شرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 12-11-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4090
(مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى
النقدية والإنشائية والإبداعية
قراءة فى النفس البشرية (1)
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
الفصل الثامن:
فصل فى: النفاق المحسوب (2)
المثل الرئيس:
“الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها”
يقول تيمور (باشا) شارحا المراد: حاسن القوى واخضع له ما دمت عاجزا عنه،
ولنا هنا وقفة:
فهذا المثل قد يوحى بما يكثر أن نشيعه عن ناسنا من اتهام بالجبن أو النفاق، ويبالغ فى هذا الاتهام أولئك الطفيليون الرومانسيون أو المحرضون المتحمسون، ولكن المثل فى عمقه إنما يعرى طبيعة بشرية أصيلة رغم خفائها، وقد دأبنا مؤخرا على أن نبالغ ونحن نقلل من قيم “التكيف” أو “الملاينة” (تكتيكا أو بعد نظر) لحساب قيم “المثالية” البراقة، أو الأخلاق ذات البعد الأوحد المسطح، دون عمق واقعى مسئول، قد يـُعـْزَى ذلك إلى خلط واضح بين ما هو تشكـُّل، بمعنى Conformity وهو أن يصيغ الواحد منا نفسه كما يراد له تماما حتى يصبح “مـُقـَوْلـَبـًـا” يتماثل مع من حوله بلا كيان ذاتى، وبين “التكيف” بمعنى Adjustment وهو العملية التى تسمح للإنسان أن يعيش كائنا اجتماعيا متعاونا، متنازلا، فارضا، مبدعا متلقيا معا، وكل هذا يحتاج إلى درجة هائلة من مرونة ذاتية متفجرة، لا تخشى الظاهر لثقتها من صلابة الباطن وسلامة اتجاه المسيرة.
وحين مـر هذا المثل بوعيى، دعانى إلـى أن أعيد النظر فى هذه الأمور فواجهت عدة قضايا كما يلي:
1- إن أحد الأساسات المبدئية فى علاقة البشر بعضهم ببعض هو مبدأ ”الكر والفر” فى جولات العلاقات الرائعة الضرورية: المعلنة والخفية، وإذا كنـا ننبه أن “الآخر” “ليس جحيما” كما يقول غلاة الفكر الوجودى الانفرادى، فنحـن نعترف فى نفس الوقت أنه “ليس نعيما” كما يقول غلاة الطفلية الرومانسية، “فالآخر” هو “التحدى والمواجهة” وفى نفس الوقت هو “الضرورة والتكامل“- ورغم أن نقطة البداية فى العلاقة بالآخر هى الحرب المعلنة (الموقف البارنوى فى النمو) فإن للحرب هذه أشكالا وألوانا، لكنها دائما ضرورية كعملية أساسية فى حركية الحب، وربما أن المثل القائل:
لا محبة إلا بعد عداوة
كان يعنى هذا التتابع بشكل أو بآخر.
والطفل لا يستطيع أن ينتقل إلى مرحلة “الحب” الصعب (وهو ما يتميز به الموقع الاكتئابى (3) إلا إذا اجتاز مرحلة العدوان التى تـُعـَـلـِّـمه ماهية التحدى فى مواجهة الآخر (الأم فالأب على مسار النمو)، ثم هو يدرك من خلال الضرورة وعدم القدرة على (وكذلك عدم الرغبة فى) التخلص من الآخر: يدرك أن الآخر هو “المـُقَـَـرَّرُ / المُخـْـتـَـلـِـفْ / المـُـفـِـيدُ معا”:
“مقرر” عليه، إذ لا بديل لوجوده ليكون الإنسان إنسانا أصلا
“مختلف” عنه: من واقع.
“أن صوابعك مش زى بعضها”
وهذا لا يشير فقط إلى طول إحداها وقصر الأخرى وإنما إلى إختلاف البصمة أيضا.
وأن هذا الاختلاف “مفيد”: إذ من خلاله تتكون الذات ويتواصل الحوار.
ورحلة العلاقة بالآخر ليست سهلة، فالطفل المنفصل عن رحم أمه دائم الحنين إلى العودة والاختفاء – حماية وأمنا – من مواجهة الآخر (أمه ”إبتداء”) وهذا الحنين هو المفسر لنشاط الطور الشيزيدى.
لكن بما أنه لابد أن يكون فردا مستقلا عاجلا أو آجلا فإن المسيرة تتواصل إلى الأمام، “فتتخلق المسافة” بينه وبين أمه، وتبدأ معركة الكر والفر، (الموقف البارنوى)، ثم سرعان ما يتبين الحاجة إلى الآخر الذى تمثله أمه رغم الحذر، فتبدأ العلاقة وتنمو براعم ما يسمى الحب عادة بما يحمل من آلام وتهديد بالهجر وخوف من العدوان (الموقف/الطور الإكتئابى)، هذه هى المعركة النمائية الأولى مع الأم أساسا بإعتبارها المشروع الأول لما هو “الآخر” الموضوعى.
ولكن ثمة معركة أخرى أكثر شيوعا وأكثر تحديدا، وهى معركة الطفل (الذكر خاصة) مع الأب خاصة، وهى ما تـُختزل أحيانا إلى “عقدة أوديب”، تلك العقدة التى بولغ فى تطبيقها بتفسيرات جنسية فرويدية تراجيدية، إلا أن نظرة أخرى إلى هذه العلاقة يمكن أن تـُـعـِـلـْـنُ تفسيرا مباشرا من حيث أن الوالد يمثل “موضوعاً” “آخر”، قوى، قاهر، فهو بهذه الصورة يمثل أصعب ما هو “آخر” بمعنى “التحدى والمواجهة”- وبما أنها معركة حتمية بطبيعة التواجد البشرى على مسيرة النمو، فإن التفسيرات التحليلية الشائعة التى تتعلق “بالتنافس على الأم” يمكن أن تـُطرح جانبا بشكل أو بآخر ومآل هذه المعركة مع الأب يقع بين احتمالات ثلاث:
(أ) فإما أن يتوقف الشخص عندها ويظل فيها مدى الحياة: وهذا ما نشاهده فى مسوخ “دون كيشوتات” أشباه الثوار الدائمين، الذين لا يستطيعون تبرير وجودهم إلا بصراع مع سلطةٍ ما، وادعاء حرية ما، لا تتحقق أبدا بحيث لو اختفى مثل هذا العدو صاحب السلطة لاصطنعوا قائدا قاهرا ليحاربوه بلا انقطاع.
(ب) وإما أن يتقمص الطفل (النامى) هذا الآخر (الأب) القوى القاهر، فتختفى المعركة مؤقتا ولكن هذا الاختفاء (بالتقمص) هو عادة مرحلة مؤقتة تؤجل المواجهة لفترة، فإذا دام التقمص فهو الجمود واضطراب الشخصية ، إلا أن يتحرك الكيان الطفلى من جديد حين يشتد العود النامى وتتكرر العملية (4): تقمص ===> فانفصال نسبى، ثم تقمص جديد===> فانفصال جديد وهكذا، حتى يمكن الإنتقال إلى الإحتمال الثالث:
(جـ) أن يعترف الطفل بدرجة ما من الوعى بتفاوت القوى، فيستسلم بدرجة ما من المناورة الخفية، ليتجنب الأوهام شبه الثورية (الحل “أ”) أو الجمود شبه التشكلى (الحل ”ب”) وهذا الاعتراف – الخفى عادة – بتفاوت القـُـوَى يتطلب إستسلاما شبه واع، ومناورة محسوبة، وتأجيل آمن، بدلا من تقمص لا شعورى، أو جمود خادع.، وهذا هو السبيل لمواصلة النمو.
فالتقبل هنا ليس بالضرورة رضوخا بقدر ما هو اعتراف بعجز مرحلى، تمهيدا لتقوية منتظمة، ثم معركة أكثر كفاءة.
على أن ثمَّ احتمال آخر هو أن هذا التقبل الذى يوحيه نص المثل الأصل: “الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها” قد يكون نوعا من العدوان السلبى (مثل جدل العبد والسيد) بمعنى أنه:
ما دمت تصر على أن أظل أنا الأضعف: فاحملنى (أيها الأقوى الغبى) وادفع ثمن استمرار عنفوانك “ياسيد” وحيدا بلا آخر!… الخ.
وفى الحالين يكون “الوعى” بهذا الضعف والتسليم التكتيكى هو سر القوة الخفية، وهو الدعوة للاستعداد، فهو تأجيل للمعركة بدلا من الاستمرار فى معركة بلا معركة، وعلى ذلك فالمسألة فى هذا المثل ليست ترويجا للنفاق كما يبدو من أول وهلة، وإنما هى وعى بحجم العدوان من “الآخر” الأقوى (مرحليا)، واحتراما للإمكانيات الحالية، واستعمالا للعدوان السلبى المنهـك، ثم تحفزا واستعدادا للجولة القادمة، وأحسب أن هذا هو ما يفعله الشعب المصرى طوال تاريخه مع طغاته ومحتليه.
وقد يكمل هذا المعنى ويوضحه مثل آخر أكثر صراحة، وربما أكثر مناورة، وهو المثل الذى يقول:
“اللى ما تقدرش توافقه نـَافقه”
فبالرغم من أن هذا المثل يبدو ظاهريا عكس الأول من حيث أن البداية لم تكن معركة (قطع اليد) فإن نهاية المثلين بدت لى مماثلة (باعتبار أن بوس اليد يقابل النفاق) إلا أن النظرة الثانية تقول إن هذا المثل الأخير يوضح أولا: أن هذه الموافقة ليست هى النفاق، ولكنها تكاد تكون عكسه، فهى قد تكون موافقة المحاور المجتهد، فإذا كان ذلك يعنى أن المجتمع الإنسانى فى مرحلة استعمال هذا المثل الجديد قد تطور فلم يعد قاهرا ومقهورا، فإن الآخر يصبح رفيقا/خصما/ عدوا، فى آن، ويصبح الحوار بالتالى ممكنا، والموافقة محتملة، ومتى ثبت – مرحليا – أنه حوار كاذب (ديمقراطية صورية مثلا) فقد لزم اللجوء إلى نفس المناورة السابقة، فالديمقراطية الكاذبة تساوى القهر الصريح سواء بسواء.
فإذا تصورنا التحام المثلين فى تكامل، فلنا أن نتصور العلاقة الواقعية النموية البشرية وكيف تتدرج على النحو التالي:
(أ) محاولة للتفاهم: الحوار الحقيقى (الموافقة).
(ب) عجز عن التفاهم: عادة نتيجة محاولة للقهر من جانب الأقوى، والرد بمحاولة البتر (قطع اليد) من جانب الأضعف (حالا).
(جـ) إدراك “فرق القـُوَى” (مرحلى).
(د) تكتيك النفاق أو “بوس” اليد (مرحلى)
(هـ) عودة إلى المحاولة “الموافقة” بالمعنى الذى ذهبنا إليه، وهو المعنى الذى يدل عليه استعمال نفس الكلمة فى مثل آخر بطريقة دالة، وهو المثل الذى ورد سالفا (ص56): “اللى ترافقه وافقه”
فالرفيق هنا ليس هو الآخر المتحدى ، فحسب، لكنه المحاور المختلف المكمـل أيضا -وفرق بين قولهم “اللى ترافقه وافقه” وبين “اللى بدك تـِخـْدمه طـِيـُعه”
بما لا يحتاج إلى تعليق.
كما قد يؤكد ما ذهبنا إليه عامة، ذلك المثل الآخر الذى يقول:
“اللى ما تقدرش عليه،
فارقـُـهْ، أو بوسْ إيده”
وهكذا نرى أن قطع اليد (البتر) فى المثل الأول هو المرادف للمفارقة فى هذا المثل، فإذا استحال الفراق، فقد يكون لزاما أن نقبل الخضوع لظروف ضرورة الواقع ولو مرحليا.
وشتان بين تقبيل اليد هذا، أو النفاق الواعى، احتراما للواقع، واستعدادا للانقضاض، وبين استسلام مهين، أو مثالية عاجزة، تتجسد فى التنبيه الذى يصلنا من مثل آخر يقول:
“اللى يربط فى رقبته حبل، ألف مين يسحبه”
إن هذا هو نقيض بوس اليد الواعى، تكتيكا ومواجهة، لأن هذا الموقف الذى يشير إليه هذا المثل الأخير هو تسليم بدئى يتم بتنازل مسبق وانسحاب قبل المواجهة، وهو انسحاب (الحبل الجاهز للسحب) ليس فيه “آخر” (التحدى المواجهة) بل هو رِدَّة تلغى الذات التى تختفى فى أوهام سلبية نكوصية مـُـعـْـتـَـمـِـدة.
وقد استقبلتُ - ربما خطأ- أن هذا الحبل الذى يربطه بعض الساسة لدينا قد لا يكون بالضرورة تراجع معلن، وإنما هو قد يكون:
وهـَماً بثورة زائفة،
أو تلويحا بسلاح مخزون حتى يصدأ،
أو صياحا فى خطبة معادة،
أو تباهيا بنفط مـُـهـْـدر،
أو ذلا فى قرش مستودع عند عدو،
وكل هذه حبال خفية مربوطة فى رقاب فاقدى الوعى بشكل أو بآخر،
ونحن الذين نعلقها فى رقابنا ابتداء، ثم نلومهم على أنهم سحبونا منها.
[1] – الفصل من كتاب “قراءة فى النفس البشرية” (من واقع ثقافتنا الشعبية) (ص77- ص85) (الطبعة الأولى 1992، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة الإنسان والتطور، عدد يوليو 1986، بعنوان: “مثل وموال” فى لعبة العلاقات البشرية.
[3] – تعبير الموقع “الاكتئابى” لا يشير إلى الاكتئاب نفسه، ولكنها تتعلق بمدرسة العلاقة بالموضوع – والموقع الاكتئابى هو موقع لاحق لكل من الموقعين الشيزيدى والبارنوي، الأول (الاكتئابى) يعلن علاقة ما، علاقة حب مشوب بالخوف من فقده، وبالتالى باعث على بعض الكره الحـِذر، خوفا من التــرك، أما الموقع البارنوى وهو سابق للموقع الاكتئابى فى مراحل النمو، فهو يعلن علاقة الكر والفر مع وجود آخر محدد المعالم ولكنه يمثل التحدى واحتمال الإغارة، أما الموقع الشيزيدى وهو الموقع الأسبق للاثنين معا، فهو يعلن عدم وجود الآخر أصلا- وكل هذا لغة سيكوباثولوجية ليس لها علاقة مباشرة بنفس هذه الألفاظ المستعملة فى وصف شخصية ما أو اضطراب نفسى معين، فمن يعايش الموقف الاكتئابى ليس مكتئبا بالضرورة ، ومن لم يتجاوز الموقف البارنوى ليس بارانويا سلوكيا وهكذا، هذا وقد أشرت فى هامش سابق إلى تطور موقفى من مصطلح وطبيعة لفظ ومصطلح “موقــَـع”، وحتى “موقف” وقمت بتطويره إلى “طور” stage حتى أؤكد على حركية النبض والمعاودة طول العمر، ويتفق ذلك جزئيا مع قول المعرّى: ما كلُّ نطق ٍ له جوابٌ .. جوابُ ما تكره السكوُتُ ، فيه تكرار لكنه مكمـّـل لما ذكر هنا.
[4] – هذا التكرار هو ما أوضحته وبينته ما أضيف إلى هذا المسار من مفهوم دوام الإيقاعحيوى طول الوقت، وأنها أطوار متتابعة متتالية باستمرار، وليست مواقع ثابتة جاذبة، وهذا هو الفرق الأساسى فى اختلاف النظرية التطورية الإيقاعحيوية عن نظرية العلاقة بالموضوع.