“نشرة” الإنسان والتطور
6-1-2009
السنة الثانية
العدد: 494
“أعطال فنية لأجهزة ذكية”
اعتذار متكرر:
حين هممت بالوفاء بوعدى الأسبوع الماضى باستكمال حالة “سامح”، ذلك الصبى الذى توقف نموه حتى تخشبب مرضا، بسبب تورطه فى مزيج من اللذة والقهر نتيجة خبرة انحرافية قدمت له “اعترافا” ملوثا، و”وجودا” مشبوها حتى رفض هو بنفسه كل ذلك بالمرض ، فحضر إلينا متخشبا مطأطئ الرأس خزيا، مع أنه ليس مسئولا وحده عما لحق به. كان قد تبقى لنا لإتمام هذه الحالة أن نعرض المناقشة التى دارت مع الزملاء، ثم التعقيب النهائى، أقول حين هممت بالوفاء بوعدى بهذا الإتمام وجدت نفسى عاجزا تماما عن ذلك.
لا أريد أن أعيد ما سبق أن قلته فى يومية أول أمس عن الشعور المبدئى الذى يصيبنى بالعجز، حين تغمرنى موجات اللاجدوى، ولا ينقذنى منها إلا اندفاعةٌ امامية مخاطرة. هذا الصباح : استسلمت لهذا العجز، وقلت خيرا وبركة، يبدو أن النشرة قد قررت بنفسها أن تتوقف بهذا الشلل وأنها سوف تجد تبريرا لها وهى تقول “نحن فى ماذا أم ماذا؟”، رحت أبرر عجزى وأنا أكرر :
ما ذا يفيد أن يعرف الناس، عموما، وفى غزة خصوصا، أن يعرفوا أن والدىْ سامح قد أهملوه – حبا غبيا وعطفا سلبيا – حتى نسوه ولم يعترفوا به فكان ما كان؟ ماذا يفيد أن أفرق بين الخزى (حتى التصلب الكاتاتونى الفصامى المتجمد)؟ وبين كل من الخجل والحياء؟ ما ذا يفيد أن أعود لأؤكد أن احترام سامح – برغم كل ما كان – هو بداية طريق العلاج حتى لو بدا ذلك مستحيلا؟…إلخ
فى انتظار إفاقتى من هذا الشلل الكتابى بقفزة أمامية، رحت أقلب فى بريدى الإلكترونى، فوجدت إسهامات متنوعة مفيدة، من زملاء أفاضل، عبر الشبكة العربية للعلوم النفسية استعدادا للذهاب إلى أرض المعركة، بلغنى كيف هم مستعدون أن يسهموا بطبهم وفنهم فى تخفيف الألم، وعلاج الجزع، وكذا وكيت، احترمت حسن نواياهم، وتمنيت أن يكون فى حقيبة علمهم ما يعيننى على ما أنا فيه أيضا، رحت أقارن مبادراتهم بعجزى، ليس بسبب سنى، وإنما بسبب أفكارى ومواقفى، وأنا أتساءل عن مدى حاجتنا لتفسيرات نفسية، أو تهدئة طبنفسية، أو إرشادات نُصْحِنَفسية، وبصراحة : خشيت أن تسمع أفكارى وأنا أصيح “ماذا يفيد كل هذا؟”، لأننى أعرف أنه يفيد أكثر كثيرا مما ذهبتُ إليه فى نشرة السبت من أن أحداث غزة سوف تساهم فى تشكيل المخ البشرى الجديد؟ هل هذا كلام يصح لواحد مثلى أن يقوله الآن؟ هل ننتظر مكتوفى الأيدى والأقلام، مشلولى المدافع والصواريخ، حتى يتم تشكيل المخ العالم الجديد بالسلامة؟ ما هذا الكلام بالله علىّ؟
انتقل عجزى عن المشاركة فى احتفالية المساعدة النفسية والترشيد الطبنفسى هذا إلى عجزى عن كتابة نشرة اليوم لأنهى بها حالة “سامح”، فانتقلتُ – لعلى أسخن نفسى _ إلى الاطلاع على بقية بريدى فى انتظار إفاقتى من هذا الشلل الكتابىى، فعثرت على دعوة من بين عشرات الدعوات المتلاحقة التى تأتينى من هنا وهناك، ممن يحسنون الظن باحتمال استجابتى، أو يثقون فى رأيى، ..إلخ. لست أدرى ما الذى جعلنى أبدأ بفتح رسالتين ليستا فى بؤرة اهتمامى، ربما لأنهما من نفس المصدر بنفس العنوان بفارق يوم واحد (أربع وعشرون ساعة) من نفس الداعى “مركز الثقافة السينمائية”، فتحت الأولى فوجدتها دعوة كريمة مجانية لحضور عروض سينمائية لأفلام فلسطينية تضامنا مع الجارى، قلت بارك الله فيهم، فأنا انقطعت علاقتى بالسينما العامة منذ عجز سمعى عن مواصلة الحوار بشكل كاف،(حيلة تبريرية أقنعت بها كل من حولى !!)
وهذا هو نص الدعوة كما وصلتنى أمس:
تضامنا مع أهل غزة يعرض مركز الثقافة السينمائية
بمقره 36 شارع شريف- بوسط البلد- الدور الأول-
ت: 23927460 الأفلام التالية:
الأثنين الموافق 5 /1/ 2009 الفيلم الفلسطينى “كتاب الحدود”
للمخرج المصرى سمير عبد الله الساعة السابعة مساءً
الخميس الموافق 8 /1/ 2009 الفيلم الفلسطينى “صمود”
للمخرج المصرى فيليب زرق الساعة السابعة مساءً
الدعوة عامة ومجانية
جميع العروض تبدأ فى الساعة السابعة مساءً
أسرعت إلى فتح الرسالة الثانية، من نفس المصدر، وأنا أشكر ضمنا هذا التوجه، برغم عجزى عن المشاركة حتى بحضور عروض هذا الجهد المتواضع، تماما مثل عجزى عن مجاراة نشاط الزملاء عبر الشبكة العربية للعلوم النفسية، فإذا بى أفاجأ أنها رسالة تلغى الرسالة الأولى، وتعتذر عن هذه العروض، وهى تفسر سبب هذا الإلغاء بعذر خائب لا يقبله عقل مدرس ابتدائى يعتذر له تلميذ فى السنة الثالثة، عن أداء الواجب لأن قلمه الجاف جفَّ حبره !!!!!!!
وهذا هو نص الرسالة الثانية (بفارق يوم واحد)
تم تأجيل عرض الأفلام الفلسطينية
كتاب الحدود – وصمود
بسبب أعطال فنية فى أجهزة العرض
ونأمل أن نواصل عروضنا يوم 14 يناير القادم
بعرض الفيلم الألمانى معجزة برن
فجأة، اختفى شلل اللاجدوى الذى أصابنى هذا الصباح، وجدتنى أقفز للأمام كالعادة، لأرد على المدير الفاضل لهذا المركز المجتهد برسالة طالت منى، وحين أعدت قراءتها وجدتها تصلح لنشرة اليوم بدلا من “حالة سامح” التى سوف أرجع إليها، لست أدرى متى، ربما بعد انتهاء أزمة غزة، وهل تنتهى أبدا وقد بدأت منذ 1948 إلى أجل غير مسمى؟ بل لعلها بدأت قبل ذلك بكثير.
“معجزة برن، ومعجزة غزة “
سيدى الفاضل الكريم
مدير مركز الثقافة السينمائية
بعد الاحترام والتقدير
أشكركم على كريم دعوتكم السابقة لحضور عرض الأفلام الفلسطينية، تضامنا مع إخواننا فى غزة، ومن مثلهم فى العالم، فقد شعرت بأنها قد تكون تذكرة، لمن شاء ذكره، مع أننا فى وقت لا نحتاج فيه إلى تذكرة.
الجميع يشاهدون العروض الواقعية جدا التى يقوم بأدائها المجرمون الطبيعيون والإرهابيون الرسميون القتلة، كما يقوم بإخراجها النظام الانقراضى العالمى الجديد، وهى تعرض حية متجددة ملأت شاشات الفضائيات والمحليات بشكل مكثف، خشيت معه أن نعتاد عليها حتى نفقد حقنا الطبيعى فى الانفعال المسئول بها، لكن دعنى سيدى أعترف لك بأننى جنبت نفسى التعرض لمثل هذا الاحتمال خوفا من اكتساب بلادة إعلامية محتملة، لا تفرز إلا الترديد والبكاء على أحسن الفروض، ذلك أننى لم أشاهد من كل ما جرى ويجرى إلا أقل من خمس دقائق هنا وهناك، حرصا على استمرار حياتى نفسها، وليس فقط تجنبا لألم أعيشه طول الوقت دون عروضك وعروضهم، قل لى بالله عليك – سيدى – ماذا يفيد الألم فى ذاته مهما صدق.
برغم كل هذا كنت قد فرحت بفكرة دعوتكم الكريمة لعلها تخفف بعض ما يعانيه أمثالى من الجبناء إن شئت، فرِحت مع يقينى أننى لن أقبل الدعوة مهما كانت مجانية، فلم يعد فى مقدور سمعى أو وقتى أن ينهل من هذا الفن الجميل ما هو حق لى بشكل أو بآخر، خاصة وأننى أعامل المعرفة الحركية المصورة (والسينما عندى تمثل ذلك خير تمثيل) مثلما أعامل تشكيل الحلم، دون ترجمة محتواه، أو تفسيره، برغم كل حدود فرصتى للاستفادة من كرم دعوتكم هذه، شكرت لكم هذه المبادرة الطيبة، لعل وعسى .
لكننى فوجئت اليوم (بعد مضى أقل من أربع وعشرين ساعة) بهذه الرسالة (الميل) الثانية تخطرنى بتأجيل العروض بسبب الأعطال الفنية لأجهزة العرض لدى سيادتكم، ما هذا؟ لماذا؟ ولم يمض على الدعوة الأولى أكثر من يوم واحد؟
وإذا بتفكيرى التآمرى، يهاجمنى وهو يشككنى أن هذه الأجهزة تشتغل بالسياسة من وراء سيادتكم، ثم قفز إلى هـِمتى أن أبادر بالتطوع بإصلاحها على حسابى فى ساعات، فأنا أعرف من أثق فيهم من تقنيين نجباء قادرين على التغلب على حرمان الناس من هذه المشاركة – دونى- فأنا لن أحضر على أية حال للأسباب السالفة الذكر- نعم حرمان الناس من المشاركة ولو كانت مشاركة “من الوضع جالسا” على أحد مقاعد دار العرض فى مركزكم الموقر، خاصة وأنها مشاركة بالمجان!!
قفز قلمى قفزة أخرى تنفض عنى ما تبقى من الشلل المؤقت وهو ينبهنى أن المشاركة المجانية قد أصبحت هى القاعدة، فكثير مما يصلنى من مقالات التأييد والتحميس، وقد ملأت الصحف طولا وعرضا، مطابقة لما يجرى على ألسنة القادة والرؤساء فى بيانات رسمية وتصريحات مسئولة وخطب عصماء، تصلنى باعتبارها مشاركة بالمجان أيضا.
لكن لا، هناك احتمال آخر يمكن أن يبرر تصرف أجهزة مركزكم الموقر، فلعها أدركت سخف هذا الموقف الحنجورى، فقررت أن ترحمنا من الفرحة الكاذبة بالغضب فى المحل، وقررت أن تعفينا من المشاركة فى ذلك، بأن لجأت إلى هذا الخلل الاختيارى، هكذا، حتى لا نقع فى خطيئة المشاركة المجانية طول الوقت
أو لعل لهذه الأجهزة رأى آخر أكثر عمقا وأبعد نظرا، فقد تذكرتُ مرحلة من تطورى كنت أعتبر فيها الفن بمثابة البديل عن الحياة، وأنه أحيانا يجهض إبداعا على أرض الواقع (الثورة) ، لكننى عدت –بعد سنين عددا- فتصالحت على الإبداع جدا ، لأننى اكتشفت أنه يمكن أن يقوم بدور التحريك والتخطيط المسئول لثورة قادمة، فالإبداع الجيد ليس د ائما بديلا عن ثورة ممكنة، بل لعله هو نفسه إرهاصات ثورة يشارك فيها قبل أوانها.
قلت لعل هذه الأجهزة لم تصل بعد إلى مرحلة الحكمة الخائبة التى وصلتُ أنا إليها، فأرادت أن تحتفظ لنا بغضبنا حتى نشارك بفاعلية مباشرة على أرض الواقع، إذ غاية ما كان يمكن أن نخرج به من عروضكم هذا الأسبوع هو أن ننظر فى وجوه بعضنا البعض ونحن نغادر مركزكم العظيم متعاطفين مع الجارى، ونحن نمصمص شفاهنا أو غير ذلك، مما يشبه ذلك.
لكننى عدت أعتب على هذه الأجهزة أن تذهب هذا المذهب وكأنها لا تثق فى قدرتنا على استلهام الفن باعتباره خطوة متواضعة فى الاتجاه الصحيح، تعدنا بمثابرة متنامية، ونحن نستعد أن نحمل مسئولية أى إبداع ممكن على أرض الواقع (الثورة) .
احترامى لدعوتكم، ثم تعجُّبى لتأجيلها، ثم تفسيرى المتعدد الأوجه لموقف أجهزتكم، جعلنى أستلهم حديثا شريفا ، فأبتدع له مقابلا يقول :
“من رأى منكم مذبحة فليوقفها بدمه،
فإن لم يستطع فبعمله،
فإن لم يستطع فبفنه،
وهذا أضعف المقاومة”
………
حتى لو كان أثر الفن مؤجلا لفترة تطول مهما طالت
ثم إنى سيدى رجعت أخفف لومى على تلك الأجهزة بتفسير آخر، وقلت لعلها تعطلت بفعل فاعل، وبالذات بألعاب الموساد الذكية، لكننى نهيت نفسى عن مثل هذا الظن، حتى لا أتهم أكثر فأكثر بالتفكير التآمرى، مع أنه التفكير الذى فرضه الواقع على كل أبله حتى يفيق من غفلته.
آسف يا سيدى أننى أطلت عليكم هكذا
أما عن دعوتكم الكريمة لمشاهدة الفيلم الألمانى “معجزة برن“ الذى لا أعلم شيئا عنه طبعا، فإننى اكتشفت من خلالها كشفا جديدا دون أن أشاهده، فلا بد أن التقنيات الأحدث قد ابتدعت فى مثل هذه الأفلام التى تنتجها بلاد برة تقنية تـُصلحُ عطل الأجهزة تلقائيا بمجرد أن تدور بكرتها
وإنى فى انتظار دعوة من مركزكم الموقر، ولو بعد مائة عام، تصلنى فى قبرى، للمشاركة فى مشاهدة فيلم “معجزة غزة”
وعليكم السلام.