“يوميا” الإنسان والتطور

  2-6-2008

العدد: 276

يوم إبداعى الخاص

قصة

العجوز والخيط

-1-

… كانت تجلس بجوار النافذة نصف المفتوحة تنظر إلى الشارع الخالى، وأنت لا تستطيع أن تعطيها سناً محددة؛ فقد تكون فى الخامسة والسبعين، أو حول الخمسين أو طفلة فى الثالثة من عمرها تتعلم كيف تصنع فستانا ورداء لعروستها الجديدة. كانت لحظة من لحظات الزمن الوديعة، برغم كل هذا السكون أو بسببه. كانت وداعتها أشبه بغروب يوم مطير بعدما انقشعت غيومه، إذ غسلت بمائها أدران البشر وتلويث الطبيعة. جلست بجوار النافذة العريضة الممتدة من الجدار إلى الجدار والتى تكشف عن بعد من قد يروح أو يغدو، على قلة من يروح ويغدو فى هذا الحى، فى هذا الوقت. وضعت على حجرها ثوبا ما، ليس بالجديد، ولا بالبالى، وأمسكت بيدها اليسرى تلك الإبرة الصلب رافعة إياها بمحاذاة مستوى عينيها وأحيانا فوقها، وأخذت تحاول باليد الأخرى أن تدخل الخيط الرمادى فى ثقب الإبرة. الخيط يأبى أن يدخل، ينثنى مرة، ويفلت إلى هذا الجانب أو ذاك مرات، تضعه فى فمها وتبلله بريقها، تفرده بضغطة خفيفة بين شفتيها، تعاود الكرة “أين أنت يا ابنتى؟” ليس فى الدنيا عندى أفضل من أن أراك تهنئين وسط أولادك مع زوجك. هو لا يحبنى، ولكنى أحبك، وأحبه من أجل خاطر عيونك،… يا ترى هل أنت هانئة فعلا؟ من أدرانى؟. من زمن لم أرك، قلبى يحدثنى أنك تُخفِين شيئا، وها هو الخيط يأبى أن يدخل ثقب الإبرة، لا… بل دخل أخيرا هذه المرة، أكاد أرى طرفه يخرج من ثقبها فى الناحية الأخرى. نعم.. هو ذاك. الإبرة تهتز ويدى تهتز، أضم المرفق إلى جنبى؛ حتى أتمكن من التقاط الخيط باليد الأخرى، ولكن الأخرى تهتز أكثر. هاهو الخيط قد خرج على كل حال. خرج الخيط يا ابنتى والإبرة تتحرك إذا تحرك، استقر فى ثقبها يقينا. لم أكن واثقة إن كان طرفه قد دخل أصلا إلى الثقب، أم أن نظرى خدعنى منذ البداية، ولا أنا أدرى إن كنتِ سعيدة مع زوجك؟ أم لا، مادمتُ مازلت قادرة على لضم الخيط فالدنيا بخير، وربنا ليس أكرم منه،  لن ألبس منظارا على آخر الزمن، هل سأقرأ الصحيفة أم سأوقع على الشيكات؟ هذه العوينات للأفندية على المعاش؛ ليثبتوا أنهم كانوا يشغلون منصبا ما، وأنهم لم يولدوا على كراسى القهوة. نعم كانوا موظفين وتليق عليهم العوينات، بل إنها قد تزينهم حتى يبدو الواحد منهم مفكرا أو مهما، أو مهموما، لكن أنا؟ لا أمى لبست منظارًا ولا جدتى، فلماذا أنا؟ أين أنت الآن يا ابنتى، قلبى يحدثنى أنك ستحضرين، وها هو الجرس يدق، ألم أقل لكم؟ صبى القمامة، أخذ القمامة، والبواب أتى بالخبز، فلابد أن الطارق هو أنتِ. كم أحتاجك الآن بوجه خاص؟ كم أنت كريم يا رب.

-2-

 قامت إلى الباب وفتحته، ووجدتها هى بلحمها ودمها، ابنتها حبيبتها، لم يكذب حدسها، فغمرتها فرحة طفل وجد أمه فى زحمة السوق، بعد أن تاهت منه، أو تاه منها، أدخلتها وأجلستها ومسحت عن جبينها عرقها، وقبلت رضيعها النائم على كتفها، وسألتها عن زوجها، وعن أسعار مسحوق الغسيل، وماذا تبقى من الدجاج فى المبرّد، وأوصتها ألا تنسى أن تأخذ معها عند انصرافها زوج فراخ، استطاعت أن تحتجزه لها من الجمعية المجاورة، كالعادة.

 وحين ذهبت البنت والرضيع لترتاح فى حجرتها التى لم تستعملها  أمها، ولم تغير محتواها منذ زواجها، اكتشفت الأم أن الخيط قد تسرّب خارج الإبرة، فلم تبتئس، وراحت تعاود المحاولة بإصرار أكثر مما سبق، وإن كانت قد تشاءمت قليلا، ثم كثيرا بغير سبب واضح، لم تكف عن المحاولة ـ طوال نوم ابنتها ـ بلا نجاح أو يأس. تتصور ـ دون وعى كاف ـ أنها لو نجحت فلن  يلحق ابنتها ولا طفلها مكروه طالما هى على قيد الحياة، وربما بعد ذلك أيضا،  ربنا ليس أكرم منه.

لمحت عبر النافذة طفلا يلعب مع أخته (هكذا أصرت أنها أخته دون أن تعرفها، أو تميزهما بدرجة كافية.

 فضحكت فى سرها ضحكة صافية.

خفّت حدّة التشاؤم رغم أن الخيط ظلّ عصيا على العودة إلى ثقب الإبرة.

-3-

 انصرفت الابنة ـ بعد استيقاظها ـ مباشرة وهى متعجّلة معتذرة عن عدم الانتظار للعشاء؛ لأنها مدعوة مع زوجها إلى وليمة ما. قبلت الأم العذر للتو، فقد تعودت ـ فى الشهور الأخيرة ـ أنه لا فائدة من الإلحاح فى هذا الزمن اللحوح. سألتها الابنة ـ فى صدقٍ حان ـ إن كانت تريد شيئا؟. أجابت الأم: أن “لا.. أبداً.. غير سلامتها” كررت الابنة السؤال، فكررت الأم الشكر والرفض، وقامت تودعها إلى الباب بعدما شبكت الإبرة بجوار الياقة، ثم ألقت ما بيدها وما على حجرها على الكرسى بجوارها.

نظرت الابنة فى عين الأم و وهى واقفة بفتحة الباب وكأنها تريد التأكد أن أمها لا تريد شيئا منها بحق. أو كأنها تريد أن تقنع نفسها بذلك، والأم تعاود الإجابة بالرفض والشكر، وهى تناولها الكيس،  وفيه الفرختان المجمدتان.

-4-

رجعت إلى جوار النافذة، ولم تلمح الطفل أو الطفلة فى الشارع. جمعت كومة الملابس القليلة من على الكرسى المجاور. التقطت الخيط الرمادى بصعوبة من بين ثنيات الثوب، ولكن الإبرة كانت قد تاهت حيث لا تذكر على وجه التحديد أين شبكتها؟ أخيرا وجدتها مغروسة بجوار الياقة مباشرة.

أشرق وجهها، وعادت تحاول من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *