طب قديم جدا .. و لكن…
المقتطف: من الأرجوزة الشقرونية[1]
– 1 –
544 القول فى المختار من دواء
يصلح للحفظ وللذكاء
555 إذا اعترى النسيان من رطوبة
فادفع بحر يابس ضروبه
558 وان بك النسيان عن يبس عرض
فاسهل السوداء يذهب المرض
– 2 –
559 وادهن بدهن النور من بنفسج
رأس الذى منه الذكاء ترتجي
561 وخذ سفوفا جيدا منتخبا
مباركا حمده من جريا
562 أعمد إلى الذكر من لبان
أى كندر يدعى حصى لبان
563 أضف إليه سكرا وسعدا
على السوداء كى تنال سعدا
564 خذه ثلاثة من الأيام
وأتركه خمسة على الثمان
565 وعدله ثلاثة وخله
خمسة أيام تفز بفضله
566 وراع ذا الترتيب هكذا إلي
أن يحصل البرء ويذهب البلا
– 3 –
583 وحيثما تشغل نفس الحر
بالعشق أو بالهم أو بالفقر
584 لا تطمعن فى زوال الوارد
فذاك ضرب فى حديد بارد
– 4 –
585 هذا الذى لخصت من مختار
يغنى عن الأدوية الكبار
الموقف:
يثير هذا المقتطف عدة مواقف إثارة غير مباشرة فابتداء نرى أن هذه الأرجوزة المكونة من 764 بيتا ليس فيها من صحيح العلم ألا أقل القليل، وقد كتبت فى فترة تعتبر فترة إنتكاس بالنسبة للطب العربي، وكان ابن شقرون كاتبها “رجل أدب وشاعرا بارعا” كما جرى عرف أطباء ذلك الزمان كما كان يشتغل بالأعشاب أساسا مما يصدق عليه صفة الطبيب الصيدلى حينذاك.
والمهم فى هذه الأرجوزة هو أنها:
1- تذكرنا بفائدة الحمية، والطب الوقائي، والطب الطبيعي، والطب الرياضي، والإعتماد على مأكولات بذاتها، لأمراض بذاتها، وكل ذلك يقربنا من مفهوم جيد لما هو طب جيد، حين يستغنى بقدر الإمكان عن الكيميائيات المصنعة والتى – رغم فائدتها – ليست، طبيعية بحال من الأحوال، وأنه لا يمكن الجزم بمضاعفاتها نهائيا، وخاصة المضاعفات البعيدة المدى .
2 – كما أن هذه الأرجوزة قد أحتوت أقل القليل بالنسبة لما هو طب نفسى بالمعنى المباشر (والحديث لهذه الكلمة).
3 – أماما اقتطفناه ابتسارا مما قد يتعلق بهذا التخصص (الطب النفسي) بشكل غير مباشر، فقد ذكرنا – مجرد تذكرة – ببعض ما يليق بنا ذكره فى هذا المقام دون ربط مباشر .
أولا:
القول فى المختار من دواء
يصلح للحفظ وللذكاء
إذا اعترى النسيان من رطوبة
فادفع بحر يابس ضروبه
وان بك النسيان عن يبس عرض000000
فأسهل السوداء يذهب المرض
الأبيات 544، .555، 558،: لابد وأن تذكرنا بالوهم الشائع حالا وقديما من أن ثمة عقاقير، أو مأكولات تساعد فى الحفظ وتقوى الذكاء، وهذا ما لم يثبت أبدا، اللهم إلا إذا كان ضعف هذا أو ذاك ناتج عن سبب يمكن إزالته بالعلاج، فذاك أمر آخر، فالذاكرة التى قد تختل قليلا أو كثيرا لتصلب شرايين- مثلا-المخ فى سن متأخرة، قد تتحسن وحدها أو بالعلاج بعد أن تعود الدورة الدموية المخية إلى حالة أفضل، أو تنظيم، والارتباطات التعويضية إلى كفاءة مناسبة مرة ثانية، والخلط Confusion الذى يضر بالذاكرة نتيجة لحمى مثلا قد ينتهى وتعود الذاكرة بعد زوال الحمى بالعلاج وهكذا، أما هذا الشائع بين الطلبة خصوصا، وأيام الإمتحانات بشكل أكثر تحديدا من أن ثمة عقاقير تصلح للذاكرة وتحسن الذكاء فلا أصل له، ولا دليل عليه .
ولعل ابن شقرون يشير إلى ذلك حين يحدد أنواع النسيان القابلة للعلاج بأنها لابد أن تكون ناتجة عن شيء محدد فالنسيان الناتج عن “رطوبة” إنما يعالج بالحر اليابس، والعكس صحيح، فالنسيان الناتج من “يبس” يعالج باسهال السوداء، ولا يمكن أن نفهم تفصيلا معنى الرطوبة هنا، أو اليبس، ألا إذا رجعنا إلى المفاهيم الأساسية لهذه الكلمات حسب ما شاع فى الطب العربى حينذاك، وما تردد فى الأرجوزة، أن يجدر بنا أن نتذكر العناصر الأربعة (النار، والهواء، والماء، والأرض) التى تتكون منها سائر المواد، وأن الهواء يكون بالرطوبة، والأرض تكون باليبوسة والرطوبة 0 هكذا مجرد – بالنسبة للعناصر لما أسعفنا ذلك إلا أقل القليل، اللهم إلا إذا تصورنا أنه يعنى بالرطوبة غلبة الطبع (للخلط) الدموى (الحرارة + الرطوبة) أو الطبع البلغمى (البرودة+ الرطوبة) والأخير أقرب إلى التصور لأن الدواء هنا بالحر (عكس البرودة) اليابس (عكس الرطوبة) وهذا أقرب إلى الصحة لأن الطبع الدموى قد لا يكون من صفاته النسيان بل فرط التذكر، أما إحتمال العكس أى أن يكون النسيان ناتجا من يبوسة فإن ذلك قد يتعلق بخليط “السوداء” (الطب السوداوي) الذى هو جماع البرودة+ اليبوسة، وهو الأقرب إلى ما هو اكتئاب، واسهال السوداء هنا قد يشير إلى المعنى المباشر وهو إستعمال المسهلات أو إفراغ محتوى القولون فى بعض حالات الإمساك المصاحب للإكتئاب أو بعض حالات الاضطرابات العضوية الناتجة عن مواد بذاتها فى القولون، واسهال السوداء هنا يخلى الأمعاء من مثل هذه المواد .
ولكن هذا التفسير هو تعسف شديد لأن اليبس والرطوبة يربطهمها ابن شقرون – أيضا – بأنواع المأكولات المتداوى بها وهذا أقرب إلى هذا المقام من ربطهما بالعناصر الأربعة أو الإخلاط الأربعة فهو مثلا يحكم على التمر بالحرارة.
337 والتمر مائل إلى الحرارة
يغذو غذاء بين الغزارة
وكذلك
419 واحكم على الزرنيخ بالرطوبة
كذا الرطوبة له منسوبة
420 إذ طعمه لدى الحكيم الذائق
عذب تغيه بالقياس الصادق
وحكمه هذا يرجع إلى المذاق المر أو العذب وهكذا، وهذه كلها أمور بعيدة عن الصواب بشكل أو بآخر، لكنها الصفة الغالبة فى الأرجوزة وهى أن يستنتج فعل المادة أو صفاتها من أسماء أو شكلها أومذاقها (!!) ولكن ربما كان وراء ذلك كله فكرة طيبة إذ أخذنا جمال المعني: وهى أن الأمراض انما تنتج عن “عدم توازن”، وإذا كان عدم التوازن عند القدماء يختص بالعناصر الأربعة، فعدم التوازن فى فرعنا يكون بين مستويات المخ أو تنظيمات تركيب الذات. . . الخ والمرض هوالنشاز، والصحة هى التوازن على كل المستويات بصفة عامة.
ثانيا:أما بعض الأبيات المقتطفة من 599 – 565 (وقد اضطررنا إلى إيرادها كلها رغم اننا لن نعلق إلا على الخط العام) فإنها قد تشير إلي:
559 وادهن بدهن النور من بنفسج .
رأس الذى منه الذكاء ترتجي
561 أعمد إلى الذكر من لبان
562 اعمد الى الذكر منم لبان
اى كتدر يدعى حصى لبان
أى كندر يدعى حصى لبان
563 أضف إليه سكرا وسعدا
على السوداء كى تنال سعدا
564 خذه ثلاثة من الأيام
وأتركه خمسة على الثمان
565 وعد له ثلاثة وخله
خمسة أيام تفز بفضله
566 وراع ذا الترتيب هكذا إلى
أن يحصل البرء ويذهب البلا
(أ) أن الذكاء قد يرتجى من بعض المرضى دون البعض الآخر. فهذا الغباء الظاهر فى الفصامي- مثلا – والذى جعل الأطباء قديما يعتبرون هذا المرض نوعا من العته (العته المبكر Dementia Precox (، فإنه قابل للزوال، ومريض الفصام (بعكس المتخلف عقليا) “منه الذكاء يرتجي”، وهكذا الخلط بين الغبى منذ الولادة، وبين الغبى اكتسابا بالمرض، قد وقع فيه بعض الأدباء والمسرحيين (الغبى: فتحى غانم) (انتهى الدرس يا غبى: لينين الرملى) بشكل قد يسمح به السياق الأدبي، إلا أن الدقة العلمية تأباه، وقد كان من الممكن تجنب مثل ذلك بالرجوع إلى المعلومات البسيطة التى تسعف غرض الكاتب دون الوقوع فى تعارض جذرى مع بديهية علمية.
أما ما جاء بعد ذلك فى المقتطف من الأرجوزة من دهن رأس هذا الذى “منه الذكاء يرتجي”، فهو أمر مرفوض، اللهم إلا إذا تصورنا أن عملية الدهان نفسها، بها ما يفيد الرعاية والحنو حتى السماح بالنكوص مما قد يتيح للفصامى إنشاء علاقة جديدة تسمح له بالعودة من غيابه الإنفرادى والعزلة واللامبالاة التى تكثف تدهوره حتى ليبدو فاقد الذكاء .
كذلك يجدربنا أن نلاحظ هذا التسطيح الذى يربط بين حلاوة السكر، ولفظ السعد، وبين أثرهما الطبى فى السعد وما شابه، مما أشرنا إليه قبلا.
أما طريقة التعاطى المتقطعة، فهى إشارة جيدة لإتجاه جديد فى التداوي، وتحذير ذكى من خطر الإعتماد على دواء بذاته طول الوقت – فهو هنا يعطى الوصفة “ثلاثة” أيام ويوقفها خمسة، ثم يعود ثلاثة وهكذا، ويؤكد أن هذا الترتيب ضرورى حتى يزول المرض- وتذكرنا هذه التوصية بضرورة الإنتباه إلى خطورة ما يسمى بالعقاقير طويلة المدى والتداوى المتصل فى حالة الفصام مثلا (والذهان عامة) حيث يستسهل كثير من الأطباء حاليا تلك الحقن الزيتية الحاوية للمهدئات العظيمة (الكبار) Major tranquilizer كل اسبوعين (تقريبا) مدى الحياة، وقد انتبه كثير من الأطباء مؤخرا إلى هذه المخاطر ومن ثم بدأت الأبحاث تقترح (ما نفذ فعلا ولو جزئيا) ما يسمى بطريقة التعاطى المتعرج Zigzag بحيث يعطى الدواء ثم ينقطع عنه المريض يوما فى الأسبوع أو أسبوعا فى الشهر. . الخ ويا حبذا لو حدث العكس بحيث – كما فى الأرجوزة – يكون الإنقطاع أكثر من التعاطي، وخاصة إذا تذكرنا دورية المرض النفسى (بل والحياة البشرية عامة) التى يناسبها أكثر ذلك النظام المتعرج (أو الدوري) فى التداوى .
ثالثا: أما البيتين 583، 584
وحيثما تشغل نفس الحر بالعشق أو بالهم أو بالفقر
لا تطمعن فى زوال الوارد فذاك ضرب فى حديد بارد
فقد يذكرنا أن الاضطرابات النفسية الناشئة عن سبب فى البيئة (المسماة بالتفاعلية reactive أو الموقفية (situational لا يصح أن تعالج بالعقاقير أو بالأطعمة الخاصة – لأن مثل هذه الاضطرابات لا تزول إلا بزوال اسبابها – ومن الطف ما جاء هنا: أن الأسباب ثلاثة: العشق أو الهم أو الفقر، فجمعت الأسباب العاطفية، والأسباب الإقتصادية، وأسباب الإحباط عامة لو رجحنا أنه يعنى بالهم ذلك النوع من الحزن المرتبط بسببه الخارجى خاصة، وينبهنا هنا أن زوال “الوارد” (المرض) بمجرد الإعتماد على عقاقير السعادة والطمأنينة فى مثل هذه الحالات هو عبث لا طائل وراءه . “فذاك ضرب فى حديد بارد” .
واخيرا: فإنه يجمع ذلك كله فى تأكيد إتجاه الأرجوزة عامة بأن التداوى بالأعشاب وتنظيم المأكولات المناسبة وإعادة التوازن بين العناصر (أو بين التراكيب كما أشرنا) أفضل من الأدوية الكبار[2].
هذا الذى لخصت من مختار يغنى عن “الأدوية الكبار”
ومن الطريف أننا نسمى المهدئات التى نستعملها للذهان المهدئات الكبار (أو العظيمة !!) Major tranquilizers.
فهل من مذكر؟؟
[1] – “الطب العربى” فى القرن الثامن عشر، ومن خلال الأجوزة الشقرونية، تحقيق وتعليق د. بدر التازى، تعريب وتقديم د. عبد الهادى التازى – الهيئة العامة للكتاب 1984. القاهرة.
[2] – التنصيص من عندنا