نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 27-10-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4074
مقدمة:
امتدادا لما أشرنا إليه سابقا، وبإصرار العناد والأمل: تم تخصيص اليوم “السبت” لمقتطفات من كتاباتى السابقة التى لها علاقة دالة بالفروض التى تعتبر إرهاصات أو أساس هذا الفكر الدائم النمو والتطوير،
وبالنسبة لمقتطف اليوم هو للوفاء بما وعدنا به السبت الماضى(1) بتقديم شهادات من مبدعى الحكى عندنا وهى قد تستغرق أسبوعين، ثم يليها شهادات من مبدعى الشعر بعد ذلك، وسوف ألحق كل شهادة بملاحظاتى المحدودة التى نشرت أيضا فى مجلة فصول ثم فى كتابى “حركية الوجود” هامش (2) وذلك عن كل شهادة على حدة.
*****
مقتطف من كتاب:
“حركية الوجود وتجليات الإبداع” (2)
“………………..
5 – 2 – 2
شهادات من مبدعى “الحكى”
سوف نعتمد على مصدر واحد تتوحد فيه الأسئلة مع مختلف المبدعين، وهو استجابة للاستبار الذى أرسل لعدد من كتاب القصة ونشر فى مجلة فصول (3) وسوف نقوم بمراجعة “انتقائية” نحاول من خلالها أن نلتقط معالم كل من “الصورة” و”المكد” (4) فى مرحلة الإعداد والإرهاص، وفى خلفية الإبداع جميعا. وقد فضلت أن يكون نوع الإبداع المستشهد به مطولا هو القصة القصيرة، لما تتميز به من سرعة الإيقاع بما هى صورة مكثفة أساسا تتداخل مع الشعر فى كثير من الأحيان:
(أ) إبراهيم أصلان:
”… لكن بقية التفاصيل التى لا تـكتب (مثلها مثل كل الكلمات التى لا تكتب) تظل موجودة وحاضرة فى قلب ذلك القليل الذى يكتب. أقول لنفسى أحيانا: إن مايقال يكتسب قيمته الباقية من تلك الأشياء المجهولة والتى لا تقال أبدا”.
فنلاحظ هنا:
أ- شعور الكاتب بحيوية وحضور ما لم يكتبه، فى قلب نص كلمات عمله.
ب- يقينه بأن ما يخلّد عمله (ما يكسبه قيمته الباقية) هو قدرة ما رصد من كلمات على أن تحمل- على قلتها النسبية – نبض ما تنشـَّط من مستوى معرفى أبعد غورا وأشمل كلية.
ج- شعور المبدع أن “هذه المعرفة الآخرى” غير قابلة للقول المباشر أصلا (لاتقال أبدا).
د- وصف الكاتب لهذا الذى لايقال – ومع ذلك فهو يصل من خلال الذى قيل – وصفه هذا المستوى بكلمة “الأشياء” وليس كلمات “المعانى أو المفاهيم أو المواضيع”. مما قد يشير إلى إدراك الكاتب الحدسى لطبيعة عيانية هذه “المادة الأولية النشطة”، أو على الأقل طبيعة صورتها “الشيئية” فى ذاتها، وليست فى رمزٍ حل محلها. (عيانية وشيئية بيولوجية بالمعنى الحيوى).
(ب) أبو المعاطى أبو النجا:
“.. فأكتب القصة لأعبر عن شىء، أو لأمسك بشيء يتململ فى داخلى، ويعجزنى أن أتعرف عليه قبل أن أضعه فى شراك الصيغة القصصية الملائمة، لأجسد شيئا هلاميا، يفتقر إلى التجسيد، ليكتسب معنى “.
فنلاحظ هنا أيضا:
أ – معنى التنشيط الداخلى الذى أشرنا إليه، وذلك فى قول الكاتب: “يتململ فى داخلى “.
ب – إن هذا الذى يتململ هو بعيد عن التعرف عليه فى ذاته كما هو، إذ لابد أن تصوغه إبداعية الكاتب فى تخليق مكتمل (أضعه فى شراك الصيغة القصصية).
وقد وصلنى فعل ”أضعه” هنا بما قربنى من معنى الولادة – تضع كل ذات حمل حملها – أكثر من معنى الحط والإنزال.
جـ- وصف هذا المستوى المعرفى الأول بـ ” الشيء ” (قارن أصلان: “الأشياء”)، وفى الوقت نفسه بالهلامية، وأنه لم يكتسب معناه بعد، ثم إنه لايكتسب معناه إلا بعملية “الوضع “فى شراك المستوى المحتوِى إياه، المتجادل معه.
(جـ) إدوار الخراط:
”… بداءة، تتخلق القصة عندى – على الأغلب، أو على الأرجح – من صورة، صورة تتشكل فى الوقت نفسه بأصوات، بكلمات… وسواء كانت هذه الصورة لمشهد خارجى- هو نفسه ساحة النفس المسفوحة- أو لفعل يدور بلا انفصام عن هذا المشهد الذى يضم الخارج والداخل، والواقع واللاواقع، أو للتكون الأولى… المتحقق منذ أول لمسة للشخصية…، سواء كان ذلك أو غيره، فهى أساسا صورة تتخذ لنفسها على الفور جسدا من اللغة. وأظن أن لى لغتى، فهى تتخلق بالكلمة أو بنسق من الكلمات، بجرسها وإيقاعها وكثافتها…، وهى فى الآن نفسه تأتى حسية ومدركة، أى أنها تأتى حسية ومتجسدة، ولها طعمها ورائحتها وملمسها، ومرتبة شديدة الحضور البصرى أساسا”.
و نلاحظ هنا: أولا:
أ- تركيز الكاتب على المثير بوصفه “صورة”، سواء كانت مشهدا أو فعلا، فمن البداية تكاد الصورة تقرن الفعل بدورانه فى المشهد، والمشهد بحركته فى فعل (على الرغم من استعمال: أو).
ب- اقتران الصورة (ذات الحضور البصرى فى النهاية) بعملية تشكيل بأصوات، بكلمات.
ج- مع ربط “أ ” بـ “ب “، تتخذ الصورة لنفسها جسدا من اللغة.
د- إن هذا الجسد اللغوى له جرس وإيقاع وكثافة، قبل أن يكون له مضمون ودلالة.
هـ- إن هذه الصورة اللغوية ” مرتبة ” متماسكة ” وشديدة الحضور”، ثم هى فى الآن نفسه حسية ومتجسدة (أى أنها ليست فقط – فى النهاية – مفاهيمية أو مجردة).
و- إن صفتها الحسية هذه توحى بأنها عيانية حقيقية لا مجازية، فهى حسية مدركة (لامفهومة، ولا مفهومية)، لها طعمها ورائحتها وملمسها.
كل هذا يضعنا أمام خبرة استطاع صاحبها أن يلتقطها ليصفها بدرجة تحقق ما ذهبنا إليه من طبيعة تنشيط المستوى الآخر للمعرفة، تنشيطا متفتحا مفتحا (ساحة النفس المسفوحة)، وفى الوقت نفسه يؤكد كيفية احتواء هذا التنشيط البدائى-من حيث المبدأ- لينتقل به مما هو صورة سلبية آنية بديلة، إلى ماهو صورة حركية متجسدة، حاضرة. وكأنه بهذا الولاف الصعب قد حافظ على كل الصفات الأساسية للمستوى المعرفى البدائى، ولكن فى شكل مفهومى شديد النضج، إذ تَجَدَّدَ وتنامى باحتوائه المستوى الأول احتواء جدليا حيا، فهو لايكتفى بترجمة مستوى غامض إلى مستوى واضح، ولاهو ينقل مالا يقال إلى لغة سبق القول بها، بل هو يخلق لغته القادرة على الاحتفاظ للصورة بحضورها الحسى، دون الرضوخ لظهورها منفصلة أو مقتحمة بذاتها وعيانيتها الفجة (كما يحدث فى الجنون).
ونلاحظ فى هذا المقتطف ثانيا:
علاقة الذات بالخارج، حين نتبين أن المشهد الخارجى هو نفسه ساحة النفس المسفوحة (استقبلت “المسفوحة” هنا بمعنى الاتساع انفتاحا على الخارج، وليس بمعنى السفك أو الصلب). وتتأكد هذه العلاقة حين يجعل المشهد (الصورة) هو الذى يضم الخارج والداخل، وفى هذا ما يبين أن زوال حدود الذات إنما يحدث فى الإبداع من خلال الطمأنينة إلى أن فعل الإبداع هو فعل تكثيفى ضام، فالمشهد لايُتلقى من خارج ليثير الداخل، أو يقفز من الداخل ليوضح الخارج، وإنما هو يشمل الداخل والخارج على نحو يسمح بسفح الذات بدون فقدان الحدود (5)، أما فقد حدود الذات عند المجنون فيجعله نهبا لما يلقى إليه، وما يلقى فيه (ضلال التأثير Delusion of Influence (6)كما يجعله كتابا مفتوحا لمن يقرؤه (قراءة = إذاعة الأفكار Thought reading = broadcasting) (7)فى حين أن الذات عند المبدع إنما تتنازل عن حدودها طواعية لتحتوى العالم دون امحاء، ولتتحاور مع الخارج من خلال مسامها المرنة. فحدود ذات المبدع ليست جدارا فاصلا، كما نشاهد فى الشخص العادى المتجمد (فرط العادية hyper-normality انظر بعد)، ولكنها كيان يتخلق باستمرار، إذ هو جدار حيوى متين ونفـّاذ فى آن واحد. ثم إن هذا التحديد للذات لايتم بحدود جدارية –مجازيا- فحسب (حتى لو اتصفت بالمرونة والحيوية)، وإنما يتم فى الوقت نفسه بحضورها المتميز حول وعى محورى يتخلق (8).
ثم نلاحظ ثالثا:
ما يشير إلى الوحدة الزمنية الشديدة القصر، التى تتخلق فيها بدايات فعل الإبداع، وذلك فى تعبير الخـراط “… المتحقق من أول لمسة”، أو “على الفور”، وربما أيضا تعبير “التكوّن الأولي”. وأهمية الإشارة إلى هذه المنطقة بهذا المـجـهر الذى صور شهادته من خلاله: هو أنها المنطقة المشتركة مع الجنون فى انقضاضه الصاعق فى بداياته الخفية، وهذا هو ما يقابل فى الإمراض (السيكوباثولوجيا) الضلالات الأولية، (9) أو مايسمى الإدراك الضلالى (10) ولكن فى حين أن هذا التكون الأولى، و”المحقق من أول لمسة”، يتضفـر فى فعل الإبداع مع المستويات الأخرى، فإنه فى حالة الجنون يتمادى المريض فى سوء التأويل، وتشويه الـمـدرك، حتى تحل المعرفة البدائية بتفسيراتها اليقينية المنفصلة والتجزيئية محل المعرفة المفاهيمية، وعلى حسابها، ثم من خلال بقايا تناثرها، فلا تضفير ولاتكامل، ولاتشكيل، ولاترابط، ولا التفاف حول محور يتخلق، ولعل هذا “الانقضاض” الضلالى، هو ما يقابل “لحظة الإلهام عند المبدع، مع الفارق حتى التناقض التام فى المسار والمآل.
وفى حين يصبح اليقين برسائل الحدس البدائى هو التفجير الذى تتهاوى بعده الوحدات ومن ثم التفسخ، يكون البرق الإبداعى (أنظر شهادة نزار فيما بعد)، هو بداية رحلة التوليف والتصعيد وإعادة التشكيل.
(ثم نكمل السبت القادم بنفس المنهج)
[1] – ننصح أولا بالبدء بقراءة نشرة السبت الماضى، وهذا هو الرابط (نشرة 20-10-2018)
[2] – المقتطف: من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” (ص 167 إلى 172) (الطبعة الأولى 2007) المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[3]- “القصة القصيرة من خلال تجاربهم” ص: 257-309 المجلد الثانى- العدد الرابع (1982) مجلة فصول.
[4] – المكد هو اللفظ الذى نحته بالعربية ليفيد “المدرك الكلى الداخلى” والمقصود به أصل الفكرة قبل أن تتشكل إبداعا وهو ما يقابل ما هو Endcept وهو اللفظ الذى استعمله سيلفانو أريتى فى كتابه: “الإبداع: ذلك السحر الولافى” Creativity: the magic synthesis
Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York
[5] – يعد تعبير “حدود الذات” من المفاهيم التى فرضت نفسها على الفكر النفسى التحليلى أحادى النظرة، فهو يعنى الحدود الظاهرة للذات الشعورية. وأى فقد لهذه الحدود هو بالضرورة، – تبعا لهذا المنظور المحدود: خطر مرضى، فى حين أن الطب النفسى التطورى يعترف بأن درجة ما من الفقد لحدود الذات، الغالبة بوجه خاص، هى لازمة للسماح بالتوليف الجديد مع ذوات أخرى فى حركية الإبداع.
[6]- ما يسمى “ضلال التأثير” يدرج أساسا تحت ماهو أو فقد حدود الذات، وعمقه السيكوباثولوجى يشير إلى أن الذات الشاعرة التى كانت طاغية طوال الوقت قد تراخت قبضتها فأطلت ذوات أخرى “تقرأ وتذيع” وتؤثر، ثم أسقطت هذه الذوات إلى العالم الخارجى، حتى عاد المريض يستقبلها بوصفها ضلالات.
[7]- يسرى على هذا العرض (قراءة/ إذاعة الأفكار) مايسرى على سابقه من منظور سيكوباثولوجى، إلا أن هذا الوجود العارى والمعلن هو أقرب عرض لتعبير إدوارد الخراط “مسفوح”، ولكن شتان بين مسفوح واع مسئول، ومسفوح مذاع منتهك.
[8] – أنظر الفصل الأول أيضا.
[9] – Primary Delusion
[10] – Delusional Perception
خطر لى أنه يمكن أن نطلق على الضلال الأولى عند المريض تعبير “الإلهام المرضي” (اليقيني).