“يوميا” الإنسان والتطور

8-11-2007

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة

حُلْمَان: (5) ، (6)

أولاً: حلم (5)

نص الحلم

أسير على غير هدى وبلا هدف، ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطر لى فى خاطرى فصرت كلما وضعت قدمى فى شارع انقلب الشارع سيركا.

اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة وحل محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرجة، وحبالها الممدُودة، وأراجيحُها، وأقفاص حيواناتها، والممثلون والمبتكرون والرياضيون حتى البلياتشو، وشد ما دهشت وسررت وكدت أطير من الفرح، ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع، وبتكرار المعجزة، مضى السرور يفتر، والضجر يزحف حتى ضقت بالمشى والرؤية وتاقت نفسى للرجوع إلى مسكنى.

ولكم فرحت حين لاح وجه الدنيا وآمنت بمجئ الفرح. وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلنى مقهقها.

القراءة

.. ومن ذا الذى يسير على هدى؟ وبهدف محدد مسبقا؟ هذه كلها (الهدى، والهدف..الخ) أوهام نرسمها فى خطوط عامة، لعل وعسى أن نصدقها،

 حين كتبتُ عن الفطرة  قلت إنها تتجلى واقعاً حركيا تشكيليا فى الحلم، أكثر بكثير مما تتجلى فىواقع اليقظة، فى هذا الحلم يتبين لنا كيف أن الواقع الإبداعى يبلغنا هنا كم يصعب التمادى فى الوهم، فالحلم يعلن مباشرة أننا نسير على غير هدى، وبلا هدف.

يبدو أن السير على غير هدى فى الحلم هو القاعدة من حيث أنه الفطرة التى يحكمها “قانونها إليها” أكثر مما “يتحكم فيها هدف معلن من خارجها“. فما بالك فى الحلم الإبداع؟

المصادفة هى الأصل، ربما!!

يبدأ الحلم بـ: “صادفتنى مفاجأةلم تخطر لى فى خاطرى، طبعا، وإلا فكيف تكون مفاجأة؟

المفاجأة هنا ليست فقط فى أن الراوى اكتشف أن الشوارع – المدينة – العالم – الحياة، ليست إلا سركا، ولكن فى أن الشوارع كانت شوارعاً بما هى كذلك، لكنها تنقلب سركا بمجرد أن يضع قدمه فيها.

فالحياة إذن ليست مسرحا كبيرا، ولا هى سيركا عجائبيا فى ذاتها بذاتها، ولكننا نحن الذين نجعل منها ما هو كذلك، ونحن لا ننصب السيرك فى الشوارع، ولكننا ننصبه بديلا عنها، عن الشوارع وما بها، عن الواقع، لأن بقية الحلم تقول إن السيرك يحل محل الأبنية بجدرانها، بل ومحل السيارات والمارة،

………

هى المفاجأة، وهى تظل مفاجأة ماظلت مُدْهِشة مع أننا نحن الذين نصنعها بمجرد أن نضع أقدامنا فيها، لكن – مثل أى مفاجأة- إذا ما تكررت تتراجع الدهشة، فتفتُرُ الفرحة، ويظهر الضجر، وهو ما دعا الراوى للرجوع إلى مسكنه، لكنه عند عودته منسحبا لم يجد البيت قد تحول سركا مثل الشوارع،  لكنه وجد فى استقباله البلياتشو (ممثل السيرك)، الذى بدا وكأنه يعلنه أن ما أدهشه فى الخارج هو نابعٌ من ذاته أصلا، وبالتالى لماذا الدهشة فالضجر؟ بل إن البلياتشو بدا مرحبا بعودة صاحبه:  فإذا بالبلياتشو “يستقبلنى مقهقهاً” (وإن كنت لا أنفى احتمال مسحة من السخرية أو العتاب)

هل هذا يعنى أننا إذا أردنا أن نلعب “لعبة الحياة: بإعادة تخليقها” فعلينا أن نحرص على التجديد وليس مجرد إعادة الألعاب؟ وأنه لا يكون التجديد أصيلا إلا بالبدء بأن نقبل هذا البلياتشو داخلنا فهو الأصل، بدلا من أن ننتظر أو نفتعل التغيير خارجنا؟

 إن المُجَدِّد فى لعبة الحياة هو القادر على المشاركة بما هو – بلياتشو مقهقها من الداخل- فى السيرك الكبير الجميل فى الخارج، شريطة ألا يتكرر حتى نملّ؟

ربما.

حين يسير الواحد منا فى الحياة يخلّق الألعاب، ويندهش للتحولات، ثم تتكرر المسألة حتى تفُتر، فإنه قد يتعب من المشى، ويمل الرؤية، محفوظ هنا فى حلمه يقرر ذلك، إنه “يضيق بالمشى والرؤية” معا، فهو لم يتعب ولم يمل، لكنه ضاق بهما:

المشى وصلنى باعتباره مواصلة السعى فى الحياة، أما الرؤية فقد وصلتنى فى صورة تجدد الكشف،

 لكن الحلم هنا يقول إن تكرار النص – كما هو- تكرار ألعاب السرك، يُفْقِدُ المشى صفة السعى، ويفقد الرؤية صفة الكشف، فمن ذا لا يضيق بما يتكرر هكذا؟

الرجوع إلى المسكن يمكن أن يقابل التراجع عن السعى، وهو نكوص من حيث المبدأ

لكن النكوص لايكون سلْباً إلا إذا كان نهاية المطاف، أما إن كان “حركة الذراع الراجعة“، فهو بداية الدورة التالية، ولو فى دورات النوم واليقظة، شريطة أن نبدأ بالبلياتشو داخلنا،

هكذا وصلتنى فرحة الراوى وكيف سبقت ظهور البلياتشو، وهى فرحة تولّد فرحة “فَرِحْتُ .. وآمنت بمجئ الفرح“، ثم يظهر البلياتشو مستقبلا مقهقها تأكيداً لرسالة أن “وجه الدنيايشرق من داخلنا، وهو الذى يخلق الشارع فالشارع سيركا فسيركا، شريطة ألا يحل الخارج محل الداخل، وألا يتكرر بما هو، دون الرجوع إلى الداخل، لتشرق الدنيا ويقهقه البلياتشو من جديد، وهكذا دائما أبداً.

 *****

ثانياً: حلم (6)

نص الحلم (6)

رن جرس التليفون وقال المتكلم:

الشيخ محرم استاذك يتكلم

فقلت بأدب وإجلال:

أهلا استاذى وسهلا…

– إنى قادم لزيارتك.

على الرحب والسعة

لم تمسنى أية دهشة، على الرغم من أننى شاركت فى تشيع جنازته منذ حوالى ستين عاما، وتتابعت علىّ ذكريات لاتنسى عن أستاذى القديم فى اللغة فى معاملة التلاميذ، وجاء الشيخ بجبته وقفطانه الزاهيين وعمته المقلوظة وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء، ومِنْ حوارى معهم عرفت أن بعض الدروس التى كنت ألقيها عليكم تحتاج إلى تصحيحات فدونت التصحيحات فى الورقة وجئتك بها.

 قال ذلك ثم وضع لفافة من الورق على الخوان وذهب.

القراءة

… تابعت نجيب محفوظ وهو قادر على أن يرفع الحاجز بين الموت والحياة بسهولة ويسر فى أكثر من موقف شخصى، وأكثر من موقع إبداعى مثلاً فى “ليالى ألف ليلة“، “ورأيت فيما يرى النائم“، وحتى “ملحمة الحرافيش“، وغيرها.

 وباعتبار أن الفرض الذى لاح لى مؤخّرا وأعايشه حاليا لإكماله يقول: إن الموت هو نقلة الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى ليكمل المسيرة إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، فإن هذه النقلة تصبح سَلسِةْ بقدر ما يكون الإنسان قد سعى فى نفس الاتجاه: من الذات إلى المطلق إلى وجه الله، أثناء حياته، وعباداته، ونسكه، وإبداعه، من هنا يمكن رفع الحاجز بين الموت والحياة بقدر جدية وكدح مشوار الإنسان فى الاتجاه الصحيح.

لكل ذلك لم أتعجب من قدرة محفوظ على رفع هذا الحاجز والتنقل بين الموت والحياة بسهولة فى كل أحواله، فما بالك فى إبداعه إحلامه؟

 من هنا نفهم انعدام الدهشة فى هذا الحلم والراوى يرى/ يسمع صوت أستاذه فى الهاتف وهو يستأذن للقدوم لزيارته، بعد أن شيع جنازته من حوالى ستين عاما.

الزمن هنا أيضا اخُتِزلَ بنعومة حتى يمكن أن نقرأ هذه الستين وحدة بأى تمييز (عاما،  شهراً، أسبوعا، أو كما شئت)، هو أستاذ، وأستاذ فى اللغة وليس بالضروة اللغة العربية، وليس معنى أن يكون الأستاذ “محرم” فى الحلم قد جاء بجبته وقفطانه الزاهين أنه أستاذ العربى والدين، وإن كان هذا هو الأرجح.

أما ما قاله الأستاذ محرم، فلم أجد فيه جديداً: فهو دعوة مباشرة (وساذجة) لمراجعة كل الدروس التى تُلْقَى علينا وبالذات الدروس سابقة التجهيز،

الجديد فى الحلم ربما هو فى التنبيه على أننا: إذا كنا أجبن من أن نختبر المعلومات –كل المعلومات- التى تصلنا بالمراجعة ونحن أحياء، فهذا إثم سوف يحاسبنا الله عليه، وها هو شاهد على نفسه، يأتى إلينا وهو يراجع نفسه بعد أن انتقل وعيه إلى الوعى الكونى إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، وهو على نفسه بصيرة، لم تنفعه معاذيره، فاكتفى بنفسه عليه حسيبا، فيقرر أن يعترف ويرجع ليصحح ما كان ينبغى أن يكتشفه حيا، فهو –برحمةِ ربنا- أعطى الفرصة أن يعود، وذلك حين اكتشف أنه من الأمانة أن يصحح دروسه القديمة، وأن يبلّغ هذا التصحيح الواجب لمن اتبعوه ثقة فيه، بل إنه ربما فعل ذلك بدلا من أن يتبرأ من الذين اتبعوه دون أن يُعمِلُوا النقد فيما قاله لأنه يعلم أنْ ليس لهم كرّة ليتبرأوا منه لو أنه تبرأ منهم، فعاد يبرئ ذمته، وربما استشعر أنه بتراجعه هذا سوف ينال غفران ربنا أكثر فأكثر مادام قد صحح غلطته، وعاد بالتعديلات الواجبة، يبلغها للذين اتَّبَعوا

(ملاحظة: لم أتوقف كثيرا عند اسم “محرم” لأربطه بالحلال والحرام، فمحفوظ قد تجاوز مثل ذلك).

بقيت بعد ذلك مسألتان.

أولاً: إننى خشيت أن يتوقف “المتلقى” عند الورقة التى تركها الشيخ على الخوان وفيها ما فيها من التعديلات اللازمة ويتصور أن غاية المراد هو: مجرد تصحيح القديم عن طريق نفس الأستاذ بعد أن عايش العديد من الرواة، والعلماء وحاورهم، وأن الأستاذ هو الذى عليه أن يقوم بتصحيح ما وصلنا باستمرار.

ثانياً: خشيت أيضا أن يغفل المتلقى كلمة “بعض” التى حرص محفوظ (برغم صعوباته) ألا ينساها (عرفت أن بعض الدروس …  تحتاج إلى تصحيحات)

………..

………..

غامرتُ –شخصيا- أن أكمل الحلم من عندى هكذا،

 “…فقمت وفتحت اللفافة، وإذا بها أوراق مرقَّمة بيضاء من غير سوء”.

وتصورت أن الحلم بهذه النهاية  المقترحة يدعونا أن نتحمل مسئوليتنا فنقوم نحن باستمرار بتصحيح ما يصلنا أولا بأول، ولا ننتظر الشيخ محرم مهما حسنت نيته واعترف بخطئه

هذا ليس مأخذا على الحلم، إن لمحفوظ أن يقف حيث أراد

هذا،

وقد أبلغنى شيخى محفوظ أمس هاتفيا أنه بعد أن ناقش الأمر مع الشيخ محرم، وافقا على السماح لى بما فعلتُ على مسئوليتى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *