، لم أصدق، ولم أكذب، لكن بينى وبين نفسى استبعدت ذلك، لست أدرى لماذا، وقد تكرر ذكر عبد الناصر مرات عديدة فى جلسة الثلاثاء بالذات مصحوبا بتعبير يوسف القعيد: “عبد الناصر العظيم”، فإن لم يُلحق به القعيد هذه الصفة، ذكرّه بها الآخرون ضاحكين، وكان الأستاذ يشاركنا الضحك على الجانبين، مرة ويوسف القعيد متحمس أشد الحماس، ومرة وعماد العبودى وحسن ناصر يسخران ناقدين طيبين. لاحظت من تلك الأحاديث السابقة أن الأستاذ يعرف عيوب عبد الناصر بشكل دقيق واضح، لكننى لم ألاحظ حكاية أنه “لايحبه” هذه، سألته مباشرة “هل تحب عبد الناصر”، قال بلا ترد، نعم أحبه، قلت له أنا أعرف أنك تحب كل الناس، ولكننى أسأل هذا السؤال بعيدا عن السياسة وعن أخطائه وعن إنجازاته، أنا أسأل عن شيء لا أعرف له تحديدا أكثر، هو الحب “هكذا” والسلام، كرر: “طبعا أحبه”، ”أليس زعيما لأمتى”؟ و”كيف لا أحبه”، قلت له – وأنا أشعر بسخفى يتزايد – ”ليست المسألة مسألة واجب أن يحب المواطن الصالح زعيمه أيا كان، ولكننى أسأل تحديدا عن شخص محدد، هل تحبه؟” قال مرة أخرى دون تردد: “نعم أحبه”، واكتفيت بهذا القدر ولم ألفت نظر صديقى يوسف عزب إلى سابق حكمه إذ يبدو أننى أعجبت بهذا النوع من العواطف النظيفة إعجابا خاصا، خصوصا وأنا أكره عبد الناصر كرها خاصا، طبعا أقل من كراهيتى لهيكل (برغم احترامى لحرفيته كما ذكرت)، ومع اعترافى بفضل عبد الناصر، وبأن كل ما فعل من خير هو على عينى ورأسى، لكننى أكرهه، وحين وصلنى أن الاستاذ قادر على مثل هذا الحب رحت أبحث فى نفسى عن مثل ذلك، فما وجدت إلا شفقة على عبد الناصر وهو مكسور، ثم وهو مريض، واحتراما له قبل الثورة، أما غير ذلك فلا تؤاخذنى يا أستاذى.
حضر محمد يحيى متأخرا، بعد حافظ، وكان قد قرأ مقالة فهمى هويدى والتقط ما فيها من تكتيك ومناورة، مما وافقته عليه، لكننى رجحت أن بها قدرا من حسن النية والتفكير الآمل، وفتح موضوع الساعة من جديد، مناقشة أن يلى الإسلاميون الحكم!! موضوع لا يريد أن يُغلق أبدا.
كنت قد ذكرت للأستاذ أمس كيف أن لى لى شقة على البحر فى الإسكندرية، وأننى لم أعد أرى منها امرأة واحدة تلبس لباس بحر (مايوه) على الشاطيء، لا مصرية ولا أجنبية، لا فى الصباح الباكر ولا غير ذلك، وأننى كنت قد اعتدت أن أرى الروسيات فى الصباح الباكر (فى الأغلب عائلات الخبراء الروس) وكذلك عدد كبير من المصريات طول النهار بالمايوه، وأن هذا المنظر قد اختفى تماما قال لى الأستاذ: ”ألا يعنى هذا أن الذين تسميهم الإسلاميين قد كسبوا العقل المصرى والسلوك المصرى دون قانون مباشر يمنع ويجِرم، كنتَ ترى قديما الشرب فى الشوارع كما يحلو لك، وكان الصخب يتردد فى كل مكان، أما الآن فلا يجرؤ أحد أن يعملها، ليس معنى هذا أننا نعيش مزيدا من التقى والورع، ولكن معناه – سياسيا - أنهم كسبوا الجولة حتى بالنسبة للسلوك العام التلقائى”،
لم أقتنع بشكل كاف، لكننى لم أعترض أيضا فاستأذنت الأستاذ أن الخص ما وصلنى منه طوال الشهرين الماضيين للحاضرين فأذن، فقلت بصوت مرتفع ما إن خلاصة ما وصلنى هو:
إنه لابد من احترام ما وصل إليه عامة الناس، وهو ما أستطيع أن أسميه “المد الدينى” (سلوكا ظاهرا على الأقل) وأن هذا قد يكون دليلا على أن عامة الناس قد لاح لهم بديل ما، ما دام لم يعد على الساحة إلا التكنوقراطيين والبيروقراطيين والعسكر، وعندما وصل هذا التوجه للأستاذ قبله شخصيا ثم راح يقنعنا أنه لابد من إعطاء الفرصة، وما يكون يكون، فنحن لا نستأهل إلا ما هو نحن”.
كان هذا هو ملخص رأى الأستاذ كما وصلني، ثم أردفت أكمل للحضور تحفظى السابق:
إن الأستاذ يرى أننا سنتحمل أربع سنوات ثم سوف نتعلم كيف نغير ما لا يصلح من واقع الممارسة، وأعلنت أننى أختلف معه فى أن هذه الأربع سنوات هى أربعة فقط، فقد تصل إلى أربعين أو أربعمائة، فيهز الأستاذ رأسه معترضا بغير إصرار وكأنه يقول نحن لسنا بهذا العمى وهذا السوء، ثم يقول بالألفاظ:
“كم سنة مرت الآن على الجزائر منذ أن رفضوا رأى الناس، وكم ضحية ذهبت من الجانبين، لقد كتبت فى “وجهة نظر” فى الأهرام آنذاك أنهم لو كانوا تركوا الجزائر لجبهة الإنقاذ، إذن لكنا احترمنا رأى الأغلبية، ولكانت السنوات الخمس هذه أظهرت لنا مدى صلاحيتهم، وربما كانوا قد فشلوا فى الجولة الثانية فى الحصول على الأصوات التى سلمتهم الأمر”.
وما أن انتهيت من تلخيصى وانتهى الأستاذ من إيضاحه حتى بدأ إعلان المخاوف المعتادة، نفس المخاوف السابق الإشارة إليها.
فيقول محمد يحيى: إن أول شىء سوف يعملونه هم أنهم سيغيرون الدستور، ثم يمنعون بهذا التغيير أى احتمال لزوالهم، لأنهم سيعتبرون زوالهم ليس زوال الأشخاص وإنما هو رفض للإسلام، وهل يستطيع مسلم أن يرفض الاسلام؟ إن المصيبة أن القانون الذى سيأتى بهم لن يبقى قائما حتى يخلعهم أو ينصلحوا،
فيقول الأستاذ: “ولو، إن الواقع كفيل أن يعلمهم ويعلمنا أن أحدا لا يستطيع أن يقف فى وجه التطور أو الواقع أو حتى الخراب، لقد هد الواقع كيان إمبراطورية نووية (يعنى روسيا)، إن رئيسُها (يعنى جورباتشوف) فى اللحظة التى التفت فيها إلى الواقع المر الذى وصلوا إليه حين تجاهلوا لغة العصر ونبض الناس قد حطم الأصنام ليمشى شعبه على أرض الواقع من جديد،
ثم يضيف: لقد تحملنا أربعين سنة فلنجعلهم خمسا وأربعين، ماذا سنخسر؟
ويتساءل أحدهم: ألا يوجد فرق بين حكم الأربعين سنة هذه وحكم الإسلاميين فى الخمس سنوات المشار إليها؟
ويأتى الجواب من الأستاذ بعد فترة صمت:
إن حدس الشارع المصرى حين كان يغنى الناس: “الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي” كان يشير إلى أن حكم العسكر لا يفترق كثيرا عن أدعياء السلطة الدينية، ومادمنا نرزح تحت هذا الحكم العسكري، فلن يغيرنا أن يخلع الطربوش ويدعى الولاية، والواقع والتاريخ فى صالحناعلى المدى الطويل.
ثم تثار من جديد قضية ضرورة فصل الدين عن الدولة، وحكاية الدولة العلمانية، ولا أفتح فمي، لكن محمد ويوسف يطلبان منى أن أشرح موقفي، ويعيد محمد التنبيه: إلى أننى – ربما دون مناورة – لا أفعل إلا ما يفعله فهمى هويدى حين أزيّن الإسلام بما أراه، فى حين أن ما أراه هو خاص جدا يستحيل قبوله من المسلمين بالذات، ثم يحذرنى من أن أسلِّم هذا الذى زينته برأيى الخاص جدا إلى من يشوهه ويطبق عكسه،ثم يطلب منى أن أحدد صورة الحكم الإسلامى كما أتصوره، فأقول – بعد استئذان الأستاذ، خشية أن أعيد ما سبق أن سمعه منى:
أننى مسلم، ومع أنه لا فضل لى فى إسلامى، وأننى لو كانت أمى اسمها دميانة وأبى أسمه فخرى أسعد، لما أسلمت أبدا، وما دمت مسلما فقد وصلنى إسلامى باعتباره موقف وجودى أساسى وجوهر بقائى، ويترتب على ذلك استحالة فصل أى نشاط حياتى داخلى أو خارجى عن هذا الموقف الأساسي، اللهم إلا إذا تخليت عن الموقف الكيانى الذى أعيشه وهو الذى رضيت أن أكونه ما دمت أنا منه وفيه، وبالتالى فإن هذا الموقف الذى لا خيار لى فى تسميته “الإسلام” (أو إسلامى أنا) له تجليات فى العبادة وفى المعاملات وفى الحكم وفى العلم وفى الأخلاق، ولايوجد أى مبرر لجعله غير ذلك، وما دام هو موقف جوهرى فأنا لا أقبل، ولا أستطيع، تهميشه مثل أن يستعمل للترويح أو للطمأنينة أو لنشاط أيام الجمع أو للزينة بآيات فى سلسلة ذهبية أو صورة على الحائط، وأنا أعتقد أن هذا هو الفرق بين موقف المسلم من حيث عمق علاقته بالله وبالفطرة، وبالإبداع، وبالحق، علاقة مباشرة وشاملة، وبين الموقف الذى يشكل الحياة المدنية من الظاهر، ويجعل الدين نشاطا فرديا سريا أو ثانويا، الأمر الذى اعتبره نقطة الخلاف بينى وبين من يطلق عليهم العلمانيون.
ويثور محمد إبنى ويقول إن هذا التفسير خلط بين الشعر والفلسفة والسياسة والاجتماع، وأنه لا يصلح لتنظيم دولة أو تحديد حقوق سلطة، وأنه بمجرد أن يلى هؤلاء الناس الحكم فلن يكون أمامهم إلا التمسك بالحكم بالفتاوى المستمدة من نصوص جامدة، وليس من وعى الناس وإعادة اختيارهم، وينبه الأستاذ إلى أن الأندلس كان الحكم فيها إسلاميا وكان اليهود يتمتعون بكافة امتيازاتهم، وكان رئيس الوزراء فى أحد العهود يهوديا، وحين تجاوز حدوده، عزله الوالي، وسجنه مـدة، إلى أن ولى ابنه مكانه، وأخلى سبيله وكل هذا تحت مظلة الإسلام وباسمه، ويضيف الأستاذ أن كل عهود حكم المسلمين كان فيها الطرب والشرب والإبداع والترجمة دون أن يحدث تدخل تفصيلى فى حياة الناس كما يخيفنا الخائفون بهذه الصورة.
وأضيف أنا إلى كلام الأستاذ أن الوعى العام، والوعى المصرى خاصة يستطيع أن يضع أى مقدس موضع الاختبار، وأستشهد بالمثل العامى الذى يقول: “قالوا الصلاة خير من النوم قلنا جربنا ده وجربنا ده” ويستعيد الأستاذ المثل، فأعيده، فيضحك، … فأضيف: إن هذا المثل يبين كيف التقط الوعى الشعبى أن التجربة أقوى من مجرد الصياح حتى وأننى أرى أن نداء المؤذن ”الصلاة خير من النوم” هو دعوة إلى صلاة حقيقية لتكون خيرا من النوم، فهى ليست جملة إخبارية، وإنما هى جملة إنشائية تنبه ألا تكون الصلاة “تحصيل حاصل” بل تدعو أن تكون الصلاة – فعلا – خيرا من النوم فإن لم تكن، فإن التجربة سوف تثبت أن المدعو إلى الصلاة لم يستطع أن يجعلها خيرا من النوم فتأتى النتيجة أنه “جربنا ده وجربنا ده”
وقياسا فإن من يقول إن الإسلام هو الحل، عليه أن يثبت أنه الحل، وإلا سنقول له “جربنا ده وجربنا ده”، هذا هو التفسير القياسى الذى أتانى لاحقا، لأوافق الخطوط العامة التى وصلتنى من الأستاذ.
ويسألنى محمد ابنى متحديا، ما هى صورة الحكومة الإسلامية التى تحلم بها، بمواصفات إسلامك هذا، هل يمكنك أن تحددها لنا لو سمحت؟
فيبادر الأستاذ بالرد أنه لا يرحب ولايرجو ولا يطلب حكومة إسلامية، وإنما هو يأمل فى حكومة تسمح بالحرية التى يترعرع فيها الإسلام وغير الإسلام، وأنه حين يقرأ هذا الواقع الصعب الجارى إنما ينحنى لما انتهينا إليه، و هو هو ما أفرزه النظام القائم لا أكثر، بمعنى أن هذا المد الدينى السلفى هو النتيجة الطبيعية لهذا النظام البيروقرطى الشمولى، هذا ما وصلنى.
وألتقط أنا الخيط لأؤكد معايشتى الفكرة أن الإسلام هو “موقف وجود” لا يمكن تجزئته، وأعنى بذلك أننى أعتقد أن المسلم هو مسلم وهو نائم، وهو يحلم، وهو يصلى، وهو يحكم، وهو يكتب الشعر، وهو يبحث فى العلم، وهو يعصى الله، بل إنى كدت أقول “وهو يكفرا” وأضيف: أنه بالرغم من موقفى هذا فسوف لا أنتخب هؤلاء الإسلاميين غدا، لأنهم لايدركون كل هذا، وفى نفس الوقت فعندى أن من يسمون العلمانين يقترفون تكفير كل من لا يتبع منهجهم، فهم يصدرون أحكاما لها نفس قوة الدمغ والنفى على كل من يتخطى حدودهم، وأذكر كيف تتهم المؤسسة العلمية السلطوية “العلم المعرفى” الجديد بالهرطقة لأنهم يعتبرونه كفر بمقدساتهم وتجاوز منهجهم، وبرغم كل ذلك فإننى أقر وأعترف أنهم قد يتيحون الفرصة للتعديل والتطوير، لأنهم لايحتمون بنص إلهى محظور تغييره أو حتى إعادة تفسيره.
ويتمادى محمد ويوسف فى الإلحاح علىّ أن أضيف تفاصيل ما أتصوره ”حكومة إسلامية” تسمح بنفس القدر من الحرية وأكثر، حتى من واقع مواصفات إسلامى شخصيا.
ويسأل حافظ الأستاذ سؤالا مباشرا قبل أن أهم بالاجابة، يسأله عن وضع كلمة إسلام ومسلمين أيّامه مقارنة بحضورها هذه الأيام فيرد الاستاذ: بأن المسألة كانت شديده الوضوح وشديدة الحضور المفتوح والمسامح، كان هناك المنار والشيخ رشيد رضا، وتلاميذه وكان هناك الوفد، والحلال والحرام، والشرب والسماح، فيحيل حافظ نفس السؤال إلىّ فأنتبه أننى من جيل غير جيل الأستاذ رغم أنى بينى وبينه واحد وعشرين سنه وعلىّ بدورى أن أقوم بالرد على تساؤلات حافظ.
قلت، أو تذكرت:
كان ذلك وأنا فى الرابعة عشرة من عمرى فى سنة ثالثه ثانوى (الثانوى كان خمس سنوات)، تعرفت على جماعة الاخوان سنة 1947، وانضممت إليها، وأصبحت عضوا عاملا، وكانت بداية البداية فى زفتي، حين كان مقر الاخوان فى بيت الشيخ قشطى بجوار بيتنا بجوار الجامع الكبير أمام “أبلة فردوس” الخياطة.
ومع دخولى الاخوان واستقرارى عضوا فى ”أسر إخوانية”، ثم فى كتيبه، وكانت أسرتى قد انتقلت إلى مصر الجديدة، أصبحت مسئولا عن “أسرة” فى التنظيم الهيراركى للجماعة، وفى نفس الوقت اصبحت من رواد منزل (ورحابة صدر) الأستاذ محمود شاكر مع بعض الطلبة فى سنى (15/16 سنة) كان بيته فى شارع السبق فى مصر الجديدة، وبدأت أعرف من الجماعة أساسيات العمل الاسلامى السياسى أو الجماعاتى وشروطه وانتقاءاته وقهره، وفى نفس الوقت كنت أتعرف باستمرار وتجدد على أصالة التراث الإسلامى ورحابته ونبضه من الأستاذ شاكر، ويبدو أن الاخوان كانوا يعرفون من قديم خطر الحرية الفكرية على حركتهم، فكانوا ينصحوننا ابتداء ألا نذهب إلى “هذا الرجل” (الذى لم يتزوج حتى الخمسين وغير ذلك) ثم يأمروننا بهذا أمرا، ثم يروجون إشاعة أنه يُحضر لنا بنات بالاتفاق مع السفارة الأمريكية (!!) أما الأستاذ شاكر فكان كل ما ينصحنا به هو أن نفتح عقولنا مستقلة، وأن ننهل من التراث مباشرة لا من رسائل منتقاة لأغراض بذاتها، وكانت السور المقررة للحفظ والتسميع من جانب تنظيم الإخوان هى سورة الأنفال والتوبة أساسا، وسور الحرب عموما، وكان الظاهر لنا أنهم يعدوننا لنحارب الانجليز، لكن مع بداية حادثه السيارة الجيب ثم قتل القاضى الخازندار تغيرت الأمور، بالصدفة كان المتهم فى الحادث الأول هو مصطفى مشهور الذى هو بمثابة ابن خالى.
حكيت لهم كيف دُعيت لما يشبه المحاكمة فى المركز العام للأخوان المسلمين بالحلمية بعد مقتل حسن البنا، وأذكر من هيئة المحاسبة (أو المحاكمة) فريد عبد الخالق وعبد الحكيم عابدين، وأظن أنه كان معنا من الشباب المتهمين المرحوم د. رشاد رفيق سالم (أستاذ الفلسفة فيما بعد) والمهندس عبد المعز الخطيب (شريك المهندس ياسر عرفات فى الكويت فيما بعد قبل بداية فتح) – وأخذ المحققون ينصحوننا ويلمزون الاستاذ شاكر، وخاصة فى منطقة عدم زواجه، فزاد ضجرى ونفورى منهم ومن الإخوان عموما، ولكننى واصلت التدريب العسكرى بمناسبة إلغاء معاهدة 1936، والاستعداد للكفاح المسلح، وكنا نقوم بتدريباتنا فى جبل المقطم فى العباسية.
فجأة، أدركت أننى ابتعدت عن السؤال، وأننى لا أجيب عن معنى كلمة إسلام فى جيلى أثناء نشأتى مقارنة بالمعنى السائد الآن، فتوقفت واعتذرت، لكن الأستاذ طيب خاطرى مبينا كيف تعددت المصادر بالنسبة لى فى هذه السن بحيث سمحت لى أن اختار، ثم استشهد الأستاذ بآية وردت فى مقال فهمى هويدى، وإن كنت قد نسيت السياق، قال: “أفأمن الذين مكررا السيئات”، وتعجبت وأعجبت، أليست هذه هى قمة حدة الذاكرة القريبة يا ناس، أستغفر الله العظيم، ليس ما أصاب أستاذنا فى عينيه نتيجة لتصلت الشرايين، لا ابحثوا عن تفسيرا آخر هذه ذاكرة شاب فى الثلاثين، حفظ الله للأستاذ ذاكراته القديمة والحديثة والمستقبلية جميعا، وقرأت فى سرى “قل أعوذ برب الفلق”.
عاد محمد ويوسف يطالبونى أن أرسم صورة للحكومة الاسلامية التى أوافق عليها (برغم أننى لا أنادى بها)، فخجلت أن أكرر موضوعا أصبح معادا هكذا، لكننى لاحظت أن الاستاذ يريد ان يسمع رأيى من جديد، فعرفت أننى لم أنجح فى توصيل ما عندى واجتهدت أن ألملم رأيى وأعرضه بتأكيدى أننى أنا لن أنتخب الإسلاميين الحاليين حتى لو اضطررت – والعياذ بالله أن أنتخب الحزب الوطنى، كما أننى – فى نفس الوقت – أرفض فصل الدين عن الحياة اليومية الواقعية الزاخرة، بالمعنى الذى يعنيه العلمانيون، بمعنى أننى أرفض فصل الدين عن أى شىء كما اضفت أن تعريف الحكومة الاسلامية عندى هو أنها الحكومة التى تؤكد وتنمى الفطره البشرية كما وصفها الإسلام (والأديان عامة) من حرية وابداع وحركة وتغيير ورشاد وجمال وحيوية، وهى ليست الحكومة التى تطبق تفسيرا لفظيا حرفيا قديما لنص إلهى وظيفته أن يحرك ويلهم لا أن يحدد ويغلق، وأخيرا، فإن حكومتى الإسلامية ليست اسمها إسلامية، فهى الحكومة التى سوف تتبنى هذا الوعى الإيمانى بعد فشل القهر التدينى الحالى والقريب.
ثم حاولت جاهدا أن أبين الفرق عندى بين ما هو دين وما هو إيمان، وبين ما هو دولة.
الدين - كما سبق أن نوهت- عندى هو موقف وجود لايتجزأ، له تجليات فى الحكم والعبادات والمعاملات والاتصال بالكون، وهو ليس ممارسة فردية، وهو ليس – فقط – علاقة خاصة بين العبد وربه أو بين العبد ونفسه، وبالذات هو ليس نشاطا بعض الوقت (دين الويك إندWeek end ) وهو ليس نصوصا جامدة فسرها ناس سلطويون، وأن اعتراضى على فصل الدين عن الدولة هو اعتراض موضوعي، وعملي، وهو نفسى الوقت الاعتراض الذى يعترضه الثوريون الغربيون الحاليون الذين يريدون أن يتجاوزوا فترة اغتراب الانسان الغربى منذ حاول أن يتخلص من سلطة الكنيسة فتخلص من تكامل الدين فى الحياة اليومية، وتطبيقا لذلك، فعندى أن الحكومة السويدية – مثلا -، لو نجحت فى تطبيق ما أقول، فهى حكومة إسلامية، وأن الحكومة السعودية إذا حققت عكس هذه القيم الإيمانية السالفة الذكر فهى حكومة مدنية علمانية سلطوية حتى لو قطعوا يد السارق … إلخ.
مرة أخرى
شعرت بأننى لم أنجح فى توصيل ما أريد فأضفت بما يشبه التظاهر:
قلت إن من بين ما يحقق فطره الإنسان أن يتمتع بحريته كاملة حتى فى ما يأتى من معاصي، وبحماية الدولة التى تسمح له بذلك، شريطة ألا يغرى بها غيره مما لم يقبل عليها بمحض اختياره وعلى مسئوليته، وإن على الحكومة الإسلامية عندى أن تمنع الضرر وليس تحدد حدود التحريم وذلك بتقييم موضوعى لما هو ضرر، وأن تمنع الاستغلال بتقييم موضوعى لما هو استغلال حتى لو كان يجرى تحت لواء كل ما هو حلال، وأن تمنع الاختناق فى منهج علمى أو أصولى مقزم، وذلك بالسماح بالابداع بلا حدود.
ضحك منى السائلون، وقالوا هيا غدا، وسوف ترى أن أول الرافضين لحكومتك الحاكمين عليك بالهرطقة أو بالجنون هم الإسلاميون الحاكمون بإذن الله.
قلت: دعونى أخطط للموجة الثالثة وليس للموجة الآتية، وأنا لا أخشى على هذه الموجة الثالثة من الإخوان أو حتى من الجماعات، وإنما أخشى عليها من “الأزهر” تحديدا، إن فتاوى الأزهر والتزامه الجامد بتفسير مغلق للنصوص هو الذى يقضى على الإبداع والإجتهاد، وهو المبرر الأول للنكسة الدينية التى نحن فيها حتى بدون حكومة إسلامية، وهو الرافض الأول لكل ما يخطر على بال مسلم حقيقى، كما أخشى عليها بنفس الدرجة من كنسية المؤسسات العلمية الجديدة.
وختمت رأيى بتعبير ملأنى هو: أننى لا أملك أن أخون نفسى، فقد ولدت مسلما بستر من الله لا أكثر، ثم اكتشفت فى إسلامى هذا الذى أقول، وسوف يحاسبنى ربى تحديدا على كل هذا، تحقق أم لم يتحقق.
كان الأستاذ ينصت لكل ذلك ويهز رأسه إلى أسفل،
وهذا لا يعنى الموافقة كما ذكرت، وإنما يعنى شيئا أشبه بــ ، وبعدين؟
ما هذا الذى قلته هكذا؟
ولكن ماذا أفعل، والأستاذ وصحبه، وسماحه، وأمانتهم هم الذين أتاحوا أن أقول ما قلت
ربنا يخليه،
ويخليهم
سامحونى