مثل وموال
فصل فى الحرمان والشبع والطبقية
قراءة التراث مسئولية خطيرة، يقول صلاح جاهين “افعل أى ئى تقرره، وستجده مثلا يبرره” – ولكن هل الأمثال تبريرية، أم تقريرية، أم، تنبيهية، أم توجيهية،؟ هنا تقع مسئولية القراءة، ومسئولية إبداع التراث يوعى يقظ.
فيقال – من أبحاث أكاديمية “عظيمة” – أن نسبة كبيرة من أمثالنا تبرر الطبقة، أو تدافع عنها، فهل هذا صحيح؟ فإن صح، فهى حقيقة خطيرة ومؤلمة، لأن المثل الشعبى لا يصدر بمرسوم فوقى، فهذا الفوق هم القلة التى نادرا ما “تقول”، وحتى هى لا تردد الأمثال، وإنما تسمعها، وقد لا تفهمها، إذن: فكيف أن الغالبية من عامة الناس، تؤكد ما لا تقره إلا القلة من عالم الفوق؟
ألا يحتمل أن يكون هذا “التقرير للواقع” الذى يصدر من حدس الناس هو تذكرة مثيرة، وتحد جدلى صعب؟
وموضوع اليوم يبدأ بمثل من أكثر الأمثال العامية أيلاما، فتحديا: “أطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”
فكيف باله يقول لنا هذا المثل أن الذى عنده يأخذ ويزاد، وأن الذى هو أولى لحاجته وحرمانه، يهمل ويحرم أكثر؟
هناك احتمالات تكمن وراء هذا القول، لابد أن نواجهها قبل أن نتسرع بالرفض، أو بالتفسير السطحى مثلا: بأن الناس رضيت بالحرمان، أو بأن المثل موضوع ومدسوس على العامة (من قبل أصحاب المصحلة).. إلى آخر مثل ذلك مهما يتبادر إلى أذهان المغرضين سرا وعلانية.
فما وراء المثل من أرضية يمكن أن يرجع إلى “حقائق” لا يصح هزها إبتداء، لمجرد أن نرضى عواطف المساواة، ودعاوى العدل المناوراتى، نعم نبدأ بالحقائق، ثم نرى مسئوليتنا تجاهها.
فثمة معلومات من واقع الواقع، أو العلم الملاحظاتى، أو المنطق السليم تقول:
1- أن الذى لم ينل القدر الأساسى من أى حق، قد لا يعرف هذا الحق أصلا، فمن أين له بالحاجة إليه، فضلا عن المطالبة به.
2- وأن الذى لم يعرف، لم يذق، فأنه فإذا أما ألا ينتفع به أصلا ، أو يستهين به جهلا، أو أن يضعه فى غير موضعه نشازا، فيثبت فى جميع الأحوال أنه لا يستأهله، وبالتالى لا داعى لإعطائه “منه” (لا تضع طعامك أمام الخنازير، فإنها تدوسها).
3- وأن الذى حرم “جدا”، إذا أعطى بعد فوات الأوان، فإنه لا يشبع (لا النافية)، فيظل يأخذ بلا نهاية، وهذا ما سبق أن أشرنا إليه فى هذا الباب، وما أسميناه الوجود المثقوب ( إذ قد التهم الواحد منكم تلو الآخر .. دون شبع).، (من فرط الجوع التهم الطفل الطفل …)[1]
كل هذا جائز، وهو أحد وجوه الواقع (المر)، ولكن هل يعنى ذلك أن نحرم صاحب الحق من حقه لأنه لا يعرفه، إن هذه الدعوى تجرنا إلى مقولة الحكم المطلق عن العامة (مثلا): “إيش عرفهم فى الحرية” أو مقولة بعض المستغفلين (بكسر الفاء) عن ضحاياهم، “لا تعطهم حتى لا تفتح عيونهم”… الخ – وكل هذا لا يفعل إلا أنه يزيد من ظلم واقع، ليس للمظلوم إسهام فى نشأته، فقد لحق به الظلم وهو ضعيف صغير لا يستطيع أن يدفعه أصلا، فهو، لم يعرف أصلا “ما” .. “له” حتى يقول “أريده”.
ولكن دعونا نتعمق فى استجابة المحروم لحرمانه:
(1) فهو قد لا يدركه أصلا كما ذكرنا، وقد يعبر عن ذلك، أو يعيرونه بذلك: “إيش عرف الفلاح فى أكل التفاح” والأصعب والأقسى “إيش عرف الحمير فى أكل الزنجبيل”.[2]
(2) وقد يستغنى عن حاجته أصلا، ما دام ليس عنده “الثمن”، بل أنه قد لا يدرك حقيقة الثمن، رغم إدراكه ملامح “الحاجة” وهنا يعلن بكبرياء الرضا، واباء المستكفى (ولو رغم أنفه) أنه: اللى معاهوش ما يلزموش، فهو يرفض قبل أن يرفض (بضم الياء)، بمعنى أنه “إن فات عليك الغصب، اعمله جوده”، وهذه الدرجة هى درجة أعلى وأكرم، من إلغاء الحاجة أصلا، لأنه هنا يلغى الطلب بلا جدوى، ويلغى إعلان الحاجة، وليس الاحتياج ذاته.
(3) وقد يكملها المحروم المحتاج بألا يكتفى بالاستغناء، بل إنه يتنازل عما له، حتى “يخلى الميه .. مية وواحد”، وهذه المهانة الذاتية فى تعميق العبودية، قد تحمل نوعا من التحدى بالعبودية مما يذكرنا، مرة أخرى، بجدل العبد والسيد عند هيجل، فكلما ازداد العبد عبودية، ازداد السيد وحدة .. فموتا، ومهما يكن من أمر الاستسلام المتحدى، فهو مرحلى بحكم الضرورة، وإذا كان للتمادى فيه خطر التأجيل، فإن به مزية رفض “الحل الوسط” الذى يوهم ا لعبد بعدم عبوديته تحت رشاوى تخديرية مشبوهة، وكثير من الامثال يعلن هذا التمادى فى التنازل لدرجة نستشعر معها – من عمق واجب – أن المسألة ليست تنازلا ذليلا، بل تحديا خفيا:
“طلب الغنى شقفة، كسر الفقير زيره،
كات الفقير نكبة، ماسو تدبيره”
ونحن لا نستسلم لوصم هذا السلوك بسوء التدبير، إلا على المستوى السطحى فحسب، أما من عمق آخر، فقد يصدق ما ذهبنا إليها من تعميق الواقع تحديا وإصرارا.
وفى نفس الاتجاه “إذا شفت الفقير بيجرى اعرف إنه بيقضى حاجة للغنى”.
وفى نفس الاتجاه “إذا شفت الفقير بيجرى اعرف إنه بيقضى حاجة للغنى”.
(4) وقد يتعامل المحروم مع حرمانه بالانتظار، سواء فرض عليه الانتظار من خارج بالوعود والتأجيل، أم أوهم نفس به بالصبر والتحمل، لكنه حذر دائما، أشد الحذر أن تكون لعبة الانتظار خدعة قاتلة، وما أمر أن يقول عن نفسه أن “موت يا حمار على ما يجيلك العليق”[3]
فإذا كان هذا هو موقف المحروم من حرمانه، فما هو موقف المجتمع الأوسع من لعبة التمييز المتصاعد هذه؟
للأسف، إن ظاهرة المجتمع – إلى فى فترات التحول الثورى – يحب الاستقرار مهما كانت المعادلة خاطئة، والقوى المتصارعة غير متكافئة، من مدخل “تحالف الناس والزمان، فحيث كان الزمان كانوا” – وهذا ما يؤكده أمثال: مثل: الغنى غنوا له، والفقير اية يعملوا له” أو “الغنى شكته شوكة، بقيت البلد فى دوكة، والفقير قرصه تعبان قالوا بطلوا كلام”. كل ذلك تعميق وتثبيت لواقع صعب.
………………
……………..
لكن هذا كله موقف ظاهر حتما، لأن الحقوق الأولية لما هو إنسان تفرض نفسها، ولا تنتظر أن يطالب بها أهلها، “فالحق لمن يستحقه، وليس فقط لمن يطالب به” وليس المسألة اختيارا أن يتكلم الطفل لغة مفهومة، هذا حقه لأنه قدرته، فإذا حرم طفل منذ الولادة من أى أصوات بشرية تصل إلى أذنيه (بسبب الصمم – أو العزلة الاجتماعية المطلقة) فإنه لن ينطق أصلا، ولا يصح فى هذه الحالة أن نتصور أنه صنف آخر من البشر لا يصح أن ينطق حتى يطلب – بنفسه – حق النطق، وعلى نفس القياس، فإن ذلك الأمى الذى لا يعرف القراءة والكتابة، إذا أعطيته كتابا “هدية” فإما إنك تعبث به، أو تتعالى عليه، أو تعايره، لأنه لن يستعمله أصلا، إذ لن يفك رموزه إبتداء، فلن يستفيد منه بداهة، أما ذلك الذى يقرأ ويكتب (الذى تعلم كيف يقرأ ويكتب لأنه كانت لديه الفرصة) فإنك إذا أعطيته كتابا، فقد يقرأه، وقد لا يقرأه.
فإذا جاء أحدهم وقال لك: لا تعط الأمى كتابا، فهوى لا يقرر واقعا دائما، وإنما ينبه إلى نسيانك مرحلة أسبق وألزم، أن : “علم الأمى القراءة قبل أن تعطيه كتابا”..
ولعل هذا ما يعلنه المثل المؤلم فى عمقه الحقيقى.
أنه يعلن أن من تجاوز الانتباه إلى ضرورة تكافؤ الفرص المبدئية الأولية، فإنه لا ينبغى أن يتمادى فى إدعاء المساواة، حتى إذا عجز المحروم أن يستعمل، أو يستطعم، أو يتفهم طبيعة ما حرم منه أساسا، قيل أنه هو الذى استغنى عنه، فهو لا يستحقه.
وكأن هذا المثل المحورى فى هذا الفصل “اطعم مطعوم، ولا تطعم محروم” هو مجرد إعلان المستوى معين من الوجود الطبقى، هو يعلن نتيجة ظلم سابق، ولكنه أبدا لا يرسى قاعدة.
وعلى ذلك فإذا كان هذا المثل الشعبى يعلن حقيقة ما، فهى نقطة بداية فحسب، وتذكرة لما كان ينبغى أن يكون فى “الوقت المناسب” فما كان للمحروم أن يحرم لدرجة ألا ينفع له عطاء بعد ذلك، وما لم نأخذ بهذا المنطق، فنحن نتهم المثل أنه يؤكد أن يظل المحروم محروما، والمطعوم مطعوما إلى ما لا نهاية.
فتعالوا نبحث عن صحة إيجابية المثل من واقعه، وما يواكبه، فالحدس الشعبى لم يقل أن تطعم شبعانا، بل مطعوما والمطعوم هو الذى استطعم الشئ حتى تذوقه فعرف قدره، فهو يقدره إذا ما أعطيه، فيضعه فى مكانه، وينتفع به إذ به، لأن من استطعم الشئ الذى ميزه إنسانا، لا يستطيع أن يعيش “وحده” هكذا، بل هو أحوج. ما يكون إلى أن يتيح الفرصة لغيره، بما أعطى ويعطى، حتى تتسع دائرة إنسانيته، وهذه التفرقة هى التى تظهر حين نتذكر أن المثل لم يقل “أطعم شبعانا”، بل لعل مثلا آخر قد أعلن العكس بلأنه “الأكل فى الشبعان خسارة”، لأن الشبعان الذى يقبل أن يأكل بعد الشبع، هو الخطر الأكيد على دائرة العطاء الدائمة التواليد للدوائر التالية لأنه يمثل دوامة إلى القاع لا دافعا إلى ما بعده، ولعل هذا الشبعان الذى لا يشبع (لا النافية)، أو الذى إذا شبع لا يفيض على غيره من ناتج ارتوائه وإنما يغوص فى دوامته الذاتية هو الخسيس الذى يعنيه الموال:
أصل الخسيس لو شبع زى السبخ لو زاد
بيتلف الأرض ولا بتجبش زرعتها
وهنا تنبيه جديد إلى أن للعطاء حدود، وحدوده هو حاجة الفرد، ثم قدرته على الفيض بهذا العطاء وعائده على غيره، وقد يكون المطعوم هو الذى قدر طعم ما أطعم، فما عاد يستطيع أخذ أكثر من حاجته، فى حين أن الشبعان (دون استطعام) لا يهمه إلا أن يلتهم حتى يغمى عليه، إذ لا يستطيع أن يتوسط أو أن يكف عن الاستزادة حتى لو كانت الزيادة مفسدة: هكذا يكمل الموال:
والملح حسن الطعام وبيفسده لو زاد
وشجرة ما فيهاش ثمر يا سوء رزعتها
فالاطعام له حدود، ووظيفة، وتوسط، وإن لم يساهم إطعام المطعوم فى التقليل من عدد المحرومين باستمرار، فلا جدوى منه، لأن العطاء والعمل والزرع والكلمة، كلها تقيم بعائدها على دوائر الأكثر فالأكثر من البشر الأحوج فالأحوج:
عمل مافيهش أمل يبقى بلاش منه
وشجر مافيهش ثمر برضه بلاش منه
وخلف مافيهش نفع غور بلاش منه
ورغم كل ذلك، فالحدس الشعبى منتبه تماما إلى أن المسألة ليست مجرد “دعوة” لمن يأخذ أن يعطى، ففى فترات “عدم الأمان العام” و”الاغتراب الفردى” الذى يثير التنافس حتى الغل، لا نتوقع من المطعوم أو المحروم خيرا، الأول قد ينسى طعم ما طعم حتى يصبح شبعانا لا يشبع (خسيسا)، والثانى قد يفقد فى أى حق، حتى يتنازل حتى عن بعض ما فاض عليه من فضلات، ويتفكك الناس عن بعضهم تفككا يعلن موت الكيان الاجتماعى بالعزلة، واللامشاركة:
خليك فى حالك بلاش اللف عالفاضى
ماعدش فيه حد يستحمل بلاوى حد
وهكذا تجهض مسيرة دوائر العطاء الحتمية التى تعطى للمجتمع صورته الإنسانية وتصبح القاعدة هى “نفسى وبعدى الطوفان” إلا ما ندر
فى الألف واحد ملان بيكب عالفاضى
والغل بحره اتسع أصبح مفيش له حد
وقبل أن نوجز ما ذهبنا إليه، نستأذن القارئ فى إعادة كتابة الموال “على بعضه”، عله يقرأه بنفسه لنفسه “معا” دون تدخل، ثم نرى:
أصل الخسيس لو شبع زى السباخ لو زاد
بيتلف الأرض ولا بتجبش زرعتها
والملح حسن الطعام، وبيفسده لو زاد
وشجره مافيهاش ثمر برضه بلاش منه
وخلف مافهاش نفع، غور بلاش منه
فى الألف واحد ملان بيكب عالفاضى
والغل بحره اتسع أصبح مفيش له حد
* * *
خلاصة القول:
إن المثل الشعبى لا يقرا وحده، وأن التفرقة بين مضمون الكلمة والأخرى، كلها فى سياقها، هام جدا، ففرق بين المطعوم والشبعان، وأن المثل ليس – فقط – تقريرا لما نريد، ولكنه تذكرة – أيضا – بما ينبغى، وأن صفة من يقرؤه ويستعمله، هى التى تحدد موقعه ووظيفته، فنحن لا نعلم كيف نشأ المثل، ولكننا نعرف، أو ينبغى أن نعرف، أين يوضع، ولماذا؟ .. وإلا ..
[1] – دراسة فى علم السيكولوجى (يحيى الرخاوى) ص 300
[2] – وذات مرة، عمقت أكثر مثل هذا فى:
“إيش يفهم فى الغنوة الأطرش؟
إيش يفهم فى الصورة الأعمى؟
إيش يفهم محزوم من يومه،
فى الحنية ، والذى منه؟”
“أغوار النفس”، يحيى الرخاوى، 1978، ص 197، دار الغد للثقافة والنشر.
[3] – عبرت عن خطورة موقف الانتظار هذا بصورة مباشرة “مش يمكن لعبة “استنى”