الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عن الخزى، والقهر، والذنب، والاحترام (3 من 4) عودة إلى حالة “سامح

عن الخزى، والقهر، والذنب، والاحترام (3 من 4) عودة إلى حالة “سامح

“نشرة”: الإنسان والتطور

30-12-2008

السنة الثانية

العدد: 487

 

(سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى أو التدريبى).

عن الخزى، والقهر، والذنب، والاحترام (3 من 4)

عودة إلى حالة “سامح”

مقدمة:

أنهيت الحلقة الثانية من حالة سامح بما يلى:

أعرف أن المسألة أصبحت مرهقة، وأن التتبع أصبح صعبا، وأننى أغير رأيى كثيرا حتى أزعج كل من ينتظر منى كلاما حاسما نهائيا ، لكن ماذا أفعل، وهذا هوالمنهج الذى اخترته، أو الذى فرضَتْه علىَّ هذه النشرات، وتلك التسجيلات الموضِّحة لفروضى السابقة التى كنت أحسبها فروضا حالمة، ولكن يبدو أنها تثبت أولا بأول أنها فروضا عاملة، ولعلها تكون الشواهد الإكلينيكية التى يمكن أن  تدعم التنظير الذى يلح فى إصداره، الإبن الصديق الأستاذ الدكتور جمال التركى وآخرون.  وإلى الأسبوع القادم ” تعقيبات وتفسيرات إمراضية Psychopathological (نشرة أو اثنتين)

ثم حال عطل كابلات الإنترنت دون الوفاء بهذا الوعد فى حينه، ثم انصلح الحال، ثم هممت أن أوفى بوعدى بعد أن نشرنا بالتفصيل ورقة المشاهدة (الشيت) التى ظهر فيها تاريخ الحالة والأعراض، وذلك فى نشرة الثلاثاء 16-12-2008  ثم نشرنا نص المقابلة مع المريض فى اليوم التالى17-12-2008 ،

وقد بدأت فعلا وأنا أتصور أننى سوف أزيد الأمر وضوحا، وبعد مضى بضع ساعات وجدتنى غير راض عما أفعل، حيث شعرت أننى بذلك أخلط بين منهج المباشرة ليستنتج القارىء – بما فى ذلك المختصون – ما يراه مناسبا، وبين منهج التفسير والتأويل الذى بدا لى وصيا على النص الأكثر ثراء.

ولم أجد الوقت للتراجع الكامل عن كل ما كتبت،  وإحلال مادة أخرى محله، فتورطت –هكذا- فى عرض هذه العينات لعل لكم رأيا آخر.

تنبيه لا لزوم له:

غنى عن الذكر الإشارة إلى ضرورة مراجعة ما سبق نشره  قبل الماضى فى قراءة الحالة أو مناقشة فروض الإمراضية الـ psychopathology ، ومع ذلك نوجز الحالة مضطرين برغم علمنا أنه موجز لا يكفى:

موجز الحالة

سامح  إبراهيم  (ليس اسمه الحقيقى كالعادة)  17 سنة ، طالب متوقف فى سنة تانية دبلوم متوسط،  جاء يشكو من ضلالات اضطهاد (فيه ناس عايزين يئذونى  ويخسسونى،)، وهلاوس سمعية (باسمع صوت هبد على العربيات – ثم منذ شهرين بدأ يشكو من أصوات متعددة، تنقر على الأبواب، وتصفر، مع صوت أنثوى فيما بينهم يمكن تمييزه وهو يعقب على تصرفاته ويسُبــُّـه أحيانا)، وتوقف عن الدراسة، ورفض العمل كبديل، ثم غرق تحت انسحاب وعزلة، (دايما قاعد لوحده فى الأوضة، راقد فى السرير ومغطى وشه بالبطانية، بس صاحى)  كما رفض الأكل تقريبا تماما، حتى فقد عدة كيلوجرامات كما كان معظم الوقت يتخذ وضعا ثابتا متصلبا دالا   بقى يغطى وشه وممكن ياخد وضع ويقعد حاطط وشه فى الأرض مدة طويلة قوى  (أعراض تصلبية = كاتاتونيا)

سامح يعيش مع والديه وأخويه اللذين لم يتزوجا بعد، فى حين تزوجت أختيه ، وهو آخر العنقود،  وقد أحضره أبوه للاستشارة على مستوى العيادة الخارجية، وكان قد أخذ علاجات فيزيقية فارماكولوجية  مناسبة تحسن بعدها قليلا ثم انتكس بسرعة، ليس فى عائلته تاريخ إيجابى للمرض النفسى/العقلى، والده رجل  طيب عطوف لا يميز بين أولاده أو بناته، والأم 52 سنة ، اجتماعية سهلة ، علاقتها بسامح أقرب إلى التدليل،  علاقته بإخوته طيبة، عموما،

سامح طول عمره خجول، مالوش اصحاب كتير، بيحب يقعد فى البيت أكثر الأوقات، بيصلى ويصوم من صغره

……. حكى عن خبرات جنسية صعبة، فهو يقول أن اثنين من زملاء المدرسة، أكبر منه مارسا معه الجنس فى ظروف يستحسن أن نعيد حكيها بألفاظه:

…. فيه اثنين زمايلى فى اعدادى كانوا بيجبرونى على كده، كانوا يدونى مواعيد ولازم أروح فيها، وكنت باقول لأهلى انى رايح اذاكر مع صحابى، يمكن لوْ  والدى شد علىَّ ماكنتش رحت، لو رفضت كانوا بيهددونى، واحد منهم قالى إنه مصورنى 36 صورة، وكان بيهددنى انه حايوريهم لأمى، كان كل مرة باحرق صورة لحد لما خلصوا، كانوا يقولوا لى  لو ماجتش حا جرسك بالفضيحة،  كنت باحس انهم عاملين فىّ حاجة غلط، كنت خايف اخلـّـف، كنت حاسس إن انا فى بطنى  ولد وخايف ينزل، كنت عايش فى رعب، بطلت الحاجات دى لما دخلت الدبلوم

مقتطفات فتعقيبات محدودة من  المناقشة مع الزميلة مقدمة الحالة

سوف نقتطف من المقابلة مع الزميلة التى قدمت الحالة ما نرى أنها نصوص تحتاج إلى تعليق قد يدعم الفرض المطروح

(المقتطفات ليست كاملة، وبعضها ليس حرفيا، لتعويض الإيجاز،

ومن يرغب فى الرجوع للنص الحرفى، يرجع له كاملا فى يومية الثلاثاء16-12-2008

النقط عادة مكان كلام محذوف، والأقواس كلام مضاف)

المقتطف:

د.داليا  الشافعى

…….

د.داليا: أنا اللى شاغلنى إن .. العيان …..،  مفركش، (ومع ذلك)   العيان قريب جداً،  حاسّه إن أنا عايزه أساعده بجد، كمان مستغربة إن هو اتكسر الكسرة دى وما فيش تاريخ عائلى،

 ……

د.يحيى: هى  فين الفركشة اللى فى المشاهدة  اللى انت قلتيها،  …..” فركشة يعنى disorganization  مش كده؟ كل حتة فى ناحية، يعنى وظيفة نفسية عقلية مش ماشية مظبوط مع وظيفة تانية، كلمة مش ماسكة مع الكلمة اللى بعدها، جملة ناقصة غير مفيدة، كل فكرة مالهاش دعوة بغيرها، مش كده والا إيه؟

التعقيب:

هناك خلط فى التفرقة بين “التفسخ”، Disorganization والتدهور Deterioration  ، العملية الفصامية تبدأ بالانشقاق الذى يسمى “الفصم” Schism تمييزا له عن الانشقاق Dissociation الذى يحدث فى الهستيريا، مع أن فكرة الانشقاق (وليس الازدواج) هى أصل حركية العملية الفصامية، وأنا أسمى هذا التحريك المبدئى المُباعِد فى البداية “تعتعة” Dislodgement ، أى فصل بسيط لمكونات الواحدية Oneness التى تجعل من الشخص الواحد شخصا فى وقت بذاته فى حالة الصحو. واحدا صحيحا، لا أكثر، حين تتفكك هذه الواحدية، تبدأ التعتعة، التى تتمادى إلى حد ما أسميه الملخ Dislocation  وفيه تنفصل الكيانات المكونة للفرد “الكل الواحد” عن بعضها، لكن دون أن تتحلل الوظائف، وتتواجد هذه الكيانات معا إما بالشعور بها فى نفس وساد وعى اليقظة، وإما فى صورة أعراض اغترابية وكأنها آتية من الخارج (عادة فى صورة ضلالات أو هلاوس). لكن لا مرحلة التعتعة، ولا حتى مرحلة الملخ، هى كافية لوصف الحالة بالتفسخ (الذى عادة توصف به العملية الفصامية فى ذروتها ويعبر عنه بالعامية بلفظ: الفركشة). يحدث التفسخ حين تتزاحم هذه الكيانات، وتتنافس حتى التصادم، ومن ثم التناثر ليس فقط بعيدا عن بعضها البعض، ولكن تتناثر مكونات كل كيان ، والأكثر أن تختلط أداء أجزاء من بعض هذه الكيانات بأجزاء أخرى، فيكون الجماع الظاهر على سطح الوعى هو خليط “هذر مذر” من السلوك والكلام والمشاعر.

التدهور Deterioration هو إشارة إلى الآثار السلبية للتفسخ، هو نقص فى كل شىء مع خلل فى معظم مجالات السلوك بل الحياة برمتها، هو بمثابة الرماد المتخلف من حريق، أو من وقود لم يستفاد منه لإنضاج أى شىء، أو دفع أى حركة، هو أقرب إلى ما يسمى حديثا الأعراض السلبية للفصام،

الذى يمنع التفسخ ليس بالضروة السلامة، وإنما أيضا أشكال أخرى من المرض، مثل الوساوس القهرية، والضلالات المنتظمة المتماسكة، بل والأعراض الكاتاتونية (التصلبية)، الضلالات وأحيانا الهلاوس قد تمنع التدهور لمدة طويلة، وأحيانا طول العمر (مثل حالة عم عبد الغفار)، أما الأعراض التصلبية والانسحابية فى مثل هذه الحالة فهى تمنع التفسخ بالجمود الذى يشبه البيات الشتوى أو تجمّد وتلون بعض الزواحف بلا حراك بجوار الصخور لمنع وخداع الحيوان المهاجِم من التهام الفريسة إذا تحركت.

عدم التفسخ (الفركشة) فى هذه الحالة هو راجع جزئيا للضلالات، وبدرجة أكبر للانسحاب والتخشب.

المقتطف:

د.يحيى: اللى شاغلنى فى العيان ده إن أبوه راجل طيب، وبيحبه، وهو آخر العنقود وبتاع، وامه ست اجتماعية وما قصّرتشى فى أى حاجة، وما فيش تاريخ إيجابى للأمراض بتاعتنا فى العيلة دى على قد ما قالوا، يبقى إيه الحكاية؟ وازاى حالته توصل للدرجة دى؟  مش لدرجة الفركشة اللى انا مش شايفها، لأ ، أنا باقصد  الجمود والتصلب والانسحاب الكامل ده، ودى حاجات  ألعن، واللا إيه رأيك يا داليا؟

د.داليا: أنا مفسراها بالحكاية بتاعة العيال دول، والتهديد، والتخبية ، والحاجات دى

التعقيب :

حين نفتقد التاريخ الأسرى الإيجابى للأمراض النفسية/العقلية فى الأسرة، نجد أن علينا  أن نبحث بدقة أكثر عن سبب مناسب فى التاريخ الشخصى يبرر الذهان بوجه خاص، وليس من الضرورى أن نجده فى كل حالة، لكن الأمر يحتاج أن نتعمق فيما يبدو أسبابا عابرة، لعلها لا تكون عابرة، وقد يحتاج الأمر إلى أن نأخذ ما يبدو أنه السبب الأوحد بشكل حذر على أنه ليس الأوحد، فلو أننا أخذنا فى حالة سامح مسألة الاعتداء الجنسى فى الطفولة، ثم الممارسة المثلية مع التهديد والقهر كما وصل للزميلة، واكتفينا بأن هذين السببين هما كافيين للشعور بالذنب، ومن ثم بالخزى، ومن ثم بالانسحاب، فالذهان هكذا، إذن لافتقدنا السبب الحقيقى المحتمل الذى صغناه فى الفرض الذى قدمناه أثناء المناقشة، والذى سوف نعود إليه ثانية.

النقطة الثانية التى سوف نعود إليها فى حالات أخرى كثيرة، هى أن الصفات التى يوصف بها الوالدين باعتبارها صفات إيجابية تماما، مثل الطيبة، والقرب، والحنان، والرعاية، والاستجابة للطلبات، وتجنب القسوة العمياء، هذه الصفات التى تروج لها الدراما السطحية، وتعزو المرض النفسى إلى عكسها، تلك الصفات لا ينبغى أن تؤخذ على أنها صفات إيجابية على طول الخط، بل إننا قد نجد وراء الطيبة نوعا من التخلى، ووراء الاستجابة للطلبات والحنان، نوعا من عدم القدرة على المنع أو الكف، ووراء القرب نوعا من الامتلاك يصاحبه أو لا يصاحبه الخوف من الفقد، ووراء عدم الزجر والعقاب نوعا من عدم تحمل الألم الذى يصيب الأب (أو الأم نتيجة لذلك)، نلاحظ هنا –مثلا- قول سامح “يمكن لو والدى شدَّ علىّ ماكنتش رحت”

المقتطف:

د. داليا: “……….(فيه)  حاجة خلتنى أشك فى موضوع الـصور أصلا، أصله قال لى  إن الولد التانى قال له أنا كنت تحت السرير وصورتك،  وبعدين يقول له أنا مصور لك مش عارفه إيه، حسيت إن حتى الطريقة اللى بيهددوه بيها نصب فى نصب، وهو يعنى بيصدق حاجات مش ممكن تكون حاصلة، الظاهر هما  كانوا بيستغلوه بطرق ملتوية ،………

د.يحيى: كتر خيرك،..، شوفى يا بنتى  الخبرة دى والعيال فى السن ده فى المجتمع ده ، الحاجات دى  واردة، لكن بشكل لعب، ولمدة محدودة، وهات وخد، وكلام من ده، إنما اللى خلانى أنزعج هوا طول المدة، ورضاه فى البداية، ودوره السلبى على طول الخط، أنا عديت  حكاية التهديد والصور والكلام ده، حسيت إنها مش هى كل حاجة، كل ده خلّى الفار يلعب فى عبى …..

…………….

د.يحيى: طب لما شكيتى فيها..، تصورتى إن هى ممكن تكون مدة قد أيه

د.داليا: لأ ممكن تكون أكتر من كده، أكتر من مرحلة إعدادى

د.يحيى:  (هى قعدت الحكاية دى) …. قد  إيه تقريبا؟

د.داليا: …. ممكن يكون قعدت أربع  سنين مثلاً أو أكتر كمان

………..

………..

د.داليا:  ………  أنا وصلنى فى الأول إنه كان رافض يعنى، وبعدين زى ما يكون اتعود أو حاجة كده،

د.يحيى: كان فيه فعل كامل،  ولا لأ

د.داليا: آه

د.يحيى: الشعور ده له  علاقة بالسؤال البايخ اللى (أنا سألته) قبل كده، إن هو كان عايز كده ولا لأه،  هى الست بتبقى عايزة إيه من العلاقة الطبيعية، الست فى الغالب بتبقى عايزة حاجتين، عايزة العلاقة، وعايزة الأمومة، ويمكن الراجل كمان يكون عايز كده.

………..

…….الشعور بالحمل اللى قاله الولد  الغلبان ده مش تخريف كله، ده شعور طبيعى، أنثوى فى المقام الأول، ممكن الخبرة السخيفة دى اللى ابتدت بدرى كده، ممكن تكون حرّكت فيه – طبعا ده مجرد الفرض اللى نطّ  لى – ، تصورت إن  ممكن تكون الخبرة دى حركت جانب داخلى فى تركيبه الأساسى، ولما قال لك أنا كنت حاسس إن فى بطنى عيل ماكانش مجرد بيتخيل، لا دا يمكن كان يمكن بيعبّر عن استقباله الداخلى  للجانب اللى اتحرك ده، ويمكن حتى ترحيبه به، مرة تانية ده مجرد فرض يمكن يساعدنا،

التعقيب :

هذه الجزئية من الفرض هى أصعب أجزائه وهى تحتاج لمزيد من الإيضاح:

أولا: هى ليست تصويرا لتخيلات المريض وإنما هى متعلقة بافتراضات أساسية عندى، تتجاوز افتراضات يونج عن “الأنيما” Anima و”الأنيماس” Animus ، لأنها تصل عندى إلى درجة تصور أن ثنائية التركيب الجنسانى (ذكر – أنثى) هى واقع بيولوجى تاريخى، وليس مجرد احتمال سيكولوجى تخيّلى، وأن رحلة النضج لا تتم فى الاتجاه السليم إلا بعد مراحل طويلة ، وأزمات نمو متعاقبة، هذه الأزمات الطبيعية لا تعلن بالضرورة فى لغة جنسية، لكن كل أزمة ترجح التوجه ناحية أحد قطبى هذه الثنائية لمرحلة ما، ولا تكون الأزمة ناجحة بقدر ما تستبعد الضد، وإنما بقدر ما تحتوى جزءا منه نحو التكامل، بمعنى أن الولد لا يكون ناميا نموا صحيا إذا كان يزداد ذكورة باستمرار على حساب أنوثته الكامنة الفاعلة، كذلك الأنثى، وبدون التركيز على المظهر السلوكى وحده، وبدون تحديد أننا نتكلم عن الجنس بالذات ، يمكن أن نتصور أن هذا هو قانون النمو الجدلى بصفة عامة.

من هنا تأتى أهمية الخبرات الأولى فى تشكيل مسار الاشباع الجنسى وما يرتبط به وهذا يختلف حسب نوع وفرص التنشئة، وتصبح هذه الخبرات الأولى وما يليها مسئولة إما عن تدعيم الاستقطاب إلى أقصاه، فينمو الولد أكثر ذكورة، وليس بالضرورة أكثر رجولة، والأهم ليس أكثر إنسانية، وتنمو البنت أكثر “نسائية“، وليست بالضرورة أكثر أنوثة، والأهم ليست أكثر إنسانية،

وإما أن تقوم هذه الخبرات الأولى (والخبرة هنا ليست مرادفة للتنشئة)  بإعاقة هذا الاستقطاب، ليس لحساب جدل النمو، وإنما لحساب تعتيم الأدوار وميوعة الحدود بين قطبى الذكورة والأنوثة، وهنا: إما أن يتأخر تحديد الهوية الجنسانية Gender، وإما أن تختلط الأدوار أو تتعدد معا، أو تتبادل أحيانا، أنا لا أتكلم هنا عن الجنسية المثلية بوجه خاص، فالهوية الجنسانية ليس لها علاقة مباشرة بالممارسة الجنسية الغيرية أو المثلية، أنا لا أنفى أن ثمة علاقة، ولكنى أنبه أنه لا توجد علاقة مباشرة.

…………..

 نتوقف عن التعقيب والتنظير قليلا فى هذه المرحلة ونستمع إلى ما قلتُهُ للزميلة مقدمة الحالة.

 المقتطف:

د. يحيى: (أنا متصور إن) ….. الخبرة ابتدت حب استطلاع، واستمرت بدرجات متفاوته من القهر والرضا، فحرّكت اللى حركته فى الواد الغلبان ده، فبقى هو مضطر لتنشيط قهر داخلى من نوع آخر (دون أن يدرى طبعا)  عشان يسكّت اللى اتحرك جواه ده، يعنى يكتـّم على الحتة اللى استثيرت بالشكل ده، ومش بس استثيرت عشان تحقق لذة مؤقتة مشكوك فيها، لا، دا يمكن أثارت معاها الجزء الأنثوى المتعلق بحتة الأمومة اللى فيه،

 طبعا كل ده محاولة فهم لا أكثر، ييجى يا عينى الولد ده يبقى عليه إنه يقاوم القهر الخارجى، وبرضه  القهر الداخلى إللى بيظبّط بيه الحتة دى اللى اتحركت فيه غصبن عنه، وهو ناشئ دلوعة، وآخر العنقود، ولا خد الدراسة جد، ولا استمر فى شغلة أكتر من شهر،

التعقيب :

الفرض هنا يريد أن يقول إن الاعتداء الجنسى فى ذاته، والتهديد، والقهر، ليس وحدهم السبب فى الانهيار النفسى حتى الذهان (الكاتاتونى الانسحابى الفصامى، بأقل قدر من التفسخ)،  إننا نفترض أن الجانب الذى تحرك بداخل سامح ليتلقى منه كلا من اللذة بل و”الاعتراف“، هو الجانب الأنثوى، الأموى معا، وقد كان مفتاح هذا الفرض هو ذلك الشعور بأن فى داخله طفل يوشك أن يخرج من بطنه أثناء التبرز، ونحن نفترض أن هذا ليس فقط من صنع الخيال بمعنى اشتغال التفكير بصناعة هذا التصور تخيّلاً، وإنما نحن نراه ترجمة لتحريك بيولوجى بدأ منذ الطفولة، فحقق له لذة غير مقصودة، واعترافا ضمنيا فكان يقبل مقهورا ثم يلتذ – بيولوجيا- مضطرا، ولا يمكن فصل هذا عن ذاك بسهولة، كما لا يمكن تصور أنه قبوله كان قهرا على طول الخط، على الأقل بعد خبرته المتكررة للحصول على لذة ما، ليس له ذنب فى الحصول عليها. سامح فى كل ما حصلنا عليه من معلومات لم يتكلم عن شعور بالذنب، لأنه لم يرتكب ذنبا، أما المقاومة التى كانت تنمو داخله فى نفس الوقت فلا يمكن قياسها وهى مختفية وراء قوة القهر الممارس عليه، كما لا يمكن تتبع مسارها من أول رضوخه للذهاب، حتى توقفه عن الممارسة، لا أريد أن أتمادى فى افتراض رضاه أو رغبته فى استمرار الممارسة لسنوات حتى لا يبدو ذلك وكأنه اتهام ضمنى، لكن هذا الافتراض يفسر ما يلى:

  1. أنه ، كما جاء فى المقابلة والشرح للزميلة، كان يقاوم قهرا خارجيا (التهديد بالصور)، وقهرا داخليا، توجهه الداخلى نحو الالتذاذ فالاعتراف ضمنا بالإقرار له بوجودٍ ما مرغوب فيه، ولو هكذا، (حتى ولو بعد بداية مرغمة).
  2. أن كلا من الخوف واللذة ، قد ترتب عليهم هذا التحريك البيولوجى الداخلى الذى ترجمه إلى هذا المعتقد الضلالى: أنه حامل ويوشك أن يضع طفلا.
  3. أن هذا الشعور (فالمعتقد) قد يشير إلى قوة الأثر الذى تركته هذه الممارسة المتكررة فى هذا السن، ذلك الأثر الذى تعمق حتى استثار تركيبا بيولوجيا تاريخيا غائرا.
  4. إن الأب والأم لم يحضرا فى الواقع الخارجى أثناء تنشئة سامح بالقدر الكافى (لا بالمراقبة ، ولا بالمنع ، ولا بالاقتراب، ولا بالاعتراف الحقيقى)، وفى هذا ما فيه من عدم الرؤية أصلا، ليس فقط رؤية ومتابعة مواعيده وخروجه ودخوله، ولكن رؤيته هو كيانا ناميا يحتاج أن يُرَى.
  5. إن هذه الممارسة بكل ما فيها من قهر، وإرغام، حققت له لذة ما، وأيضا اعترافا ما، رؤية ما، حتى لو كانت هذه الرؤية قد حدثت فى أبشع الظروف، وبأخبث الوسائل، إلا أنها كانت – ولمدة سنوات- هى التى تقوم بالتوقيع على أنه موجود، فهو لم يكمل دراسته، ولم يعمل، ولم يكن له دور حياتى أصلا ، فكأن هذا الدور بهذا الشكل الصعب هو بمثابة الاعتراف الملوث بوجوده (فليس الأمر مجرد لذة).
  6. إنه برغم كل ذلك تنامى لديه قرار الرفض تجاه القهر الخارجى (الوعيد والتهديد بالفضيحة) والقهر الداخلى (الحاجة إلى الاعتراف، والرضا بلذة ما)، وحين وصل الرفض إلى درجة تكفى لتفعيل هذا الداخل فى سلوك مرضى، ظهرت الحالة بهذه الصورة.
  7. إن تخشبه ناظرا إلى الأرض بالذات ، ومتجنبا التقاء العينين، كان كما لو أنه يعلن به أن ما كان يخبئه، وينكره أيضا، قد اقترب من السطح حتى كاد “يرى”، فهو الخزى والانسحاب من الناس، بل وربما هو يحمل أيضا نوعا من طلب النجدة بأن يساهم “الخارج” (واقع الناس) فى منعه، مادام هو قد عجز عن ذلك.
  8. إن المرض بهذه الصورة قد حقق له أهدافا لم يستطع أن يحققها وهو سليم.

1)    فهو قد أوقف الممارسة.

2)  وهو قد ألحق به العقاب (بالاكتئاب والخزى)الذى يتصور أنه يستحقه فى مواجهة الجزء الذى رضى بذلك أو رغب فى ذلك.

3)  وهو قد لوح بمزيد من الهرب من الواقع إنهاءً للموقف كله بإنهاء الحياة بالامتناع شبه الكامل عن الأكل.

4)  وهو قد جمّد حركته حتى التخشب (بالإضافة إلى التجمد انحناء وخزيا) فكأن العجز عن الحركة يضمن له – بشكل ما – استحالة ذهابه ، مضطرا موافقا إذا ما استدعوه.

5)    وهو قد أشرك الخارج (بالأصوات والمعتقدات) فى الإسهام فى منعه.

لكن المرض كان له فى نفس الوقت ثمن باهظ

1)    فهو قد هدد حياته (بامتناعه عن الأكل).

2)  كما لوح بفضيحته (وربما كان اعترافه للطبيبة برغم أهميته وطيبتها، يحمل فى طياته ما يشبه الإعلان أو الكشف الذى قد يصل فى ظروف غير مناسبة إلى الفضيحة، يلاحظ ذلك ربما فى قبوله السهل للتصوير فى أول المقابلة والحديث حتى فى هذه المسألة أثناء المقابلة دون حرج، كما  قد نستنتج ذلك أيضا فى ترجمة بعض أعراضه مثل ضلالات المراقبة، وهلوسات الإيذاء.

3)  ثم أن المرض قد نفاه فى عالمه الداخلى بكل تشوهاته وحرمانه ، فتوقفت دراسته التى لم تبدأ أصلا (تقريبا) وتمادى فى بطالته، بل توقفت حياته.

وبعد

ماذا يمكن أن يثيره  هذا الصبى –هكذا- فى نفسك (خاصة لو كنت طبيبا أومعالجا)

  • أن تشفق عليه وعلى ما آل إليه شفقة حقيقية بلا حدود؟
  • أن تحبه بمعنى أن تقترب منه وتقدر ظروفه وتطبطب عليه
  • أن توصى به أهله أكثر ليزيدوه رعاية وعطفا لأنه يحتاج ذلك
  • أن تسارع بوضع لافتة تشخيصية لأن العرض الفلانى مع العرض العلانى يبرران ذلك؟
  • أن يستتبع ذلك أن تعطيه ما يحتاجه من مهدئات عظيمة (نيورولبتا) لتهدئة داخله الذى تحرك فى الاتجاه الخاطئ، ثم قفز فجأة مريضا بعيدا عن الواقع، فتهمده حتى تزول الأعراض، ويزول معها ما يزول؟
  • أن تحاول البحث عن بداية جديدة تمنحه الاعتراف وأنت تكابد محاولة صادقة لاحترامه بما هو، بما فى ذلك ما آل إليه فى هذه المرحلة بالحل المرضى بعد المسار المنحرف؟
  • وهل تتطلب هذه المحاولة الأخيرة ما أسميناه – فى المقابلة على الأقل – “الاحترام” الصعب.

وكيف يكون ذلك؟

هذا ما سوف نحاول مناقشته فى الحلقة الأخيرة، فى نشرة الغد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *