الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فصامى” يعلمنا: “كيف الفصام”، “دون أن ينفصم”!! (الحلقة الأولى)

“فصامى” يعلمنا: “كيف الفصام”، “دون أن ينفصم”!! (الحلقة الأولى)

نشرة “الإنسان والتطور”

21-4-2009

السنة الثانية

العدد: 599

 

(سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى أو التدريبى).

“فصامى” يعلمنا: “كيف الفصام”، “دون أن ينفصم”!!

(الحلقة الأولى)

 

هو “رشاد” (اسم مستعار) مرٍضَ، وتوقف سنة ونصف سنة عن العمل، وكاد يتوقف عن الحياة، جاء مريضا.

****

أما أنه فصامى، فقد اكتملت فيه كل محكات تشخيص الفصام فى الدليل الأمريكى الرابع، وإلى درجة أقل، فى التصنيف العالمى العاشر، وبشكل آخر: فى التقسيم المصرى (العربى) الأول.

أما أنه رصد حركية الانفصام فوصفها بكل ما عرفت به (وما لم تعرف به!) إمراضية[1] الفصام، فهذا ما سوف نراه سويا من واقع شكواه، وفحصه والحوار معه

أما أنه لم ينفصم، فهذا ما حدث إذ ظل محتفظا بتماسكه، واحدا صحيحا، لم يتفسخ، ولم يتبلد، ولم ينسحب تماما، ولم يفقد إرادته الخاصة التى فرض بها فى نهاية المطاف قرار سفره للخارج (لأكل العيش) بمخاطرة متحدية محسوبة.

أظن أن الأمر ازداد غموضا برغم هذه المقدمة المتسحبة

فليكن

تعالوا نتابع فحص الحالة والحوار معها وننسى العنوان تماما،

(هل تستطيع بعد كل ذلك أن تنسى ألفاظ العنوان؟!!)

ألم يكن من الأفضل ألا نعنون هذه النشرة أصلا، ونعرضها، من الزوايا المختلفة، حتى نصل سويا إلى العنوان الذى يكاد يكون هو “فرض” هذه الدراسة؟

المهم: سواء صح أم لم يصح : أنه فصامى،

سواء صحّ أم لم يصح أنه رأى حركية الانفصام ووصفها، بداخله وخارجه

سواء صح أم لم يصح أنه – برغم ذلك – لم ينفصم، بما حاور وقرر وفعل

سواء صح أى من ذلك أم لم يصح، فلا يمكن أن تصل إلى ما أريد توصيله إلا إذا :

  1. نسيتَ تماما هذا العنوان
  2. نسيتَ كل ما سمعته عن الفصام خاصة من العامة والهواة (والأطباء النفسيين أيضا:غالبا)
  3. تذكرت أن التقسيمات الأحدث جدا (الامريكى الرابع، والعالمى العاشر) تُوفر الاتفاق (ثبات استعمال نفس اللفظ لوصف مجموعة من السلوك المرضى: الأعراض) فى حين أنها تفتقر تماما إلى المصداقية (لا يتضمن اللفظ المستعمل نفس المضمون أو نفس المحتوى أو نفس المعنى عند من يستعملونه: أنظر نشرة 2-12-2007 بعنوان تشخيص الفصام دون تحديد ماهيته!!”)
  4. صدقتَ كل (أو أغلب) ما يقوله المريض، دون الإسراع بتكذيبه، أو اتهامه بالغموض على الأقل
  5. صبرتَ علينا حتى تنتهى حلقات العرض
  6. تذكرتَ أننا لا نبحث عن اسم آخر (تشخيص آخر) أكثر تلاؤما مع الحالة أو صلاحية لفهمها، وإنما نبحث فى ما هو ماثل أمامنا أولا، لما نحن مكلفون به (العلاج هنا) ثانيا، أو أخيرا.

ملخص الحالة:

رشاد (اسم مستعار) مرِضَ، جاءنا مريضا يشكو، بعد أن توقف عن العمل، وكاد يتوقف عن الحياة، جاء مريضا، وها نحن نفحصه لا أقل، ونحاوره، لا أكثر:

هو رجل فى منتصف العمر، عمره 33 سنة، أعزب، كان يعمل سائقا لحافلة ركاب (أتوبيس)، توقف عن العمل لمدة عامين، إلا لمدة شهر واحد، عمله فى السعودية ثم عاد للانقطاع، يعيش فى حى متوسط فى القاهرة، وبلده الأصلى قريبة أيضا من القاهرة. وقد حضر بنفسه للاستشارة، وأدخل القسم الداخلى (قسم الأمراض النفسية قصر العينى) مختارا، فى نفس اليوم كان قد أصيب بنوبة طارئة قبل ثلاث سنوات عولجت على مستوى العيادة الخارجية، ثم نوبة أخرى منذ ستة أشهر أدخل على إثرها القسم الداخلى وعولج وتحسن لكنه لم يعد لعمله.

كانت شكواه التلقائية عند الدخول هذه المرة:

 أنا حاسس انى متغير – انا مش فاهم انا فيّا ايه، مش عارف اوصف، حاجات غريبة، عقلى مقفول. أنا عايز اعرف الحقيقة.

أما عند سؤاله، فقد أرجع المرض إلى ثلاثة عشر سنة سابقة لشكواه تلك قائلا :

التعب ابتدا بحاحة غريبة وانا عندى 20 سنة بعد ما رفضونى فى فريق الكوره، حسيت ان مخى اتفتح وانشق نصفين، كل ما اتعلم حاجة، فيه مِجْرى بتتفتح و العلم بيصب فى المجرى وبتتملى . وبعد كام سنة كده، أظن سنتين، نسيت الموضوع ده.

ثم عاد يصف بداية أخرى من ثلاث سنوات ونصف

من ثلاث سنوات ونص، اما أخدت كورس الكمبيوتر مخى انشق نصفين تانى. البرامج (على هيئة كلام) كانت تدخل فى المجرى إللي فى مخى، أبتديت أحس بتعب من كل إللي حواليا. الناس كانوا بيتعبونى، الكلام كان بيتعب مخى ويجيب لى صداع،

بعد ما خلصت الكورس الناس كانوا بيتكلموا عليّا وموقفين لى شغلى.

ثم ألحق ذلك بوصف ما حدث لمخه من ثقوب من نظرات الناس

فى الوقت ده، من سنتين تقريبا، كنت استقلت من الشغل وحصل لى حاجة غريبة أن مخى اتخرم كذا خرم، كان بيتخرم من نظرات الناس ليا من ورايا.

ثم بداية ثالثة:

بعد سنة كنت قاعد فى البيت ومستنى شغل فى الكويت بس كان الموضوع مقفول،

 وكنت حاسس ان حد أذينى علشان ماتجليش الشغلانة دى.

وفى مكتب التوظيف كنت حاسس ان الناس بتراقبنى.

وفى نفس الوقت بدأت الهلاوس السمعية تأمر وتعلّق

إبتديت فى الوقت ده اسمع أصوات بتأمرنى إنى اعمل حاجات وبتعلق على الحاجات إللى باعملها كانت اصوات بنات وكمان كنت باحس ان الناس ممكن تسحب افكارى واى موقف كنت باعمله كان بيتذاع فى التليفزيون مثلا لو كنت باتكلم مع اختى ألاقى ان المذيعة تذيعها على طول.

ثم أضاف نوعا من المعاناة ندرجه عادة تحت ما يسمى : فقد حدود الذات، أو على الأقل شفافيتها، جنبا إلى جنب مع ضلالات الإشارة والإيذاء والاضطهاد

فى الوقت ده كنت باحس ان الناس عارفة حقيقة مشكلتى وانا مش عارف حقيقة مشكلتى، كنت باروح مكتب الكمبوتر اسألهم مين إللى عمل فيا الحاجات الغريبة دى بس هما كانوا بينكروا.

بالرغم من كل ذلك، فقد بدا متماسكا، واثقا، يقر بما يعانى، يطلب العلاج (تذكّر أنه حضر وحده) بصيرته سليمة، يعترف بمرضه، ثم إنه بعد كل هذا الوضوح يصف الأمر بأنه غريب، متعذر عن الوصف:.

هو فى الآخر حاجة غريبة مش عارف اوصفها إزاى .

 أما شكوى أمه فقد كانت كالآتى:

أول مرة أخدت بالى إن رشاد تعبان كان من سنة

 كان بينام على طول، مش بيشتغل ولا بياكل ومش بيغير هدومه ولا بيكلمنا وكان تايه ومش بيركز، وبيقول لنا كلام غريب، ان الناس بتوسوس له وبتتكلم عليه، وبيطلع فى الشارع وبيكلم ناس مايعرفهمش وبيقول لهم انتم تعرفونى وتعرفوا الحقيقة وبتتكلمو عليا. كان بيتهمنا بحاجات غريبة ان حد موقف شغله فى الكويت، وان احنا عارفين هو مين بس مش عايزين نقوله، انا مش فاهمة جاب الكلام ده منين.

هذه الأعراض جميعها تقول إنه قد توفرت لديه كل المحكّات اللازمة لتشخيص الفصام من النوع البارنوى، وسوف نعود لمناقشة تفاصيل شكواه فى آخر حلقة فى سلسلة هذه النشرات، دون ترجمتها إلى أعراض معينة أو تسميتها، حيث سوف نعاملها على أنها حقائق وصفية، أكثر منها، معتقدات وهمية.

ومنذ شهر قبل نوبة المرض الأخير لم يعُد ممتثلا تماما لتعاطى العقاقير الموصوفة، فانتكست حالته وحضر للاستتشارة.

وبالنسبة للتاريخ العائلى فقد أظهر مايلى :

  • أصيب خاله بمرض عقلى وهو فى سن 18 سنة، وأدخل مستشفى العباسية، وشفى تماما، ولم ينتكس بعدها أبدا.
  • أصيب عمه بنوبة اكتئاب وعولج بجلسات تنظيم الإيقاع (الصدمات الكهربية) وشفى تماما أيضا.
  • أصيبت أخته الصغرى بما يشبه الاكتئاب التكيفى (العصابى)، ولم تتمادَ الحالة أكثر من ذلك.

الأسرة

الوالد يعمل سائق أتوبيس أيضا، وهو “بعيد، بعيد”، يقول رشاد : عمر أبويا ما حاول يفهمنى، مش قادر، كل واحد منا فى طريق”، وأيضا يقول رشاد أن أباه:” بيحب اخواتى البنات اكثر منه”

 أما علاقة رشاد بأمه فكانت أوثق.

رشاد له أختان حصلا على بكالوريوس وليسانس، وأخت أصغر ما زالت فى ثالثة إعدادى.

الدراسة

حصل رشاد على الثانوية التجارية، ولم يكن مجتهدا دراسيا، (لاحظ أن أختيه نالا درجة جامعية)، فحول مساره إلى تعليم فنى متوسط، ثم حصل على دبلوم أعلى قليلا: (مدة الدراسة عامان بعد الثانوية التجارية)

تاريخ العمل

عمل رشاد أعمالا متعددة منذ صغره (عشر سنوات): مبيض محارة، بائع فى محل، سباك، عامل طباعة، جرسون، ثم سائق فى هيئة النقل العام، لمدة تسع سنوات.

أثناء عمله سائقا حاول ان يدخل فى مشروع مع خاله بما ادخر من نقود أثناء عمله سائقا، وفشل وضاعت عليه نقوده، ثم عمل مشروعا آخر مع أخيه، وفشل، ثم توقف عن العمل لعام ونصف، سافر أثناءها لمدة شهر واحد إلى السعودية، وعمل سائقا، وعاد محبطا.

عن التاريخ الجنسى

عرف الجنس مبكرا فى نفس السن (العاشرة) من علاقة سطحية مع فتاة فى مثل سنه، استمرت ستة أشهر

بعدها مباشرة مارس الجنسية المثلية (سلبيا) لمدة سنتين مع فتى أكبر منه بخمس سنوات

ثم مارسها إيجابيا لمدة سنتين تاليين مع من هو أصغر منه

ثم انتظم فى العادة السرية من سن 16-

عن موقفه الدينى والإيمانى

علاقتى بربنا جميلة جداً انا باقوم بالواجبات اللي عليا كلها،

وقد حكى عن خبرة خاصة لا يعتبرها جزءا من المرض قال:

ده كمان مرة قبل ما اتعب نزل عليا نور وانا بصلى فى التراويح جامد قوى،

 ودخل جسمى إشعاع قوى انا شفته وحسيت بيه،

 بعد كده طلع من جسمى بالتدريج بعد كورس الكمبيوتر.

بعض معالم شخصيته (قبل المرض!!) يصفه أبوه بما يلى:.

 رشاد كان عنده جروب اصحاب كان بيخرج ويسافر معهم، بس ماكانش ليه فى البنات قوى، انا كنت عايزه يتجوز من زمان بس هو عايز يكون مستقبله الأول، رشاد عنده طموح جامد إللى تعبه هو الطموح، عيبه انه عايز يطلع السلم مرة واحدة. وإللى بيطلع مرة واحدة ممكن بسهولة يقع مرة واحدة. هو لازم يأخذ الأمور بالتدريج بس هو مش فاهم كده. يعنى هو مثلا ساب الشغل فى الهيئة علشان يشتغل فى السعودية بس فى الأخر ولا حصل الهيئة ولا السعودية. وكان بيقولى انا مش عايز أطلع زيك أنا عايز أطلع أحسن منك

الفحص العقلى

لم يتبين فى الفحص العقلى أى قصور أو خلل فى القدرات المعرفية (الذاكرة، والتجريد، والذكاء، والمعلومات العامة)، كذلك كانت انفعالته سليمة تماما، متماشية مع الموقف، ومع ما يحكى، وكانت بصيرته جيدة جدا، (نذكّر مرة أخرى: حضر بنفسه، وحده، وأقر بمرضه، وطلب العلاج، وامتثل له)..إلخ

أما ما حكى فى شكواه، هو، وأمه، فنؤجل التعليق عليه مرحليا، لكننا نثبت ما أضافه واصفا حالة مخه أثناء فحص الحالة العقليلة فيما يلى :

  • مخى عامل زى ورقتين مقفولين على بعض
  • انا حاسس ان عقلى مقفول
  • مخى صندوق مليان مش قادر أقفله

ملاحظات مبدئية:

o       يلاحظ أن كل من مَرِضَ من أفراد الأسرة شفى تماما (بعد نوبة واحدة، حسب ما ذُكر).

o       لاحظنا أثناء الفحص سرعة بديهته، وسهولة عمل علاقة مع المحاور أو أى شخص يتعامل معه، وسلامة منطقه فى معظم المناقشات، والاستفسارات.

o       لاحظنا تعدد البدايات، مع فترات سلامة غير واضحة فيما بينها.

o       كذلك من الواضح وجود بدايات واضحة، ومحددة، دون أن يلحقها بالضرورة أعراض ظاهرة، أو إعاقة جسيمة.

o       نلاحظ كذلك قدرته على حسم القرار طول الوقت تقريبا، ولكن يبدو أنه لا يتعلم من خبرات الفشل.

o       كما أنه لم يكف عن العمل والتنقل بين المهن، على اختلافها عن بعضها البعض، وقد حقق نجاحا نسبيا فى كل منها دون استثناء تقريبا.

o       وبرغم طموحه الجامح، فقد تعدد فشله فى “كل” المشاريع التى شارك فيها، دون مشاركته شخصيا فى إفشالها.

o        وأخيرا، فهو يحكى عن ما حدث بداخله (فى مخه بالذات) بوضوح وحسم.

تساؤلات:

  • على الرغم من وصف رشاد الانفصام بداخله، فأين مظاهر الانفصام خارجه؟
  • كيف لم تتدهور قدراته المعرفية، ولا حتى الاجتماعية بعد كل هذه السنين؟
  • ما علاقة شفاء ذويه هكذا بتماسك شخصيته هكذا؟
  • كيف تظل لا فتة الفصام معلقة على حالته، برغم احتفاظه البادى بتماسك تفاعله الوجدانى، وتناسبه مع المنطق أثناء الحوار سواء مع مقدمة الحالة أو مع الأستاذ؟
  • إلى أى مدى نصدق ما يقول، عن وصف مخه وما حدث له، على أنه واقع ماثل، استطاع – برغم اعترافه بالغموض وعجزه عن الوصف- أن يصفه بكل هذه الدقة؟
  • بأى حق ننكر وصفه هذا، ونصوِّر، أو نتصور، أنه تهيؤات، لمجرد أننا لم نمر بمثل هذه الخبرة، أو حتى لمجرد أننا نعجز عن تصورها؟
  • إلى أى مدى يمكن أن تتحسن معرفتنا بالمرض العقلى، بغض النظر عن تسميته، إذا نحن أخذنا كلام رشاد مأخذ الجد (مأخذ الحقيقة) ؟
  • ماهى طبيعة الوراثة فى هذه الحالة فيما يتعلق بكل من “حركية التركيب”، ثم “طبيعة المسار”، وهل يمكن تعميم بعض ذلك؟

الفرض الأساسى، والفروض الفرعية

هو هو نفس الفرض الذى أهب حياتى العلمية، وربما حياتى كلها، لطرحه ، ومحاولة إثبات بعضه

(أنظر بعد).

* * *

غدا : الحلقة الثانية: المقابلة مع الطبيبة مقدمة الحالة ومناقشتها.

 

[1]- Psychopathology

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *