الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تلميذٌ “أنا” فى مدرسة السماح اليقـِظ

تلميذٌ “أنا” فى مدرسة السماح اليقـِظ

نشرة “الإنسان والتطور”

31-12-2009

السنة الثالثة

العدد: 853

الحلقة الرابعة

فى شرف صحبة نجيب محفوظ

تلميذٌ “أنا” فى مدرسة السماح اليقـِظ

الجزء الأول (تداعيات بعد اللقاء)

السبت‏ 19/12/1994‏

نادى‏ ‏الشرطة

اقترح الغيطانى أن يكون لقاؤنا الأول خارج المنزل فى نادى الشرطة على الكورنيش، حيث بالإمكان أن يعدُّوا لنا ركنا خاصا هادئا، ووافق الأستاذ ضاحكا معقبا بأنه هكذا نحتمى بالحكومة فى عقر دارها.

كنا‏ ‏نفس‏ ‏الأشخاص‏ ‏الذين‏ ‏صاحبناه‏ ‏يوم‏ ‏عيد‏ ‏ميلاده منذ أسبوع، ‏وزاد‏ ‏علينا‏ ‏صديق حميم جدا، ‏كان‏ ‏الأستاذ منذ التقيته‏ ‏يردد علىّ اسمه، وكان ‏يسألنى عن موعد ‏ ‏عودته‏ ‏من‏ ‏الخارج، مع أننى أكدت له أننى لا أعرفه إلا بصفته العامة، وبالتالى لا أعرف تحركاته، ولا أعرف شيئا عن سفره أو عودته، وكنت أدهش لتعجب الأستاذ من جهلى بصديقه هذا، وتصورت أنه يفترض أنه بما أنه صديقه جدا، وأنا أصبحت قريبا جدا، فلا بد أننى أعرفه، وأعرف علاقتهما، وأعرف أخبار صديقه هذا فى حله وترحاله بداهة، المهم هذا الصديق الصدوق كان متواجدا أثناء الحادث خارج مصر، ‏وبمجرد‏ ‏أن‏ ‏عاد، ‏عاد، ورأيت فرحة الاستاذ بعودته، عرفت‏ ‏كم‏ ‏يعني‏ ‏وجوده‏ ‏للأستاذ، ‏وكم‏ ‏تتميز‏ ‏علاقتهما‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏رأيت، هذا هو ‏الاستاذ‏ ‏توفيق‏ ‏صالح، ‏المخرج‏ ‏المصري‏ ‏المتميز، ‏والحرفوش‏ ‏المخلص‏ (‏المتبقي‏ ‏من الحرافيش القدامى الحقيقيين‏).‏

بدأ‏ ‏الاجتماع فى نادى الشرطة على شاطئ النيل‏ ‏لي‏ ‏غريبا‏ ‏بعض‏ ‏الشيء، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏الاستاذ‏ ‏قد‏ ‏استعاد‏ ‏بهجته‏ ‏وإنصاته‏ ‏إلى‏ ‏معظم‏ ‏ما‏ ‏ينجح‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى‏ ‏سمعه، ‏كان‏ ‏الحماس‏ ‏باديا على الحضور وكأنهم لا يصدقون أنه عاد يجلس معهم كما اعتادوا، أنا لم أعتد مجالسته، فكانت فرحتى من نوع آخر، نوع طازج غير مختلط بذكريات بذاتها، ‏لا أعرف من الذى أحضر عبد الناصر بهذه الكثافة، كان حاضرا معظم الجلسة، وكأننا لسنا فى عام 1994، وكأن ما كان لم يكن، وكأنه يُستهلك بحثا ونقاشا وأخذا وردا وهجوما ودفاعا عشرات السنين، بمجرد أن ذكر اسمه احتد ‏ ‏الخلاف‏ ‏بين المجتمعين وكأنها قضية آنية ساخنة، فى هذا السياق جاء ذكر رواية الكرنك، وكيف أنها الدليل على موقف الناقد من الإجراءات البوليسية فى عهده، واحتجاجه من خلال أعماله على قمع الحريات، وكلام من هذا، ذكر لنا‏ ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏كيف‏ ‏يزعم‏ الكاتب “ص…” ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏قال‏ ‏له‏ ‘‏أنت‏ ‏بطل‏ ‏الكرنك، ‏إسماعيل‏ ‏الشيخ، ‏وذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏حكي‏ ‏له‏ ‏(لشيخنا) كيف‏ ‏اعتقل (ص…)، ‏وكيف‏ ‏كانوا يستجوبونه فى الصباح‏ ‏باعتباره‏ ‏من‏ ‏الاخوان،‏ ‏وفي‏ ‏المساء‏ ‏باعتباره‏ ‏من‏ ‏الشيوعيين‏… ‏الخ، ‏وكنت‏ ‏قرأت على‏ ‏الأستاذ‏ بعض هذا الحديث الذى أدلى به “ص…” للأهرام” حول هذا الموضوع، ‏ ‏وحين سألته عن صحة هذا الكلام‏ ابتسم‏ ‏ولم‏ ‏يعلق، ‏ولكني‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏ابتسامته‏ ‏تحمل‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏محاولة‏ ‏التذكر‏، ‏ثم‏ ‏الدهشة‏، ‏ثم‏ ‏الأدب‏ ‏الجم والسماح المعتاد، ‏لكن‏ ‏حين عاد المجتمعون العارفون إلى فتح باب التعليق على ‏ ‏نفس‏ ‏الحديث‏ ‏المنشور، ‏أنكر‏ ‏الواقعة‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الغيطاني‏ ‏والقعيد، ‏فراجعت فهمى ‏لابتسامة‏ الأستاذ المهذبة ذلك الصباح، ‏ذكر‏ ‏الغيطاني‏ ‏أنه‏ ‏شهد‏ – شخصيا – ‏مولد‏ ‏رواية الكرنك، وذلك ‏حين‏ ‏حضر‏ ‏حمزة‏ ‏البسيوني‏ ‏إلي‏ ‏قهوة‏ ‏ريش، ‏وبدا‏ كأنه‏ ‏من‏ ‏زبائنها‏ ‏المعتادين‏ ‏عليها، ‏وجرى‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏البسيوني‏ ‏وطباعه‏ ‏وقسوته‏ ‏ودوره، ‏ثم‏ ‏عن‏ ‏مغزى‏ ‏حضوره‏ ‏إلى‏ ‏القهوة واحتمالات ذلك، ‏وعن ما صاحب حضوره من جلبة وصخب غامض، ‏وحين‏ ‏كان‏ ‏الغيطاني‏ ‏يصف‏ ‏جلسة‏ ‏البسيوني‏ ‏وهو‏ ‏يلعب‏ ‏الشطرنج‏، ‏علق‏ ‏الاستاذ‏ ‏‏ ‏مازحا‏ ‘‏كان‏ ‏بيموّت‏ ‏الملك‏’، وقهقه، وفرحت.

لم‏ ‏أفهم‏ ‏رأى الغيطانى فى أن حضور البسيونى فى مقهى ريش‏ ‏هكذا، ‏هى بداية ولادة رواية الكرنك، تماما كما لم أفهم كيف أن السيد “ص….” هو بطل الكرنك هكذا خبط لصق، حتى لوصدقت روايته أنه حكى للأستاذ خبرة اعتقاله تفصيلا، أنا أتصور أن شخصا ما، أو حدثا ما، يمكن أن يكون ضمن أبجدية الرواية، أية رواية، لكن الرواية، لا تُخلق من حدث واحد، ولا تحكى رواية شخص واحد، قد تنشأ فكرة الرواية من حادث عابر، أو حكى مثير، أو مفارقة غريبة، ثم تنطلق بتلقائيتها فى ذاتها، ليتجمع حولها وبها ومعها ما تجذبه محوريتها حتى ينتظم مع إيقاعها ما يكتمل به لحنها، ‏ ‏الروائى عامة ليس مصوِّرا‏ ‏لشخوص بذواتهم، فما بالك بمحفوظ؟ قد ينسج الروائى من عدة شخوص معا أحد أشخاص روايته، ليصبح شخصا جديدا مستقلا عنهم جميعا، قلت فى نفسى، حين أنفرد به (بالأستاذ) سوف أراجع معه ما دار فى ذهنى متعلما محتجا معا، ربما محتجا على صمت الأستاذ دون تعليق على هذا الحديث، وهذه الحادثة، خشيت أن يفهم صمته على أنه “علامة المواقفة” على ما جاء بالحديث، وكنت أميل إلى تصديق رأى الغيطانى والقعيد، فيما يتعلق بالكاتب “ص..”، لكننى لم أوافق على تفسير الغيطانى فيما يتعلق بزيارة البسيونى لقهوة ريش، وعلاقة ذلك برواية الكرنك.

فجأة، تقدم‏ ‏أحد‏ ‏الجالسين‏ ‏في‏ ‏النادي‏ ‏وسلم‏ ‏على‏ ‏الاستاذ‏ ‏مباشرة‏ ‏دون‏ ‏إذن‏ ‏حارسه‏ ‏الخاص، وأثناء ‏ ‏ذهابى مع الأستاذ ‏إلي‏ ‏دورة‏ ‏المياه‏ متأبطا ذراعه، ‏قابلنا‏ ‏عدة‏ ‏أشخاص‏ ‏وتقدموا‏ ‏نحوه‏ ‏يهنئونه‏ ‏بالسلامة‏ ‏دون‏ ‏اعتراض‏ ‏حارسه‏ ‏الخاص، لم يسألهم الحارس من هم، كان من المستحيل أن يسألهم أو يحول دون اندفاعهم نحو الأستاذ ووجوههم ممتلئة بالحب والفرحة، لم يكن قد مضى على الحادث الأليم سوى أسابيع، ويبدو أن الناس كانوا فرحين غير مصدقين وهم يرون رجلهم، حبيبهم، يخطو بينهم من جديد، فما لزوم هذا الحارس هكذا أصلا؟‏

منذ هذه اللحظة ‏كنت على‏ ‏يقين‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحراسة‏ ‏الخاصة‏ ‏لا‏ ‏تمنع‏ ‏إلا‏ ‘‏القضا، ‏المستعجل‏’ ‏مثل‏ ‏الباب‏ ‏المقفول‏ ‏كما كانوا يقولون فى‏ ‏بلدنا، ‏أما‏ “‏القضا”‏ ‏الناوي‏ ‏أو‏ ‏المصمم، ‏فلا‏ ‏رادّ‏ ‏له‏ ‏إلا‏ ‏لطف‏ ‏الله‏ ‏ورحمته‏، قلت ذلك للأستاذ مرارا، ولم يعقب، لكننى حين ألححت فى إبداء هذه الملاحظة الخائبة، هز رأسه وقال، دعهم يعملون ما يرونه أصلح، فأنا مطمئن بما يعملونه، وبما لا يعملونه، فرحت به، وحمدت الله أن الحادث لم يهز هذه الطمأنينة، برغم ما شاع من أن سبب الحادث هو رفضه مثل هذه الحراسة حين عرضت عليه قبل الحادث، ولم أتأكد من هذا التسبيب بشكل جازم أبدا، لكننى من واقع الخبرة اللاحقة، تأكدت أن مثل هذه الحراسة، لا معنى لها، ولا جدوى منها، أو لعلها نوع من “التخويف عن بعد”، لست أدرى.

حين رجعنا من دورة المياه كان الجميع قد انهمكوا فى نقاش جديد تشعب حتى اقترب من منطقة ‏ ‏الحكومة‏ التحتية ‏والأدوار‏ ‏السرية‏ ‏للمخابرات، وربما تسلسل من سيرة رواية الكرنك، وحمزةالبسيونى، وجدت أن المجتمعين لهم مهارة خاصة جدا فى الحسم والتسبيب طول الوقت، وتعجبت من حدة ذاكرة الجميع بلا استثناء تقريبا، كانوا يتذكرون الأحداث، ويحكون الحوارات بسم الله ما شاء الله، وهم يحفظون أسماء‏ ‏المشاركين‏ ‏والممارسين‏ ‏والمهددين‏ ‏والمبتزين‏… والوسطاء، وينقلون الاتفاقات والتدبيرات، وما جرى وما لم يجر بمنتهى الدقة وكأنهم كانوا حاضرينها رأى العين، مع أنها كلها – تقريبا- أحداث علاقات سرية وتجسس ومخابرات ومباحث، وحجرات، وأسرّة، وكلام من هذا، ولقلة خبرتى بهذه الأشياء هكذا، رحت أتساءل: من أين لهم كل هذا اليقين، لم أرفض الجارى، إيش عرفنى أنا، ولم أقبله، ولم أعلق، ‏وظل‏ ‏الأستاذ‏ ‏صامتا، يا ترى هل يساوره ما ساورنى؟ من‏ ‏أين‏ له هو الآخر‏ ‏أن‏ ‏يجزم، ربما الفرق بينى وبينه هو أنه لا يلزم نفسه أن يجزم، ‏تمادى ‏ ‏المتحدثون‏ فى ذكر التفاصيل حتى ‏ذكروا‏ ‏أسماء‏ ‏ممثلات‏ ‏شهيرات،‏ ‏وسياسيين‏ ‏قدامى بعضهم امتد دوره حتى أصبح مهما جدا حتى الآن كما تحدثوا عن ‏ضيوف‏ ‏مهمين من العرب، وكلام من هذا، ‏ ‏وأخبار‏ ‏كثيرة كثيرة رِويَتْ بمنتهى الثقة والحماس، رحت أرجع النظر إلى الأستاذ فأجده متمسكا بصمته، ولا أجرؤ أن أساله عن رأيه فيما يقال، فقد بدا لى أنه قد اتخذ قرارا حاسما بالعزوف عن‏ ‏الاشتراك‏ ‏فيما‏ ‏لا‏ ‏يقين‏ ‏فيه من حكايا، ‏حاولت أن أقلده وأدفع تساؤلاتى بعيدا عنى، لكن أبدا ا، من أين لهم كل هذا بكل هذه الدقة يا ربى؟ التفت إلى الحارس دون سبب، فوجدته قريبا جدا بحيث يصله الحديث كاملا تماما، حاولت أن أقرأ وجهه فوجدت أن ما به لا يدل إلا على حب استطلاع أو محاولة تصديق أو دهشة شك، تساءلت: هل يا ترى من ضمن مهمته أن يبلغ الجهات الرسمية إذا ما عرج الحديث إلى هذه الشخصية أو تلك؟ لا أعرف، لا أظن، وزاد ترجيحى أن أعتبره مجرد تكملة للصورة الأمنية، بدا لى كأنه مثل شبح المآتة (عصاة طويلة مُصَلْب أعلاها، مغطاة الرأس، كأنها شخص واقف) الذى نضعه فى بلدنا وسط الزرع لنخيف الغربان من بعيد لبعيد، هذا الحارس ‏-غالبا- ‏ ‏لا‏ ‏يمنع‏ ‏شيئا، ‏ولا‏ ‏يحمي‏ ‏أحدا، لكنه ينفذ أوامر من أصدرها أدرى بجدواها، ربما.

ذات مرة: فاتحت‏ ‏الأستاذ‏ ‏في‏ ‏الاستغناء‏ ‏عنه‏ ‏شارحا‏ ‏وجهة‏ ‏نظري، ‏ ‏متصورا ‏ ‏أننا‏ ‏نكون‏ ‏أكثر حرية ‏ ‏بدونه، ‏وأيضا‏ ‏إشفاقا‏ ‏علي‏ ‏هذا‏ ‏الحارس‏ ‏الشاب‏ ‏الذي‏ ‏يجلس‏ ‏ولا‏ ‏يجلس، ‏ينظر‏ ‏ولا‏ ‏يشارك، ‏يبتسم‏ ‏ولا‏ ‏يحاور، ‏وفوجئت‏ بالأستاذ يقول لى: “أبدا، ‏نحن‏ ‏نأتنس‏ ‏به‏ ‏وهو‏ ‏معنا، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يشارك‏ ‏بطريقته، ‏دع‏ ‏الأمور‏ ‏تجري‏ ‏كما‏ ‏رُتبت، ‏هم‏ ‏أعلم‏ بما يفعلون، كيف ولماذا”

 ولم أعد لهذا الموضوع أبدا، وفى نفس الوقت لم أرتح لوجود هذه الحراسة أو هذا الحارس أبدا، برغم أنه اصبح صديقى الشخصى بمرور الأيام.‏

هل‏ ‏تراجع‏ ‏شيخنا‏ ‏عن‏ ‏استغنائه‏ ‏عن‏ ‏حرس‏ ‏الدنيا‏ ‏اطمئنانا‏ ‏فائقا‏ ‏لعين‏ ‏الله‏ ‏الحارسة، ‏آثار‏ ‏الحادث‏ ‏تطل‏ ‏في‏ ‏وعيه‏ بين الحين والحين ‏بشكل‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أتوقعه‏ ‏هكذا، ‏عنده‏ ‏حق، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏ستر‏ ‏الله‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يري‏ ‏بوضوح‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القوى ‏والحراسة‏ ‏والإجراءات‏ ‏التي‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏معني‏ ‏لها، ‏ورجحت أن زوجته‏ ‏الفاضلة‏ المحبة ‏تخاف‏ ‏عليه، وتخيفه‏ بخوفها ‏أكثر فأكثر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يجري‏ ‏ويحتمل أن يجرى،‏ كان الله معهما ومعنا.

أي‏ ‏سجن‏ ‏جديد‏ ‏نحن‏ ‏مقبلون‏ ‏عليه، ‏وإلي‏ ‏متي‏ ‏يحتمل‏ ‏الاستاذ؟

لكن‏ ‏الاستاذ‏ ‏راض‏ ‏كالعادة، ‏مستسلم‏ ‏للتعليمات، ‏يتحرك‏ ‏فيما‏ ‏تبقي‏ ‏من‏ ‏مساحة، ‏ومن‏ ‏بصر، ‏ومن‏ ‏سمع، ‏ومن‏ ‏إخوان‏.‏

أعظم‏ ‏أنواع‏ ‏الاستسلام‏ ‏بدأت‏ ‏أتعلمها، ‏وأسميها‏ ‏أسماء‏ ‏أفضل‏ ‏مثل‏ ‏الرضا، ‏التكيف، ‏الواقعية، ‏الحكمة، ‏يبدو‏ ‏أنني‏ ‏سأتعلم‏ ‏الكثير‏ ‏الكثير، ‏تلميذ فى‏ ‏العقد‏ ‏السابع‏ ‏واستاذ‏ ‏في‏ ‏العقد‏ ‏التاسع، ‏خبرة‏ ‏جديدة‏ ‏رائعة‏: ‏إلي‏ ‏أين؟

*****

الجزء الثانى: (نص بخط يده)

سوف أحاول أن أنشر فى كل حلقة صوره أو أكثر من نصٍّ مما كتبه الأستاذ أثناء تدريبه نفسه ليعاود الكتابة، ولا يخفى أن ثم تكرار وارد، لكننى سوف أحاول أن أنشر كل ما كتب، سواء علقت عليه، أم لم أعلق، وقد أشير إلى التكرار أو لا أشير، فأرجو ألا يمل القارئ، ولنتذكر أن هذا التكرار هو لأنه لم يكن يكتب لنا، ولم يكن يكتب للنشر، كنت أجمع الكراريس أولا بأول، لأبحث عن الحروف التى لم يتدرب عليها، واذكره بها أحيانا، وإن كان هذا الأسلوب لم ينفعه كثيرا كما كنت أحسب، وحين انتهى التدريب وبدأت كتابة الأحلام (بعد قصة قصيرة كما نبهنى لاحقا د. زكى سالم صديقه الدائم) كانت كتابة الأحلام فى ذاتها هى التدريب الكافى على ما يبدو، فشتان بين ما يكتبه للتدريب، وما يكتبه للنشر، وقد استأذنته بعد أن انتهت فترة التدريب أن أقوم بدراسة ما كتب لنشر بعضه والتعلم منه، فأذن لى وإن كان نبهنى بطيبته وأبوته ألا أضيع وقتى وجهدى فيما يعتقد أنه لا يستأهل.

ذكرت الخميس الماضى كيف أننى سلمت الأصل إلى أ.د. جابر عصفور رئيس لجنة الحفاظ على تراثه، وأننى استأذنته واللجنة فى أخذ صورة منه للقيام بدراستها، الذى فهمته مؤخرا من باحثة من جامعة هارفارد، كما ذكرت الأسبوع الماضى أنه من حقى أن أحتفظ بهذه الكراسات دون لجنة التراث، لكننى لم أوافق فى نفسى على هذا الرأى حتى لو كان ذلك من حقى،

 لست متأكدا من الطريقة التى سنواصل بها قراءة ما كتب هكذا، ودعونا نبدأ ونترك الأمر يتطور من خلال التجربة وآرائكم.

شكرا، وسوف نبدأ من البداية، صفحة صفحة.

بدأت الكتابة (التدريب) فى الكراسات يوم 25 يناير 1995 (الحادث كان يوم 13 أكتوبر 1994) أى بعد ثلاثة أشهر وأسبوع فقط.

 دعونا ننتظر ما سوف يجرى من خلال المحاولة معا.

ص 1 من الكراسة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

ــــــــ

نحيب محفوظ

أم كلثوم

فاطمة

ــــــ

الله مع ال
صابرين

سبحان الملك الوهاب

يهب الرزق لمن يشاء

من قد ايه كنا هنا

سلمى يا سلامة

خفيف الروح بيتعاجب

نجيب محفوظ

25-1-1995

 

نلاحظ:

1- أنه بدأ بالبسملة، وهذا ما كان تقريبا طوال فترة التدريب.

2- أن البداية كانت مبكرة جدا، وكان ذلك بتلقائية من جانبه، وليس بتوصية طبية من العلاج الطبيعى ولا من جانبى.

3- أنه بدأ باستجلاب الصبر بعون الله “إن الله مع الصابرين” وهل كان أمامنا إلا مثل هذا الصبر الجميل. ونحن نعايش آثار العدوان بهذه الإفاقة وهذا الحجم

4- وبعد تسبيحه للملك الوهاب يدعو الله ضمنا ويسلم بعدله، وأنه يهب الرزق لمن يشاء

5- ثم تحضره مباشرة خفة ظله، حبه للطرب “من قد إيه كنا هنا!!”

6- ثم أغنية أخرى، هى فى نفس الوقت تعلن يقظة وعيه وفرحته بالعودة إلى بيته “سلمى يا سلامة”.

7- ليختم قبل التوقيع بأغنية تعلن رضاه وحالته الجميلة.

ص 2 من الكراسة الأولى

نجيب محفوظ

أم كلثوم نجيب محفوظ

فاطمة نجيب محفوظ

ـــــ

 

اللهم احفظهم وباركهم

ليت الشباب يعود يوما

ودار ندامى غادروها

 

الصبر جميل

إن الله مع الصابرين

نجيب محفوظ

26/1/1995

 

نلاحظ:

1- يتكرر هذا التسلسل فى معظم تدريباته، يبدأ باسمه، ثم اسم كريميته فى أغلب ما كتب (أقوم بمحاولة احصائية فى الكراسة الأولى)

2- ثم ها هو يدعو لهم بكل رقة (وقد ناقشته بحذر شديد فى رقته المفرطة هذه، ودماثه كريميته البالغة، أكرمهما الله)

3- ثم أنه “ليت الشباب يعود يوما” (علما بأنه كان أكثر شبابا).

4- لم يصلنى أبدا (تقريبا) أنه عاش الندامة بالمعنى الشائع، فقد كان يحب الحياة، كما يحب الناس، كما يحب الموت، وورود هذا النص مثل كثير مما سيأتى بعد ذلك، قد لا يعنى شيئا بذاته فى هذه اللحظة، لأنه التدريب يكتب ما يحضر القلم، وليس بالضرورة ما يحضر فى الوعى، بدلالات خاصة، وسوف نكرر هذا التنويه رفضا للتعقيب.

ما وصلنى هنا من تلاحق الأسطر الثلاثة:

“ودار ندامى غادروها” ثم “الصبر جميل” ثم “إن الله مع الصابرين”.

وكل ذلك متسقا تماما مع موقف هذا العظيم الواعى جدا، بربط الموقف الذى نحن فيه، بأن له نهاية، كما أن لهذه الدار نفسها نهاية، وأن من يتعلق بها هو يندم عليها (أو لا يندم) يغادرها حتما، فلا أفضل من الصبر، والصبر هنا له صفة عشتها معه بكل فرحة هى صفة الجمال فعلاً.

للصبر مرارة

وللصبر جمال

وأنا لم أشاهد مرارة الصبر معه أبدا، حتى فى أزمات مرضه قبل الأخير (إذ لم تتح لى فرصة معايشة مرضه الأخير)

والذى يجعل الصبر جميلا، هو ما أنهى به يوميته هذه

“إن الله مع الصابرين”

ثم التوقيع والتاريخ.

*****

وبعد

ياه!! حضرنى الآن فعلا، افتقدته جدا، جدا لا أعرف هل استطيع أن أواصل أم لا؟

عذرا… وإلى الأسبوع القادم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *