نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 13-5-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5733
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(2)[1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثانى:
“هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) (10)
الفصل الثانى:
(اللوحات: من 1 – 7)
اللوحة الثالثة: [2]
“ريْحـِة بنى آدمْ” (2)
…………………
…………………
المتن: (على لسان حال المريض كالعادة).
(1)
طَـيـّبْ طَـيـّب، واحدةْ واحدةّ.
أنا حاقـْلـَع اهُـــهْ:
أدى صورْتى يا سيدِى،…. شَـرْمـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ،
وادى عقدة نقص، وكسرة قلب.
أهو كلّه كلامْ
(2)
أنا قالع مَلــْط،
لكنـّى مش عريان.
هوّا انا مهبول؟
أدّيك نفسى لحمهْ طريهْ ؟
طب ليه؟([3])
الناس الشــُّرَفا فى الغابهْ أنبلْ منكمْ.
ياكـْلـُوها علناً بشجاعهْ من غير تبرير.
ولا ييجى واحدْ منهم بيهْ،
يسأل بالعلم المتمكِّنْ: بـِتْـحِـس بإيه”؟
ويقلـِّــب سيخِى،
ويقولـِّى حـِسْ، بالنار من تحتـكْ.
كما إنى باحِـسّْ، بحلاوة ريحتـَكْ.
……
الحالة دى صعبهْ ومهمّـهْ،
تنفعْ للدرس.
انطلاقا من المتن:
هذا هو المريض يعلن ساخرا فى احتجاج قاسٍ
طَـيـّبْ…! طَـيـّبْ !، واحدهْ واحدةّ.
أنا حاقـْلـَع اهُـــهْ:
أدى صورتى يا سيدى: شَـرْمـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ،
وادى عقدة نقص، وكسرة قلب.
أهو كلّه كلامْ
مستويات الوعى بين التفريغ والتعليل:
قلنا من البداية أن العلاج النفسى ليس هو العلاج بالكلام، وإن كان الكلام من أهم وسائله، فى هذه اللوحة سنتناول تقييم مستوى ومحتوى الكلام، وخاصة ما شاع عن العلاج النفسى، وبالذات عن التحليل النفسى بوجه خاص، وهى تتعلق باختزال العلاج النفسى إلى:
(1) الترييح
(2) التفريغ
(3) التركيز على البحث عن السبب وخصوصا فى التاريخ السابق وخاصة الطفولة، باعتبار أنه “إذا عرف السبب زال العجب”
وقد تناولنا هذه النقاط الثلاثة بالنقد التفصيلى فى مواقع أخرى حتى وصل النقد إلى تعديل المقوله السابقة وأنه “إذا عرف السبب زاد العجب”.
المتن هنا هو على لسان داخل مريض تصورتُ أنه قد بلغت بصيرته الناقدة عمقا قاسيا وهو يعلنها من خلال صرخته المحتجة التى تنبهنا إلى:
* إن هناك احتمالا أن كل (أو أغلب) ما يحكيه المريض ليس إلا القشرة الظاهرة لما يعيشه أو يعانيه أو يتذكره،
* بمعنى: هذا المريض (الذى يأتى المتن على لسانه) وهو المريض الساخر الكاشف المخترق – مثل كثير من المرضى – قد يحجب، بإرادة ما، ليست بالضرورة واعية، الحقيقة داخل داخله،
* وأنه يعلن بذلك، مـِنْ مستوى ما من وجوده، أنه لا يستأمِن طبييه عليها، (هذا إذا وصل هو إلى معرفتها أصلا).
معنى ذلك أن الكلام الظاهر قد يكون أبعد ما يكون:
# عن الكلام الكامن،
# ثم عن التركيب الغائر،
# ثم عن الحقيقة.
وسواء كان المريض يعرف أنه لا يكشف عن “كل طبقات ذاته”، أولا يعرف، فإنه فى كثير من الأحيان، يكون كل (أو أغلب) ما يحكيه ليس إلا
– تصوره عن أسباب مرضه،
– أو العوامل الظاهرة التى أدت لظهوره،
– أو التى هيأت لظهوره.
****
ثم نعود نكرر فقرات المتن لننطلق منها واحدة واحدة:
طَـيـّبْ…! طَـيـّبْ !، واحدهْ واحدةّ.
أنا حاقـْلـَع اهُـــهْ:
أدى صورتى يا سيدى: شَـرْمـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ،
وادى عقدة نقص، وكسرة قلب.
أهو كلّه كلامْ
****
على الطبيب إذن ألا يُسـْتدرج للاستسلام لهذه القشرة الكلامية، ناهيك عن الفرحة بها، فالتوقف عندها، لأنها قد تكون فى كثير من الأحيان تبريرية أكثر منها تعليلية.
كثيرا ما يثبت أنه مثلا: ليس المهم فى المقام الأول أن المريض حُرِمَ من الحنان أو أُنكر الاعتراف به منذ طفولته، بقدر ما هو مهم النظر فى التركيب الذى آلت إليه مجموع ذواته ومستويات وعيه، وهو ما يمثله هذا الكيان الإنسانى الفرد الماثل “الآن” للعلاج.
إن التركيب (المرضى) الحالى هو الذى يحتاج إلى إعادة تشكيل، فضلا عن أنه المتاح لذلك، أما سبب المرض، (خصوصا أن أغلب الأسباب قد حدثت فى الماضى اللهم إلا الاضطرابات التفاعلية والموقفية الصرف)، فهو جزء من الماضى غالبا، وبما أننا لا نستطيع تعديل الماضى، وكل ما نملك إزاءه هو تذكـّره أو تذكـّر بعضه، أو حتى تذكّر ما أخفاه عنا دونه (أخفى الماضى بظاهر ما يقال كما يشير النص)، ثم ماذا ترتب على هذا الماضى مما هو ماثل أمامنا الآن.
أدِى صورْتى يا سيدى،….، شَـرْ مـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ، وعقدة نقص، وكسرة قلب.
لابد إذن من تحجيم هذه الشائعة البالغة الشهرة، الجسيمة الخطأ فالإضرار، تلك الشائعة التى تقول: إن العلاج هو “كلام وتفريغ”.
واضح من سخرية بصيرة لسان حال المريض هنا أن تركيز الطبيب (المعالج) على محتوى الكلام الذى يقوله المريض، وظاهر ما يحكى، إنما يبُعد الطبيب عن صلب القضية، المريض هنا يقولها تنبيها ساخرا: “أهو كله كلام!!”
ثم إن داخل المريض يـُلحق ذلك فورا بإيجاز رأيه، وإعلان أن مثل هذا الطبيب الذى استـُدرِجَ إلى هذه المنطقة التبريرية التفسيرية التعليلة، هو أبعد ما يكون عن حقيقة أعماق مريضه وطبيعة تشكيله.
أنا قالع مَلــْط،
لكنى مش عريان.
هوّا انا مهبول؟
أدّيك نفسى لحمة طرية؟
على إيه؟
لو أننا تعمقنا الموقف كما تدعونا بصيرة لسان حال هذا المريض الساخرة هكذا، إذن لرأينا أن كثيرا من التفاصيل السطحية التى قد تملأ جلسات التحليل النفسى ليست إلا مظاهر جزئية لمشكلة الوجود الأعمق، فقد تكون غطاءً للوحدة القاسية البشعة التى اكتشفها المريض بلا حل، وعلى لسان هذا الجزء تصبح صورة المريض التى فى متناول العلاج ليست هى حقيقته وإنما غطاؤه.
المريض هنا هو الذى يتفرج بعمق حدْسه – من داخل داخله – على المعالج وهو يحاول أن يفسر ويؤوّل الجارى.
إذا اكتفى الطبيب بهذا المستوى الكلامى السطحى فإنه لا يستطيع أن يمارس التشكيل النقدى العلاجى الذى يمكنه من أن يصيغ “الفرض” الأصلح للعلاج.
هذا الموقف الساخر يعرفه بعض الذهانيين خاصة سواء المرضى منهم أم ذوى الرؤية الذهانية بعد أو قبيل المرض، وهم أحيانا يمارسونه بوعى جزئى على الأقل، ومن موقف السخرية هذا قد تطفو قصص الشعور بالذنب، وعقد النقص والفشل فى الحب، دون أن يكون أى من ذلك هو بؤرة الخلل أو جوهر الاضطراب…. إلخ.
المتن ينبهنا إلى أن كثيرا من هذه الحكاوى قد لا تكون إلا مجرد تفريغ كلامى، قد يخفف الضغط عن الجزء الأعلى من الشخصية ولكنه لا يغوص إلى جوهر مشكلة وجود المريض.
تحذير من التعميم:
لا يمكن تعميم مغزى هذا الموقف هكذا بلا تمييز، إذ عادة ما ينشأ هذا الموقف ويحتد حين يشك المريض فى قدرة المعالج على استيعابه، أو فى جدية المعالج فى مواكبته، أو حين يستشعر المريض انفصال المعالج على مسافة منه، إلى موقف أشبه بالفرجة، أو حتى الشفقة، دون مشاركة فعلية أو مواجدة.
أحيانا فى موقف التعليم، يكون سؤال الطبيب الكبير (الأستاذ مثلا) للمريض “بتحس بإيه”، هو بغرض الشرح فى موقف التدريب، حتى يعلّم المتدرب كيف يسمّى مثل هذه المشاعر باسم عرض معين، أو لكى يصل فى النهاية إلى اسم مرض بذاته، فيكتمل الدرس، قد يلتقط المريض هذا الموقف بحدسه، أو بذكائه، أو بكليهما فيصبح الموقف أكثر إيلاماً له، وينطلق حكمه على ما يجرى أكثر سخرية وقسوة كما سيأتى فى المتن حالا:
* ثم إنه كثيرا ما يصعب على المريض أن يصف ما يشعر به (يحس بيه)
* أو قد يكون ما يعيشه ويعايشه من مشاعر ووجدان أكثر إيلاما وعمقا من أن تـُعلن أصلا.
* وأحيانا يكون المريض أكثر استهانة بجدوى أن يقول لمعالج يشك فى قدراته حقيقة ما يحس به.
تبينت أبعاد هذا الموقف وكيف يصل إلى المرضى من خلال حماس زملائى المبتدئين المتدربين معى أثناء العلاج الجمعى خاصة – وقد ألمحتُ لذلك من قبل– وأورد بعض مثل ذلك فيما يلى:
يدعو أحد المتدربين المريض فى موقف معين أن “يحس بمشاعر معينة” (الخوف مثلا) بدلا من أن يحكى عنها، أو أن “يشعر بالتعاطف” مع زميل آخر يكون قد تعرى أو تألم أو أعلن ضعفه أو احتياجه فى بعض مقاطع التفاعل فى المجموعة، كنت ساعتها انظر للزميل المتدرب وهو يصر على أن المريض إن لم يكشف عن مشاعره لحظتها بدرجة مناسبة، أو إن لم يشارك زميله بالعمق الكافى، فهو“لا يحس“، لدرجة اتهامه أحيانا بالبلادة، كنت أنظر إلى زميلى المتدرب بما معناه “وأنت؟ هل لاحظت تعاطفك؟ مع من؟ وإلى أى درجة؟ وكيف يمكنك أن تظهره؟”، وقد يتمادى المتدرب (أو المعالج الكلامى!) فى تحفيز المريض “أن يحس” بالجارى، أو بما به، ضاربا بنفسه – دون بصيرة كافية – القدوة، فقد يقول للمريض بشكل مباشر أو غير مباشر: “حس زى ما انا باحس“.
وهنا يحضرنى مثل مصرى عامى مهم يقول على لسان من يُجلد عددا معينا من الجلدات “اللى بينجلد غير اللى بيعـّدّ“، ومثل آخر أقل انطباقا لكنه أكثر شيوعا يقول “إللى إيده فى المية غير اللى إيده فى النار“، وأغنية أقل فأقل دلالة وهى التى تقول “عوّام ياللى على شط الهوا عوّام“.
كل ذلك يشير إلى إحاطة الوعى الشعبى بحقيقة أن النصح، والحفز، والتوجيه لمن لا يعيش التجربة بحقيقة أبعادها، أى لمن يرصدها من على مسافة، هو بلا جدوى من ناحية، وأيضا هو يـُشعر المريض ببعد المعالج عنه من ناحية أخرى.
أحيانا يطلب المتدرب من المريض أن يوقظ إحساسه ليخترق اللامبالاة التى تورط فيها هربا من آلامه، والمتدرب لا يدرى حجم عبء ما يطلبه من المريض ولا خطورته، فكأنه يطلب تفجير ذرة كامنة – باستعمال الكلام!! – وقد أحيطت هذه الذرة البشرية بجدار اللامبالاة الواقى، هذا ليس اتهاما للمعالج الأصغر بل هو تنبيه ضمنى إلى بعض مسار التدريب، وهو تنبيه مهم حتى لا يتصور المعالج المبتدئ، والمعالج عموما، أنه هو صاحب الإحساس الحى النقى، وأن المريض هو وحده فاقد الإحساس وأن عليه (على المريض) أن يتشبه به وبتفاعله حتى يكون سويا حاضرا!!
فشتان بين إحساس إنسان اختبأت مشاعره رعبا، وبين إحساس شاب فى أول طريقه لاكتساب الخبرة والتعلم وهو يكتشف طبقات مشاعره مع اكتشاف طبقات وعيه تدريجيا دون تهديد بالتفسخ أو المواجهة.
المتن هنا ينبهنا إلى أن مثل هذا المريض، خاصة إذا كان ذهانىّ فى مرحلة تعرية تحتد فيها بصيرته، يعلـِّمنا ساخرا أن المريض لن يكشف داخل داخله إلا لمن يثق فيه بالقدر الذى يسمح له بمثل هذا الكشف، أو أقل، هذا للطبيب وحده وهو منفرد به، فما بالك فى العلاج الجمعى.
وإن كان الأمر قد يصبح أكثر سلاسة حين يشترك الجميع – بما فى ذلك المعالج – فى محاولة هذا الكشف وخاصة أثناء الألعاب العلاجية كما سيأتى ذكره.
الخلاصة:
كل هذا يشير فى نهاية النهاية، وبرغم قسوة سخرية المتن إلى:
1) أن الثقة بين مثل هذا المريض وبين الطبيب أو المعالج، هى المعبر الأول والضرورى الذى يسمح بالتواصل فالكشف.
2) وأن وراء كل ظاهر ما هو أهم وأعمق
3) وأن علينا ألا نقيس مشاعر مرضانا بمشاعرنا، أو بتصورنا عن مشاعرنا
(2)
أنا قالع مَلــْط،
لكنى مش عريان.
هوّا انا مهبول؟
أدّيك نفسى لحمة طرية؟
على إيه؟ !!!
الناس الشرفا فى الغابة أنبل منكم.
ياكـْلـُوها علناً بشجاعة من غير تبرير.
ولا ييجى واحد منهم بيه:
يسأل بالعلم المتمكِّن: بـِتْـحِـس بإيه”؟
ويقلّـــب سيخى،
ويقولْ لِى حِــسْ:
بالنار من تحتكْ.
كما إنى باحِـسْ:
بحلاوة ريحتـكْ.
(الحالة دى صعبة ومهمّة،
تنفع للدرس).
تعبير “الحالة دى تنفع للدرس” هو تعبير مؤلم متواتر فى المؤسسات التعليمية، وبرغم أنه حقيقة مقبولة ومشروعة، إلا أن الأستاذ أو المدرب أحيانا يعلنه أمام المريض صراحة بنفس الألفاظ، إن وصول ذلك للمريض بهذه الصورة الفجة، ولو بطريق غير مباشر، هو الذى مـَثـَّلـَهُ المتن وقد صاح فينا هذا المريض الساخر:
أن آلامه ليس كمثلها ألم، وأنه كمن ينشوى بنارها، ونحن الذين ندرس أو ندرّس، لا تصلنا إلا كمن يشم العابر رائحة الشواء تتصاعد مما تقلبه النار!!
أظن أنه لو صار هذا البيت المرعب بين الناس مثلا عاميا جديدا لانتبهنا أكثر، وراعينا أكثر
مرة أخرى:
ويقلِّب سـِيخى،
ويقولـَّى حـِسّ: بالنار من تحتـْكْ،
كما إنى باحس بحلاوة ريحتك”
(فصارت مثلاً!! إن شاء الله)
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم بعرض اللوحة الرابعة: “الموت السرّى المِـتـْدحِـلب”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (2) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات)”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – كما أشرت سابقا فى الكتاب الأول وفى هامش “3”، كان اسم هذه اللوحات “جنازات“، ، وكان المقصود بها أن أقدم كيف يمكن أن يساء فهم العلاج النفسى على أنه تفسير وتبرير وتسكين، وكيف أن هذا بمثابة وقف النمو بما يمكن أن يقابل “الموت النفسى“، إلا أننى وجدت نفورا من الاسم، ومبالغة فى التصوير، ففضلت مصطلح “لوحات” تصف كل هذه الأحوال (لا الحالات) التى أوحت لى بعطاء هذا العمل.
[3] – صدرت فى الديوان حتى الطبعة الأخيرة، “على إيه”؟ لكننى وجدت تعبير “طب ليه” أقرب إلى دقة المراد.
تحياتيى لحضرتك د محمد يحيى الرخاوى حقا يجب علينا الانقيس مشاعر مرضانا بمشاعرنا وتصورنا ليس فقط مرضانا بل كل الآخر لكن للأسف لم اتعلم ذلك إلا بعد سنوات عديدة كنت اظن أننى فى موقف ما افعل ذلك لانه هو الصح والمفروض وكذلك سيفعل الاخر لكن هيهات اتضح أنه تفكير طفولى برئ اومثالى بارك الله فيكم ورحم ديحيى وجعل كل ما تركه لنا من خبرة وتجارب حياة وصدق وإخلاص فى ميزان حسناته